الذي دعا إليه فاجنر، والذي يتضافر فيه، مع الموسيقى، الشعر والتصوير (في المناظر المسرحية) والتمثيل والرقص في بعض الأحيان؛ ذلك لأن كل هذه العناصر الفنية مجتمعة، لا تجلب متعة تفوق تلك التي يستشعرها المرء إذا استمع إلى سيمفونيات بيتهوفن أو برامز مثلا. والذي لا شك فيه أن رواد المسارح التي تؤدى فيها درامات فاجنر، لا يؤمونها من أجل ما فيها من شعر، ولا ما فيها من تمثيل أو مناظر مسرحية بارعة، بل من أجل ما فيها من موسيقى وغناء مصاحب لها فحسب. وما كان فاجنر بالشاعر الممتاز، كما ظن الكثيرون، بل إن الميدان الذي جلب له الشهرة هو الموسيقى وحدها.
وأخيرا، فعلينا أن نؤمن بأن للموسيقى، في مجالها الخاص، قدرة تعبيرية كاملة، وأنها فن مكتف بذاته، وأن عمومية معانيها مصدر قوة لها؛ إذ إن المؤلفات الموسيقية ذات الموضوع الواضح، الذي نستطيع أن نشير إليه لأول وهلة، هي عادة أضعف تأثيرا من تلك التي تؤثر فينا تأثيرا عاما، هو حقا مبهم، ولكن صداه في انفعالاتنا وأذهاننا واضح كل الوضوح.
التطور الموسيقي
في وسعنا أن نلخص التطور الذي مرت به الموسيقى من حيث قدرتها التعبيرية ووظيفتها وأسلوبها في عبارة واحدة؛ هي أنها قد سارت تدريجيا في طريق طويل، تحولت فيه من فن ذي نطاق ضيق في تعبيره ووظيفته وأسلوبه، إلى فن شامل ذي صبغة إنسانية عامة، وثيق الصلة بالحياة وبالمجتمع الإنساني الكبير.
ولسنا بحاجة إلى أن نعيد هنا ما ذكرناه في الفصل السابق عن تطور القدرة التعبيرية للموسيقى، وكيف أصبحت هي وحدها قادرة على نقل كل المعاني التي تدخل في نطاق قدرتها هذه، دون حاجة إلى أن تستعين بالشعر أو بأي فن آخر يضفي على هذه المعاني مزيدا من التحديد. والذي نود أن نشير إليه في هذا المجال، هو أن هذا التطور - الذي أكد للموسيقى استقلالها بوصفها فنا له كيان بذاته - قد أكسبها في نفس الوقت صبغة الفن الإنساني العام، الذي يعلو على كل الحدود والفواصل التي تفرق بين البشر؛ ذلك لأن الموسيقى لو كانت قد ظلت على تقيدها بالشعر، لأدى ذلك إلى صبغتها بصبغة محلية، ترتبط باللغة الخاصة لذلك الشعر في بيئاته المختلفة، وبالحوادث أو المعاني المتباينة التي يعبر عنها، والتي قد لا تفهم من حيث هي أعمال فنية إلا في هذه البيئات وحدها. ولا شك أن أمرا كهذا كان كفيلا بأن يقضي على طابع الشمول الذي ينفرد به الفن الموسيقي. أما استقلال الموسيقى، فقد أدى بها إلى أن تصبح أكثر الفنون عمومية، وأبعدها عن التقيد بالفواصل والحدود المحلية التي تميز جماعة بشرية عن الأخرى. والحق أن أي فن آخر لا يمكن أن يبلغ ما بلغته الموسيقى في هذا المضمار؛ ففي كل الفنون الأخرى نوع من التعبير العيني الملموس، الذي يرتبط - قطعا - بتجارب معينة قد لا تفهم أحيانا إلا في نطاق سياقها المحلي. أما الموسيقى، فإن الصبغة العامة التي لاحظناها عليها تجعلها أعم اللغات الفنية وأشملها. وإذا كان هذا الرأي ينطبق - إلى حد غير قليل ، ولا أقول: إلى حد تام - على «المعاني» التي تعبر عنها الموسيقى، من حيث إن عموميتها أوسع من أن تنحصر في مجال أو نطاق خاص، فإنه ينطبق بمزيد من الدقة على «وسائل» التعبير الموسيقي، أعني الأصوات وتفاعلاتها، التي تكون لغة تستجيب إليها الحساسية البشرية بطريق مباشر، دون حاجة إلى أية وساطة. وعلى أية حال فسوف نزيد هذا الموضوع بحثا وتحليلا عند الكلام عن الموسيقى والطابع القومي؛ لنختبر حجج أنصار «المحلية» أو «القومية» في الموسيقى.
