Tabiat ve Metatabiat: Madde, Hayat, Tanrı
الطبيعة وما بعد الطبيعة: المادة . الحياة . الله
Türler
تصدير
الباب الأول: الطبيعة
1 - تجوهر الأجسام
2 - الحياة النامية
3 - الحياة الحاسة
4 - الحياة الناطقة
الباب الثاني: ما بعد الطبيعة
1 - علم الطبيعة
2 - البرهنة على وجود الله
3 - صفات الذات الإلهية
Bilinmeyen sayfa
4 - صفات الفعل الإلهي
5 - بطلان الأحادية
6 - حل إشكالات في الصفات
7 - بين التشاؤم والتفاؤل
خاتمة
تصدير
الباب الأول: الطبيعة
1 - تجوهر الأجسام
2 - الحياة النامية
3 - الحياة الحاسة
Bilinmeyen sayfa
4 - الحياة الناطقة
الباب الثاني: ما بعد الطبيعة
1 - علم الطبيعة
2 - البرهنة على وجود الله
3 - صفات الذات الإلهية
4 - صفات الفعل الإلهي
5 - بطلان الأحادية
6 - حل إشكالات في الصفات
7 - بين التشاؤم والتفاؤل
خاتمة
Bilinmeyen sayfa
الطبيعة وما بعد الطبيعة
الطبيعة وما بعد الطبيعة
المادة . الحياة . الله
تأليف
يوسف كرم
تصدير
أثبتنا في كتاب «العقل والوجود» أن للإنسان قوة دراكة متمايزة من الحواس، تدعى بالعقل، شأنها أن تدرك معاني المحسوسات مجردة من مادتها، ومعاني أخر مجردة بذاتها، وأن تؤلف هذه المعاني في قضايا وأقيسة واستقراءات، فتنفذ في إدراك الأشياء إلى ما وراء المحسوس، محاولة استكناه ماهيته، وتعيين علاقاته مع سائر الموجودات. ولما كانت موضوعات العقل مجردة، كانت أفعاله التي ذكرناها مجردة كذلك، فأبطلنا المذهب الحسي الذي يقصر المعرفة الإنسانية على الحواس، ويرمي إلى أن يرد إليها ويفسر بها سائر المدركات.
وبعد إثبات وجود العقل بوجود موضوعاته وأفعاله، عرضنا لقيمة الإدراك العقلي، فأدحضنا مذهب الشك المنكر لجميع الحقائق، حتى الحسية منها، والهادم للعلم من أساسه؛ وأدحضنا المذهب التصوري الذي وإن آمن أصحابه بوجود العقل وبمدركات عقلية، فهم يقصرون هذا الوجود على داخل العقل، ويعتبرون هذه المدركات تصورات وحسب، فينكرون على الإنسان حق الخروج من التصور إلى الوجود. وبعد إثبات بطلان تلك الدعاوي بينا تهافت المذاهب الميتافيزيقية المبنية عليها.
ثم بينا أصول رأينا فيما بعد الطبيعة، وهو أن هذا العلم يدور على معنى الوجود بما هو وجود، أي: بإطلاقه من كل تعيين وتخصيص، وعلى المعاني والمبادئ اللاحقة لمعنى الوجود، وهي أبسط المعاني والمبادئ وأعمها، المؤسسة لمعرفتنا، المؤيدة لحقيقتها، المخولة العقل حق الخروج إلى موضوعات التصور في أنفسها، والنفاذ إلى حقائقها، وبناء العلم.
والآن نقصد إلى النظر في طبائع هذه الموضوعات ، وأن نبدي الرأي فيها، وقد تشعبت الآراء تشعبا كثيرا، وتضاربت تضاربا شديدا، حتى ولدت الحيرة وبلبلت الخواطر، فعدلت مذهب الشك لمحض كثرتها وتعارضها، آملين أن نحل محلها الرأي الحق في كل مسألة، وأن نقدم صورة سليمة للطبيعة بقوانينها وبموجوداتها؛ من جماد ونبات وحيوان وإنسان، على هذا الترتيب التصاعدي الظاهر لأول وهلة.
Bilinmeyen sayfa
ونقصد أخيرا إلى إتمام البحث الشامل، واستيفاء اليقين الكلي، بالصعود إلى العلة الأولى للطبيعة، أي: لخالقها ومشرع قوانينها، المفارق لها، العالي على موجوداتها، وقد نفت وجوده فرق، وضلت في فهمه فرق، فتكدست المسائل في هذه الناحية من المعرفة. وأعضلت حتى لا يهتدي إلى وجه الحق فيها إلا الأقلون.
