على أن هذا الضيق يتمثل أيضا - وبصورة واقعية - في الطابع الذي تتخذه الموسيقى المصرية في وقتنا الحالي؛ ففي وسعنا أن نقول: إن الطرق التقليدية في التلحين الشرقي تتجه إلى الاندثار، ولا يمنعها من الاختفاء التام سوى شهرة مغنين ارتبطت أسماؤهم بطريقة التلحين هذه، ولكن إذا اختفى هؤلاء من المسرح الفني، فسوف تنتهى - بكل تأكيد - فترة الغناء الشرقي الصميم.
ولكن ما الذي يحل الآن محل هذا الغناء الشرقي؟ إن الاتجاه الواضح الذي يزداد الإقبال عليه - وخاصة من جمهور المدن - هو اتجاه «مختلط»، تمتزج فيه الموسيقى الشرقية ببعض العناصر الغربية. والامتزاج ذاته أمر مقبول؛ وخاصة لأننا نؤكد بكل قوة ضرورة الخروج عن الحدود الشرقية التقليدية، والاستفادة من التجارب العميقة التي مر بها الغرب في ميدان الموسيقى. ولكن هل الاتجاه السائد الآن في الموسيقى الشرقية هو الحل المنشود؟
الحق أن هذا الحل هو في نظرنا أتعس حل ممكن؛ فالفترة الحالية من تاريخ الموسيقى فترة بائسة بحق؛ ذلك لأن محترفي هذا الفن، عندما أحسوا بقصور الطريقة الشرقية الخالصة، لم يلجئوا إلا إلى أتفه أنواع الموسيقى الغربية ليقتبسوا منها ألحانهم. فكانت النتيجة خليطا غير متجانس بين الألحان الشرقية، وبين صخب موسيقى المراقص الغربية، خليطا لا لون له، ولا طابع يتميز به، ولا ينطوي على أية محاولة جدية لترقية الموسيقى الشرقية، بل هو في أساسه امتزاج خارجي - لا اندماج باطن - بين عناصر متنافرة فحسب.
والخطأ الأكبر - الذي نعد التنبيه إليه أمرا أساسيا في المهمة النقدية التي يأخذها هذا الكتاب على عاتقه - هو في الاعتقاد بأن إصلاح الموسيقى الشرقية يكون عن طريق نقل «ألحان» غربية، أو أنماط لحنية معينة. وذلك هو الخطأ الذي يقع فيه أولا دعاة «الاقتباس»، الذين ينقلون قطعا بأسرها من سياقها الأصلي في موسيقى الغرب، ويقحمونها داخل ألحانهم الشرقية، فيشوهون جلال الأصل الذي نقلت منه، ولا يفيدون المجال الذي نقلوا إليه، فضلا عما ينطوي عليه هذا «الاقتباس» من افتقار إلى الأمانة لم يعترف به الفن الخلاق في أي عصر من عصوره. ويقع في ذلك الخطأ ثانيا أولئك الذين ينسجون على منوال الملحنين الغربيين، فيقلدونهم في ألحانهم (وهم في ذلك أقرب إلى الأمانة من الفئة السابقة) أو يعهدون بألحانهم إلى من يقوم بإجراء عملية «توزيع موسيقي» لها؛ لكي يكسبها طابعا قريبا من الموسيقى الغربية الراقصة. ولنذكر هاهنا أن فكرة «التوزيع الموسيقي» هذه - وهي بدعة تثير السخرية - لا تعرف إلا في موسيقانا المصرية؛ إذ إن الأصل في الموسيقى أن فكرتها تطرأ على ذهن الفنان كاملة؛ فهو لا يتصور اللحن وحده، وإنما يتصوره مصوغا في قالب معين، تعزفه آلة معينة. والتوزيع على الآلات جزء لا يتجزأ من مهمة الفنان نفسه، وإذا كانت هناك مقطوعات غربية معينة توزع فيما بعد على آلات غير التي ألفت من أجلها، فلا شك في أن هذا التوزيع يكون في هذه الحالة عملا مستقلا، أضيف إلى عمل المؤلف الأصلي على سبيل الرغبة المتعمدة في التنويع، وعندئذ يذكر اسم موزع اللحن أو منظمه بجانب اسم المؤلف الأصلي؛ لأن اللحن عندئذ أصبح شبه جديد. أما عملية التوزيع التي تتم في الألحان المصرية فتنطوي بلا شك على فصم غير مشروع لوحدة الخلق الفني.
ففي كل هذه الحالات يقع الموسيقيون في خطأ الاعتقاد بأن التأثر بالموسيقى الغربية يكون عن طريق نقل ألحانها أو تقليدها. وهذا الخطأ مسئول عن التدهور الحالي الذي تعانيه موسيقانا. وإنما الحل الصحيح هو أن نقتبس من الغرب «أسلوب» التأليف، لا التأليف ذاته؛ أعني: أننا يجب أن نستفيد من تجربتهم الموسيقية العميقة، التي سبقتنا بما يقرب من أربعة قرون، فنتعمق في دراسة عناصر اللغة الموسيقية، ونفيد من خبرتهم الواسعة في ميدان التأليف والأداء.