أما التطور في وظيفة الموسيقى، فقد سار في نفس الاتجاه؛ أعني أنه أدى إلى تحويل الموسيقى من فن يخدم أغراضا خاصة، إلى فن إنساني يفي بالمقتضيات البشرية عامة؛ فقديما كانت الموسيقى وثيقة الارتباط بالسحر، فلا يستخدمها سوى تلك الفئة القليلة التي تقوم بالأعمال السحرية الغامضة، وتلك بلا شك هي أضيق المراحل نطاقا بالنسبة إلى أداء الموسيقى لوظيفتها؛ إذ إنها كانت عندئذ عملا سريا غامضا، يستعان به في تحقيق أغراض جماعة محدودة من الناس، ويحرم على الآخرين الاطلاع على أسراره، أو حتى تذوقه إلا فيما يخدم الأغراض السحرية. ولما كانت أعمال السحر في كثير من المجتمعات محرمة أو غير مشروعة، تهدف إلى أغراض خارجة عما يقره المجتمع، فمن الجائز أن ارتباط الموسيقى به في العهود القديمة هو الأصل الأول؛ لما شاع في بعض العقائد من تحريم أو كراهية لها.
وفي العصور الوسطى أصبحت وظيفة الموسيقى في الغرب هي خدمة أغراض الكنيسة، والمساعدة في أداء الطقوس الدينية. وعلى الرغم من أن هذه الوظيفة أوسع نطاقا من الوظيفة المرتبطة بالسحر؛ فإن مجالها كان لا يزال محدودا، بل إن طابع الغموض والسرية كان لا يزال قائما؛ إذ إن الكثيرين من العارفين بصنعة الموسيقى كانوا في ذلك الحين يضنون بها على من عداهم، ويحتكرون أسرارها لأنفسهم، ويوجهونها وجهة تتمشى مع أغراضهم الخاصة. ومن المحال في ظروف كهذه أن تكون الموسيقى فنا إنسانيا عاما.
وفي أوائل العصور الحديثة، حدث في الغرب تطور أدى إلى توسيع نطاق وظيفة الموسيقى، وإن كانت قد ظلت بعيدة عن النطاق الإنساني العام. فقد انتقلت الموسيقى من الكنائس إلى قصور الأمراء والنبلاء الإقطاعيين، وكان ذلك الانتقال طبيعيا؛ إذ إن مركز السلطة ذاته قد انتقل من الكنيسة إلى الحكام المحليين في أوروبا، فضلا عن أن كثيرا من رجال الدين كانوا في الوقت نفسه من كبار الإقطاعيين. وبعد أن كان الموسيقي تابعا للكنيسة، أصبح يعمل في خدمة الأمير، شأنه شأن أي واحد من أصحاب الوظائف في القصر. وكانت مهمة الموسيقي عندئذ هي أن يؤلف مقطوعات يقصد بها الترويح عن الأمير وعن ضيوفه في الحفلات الخاصة. ولا شك أن كثيرا من هذه المقطوعات كانت تتعدى هذا النطاق الضيق، وتنتشر بين جماعة أوسع، غير أن مجالها الأصلي كان تلك الجماعة المحدودة التي يكونها الأمير وخاصته، وهدفها هو إشاعة المرح والسرور في نفوسهم فحسب. عندئذ كان من الطبيعي أن يعجز الموسيقي عن التعبير عن معان إنسانية عامة، أو أن يعكس في موسيقاه أحاسيسه وانفعالاته الحقيقية، وإنما كان يقدم قطعا يغلب عليها طابع الرقص الخفيف، أو قطعا تكشف عن البراعة في العزف، وتتناسب مع طبيعة الجمهور الذي توجه إليه.