من بين الموجودات بعضها موجود بالطبع، والبعض الآخر بعلل أخرى [كالفن أو كالصادفة]: الموجود بالطبع الحيوانات وأجزاؤها، والنباتات والأجسام البسيطة [التي هي العناصر]. وهذه الأشياء، والتي من قبيلها، تختلف اختلافا ظاهرا عن التي ليست بالطبع، فإن كل موجود طبيعي فهو حاصل في ذاته على مبدأ حركة وسكون، بعكس السرير والرداء وما إليهما، أي: بقدر ما هو مفعول الفن، فهو ليس حاصلا على أي ميل طبيعي للتغير. (أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، م2 ف1)
العقل يدرك جميع الأشياء، فيلزم أن يكون مفارقا للمادة لأجل أن يدرك، فإنه إن كانت له صورة خاصة [كخصوصية أعضاء الحواس] إلى جانب الصورة الغريبة (أي: المدركة) كانت تلك حائلة دون تحقق هذه. (أرسطو: كتاب النفس، م2 ف1)
كل متحرك فهو متحرك بغيره ... وهذا الغير إن كان متكثرا محركا ومتحركة آحاده كل بغيره، فهو متناهي العدد بالضرورة، إذ يمتنع التداعي إلى غير نهاية في سلسلة العلل، وإلا كان في التسلسل إنكارا لبداية الحركة، ومن ثمة إنكارا للحركة نفسها، وهي واقعة. وإذن فلحركة العالم علة أولى ثابتة غير متحركة. (أرسطو: كتاب السماع الطبيعي، م8 ف4)
إننا نرى كل شيء منظما في ذاته، ونرى الأشياء منظمة فيما بينها، فللعالم غاية ذاتية هي نظامه، وغاية خارجية هي المحرك الأول؛ علة النظام. (أرسطو: ما بعد الطبيعة م12 بداية ف10)
المحرك الأول هو الخير بالذات، فهو مبدأ الحركة، هو المبدأ المتعلقة به السماء والطبيعة. (أرسطو: ما بعد الطبيعة م12 ف7)
الباب الأول
الطبيعة
الفصل الأول
تجوهر الأجسام
Bilinmeyen sayfa
(1) تعريفات تمهيدية
ننظر إذن فيما كان الفلاسفة الإسلاميون يسمون بالعلم الطبيعي أخذا عن اليونان، وما نسميه بالفلسفة الطبيعية تبعا للتمييز الواجب التزامه في العصر الحديث بين الفلسفة والعلم، فإن مفهوم العلم الآن أنه معرفة الأجسام بتحليلها إلى أجزائها المدركة بالحواس، ووصف تركيب هذه الأجزاء بعضها مع بعض، وتعيين قوانين الظواهر كما يبدو للحواس كذلك، أعني تبعا للملاحظة والاختبار، وترتيب القوانين من الأخص إلى الأعم، حتى نصل إلى أعم القوانين، إن لم نصل إلى قانون واحد شامل؛ بينما دأب العقل أن يتغلغل إلى أعمق ما تبلغ إليه المعرفة الحسية؛ فإذا ما عرض للطبيعة حاول أن يستكشف «المبادئ الذاتية والأولية» المكونة للجسم الطبيعي. ونعني بالمبادئ الذاتية تلك التي هي عين الماهية وليست زائدة عليها؛ ونعني بالمبادئ الأولية تلك التي هي سابقة على حلول الأعراض ورابطة بين الأعراض والماهية، وما هي إلا مبادئ الماهية.
فبحثنا يدور على ماهية الجسم الطبيعي بالإجمال، أو مطلق الجسم، حتى ليشمل الحي ولا يقتصر على الجماد، فلا يعرض لماهية هذا الجسم أو ذاك بالخصوص به؛ وإذا عرضنا لطائفة معينة من الأجسام، كالنبات أو الحيوان أو الإنسان، بحثنا عن أعم مقوماتها المميزة لجميع أفرادها، تاركين للعلوم الطبيعية ما كان أقل خصوصا، أقل شمولا، معلوما بمناهجها التي أشرنا إليها.
وقبل البحث الموضوعي التقريري، لعلنا نمهد لموضوعنا ونعبد الطريق أمامه بشرح معاني لفظ «الطبيعة» اتباعا لوصية المناطقة بالابتداء بالتعريف اللفظي أو الرسم، والتثنية بالتعريف الحقيقي أو الحد؛ لا سيما ولفظ «الطبيعة» لفظ مشترك يطلق على مدلولات مختلفة، ويشترك مع لفظ «الكون» في أحد مدلولاته، وبذلك لا تختلط الألفاظ بعضها ببعض، فلا تختلط الأفكار.
للفظ الطبيعة مدلول عام هو «جملة الموجودات المادية بقوانينها»، أي: من الأجرام السابحة فوق رءوسنا، والأجسام المضطربة من حولنا. وهذه الدلالة تزيد على جميع الأجسام بعضها إلى بعض معنى اتصاف الكل بالنظام والجمال، وقد كان هذا الوجه هو الملحوظ في تسميته اليونان واللاتين للعالم، فقال الأولون:
kosmos
أي: الزينة أو المزدان، وقال الآخرون:
Mundus
أي: الرشاقة عديمة النظير، كما قالوا:
univers unite dans la variété
Bilinmeyen sayfa
أي: اتحاد الكثير المتنوع، وهذا الاتحاد صنع الفن أو العقل.
وبهذا المعنى يطلق لفظ «الكون»، ثم له مدلول أخص بالنسبة إلى كل واحد من الموجودات، فإن لكل موجود ماهيته، وقد جرى الاصطلاح العربي بإطلاق لفظ الكون على ما يحدث دفعة، كانقلاب الماء هواء بالتسخين، فإذا كان على التدريج فهو «الحركة». وعنوان هذا الفصل «تجوهر الأجسام» وارد كعنوان للفصل الأول من كتاب النجاة، أعني التكون وصيرورة الشيء جوهرا.
وقد تنطوي الماهية على «طبع» أو هيئة كالماهية، وهي ما يدعى سجية وجبلة، وهذا خاص بالتركيب الفسيولوجي وبالشعور في الحيوان والإنسان من جهة بعدهما عن الجبرية، وحصولهما على شيء من الاستقلال بالنسبة إلى الأحوال الخارجية، فإن هذا الاستقلال يرجع حينئذ إلى تكوين الجسم، سواء كان هذا الفرد المعين، أو ممثلا لنوعه: «فالأصبع الزائدة يشبه أن تكون بالطبع بحسب الطبيعة الشخصية، وليست بالطبع بحسب الطبيعة الكلية.» أو قد نقول: «إنها عن الطبيعة وليست بالطبع.»
