وحينما كانت تخلو إلى نفسها لم تكن تفكر في الرجال مثل فتحية وزينب وإلهام، وإنما كانت تفكر في نفسها بعد أن تتم علومها وتتخرج.
ولم تدر كيف تسلل إليها ذلك الولد، أجل ذلك الولد! كان زميلا لها في الدراسة واشتهر بسلوكه المستهتر، تساعده عليه عربته الزرقاء الصغيرة التي يملكها، وإن سهير لتعرف جيدا أنه لم يلفت نظرها، لا هو ولا عربته، رغم أن فتحية وزينب وإلهام كن دائما يغمزنها كلما أقبل بعربته الزرقاء، ويشهقن جماعة قائلات: ياختي عليه، شكله حلو، شوفي يا سهير العربية بتاعته، مش الفقر بتاعنا وركوب الأتوبيسات!
وتعرف حق المعرفة أنها لم تكن تتأثر بكلامهن ولا بشهقاتهن، بل كانت تلقي عليهن دائما نصائح في المبادئ والمثل، وأن الفقر ليس عيبا، وأن الأتوبيس ليس متعبا، وأن الحياة لذتها الكفاح، وأن الرجل لا يقاس بشكله الحلو، أو عربته الزرقاء وإنما بشخصيته.
شخصيته! هذه الكلمة التي كانت تسمعها من أبيها أحيانا، وتقرؤها في الروايات، وهذه المبادئ التي كانت تلقنها لزميلاتها، كانت فعلا تؤمن بها في قرارة نفسها، ولا تمثل دور القديسة أو النبيلة، كانت هي كذلك! ولكن كيف حدث لها ما حدث؟!
ورغم المخلوق الصغير، الذي لم يكتمل، والذي يعيش في أعماقها منذ شهور، ورغم أنها تعرف أن هذا المخلوق لا يأتي هكذا من عند الله، لأنها ليست مريم العذراء، ورغم أنها تخاذلت فعلا في لحظة ضعف قصيرة مرت كالبرق، رغم كل هذا فهي تحس أنها بريئة، وأنها وإن أخطأت دقيقة فيكفي عذابها وأرقها ليالي طويلة ليكفرا عن هذا الخطأ، ولا داعي أبدا لأن تعيش في مشكلة لا حل لها إلا أن تشرب سما وتموت ويموت معها هذا المخلوق الغريب، أو تعيش، ولكن كيف تعيش؟ لا تدري! وماذا يقول أبوها الذي يؤمن بها وباستقامتها كما يؤمن بالله، وماذا تقول أمها، وأقاربها، والجيران، والناس، و... و...
وأخفت سهير وجهها بين كفيها وأجهشت بالبكاء.
ومرة أخرى تقول يا رب، الأمل الوحيد في أن يصنع معجزة، أي معجزة، أن يأخذها إليه أو يتصرف في ذلك المخلوق ويأخذه قبل أن تنتهي من عد عشرين، وأخذت تعد على أصابعها قائلة بصوت عال: واحد، اتنين، تلاتة، يا رب، أربعة، خمسة، ستة، يا رب، سبعة، يا رب، تمانية، يا رب، لا يمكن أن تنتهي سهير هذه النهاية، وما من أحد يتصور ذلك، فتحية ممكن أو زينب أو إلهام، فهن معروفات بالعفرتة والضحك الكثير، والنكات والحديث عن الرجال، ولكن «سهير» سهير؟! يا سلام! نحس! نحس!
صحيح نحس، حظها نحس، وظروفها نحس، ومعرفتها بهذا الولد، كما تسميه، نحس، ما الذي ساقه إليها؟ وفي أي ظرف نحس تعرف إليها؟ لم تكن تذكر، كان في نظرها مجرد ولد غني مهرج يتسكع بعربته الزرقاء ويستعرض قمصانه الحريرية وبدله الغالية أمام البنات، وليس في رأسه عقل ولا ينتظر أن يتابع دراسته أبدا.
ما الذي غير هذه الفكرة؟ وما الذي جعله يتقرب إليها؟ وما الذي جعله يحدثها عن المبادئ وعن المثل العليا، إن المظلوم يجب ألا يظلم، يجب أن يكون له من يدافع عنه، وإن الحق يجب أن يسود دائما، كان يكلمها وكانت تستمع إليه وهي مشدوهة، أيمكن أن يخرج هذا الكلام الجميل من ذلك الولد؟ صحيح أنها خدعت، لقد ظلمته في فكرتها عنه، ليست العربة الزرقاء ولا البدل الغالية دليلا على الاستهتار والفساد، وبدأت تقترب منه، وبدأت تحس أنه رجل، رجل قوي، جريء، غني، ليس فيه عيب، أي عيب!
لم تدر متى بدأت تحبه لكنها تذكر أنه غاب ذات يوم فأحست أنها لم تستطع أن تركز انتباهها في الدرس، وظلت قلقة حائرة حتى قابلته في اليوم التالي وقلبها يقفز من الفرح، لم تعرف أن هذا هو الحب الذي يكتبون عنه، ويهمسون به، وإن كانت تسأل نفسها حينما تخلو إلى حجرتها: هل هذا هو الحب؟
Bilinmeyen sayfa