ولا جدال في أنه - إذا استثنينا حالات فردية قليلة - كان من المستحيل على الموسيقي عندئذ أن يسير وحده في اتجاه مستقل، بينما كانت كل الأوضاع الاجتماعية الأخرى توحي بالخضوع لاستبداد طبقة الإقطاعيين الكبار. ولم يبدأ التحرر الحقيقي في ميدان الموسيقى إلا بعد أن حدث تحرر مواز له في ميدان العلاقات الاجتماعية العامة. ومن الظواهر التي لا ينبغي أن تمر بنا دون تعليق نستنبط فيه دلالتها العميقة: أن آخر الموسيقيين التابعين، الذين عاشوا معتمدين على وظيفتهم لدى أمير من الأمراء، كان موتسارت، الذي مات في عام 1791م، أي في الوقت الذي كانت الثورة الفرنسية فيه قد بلغت أوج احتدامها؛ فبعد هذه الثورة - التي قلبت الأوضاع الاجتماعية رأسا على عقب، وأكدت مبادئها احترام الشخصية الإنسانية، وقضت على سلطان الإقطاعيين نهائيا - لم يظهر موسيقي واحد من التابعين، بل اتسع المجال لوظيفة جديدة للموسيقي، ظهرت بأجلى معانيها عند بيتهوفن ، وهي وظيفة التعبير عن المشاعر الإنسانية المستمدة من أعمق التجارب الواقعية للفرد في مجتمعه. وإذا كان تجديد بيتهوفن يبدو - لمن يتتبع التاريخ الموسيقي وحده - طفرة جبارة، ليس لها نظير، فإنه يبدو أمرا طبيعيا إذا ربطنا تاريخ الموسيقى بالتاريخ الاجتماعي العام. ومنذ ذلك الحين تأكدت هذه الوظيفة الجديدة للموسيقى، وأصبحت هي المحور الذي تدور حوله الأعمال الرائعة في هذا الفن.
على أننا لا نستطيع أن نقول: إن تحرر الفنان قد أصبح تاما، وإنه يستطيع الآن أن يعبر عن تجاربه الإنسانية تعبيرا خالصا لا يعوقه عائق؛ ذلك لأن الفنان الموسيقي بعد أن استقل عن تحكم الأمير أو الإقطاعي، قد بدأ يستعين بالناشرين والمنظمين من أجل كسب عيشه. ولو راجعنا تاريخ حياة الموسيقيين المشهورين، لوجدناه حافلا بأمثلة استغلال تجار الموسيقى لهم، ولكن هذا الاستغلال قد اتسع نطاقه في القرن العشرين إلى حد لا نظير له. فقد أدى التوسع في تطبيق الكشوف العلمية في مجال الموسيقى، إلى أن تضاعف عدد المستمعين آلاف المرات، بل أصبح الاستماع إليها أمرا يكاد يكون في ميسور الجميع، عن طريق الإذاعة اللاسلكية والتسجيلات. ولقد كان مثل هذا الأمر كفيلا بأن يؤدي إلى بعث نهضة موسيقية هائلة، ولكن الذي حدث هو أن مديري الأعمال والمنظمين وأصحاب الشركات، قد استغلوا هذا التوسع على نحو أدى إلى أن يضيق به الموسيقيون أنفسهم.
Bilinmeyen sayfa