1
ومن هذا المعنى حدث الانتقال إلى معنى أعمق؛ هو أن طبيعة الشيء هي «المبدأ الفعلي أو الانفعالي الأول الدائم لحركاته وسكوناته: ذلك أن الموجودات تتحرك أو تسكن على نسق واحد، فتدل على أن فيها علة الحركة والسكون وعلة اطرادهما. فالفعل الباطن واطراد الفعل أو القانون علامتان على الطبيعة، فإن الأمور الطبيعية دائمة أو أكثرية، وليست باتفاقية»؛
2
والذي في الأكثر هو بعينه الذي يوجب لكن له عائق، والموجب هو الذي يسلم له الأمر دون عائق.
3
وليست الأمور الطبيعية بإرادية. فكما أننا نحتج على منكري الغائية بقولنا: «وإلا فتكون الطبيعة قد فعلت باطلا.»
4
Bilinmeyen sayfa
ونعني أنها لا تفعل خبط عشواء، بل على وتيرة واحدة أو قانون. فكذلك نقول: «إن الطبيعة لا تفعل بالاختيار، بل إنما تفعل أفاعيلها بالتسخير والطبع؛ فلا تتفنن حركاتها وأفاعيلها.»
5
وهكذا يقال: «طبيعي» في مقابل «اتفاقي»، وفي مقابل «إرادي» متى كان مصنوعا باختيار الإنسان، وفي مقابل «إرادي » متى كان مصنوعا بصناعة الحيوان ومطردا أو كالمطرد، بفعل الغريزة . فلا يبقى إلا أن «الطبيعة» مبدأ باطن للفعل والانفعال، وأن «الطبيعي» هو الصادر عن هذا المبدأ، على ما ذكرنا. ويتأيد هذا المعنى بملاحظة أن ما بالطبيعة قد يفسد، «فتكون الطبيعة علة الرد إلى الحال الطبيعية»،
6
كاستعادة الصحة واندمال الجروح.
وهذه المعاني جميعا تعود إلى اليقين بأن الطبيعة صنع عقل حكيم، وأن لكل موجود طبيعته، وأن للطبائع وأفعالها نظاما وحكمة، وأن «لا شيء معطل في الطبيعة»
7
بحيث لو صادفنا مذهبا فلسفيا يعتمد على الاتفاق أو المصادفة، حكمنا فورا ببطلانه لمخالفته لذلك المعنى العام للطبيعة الذي يبتدي للعقل بداهة، ويتبدى لكل عقل. وهذا هو الموقف الذي سنتخذه في هذا الكتاب، وندعمه بما نستطيع من الشواهد. (2) المذهب الآلي
لقد وجد هذا المذهب فعلا. فمنذ العهد الأول للفلسفة اليونانية، في القرن السادس قبل الميلاد، قال طاليس: إن المادة الأولى التي صنعت منها مختلف الأجسام، هي الماء؛ تتكاثف فيصير ترابا، ويتخلخل فيصير هواء، ويتخلخل الهواء فيصير نارا. وقال انكسمانس: بل هي الهواء، يتكاثف ويتخلخل. وقال هرقليطس: بل هي النار تتخلخل فتصير هواء فماء فترابا، فكل منهم عين مادة أولى، وادعى أن القوى الأخرى تحصل عنها، وأن الأجسام تحصل عن هذه القوى.
ثم تقدم المذهب خطوة حاسمة بفضل ديموقريطس: فقد اعتبر تلك الأصول الأربعة فروعا للمادة البحتة المجردة عن كل تعيين، الشبيهة بتلك التي نتصورها في العلم الرياضي حين نفكر في النقطة والخط والجسم، أي: امتدادا وحسب؛ وارتأى أن هذا الامتداد مؤلف من أجزاء غاية في الصغر حتى لا تدرك بالحواس، ولا تقسم إلى أصغر منها؛ تتحرك في الفضاء وتتقابل على أنحاء لا تحصى، فتأتلف في مجاميع هي الأجسام المنظورة الملموسة، وتفترق بفعل الحركة أيضا فتنحل تلك الأجسام ليتكون غيرها، وهكذا. واختلاف الأجسام في خصائصها يرجع إلى اختلاف تلك الجواهر أو الذرات المؤلفة لها عددا وشكلا ومقدارا وترتيبا بعضها من بعض. وبهذا الوصف صار المذهب أقرب إلى التمام، بل تاما، يمضي من البسيط غير المعين إلى المركب فالأكثر تركيبا، بينما الماء أو الهواء أو النار تعينات لا يدل على أصلها، فكأنها موضوعة وضعا.
Bilinmeyen sayfa
وجدت هذه النظرية أشياعا بين قدماء الأطباء والكيميائيين، وتأييدا أعظم قيمة في تجارب روبرت بويل (1626-1691)
Robert Boyle
الدائرة على أن ثمانين ذرة تقريبا تأبى التحليل، وأن لكل منها وزنا نوعيا خاصا، وألفة إلى ذرة أخرى، ورد فعل كيميائي في ائتلاف الذرتين، وقاد اكتشاف نيوتن قانون الجاذبية إلى فكرة أن الذرات يجذب بعضها بعضا، أي إنها تبذل قوة جاذبية. وعضد نيوتن وآخرون هذه الفكرة حتى صارت مقبولة قبولا عاما، واعتبرت دليلا قويا على وجود الذرات. غير أن هذه الاعتبارات كانت هزيمة للنظرية من جهة دلالتها على تعين الذرة بماهيتها ووزنها ورد فعلها الكيميائي وفاعليتها بقوة باطنة؛ وهذه قضايا ثلاث معارضة لها في إعلانها تجانس الذرات من كل وجه؛ ولو أن علماء عديدين يعللون أنفسهم برد الذرات على اختلافها إلى أصل واحد.