فأسلوبنا في التأليف ينبغي أن يتضمن «التوافق الصوتي» حتى يضاف إلى موسيقانا عنصر العمق، وعندئذ تستطيع الموسيقى أن تكون معبرة بحق، وإذا اكتسبت القدرة على التعبير، استطاعت أن تتحرر من عبوديتها للغناء، وتصبح فنا مستقلا له كيانه الخاص. والأداء ينبغي أن يزداد دقة؛ فأصوات المغنين عندنا محدودة المدى إلى حد مؤسف، وليست هناك جهود جدية تبذل لتمرين الأصوات وتوسيع نطاق قدرتها في الأداء، مع أن هذا علم كامل قائم بذاته. بل إن المغني عندنا يظل - في سعيه وراء الكسب - يواصل الغناء دون أن يعترف بتأثير الزمن على صوته، حتى لنجد منهم من يمرن حنجرته بصوت عال بين مقاطع الغناء، وتظهر آهاته في التسجيل، ولا يعترف مع ذلك بضياع صوته! وهي بدورها ظاهرة مؤسفة لا نظير لها في عالم الغناء! أما العزف، فأستطيع أن أقول، مطمئنا: إن المسافة بين أكبر عازفي الكمان عندنا، مثلا، وبين عازفي الكمان المشهورين في الغرب، لا تقاس إلا بالسنين الضوئية!
فالفن الموسيقي المصري إذن في محنة، والوسيلة الوحيدة لانتشاله منها هي اقتباس خبرة الغرب الطويلة، وأسلوبه في التأليف الموسيقي وفي الأداء. وعلينا أن نبذل في ذلك أشق الجهود؛ حتى نعوض تخلفنا الهائل في هذا الميدان، أما لو ظلت الأمور على ما هي عليه، فسوف تزداد الهوة بيننا وبينهم اتساعا على الدوام. •••
على أن رأيي هذا - القائل بضرورة الاستفادة من الخبرة التي اكتسبها الغربيون في أساليبهم الموسيقية - يلقى معارضة من طرفين متناقضين: طرف يميني محافظ، أصحابه من دعاة القومية، وطرف يساري تقدمي، أصحابه من دعاة الشعبية. ومن الضروري أن أناقش هذين الرأيين المعارضين؛ حتى تستبين حدود الدعوة التي أقترحها بوضوح.
فالطرف اليميني المحافظ، القائل بالقومية، يرتد رأيه إلى قدر من سوء الفهم، وقدر من المغالطة؛ أما سوء الفهم فيتمثل في الاعتقاد بأن ما نرمي إليه هو أن نؤلف ألحانا كالألحان الغربية، وهذا أبعد الأمور عما ندعو إليه؛ فنحن نعترف حقا بأن الموسيقى فن مرتبط بحياة كل شعب، وأن حياتنا الشرقية لا بد أن تفرض علينا أنواعا من الألحان، تختلف عن تلك التي نستمع إليها من الغرب. هذا كله صحيح، ولكن ما ندعو إليه هو أن ندرس أسلوب التأليف والأداء، لا نواتج الموسيقى الغربية ذاتها. ونستطيع أن نضرب للفارق بين الدعوتين مثلا يقربه من الأذهان؛ فالشعب الصيني يحاول اليوم أن يبسط لغته، وأن يستبدل بالحروف المرسومة الهائلة العدد، عددا قليلا من الحروف البسيطة تكون هي قوام الكتابة. وقد يلجئون في ذلك إلى الكتابة بالحروف اللاتينية وتعميمها. ولكن هل يعني اقتباس هذه الحروف، أن مضمون اللغة ذاتها قد تغير؟! وهل تعني كتابتهم بالحروف اللاتينية، أنهم قد استعاروا آداب وعلوم الأمم التي تكتب بهذه الحروف؟! لا شك أن موقف لغتنا الموسيقية مماثل لهذا إلى حد بعيد. فنحن ندعو إلى تعديل عناصر اللغة الموسيقية ذاتها، وإلى الإفادة من الخبرة الطويلة التي توافرت لغيرنا في هذا المضمار، ولكنا لا ندعو أبدا إلى نقل ألحانهم كما هي، وإلا لكان في ذلك دعوة إلى تحطيم الفن، لا إلى إنهاضه.
وأما المغالطة، فتتمثل في نشر الفكرة الباطلة، القائلة: إن الأسلوب الغربي في الموسيقى غير مفهوم بالنسبة إلى الأذن الشرقية. وتلك الفكرة التي يرددها إلى اليوم كثير من المهيمنين على مصير الموسيقى في بلادنا، قد أضرت بفننا الموسيقي، وبأذواق مستمعينا أشد الإضرار؛ ولهذا فسوف أرد عليها ردا مفصلا.
Bilinmeyen sayfa