وقد يعوزنا هنا أن نتابع مصير هذه الذرية كلها إلى ختام حياة الشاعر، فنقول إنه رزق خمسة أبناء ماتوا في طفولتهم الباكرة إلا أكبرهم أوغست فقد نيف على الأربعين ومات في إيطاليا في أخريات أيام أبيه، فتجرع الشيخ هذه الغصة وصبر عليها جهده، وانصرف إلى أحفاده الثلاثة يعلمهم ويداعبهم ويتأسى بملاحظتهم، وفيهم يقول وهو يشاهدهم يتحدثون وينشدون الأشعار ويمثلون: «إنهم ليشبهون الشعراء الحق جد الشبه! فبينما أحدهم غارق في حماسته إذا بالآخر يتثاءب! فإذا جاء دوره في الحماسة راح الآخر يصفر!» ولو أنصف لقال إنهم يشبهون جدهم قبل غيره من الشعراء!
أما كرستيان فقد ماتت وهي في الحادية والخمسين وهو في السابعة والستين، ولا يذكر العارفون بالرجل أنه حزن لفقد إنسان قط حزنه لفقدها ولا جزع في موقف قط جزعه على سرير موتها؛ فقد تخاذل جلده الذي قلما خانه في الشدائد فجثا على ركبتيه وتناول يدها الباردة وهو يصيح بها: «إنك لا تريدين أن تتركيني! كلا! كلا! إنك لن تتركيني ...» ورأته زوج صاحبه كنيبل بعد سنوات أربع فقالت: إنه لا يتعزى. •••
لقد كان في مسلك جيتي مع كرستيان مروءة وكان فيه خطل، فمن المروءة أنه آواها إلى بيته واحتمل في سبيلها غضب قومه، ومن الخطل أنه أخر عقد زواجه بها حتى شب ابنه وهو يعلم حقيقة العلاقة بين أبيه وأمه فأثر ذلك في أدبه وخلقه، وأكبر من ذلك خطلا أنه تعجل في علاقته بالفتاة ولم ينظر إلى أصلها. ولسنا نعني فقرها ورثاثة حالها ففي الفقيرات من هن أشرف وأكرم من الغنيات، ولكنما عنينا وراثتها عن أخلاق والدها وسوء أثرها في ولدها؛ فقد ورثت المسكينة عادة الإدمان وأورثتها الولد الوحيد الذي عاش لها، وكان أشبه بها حتى في ملامح وجهه كما يرى من المقابلة بين صورته وصورتها، فلما مات تبينت الضخامة المفرطة في حجم كبده لإدمانه السكر وما إليه، وكانت هذه الآفة من أسباب الجناية على شبابه. •••
قال أميل لدفج في ترجمته لجيتي: «إن جيتي لم يكن قط بالمغوي الجميل أو الظافر الفخور بغزواته أو «بالدون جوان» المشهور في حلبات الغرام، وإنما كان المتوسل أبدا والمولي الشكر والعرفان أبدا، وأكثر ما كان السائل المردود لا السائل المقبول. وإنما نقترب من فهم الأساطير الذائعة عن عواطفه وتركيب أعماله وقصة روحه كلما عرفنا فيه الرجل المسلم المنقاد وعرفنا فيه إرادة الحب التي لا تروى ولا تزال تروض نفسها حتى تنتهي بالخضوع لحقائق الوجود.»
أوتيلي زوجة أوغست.
أوغست بن جيتي.
ولاحظ أميل لدفج في موضع آخر أنه ما دخل قط في حومة حب إلا اعتصم منها آخر الأمر بالهرب، وكلتا الملاحظتين صادقة نفاذة إلى حقيقة الرجل؛ فها نحن أولاء نرى كيف انتهت علاقاته بخمس نساء على نماذج مختلفات، فأربع منهن آلت علاقاته بهن إلى التراجع والنكوص، ولم تكن العلاقة الخامسة مما يحتمل تراجعا ونكوصا؛ فلذلك بقي متصلا بها أو موصولا إليها، وكان بقاؤه هنا - كما كان نكوصه هناك - خضوعا لحكم الضرورة أو لما سماه لدفج «بحقائق الوجود»، وليست هذه العلاقات الخمس إلا مثلا لعلاقات أخرى لم نعرض لها في هذه الكلمة.
وجيتي مع هذا لم يكن دميما ولا زريا ولا كانت تنقصه وجاهة المحضر والمنصب ولا وجاهة الأمل في المستقبل، ففيم هذا الوقوع الدائم في أسر المرأة وهذا المآل الدائم إلى النكوص عنها؟ نحسب أن في الأمر شيئا من الثقة بالنفس في بعض صورها الغريبة، فالرجل كان على علم بقدره ورجحانه على مزاحميه، فكان لهذا لا يبالي أن يتراجع ولا يشعر بغضاضة الخاسر المدحور الذي يعلق قيمته كلها على نجاحه في هذا الميدان أو إخفاقه فيه، فإذا فاز جيتي في الميدان أو أخفق فليس قصب السبق بالمشكوك فيه؛ لأنه في يديه! فلا جرم يتراجع وهو في صورة الفائز القانع من الغنيمة بالإياب.
ونحسب أن في الأمر سرا آخر يرجع إلى طبيعة الحب الذي كان يحبه والنظرة التي كان ينظرها، فلم يخلق جيتي لحب النزوات ولا لحب الاقتحام ولا لحب الإغواء، وإنما خلق لحب الفنان المتذوق المستطلع المتأمل؛ فليس الفرق بين حبه المرأة وحبه التمثال الجميل إلا أن المرأة تجمع من «الفن ووسائل الاستطلاع» ما ليس يجمعه التمثال الجميل، فهي صورة وشعور وعاطفة وإرادة، وأين له بالتمثال الذي يتذوق معه كل هذه المعاني متفرقات ومجتمعات؟ فالاحتواء الكامل مطلب فوق الرغبة وفوق الطاقة؛ لأن الفنان المتذوق قد ينعم بالتمثال فيغنيه نعيمه به وإن لم يحمله إلى بيته، بل قد ينعم به فوق نعيم مالكه الذي يقتنيه ويحتويه.
وزد على ذلك طبيعة التسليم التي تكره الهجوم وتؤثر مشقة الاحتمال على مشقة النضال، فهي طبيعة «الدب» المسالم المظلوم في حسبانه من السباع إلا حين يغضب ويثور، وحينئذ قد تغضب الهرة الوديعة وقد يغضب الكلب الأليف.
Bilinmeyen sayfa