وعند الكثيرين تعد هذه النظرية الفصل الأول من فصول المذهب المادي المدعو في هذا المبحث بالمذهب الآلي؛ لتصوره الجسم الطبيعي على مثال آلة من الآلات الصناعية، وتصوره جملة الطبيعة آلة كبرى، أي: مركبة من أجزاء متجاورة ومتفاعلة بالحركة فقط دون أية قوة ذاتية، بل وتيرة أحداثها متعينة بوتيرة سوابقها، كما هو الحال في أفعال الآلة. والمادة هاهنا مستكفية بنفسها مستغنية عن خالق يوجدها ويطبعها بقوانينها، بل عن «صانع» يصور مادة مستقلة عنه في الوجود سابقة على تصويره الجزئيات وتنظيمها. وإذا سألناهم عن أصل المادة والحركة، أجابوا: إن المادة هي الأصل، وإن الحركة ملازمة لها، فلا يسأل عن أصلها. وتلك هي المبادئ العليا التي يصدر عنها الماديون في سائر المسائل؛ وهكذا فهم ديموقريطس وأبيقور ولوقريس، أئمة المذهب في العصر القديم، وهكذا فهم ويفهم كثيرون.
على أن هذه النظرية لا تحتم الإلحاد، بل تحتمل الاعتقاد بخالق الطبيعة. اصطنعها المتكلمون الإسلاميون ولم يجدوا فيها غضاضة على إيمانهم، واصطنعها ديكارت، فجعل محل المادة في مذهبه بعد محل الله، مرجعا إلى الله وجود المادة والقوانين الطبيعية؛ وميز بين المادة والنفس تمييزا دقيقا مستثنيا النفس الإنسانية من الوجهتين العقلية والروحية، فوزع الطبيعة إلى مملكتين: مملكة المادة ومملكة الروح. وتابعه جساندي فأضاف إلى مذهبه الآلي مذهبا روحيا يقول بالله والنفس الناطقة، اعتمادا منه على أن نظام العالم يمنع من الاعتقاد بأنه وليد حركات اتفاقية، وأن الأخلاق والدين تقضي بأن يوجد في الإنسان نفس روحية عاقلة حرة. وسواء أكانت الآلية الجزئية تتفادى ما يستحقه إلحاد الآلية الكلية من انتقادات، فإنها تستهدف لنفس الانتقادات من جراء مخالفتهما للواقع وللعقل في تفسير الجسم الطبيعي. (3) تفنيد المذهب الآلي
أول ما يستلفت أنظارنا ونحن نفتحها على الطبيعة، تنوع موجوداتها بخصائص ثابتة لكل منها، مطردة على مر الزمان. ومحال أن تكون الخصائص وأن يكون ثباتها لكل فرد، نتيجة الذرات مجتمعة أو مفترقة، متزايدة أو متناقصة، ولا نتيجة اختلافها عددا وترتيبا، سواء أكانت متشابهة أو كانت متباينة؛ إذ من البديهي أن الأجزاء المتشابهة لا يحدث عنها مركبات متباينة، ومن البديهي أن الاختلافات العرضية، كتلك التي يلح فيها الآليون، لا يحدث عنها اختلاف بالماهية. والتباين بالماهية باد لأول وهلة، ليس فقط في الأجناس الكبرى من جماد ونبات وحيوان، بل في داخل كل جنس، وذلك باختلاف الخصائص والوظائف والكيفيات الفيزيقية والكيميائية، فضلا عن الأشكال الظاهرية.
والأمر واحد بالنسبة إلى الذرات المتباينة الماهية التي يضطر العلماء إلى الاعتراف بها، فإنها هي أيضا حين تأتلف يحدث عن ائتلافها مركبات مباينة لها بالماهية، كحدوث الماء عن ائتلاف الهيدروجين والأوكسجين، أو جسم النبات والحيوان من غذائهما المختلف عنهما. ونحن عاجزون عن تعرف خصائص نبات ما من العناصر المركبة له. وإذا سألنا الآليين عن أصل التباين بين العناصر؛ لم نظفر منهم بجواب أصلا. وليس يلوح أن أملهم سيتحقق في تحليلها إلى ذرات متشابهة، وإن كانوا يبدون مطمئنين إلى أن كل ما هنالك هو أنهم لم يوفقوا بعد إلى هذا التحليل.
ومحال أن تكون تغيرات الأجسام وظواهرها وليدة حركة الذرات، المعقول أن ينتج عن الحركة اختلاف في حجم الأجسام، وفي قوة الحركة نفسها ليس غير؛ أما الاختلاف بالخصائص والماهية فهو من أصل آخر؛ وإذا كان ترتيب الحركات والهيئات يفسر اختفاء خصائص العناصر في ائتلافها، فإنها لا تفسر ظهور الخصائص الجديدة بتكون المركب الجديد، والحركة لا تنتقل من جسم إلى آخر كما يتوهم الآليون، إذ لا حركة إلا في متحرك، فإذا قلنا بالانتقال دون متحرك افترضنا الحركة شيئا أو جوهرا أثناء الانتقال، وهي عرض بالطبع، مفتقرة إلى ما يحملها ويمر بها من مكان إلى آخر. ونكرر القول: إن الاختلاف بالعرض لا ينتج اختلافا بالذات.
وإذا نظرنا في كل ذرة على حيالها وجدناها واحدة بوحدة حقيقية، وليست المادة سببا للوحدة، ولكنها على العكس سبب للتفرق والتعدد بانقسامها أجزاء؛ فإذا كانت الذرة غير منقسمة مع امتدادها فليس ذلك راجعا إلى المادة، بل إلى مبدأ آخر سنفحص عنه بعد هنيهة. لكن الآليين يتصورون الجسم الطبيعي على مثال الجسم الصناعي فيسلبونه وحدته؛ وهذه الوحدة بينة في المركبات الجمادية، وأبين منها في الكائنات الحية. وفي الطائفتين جميعا يصدر الفعل والانفعال عن الكائن بكليته كوحدة غير منقسمة، بينما الفعل والانفعال في الجسم الصناعي يصدر كل منهما عن جزء فقط. كما نشاهد في أجزاء أية آلة من آلاتنا. انظر إلى المادة المتبلورة كيف تتخذ شكلا هندسيا معينا بعد عدم التعيين، وكيف تجبر ما يصيبها من كسر: أليس هذا دليلا على وجود مبدأ غير المادة البحتة، كما أن انتقال الجسم الحي من عدم التعيين إلى تصوير شخص من نوع معين بوظائفه وأعضائه دليل على وجود مبدأ مغاير للمادة البحتة؟
والمذهب الآلي لا يفسر اطراد الأنواع الجمادية والحية، وسيرها على قوانين معينة، فإن المادة الصرف والحركة ذاتها لا تقتضيان نوعا دون آخر أو قانونا دون آخر، إلا أن يكون في الجسم الطبيعي مبدأ ذاتي يعين نوعه وخصائصه، ويستخدم المادة والحركة تبعا لمقتضيات ماهيته. ولكن المذهب الآلي ينكر مثل هذا المبدأ، ويريد أن يعلل خصائص الموجود بنظام تركيبه، كأن نظام التركيب نفسه غير مفتقر إلى تعليل. محال أن نرد إلى المصادفة اتساق الكائن الطبيعي مرة واحدة، فأمعن من ذلك في الإحالة عودة الاتساق في كل مرة.
Bilinmeyen sayfa
ومن الأدلة القاطعة على وحدة الذرة: وزنها النوعي، وألفتها الكيميائية، وما يتبع هذه الألفة من تغير جوهري. الوزن النوعي خاص بكل ذرة، ثابت لها، والذرات متفاوتة في المقدار، ومع ذلك هي غير منقسمة من جهة ما هي ماهية معينة، وإذا انقسمت مادتها تغيرت هذه الماهية، فلو كانت الأجسام امتدادا وحسب لانقسمت دون أن يعتريها تغير، إن ذرة الزئبق تزن مائة ضعف وزن ذرة الهيدروجين، فلم كان كلاهما غير منقسم؟
والألفة الكيميائية آية من آيات الغائية الباطنة المركوزة في الكائن نفسه، فإن لكل عنصر ميلا خاصا إلى عنصر آخر أو عناصر أخرى معينة دون غيرها. والعناصر المتآلفة قابلة للامتزاج بحيث يتكون منها جسم جديد بكافة خصائصه. وهذا الامتزاج لا يحدث اتفاقا كما تقدم، بل كأنه نتيجة ميل واختيار، إن جاز هذا التعبير بخصوص الموجودات غير الحاسة غير المختارة، بخلاف الحال في «الخليط» حيث يجتمع من الأشياء ما نشاء ويحتفظ كل منها بوجوده وطبيعته، كالماء والخمر، أو العسل والطحينة، يختلطان فيؤلفان شيئا وسطا نستشعر فيه كلا منهما بالآخر، على حين أن «المزاج» متجانس لا أثر فيه لأصوله الممتزجة، مثلما كل جزء من الماء هو ماء. فالخليط من باب الطبيعة، والمزاج من باب الكيمياء. أليس يستحق هذا الفرق تفسيرا غير ذلك الذي يعرضه الآليون باعتمادهم على ترتيب الذرات بعضها من بعض؟ لو كانت المادة امتدادا وحسب لعاد كل امتزاج خلطا، ولم يكن هناك مزاج أصلا.
تلك بعض الاعتراضات التي توجه للمذهب الآلي. وسنعقبها بأخرى، خصوصا حين نبحث في الكائنات الحية ووظائفها النامية والحاسة والناطقة، فما من مسألة من المسائل الفلسفية إلا وله دخل فيها، وأشياعه يعدونه مذهبا عاما في الطبيعة عامة. على أنا نريد أن نبدي هنا ملاحظة تنصفه وتحدد وجه معارضتنا له، فلا يتهمنا أحد بالتجني عليه؛ ذلك أنه إن كان خاطئا في تكوين المادة، كما ندعي، فقد يمكن اعتباره مطابقا للواقع من حيث وصف الكائنات ووصف «أعضائها» التي تفعل بها، ووصف جريان أفعالها : وهذا هو نصيب الحق في رد العلوم الطبيعية إلى المادة والحركية، وعد العلم الطبيعي الرياضي صورة للعالم، دون أن يعد هذا الرد تحقيقا للمذهب وبرهانا في صالحه؛ إذ إن هذه الوجهة ثانوية في الحقيقة، بينما الوجهة الأولية هي التكوين الميتافيزيقي: فالفسيولوجيون مثلا يبنون علمهم على تكوين الأعضاء وترتيب أفعالها، وهذا جائز، بل واجب، ولكنهم يستبعدون النظر في طبيعة الحياة وغائية أفعالها، على ما سنبين فيما بعد، وهذا غير جائز؛ إذ إن مهمة الفلسفة الكشف عن العلل الأخيرة والأصول الأولى. وهكذا نقول في كل طائفة من العلماء تنتهج هذا المنهج؛ والوجهة الأولية هي التكوين الميتافيزيقي؛ فنقدنا له هو من هذه الوجهة، أي: باعتباره المذهب المادي المنكر للماهيات والمستعيض عنها بتركيب أجزاء مادية تركيبا عرضيا. إن القضية التي ندافع عنها هي أن المادة تنتظم من «طابقين»: أحدهما سفلي هو الآلية، والآخر أعلى، وهو الغائية. (4) المذهب الهليومورفي
خلص لنا مما تقدم دعويان ضد الآلية، وهما على جانب كبير من الأهمية، ولو أن التجربة تظهرنا عليهما في كل وقت، ولكن الفلاسفة الذين يرتابون في البديهيات كثير، فلا نجد بدا من السعي وراءهم وتبرير البديهيات بقدر ما يسمح المقام، والبديهيات لا تبرر. إحدى الدعويين وجود كائنات مختلفة بالنوع، والأخرى وجود تغيرات جوهرية. الدعوى الأولى يلزم منها أن الكائنات تتشابه من وجه، هو وجه المادة والكمية، وتتخالف من وجه، هو وجه الماهية. وعلى ذلك فكل جسم هو مركب. وهذه النتيجة عينها تلزم من الدعوى الثانية: فإن الكائن المتغير لا يمكن أن يكون بسيطا، ومعنى التغير أن شيئا منه باق، وأن شيئا منه تغير، وإلا لم يكن الحال تغيرا، بل كان إعدام كائن وخلق كائن، أي: إرجاع التغير إلى القدرة الإلهية، وسلب الفعل والعلية من المخلوقات، والآليون متفقون معنا في نبذ هذا الرأي وقد فندناه في كتاب «العقل والوجود». فالتغير الجوهري يقتضي موضوعا باقيا، ومبدأ يتم التغير بظهوره في الموضوع أو اختفائه منه.
وذلك مذهب أرسطو، فإنه يتصور الجسم الطبيعي مركبا من مادة ومن مبدأ يرد المادة إلى الوحدة ويعطيها ماهية معينة، ويسمي المادة بالمادة الأولى أو الهيولي تمييزا لها عن المادة الثانية الداخلية في المصنوعات، ويسمي المبدأ المعين بالصورة «مورفي» باليونانية فدعي مذهبه بالفرنسية
Hylémorphisme
وبالإنجليزية
Hylomorphisme
أي: مذهب الهيولي والصورة. وقد رأينا أن نصطنع هذا اللفظ المركب ولو أنه لم يرد بهذا الشكل في العربية. وهذا المذهب يفسر وقائع التجربة تفسيرا وافيا: فالهيولي أو المادة أصل امتداد الجسم في المكان، والصورة أصل وحدته وخصائصه الذاتية، المادة أصل تكثر الأفراد في النوع الواحد واختلافهم في الأعراض، والصورة أصل اتفاقهم في الماهية، فإن كثرة الأفراد في النوع الواحد تعني أنهم متفقون في شيء هو علة تشابههم، ومختلفون في شيء هو علة تمايزهم، أي إن كلا منهم مركب من شيئين كما قلنا، فيظهر هذا التركيب في التغيرات الجوهرية كما بينا. وتدل الملاحظة على أن ثقل الجسم المائي يساوي ثقل العنصرين المركب منهما، وهذا شاهد المادة، وأن في هذا التركيب شيئا جديدا غير طبيعة الهيدروجين وطبيعة الأوكسجين، يتحد بها فيوجد منهما الماء، وهذا شاهد الصورة. ويقال مثل ذلك في كل تركيب جوهري، سواء أكان في الجماد أو في الكائن الحي.
لأجل فهم هذه النظرية على حقيقتها يجب الاحتراز من بعض التخيلات التي تتبادر إلى الذهن وتفسد فهمنا: يجب الاحتراز من تصور الصورة كأنها الشكل الخارجي بأقطاره الثلاثة، كما قد يوهم هذا اللفظ حين يسمعه المبتدئ في الفلسفة: الشكل عرض، والصورة المقصودة هنا تعين المادة الأولى، وتجلب لها جميع الخصائص والأعراض. والصورة هي «الفعل الأول للهيولي» أي: ما يعينها أولا، تتحد بها وتكون معها جسما معينا.
Bilinmeyen sayfa
ويجب الاحتراز من تصور الهيولي والصورة جوهرين تامين متجاورين في الجسم. إنهما جوهران ناقصان. الجوهر الناقص هو الذي لا يفسر وحده جميع خصائص الجسم، ولا يحدث جميع الأفعال المعهودة منه. إنهما متحدتان اتحادا جوهريا يكمل إحداهما بالأخرى، فتتقومان جوهرا تاما واحدا: «الهيولي هي جوهر من حيث موضوعة للصورة، والصورة هي جوهر من حيث مقومة للموضوع، والمركب منهما جوهر من قبل إنه مركب منهما.»
8
وقد زعم ابن سينا وألح في زعمه أن الهيولي تتحد أولا «بصورة جسمية » تحقق فيها الأقطار الثلاثة، فإنها «لو كانت خلوا عن الأقطار لكانت حينئذ غير كم، وكانت غير متجزئة الذات».
9
لكن هذا غير لازم، إذ لو كانت هناك صورة جسمية لكونت من الهيولي جوهرا تاما، أي: كائنا ذا وحدة، فإذا طرأت عليه الصورة النوعية لم تتحد به اتحادا جوهريا، بل كان شأنها شأن العرض، وكانت الأجسام الطبيعية مركبات عرضية عديمة الوحدة، وهذه نتيجة يأباها ابن سينا نفسه. فيكفي أن نقول: إن الجسم الطبيعي مركب من هيولي ومن صورة واحدة هي الصورة النوعية تعطي المركب الأقطار الثلاثة والنوع، وسائر الخصائص والكيفيات.
فالهيولي والصورة النوعية جزءان متكاملان، فلا توجد إحداهما دون الأخرى. فيجب النظر إليهما في المركب حيث تؤدي الهيولي مهمة الموضوع أو المحل، وتؤدي الصورة مهمة الماهية المعينة كل منهما جوهر ناقص في ذاته، مفتقر للآخر في الوجود والفعل، واتحادهما أولي لا يسبقه اتحاد، وهذا هو السبب في أنهما يؤلفان هيئة واحدة تامة. وفعل الجسم الطبيعي ليس من الهيولي وحدها، ولا من الصورة وحدها، ولا من الاثنتين متجاورتين متعاونتين، بل من المركب منهما تركيبا أوليا، ومن ثمة جوهريا. ولفكرة الجوهر الناقص أهمية كبرى في تعيين نوع اتحاد النفس الإنسانية بالجسد، فإن القائلين بالهيولي والصورة على الوجه المتقدم، وبروحانية النفس وبقائها بعد الموت، يجدون أمامهم مسألة عسيرة هي: هل النفس الإنسانية صورة جسم فتفنى بفنائه؟ أم هي جوهر روحاني لا يتحد بالمادة اتحادا حقيقيا؟ سنعود إذن إلى هذه المسألة حين نبحث في ماهية نفس الإنسان، ولعل هذا المبحث المعين يزيد المسألة وضوحا.
ويجب الاحتراز من تصور العناصر المكونة للمركب الطبيعي باقية فيه بالفعل، أي على حيالها كما تكون خارج المركب. ذلك وهم الآليين وتصوير الخيال، ولكنا رأينا أن المركب هو من طبيعة مختلفة اختلافا جوهريا عن عناصره، فلا نستطيع أن نفهم اختلاف نوع المركب مع بقاء عناصره بالفعل، كما نفهم الخليط. فالواجب أن نعتقد أن العناصر «كامنة» في المركب، باقية فيه بالقوة، كوجود النبتة في البذرة، ثم تبين بالفعل، أي بخصائصها وأفعالها، عند انحلال التركيب. لكن الآليين مضطرون من قبل مذهبهم الحسي إلى تخيل الأشياء وجحد ما لا يتخيل، فلا يحاولون تعقل الأشياء بمبادئها؛ و«القوة» لا تتخيل، فيأبون أن يجعلوا لها محلا من تفكيرهم، فيصلون إلى تلك النتائج غير حافلين بمناقضتها للعقل والتجربة جميعا. (5) المذهب الدينامي
هنا أيضا نصطنع اللفظ الإفرنجي
dynamisme ، من اللفظ اليوناني «دوناميس»، أي القوة، فلا نقول: مذهب «القوة» أو مذهب «الطاقة»؛ وبذلك ندل ابتداء على المعنى المقصود؛ ونتحاشى استعمال النسبة للفظ «القوة» ولفظ «طاقة» لما يبدو على هذه النسبة من غرابة حين نقول: «قوي» أو «قوية» و«طاقي» أو «طاقية». وما أكثر أخذ اللغات بعضها عن بعض، خصوصا في المسائل العلمية، حيث يظهر ميل عام إلى توحيد الاصطلاحات. ولنا أسوة بالعلماء والفلاسفة الإسلاميين، فإن كتبهم مشحونة بالألفاظ اليونانية كما هو معلوم.
للمذهب الدينامي صورتان: الأولى نشأت في العصر القديم، وهي ساذجة غير ذات خطر، والثانية ابتدعها ليبنتز، وهي أدق وأعسر، وهي المقصودة عادة. فأوائل الفلاسفة اليونان، أولئك الذين عينوا عنصرا من العناصر الأربعة مادة أولى للموجودات الطبيعية، اعتقد كل منهم أن العنصر الذي عينه حاصل على قوة باطنة متحرك بها؛ فدعوا بأصحاب المادة الحية؛ وأنبا دوقليس الذي اعتبر العناصر منفعلة وحسب، افترض لتعليل الحركة قوتين كونيتين دل باسميهما، وهما المحبة والكراهية، على نوع عليتهما: المحبة تجمع بين العناصر، والكراهية تفرق بينها؛ ثم جاء الرواقيون وقالوا: إن العالم حيوان كبير حاصل على نفس وعلى قوة ذاتية أو حياة. فعندهم جميعا أن الحركة صادرة عن الأجسام أنفسها، إما مباشرة وتبعا لطبيعتها، وإما بصفة غير مباشرة، أي: بعلة متمايزة منها كالمحبة والكراهية والنفس العالمية، خلافا للآليين الذين يعتبرون الحركة عرضا ظاهريا لا يقتضي منهم علة معروفة، ولا يمس ذات الأجسام، بل يمر من جسم إلى جسم، إلى غير نهاية.
Bilinmeyen sayfa
أما ليبنتز فقد استبان نقص الآلية من وجهين: وجه الحركة، ووجه المادة. لما كان الآليون ينكرون الماهيات فقد خلص لهم أن الجسم امتداد صرف ، وجعلوا منه شيئا منفعلا وحسب، خلوا من القوة لاستنادها إلى الماهية في عرف القائلين بها. ولكن التجربة تنبئنا أن الجسم الكبير أصعب تحريكا من الصغير، فليست مادة الكبير محض امتداد، ولكنها أيضا مقاومة، والمقاومة راجعة إلى المقاومة، أي إنها نوع من القوة. وتنبئنا التجربة أن الجسم المتحرك إذا حرك جسما ساكنا فقد شيئا من حركته، ولا يعلل ذلك إلا بمقاومة الساكن، والمقاومة نوع من القوة كما أسلفنا، وأيضا ما الذي يميز الجسم المتحرك من الجسم الساكن إذا نظرنا إلى الأول في نقطة ما من خط مسيره، إذ لا يمكن اتصال الحركة إلا بوساطة قوة أو ميل في ذات المتحرك؟ ولولا ذلك لعادت الحركة عبارة عن سلسلة سكونات، وإذن فماهية الجسم تقوم في القوة، وتظل القوة حتى ولو وقفت الحركة.
10
ومن وجهة المادة تبدى لليبنتز أن الجوهر الفرد أو الذرة كما تصورها ديموقريطس وسائر تابعيه، لا يمكن وحدة بمعنى الكلمة، أي: جوهرا حقا، فإن كل جسم، مهما افترضناه صغيرا، فهو ممتد، وكل امتداد فهو منقسم إلى غير نهاية، أي إنه مجموع جواهر، وإذن فالمادة كثرة بحتة، ولو لم يسعفنا التحليل الفعلي في استنفاد أجزائها، والأجسام «وحدات قوية»، وليس من وحدة حقة إلا وحدة الموجود اللا مادي، البسيط غير المنقسم، فما يبدو لنا جسما طبيعيا هو في الحقيقة وحدة لا مادية، وما يبدو مكانا أو مسافة هو في الحقيقة مجرد تصور.
وواضح أن هذا المذهب الجاحد للامتداد والحركة لا يصلح تفسيرا للطبيعة الممتدة، المتحركة، وإنما هو قاض على العلم الطبيعي كما قضى عليه بارمنيدس بقوله: إن العالم واحد ساكن؛ وتابعوه من العلماء المعاصرين المؤلفون الأجسام من «مراكز طاقة» كما يقولون، ينضمون للآليين، ويزيدون عليهم خطأ جسيما هو اعتبار الطبيعة بما فيها وهما من الأوهام كما يوحي بذلك المذهب التصوري. إنهم يؤلفون المادة من الطاقة التي لا امتداد لها، ومتى كانت الطاقة واحدة بالنوع، أصبحت كالحركة عند الآليين، ولم تصلح لتفسير تنوع الأجسام وخصائصها وأفعالها. وفيما يلي اعتراضات خاصة فوق هذا الاعتراض العام ، وإتمام لتنفيذ المذهب الآلي. (6) كمية الأجسام الطبيعية أو تفنيد المذهب الدينامي
لكل جسم مقدار أو كمية. والكمية هي العرض المادي للجوهر الجسمي بأجزاء ممتدة ومتقارنة. وهي العرض الأول في الجسم: لا الأول زمانا، فإن الجسم ممتد طبعا، بل الأول رتبة، إذ بوساطته يحمل الجوهر باقي الأعراض. هي عرض، وليست جوهر الجسم كما يعتقد الآليون، فإن لكل جسم ماهية تختلف عن كميته، ولا يمكن أن يكون تفاوت مقدار المادة العلة الوحيدة الكافية لتنوع الأجسام تنوعا بالماهية. أجل إن في الجماد اقتضاء لكمية معينة من المادة لتقوم الذرة والجزيء والبلور، كما أسلفنا، ولكن هذا شرط فقط لقوام الجوهر وفعله وظهور خصائصه. ويبدو ذلك بشكل أوضح في الكائنات الحية، حيث تختلف الكمية دون مساس بالماهية. الجسم الرياضي يحدث بمحض الامتداد، ويعرف بالأبعاد الثلاثة؛ أما الجسم الطبيعي فهو مبدأ فعل وانفعال، وما الكمية فيه سوى شرط لازم للتقوم والفعل. والآليون يخلطون بين هذين النوعين، أي إنهم يفكرون بالمخيلة لا بالعقل، ويأخذون الجسم الرياضي مثالا لمطلق الجسم تفاديا للقول بالماهية في الجسم الطبيعي. ولم لا ننهج هنا منهج ديكارت نفسه في تمييزه بين النفس والجسد، فنقول: ما دمنا نتصور بوضوح الأبعاد دون الجوهر، فإن الشيئين متمايزان؟
عن الكمية يلزم المكان، وله شأن كبير في الفلسفة القديمة وشأن أكبر في الفلسفة الحديثة، كما ذكرنا في كتاب «العقل والوجود». المكان خاص ومشترك: المكان الخاص هو الحيز الذي يشغله الجسم بمقداره؛ والمكان المشترك هو الحيز الذي تشغله جملة أجسام، وحيثما توجد أجسام يوجد مكان، وحيثما لا توجد أجسام لا يوجد مكان. ولكن الآليين المفكرين بالمخيلة كما قلنا، يطاوعونها في تخيلها المكان شيئا عينيا ممتدا إلى ما لا نهاية، كما تخيل ديموقريطس وأبيقور، وديكارت وجساندي، ونيوتن وكلارك، والحقيقة أن ليس للمكان من وجود إلا بوجود جسم، فنتصور الخير المشغول بالجسم كأنه شيء عيني. ولسنا نريد أن نقول: إن المكان محض تصور، ما ارتأى ليبنتز وكنط وأتباعهما من التصوريين، من حيث إن الأجسام الشاغلة له هي موجودات عينية حاصلة بالطبع على كمية.
فلا يبقى إلا أن نستنتج مما تقدم أن المكان موجود ذهني له أساس في الواقع، أي في طبيعة الأشياء؛ مثل الإنسانية والحيوانية وما إليهما. نقول: إنه موجود ذهني، فإننا لا نجد مطلقا أبعادا ثلاثة هي مطلق محل لقبول الأجسام متمايزة منها وقابلة لمفارقتها، ونقول: إن له أساسا في طبيعة الأساس، فإن الأبعاد الثلاثة المتصورة محلا كليا عاما هي محاكاة للأبعاد الثلاثة في الأجسام التي نراها منطوية بعضها على بعض ومحلا بعضها لبعض.
وليست الأجسام مركبة من ذرات منفصلة متجاورة فقط كما يتصور الآليون، ولكنها متصلة، ولا يمنع اتصالها ما فيها من مسام، فإن الذرات (أو الخلايا في الأحياء) إن لم تكن متصلة اتصالا مطلقا، أي من جميع جهاتها، فإنها متصلة اتصالا نسبيا، أي من بعض الجهات، فلا تفسد وحدة الموجود. الوجدان يشهد شهادة واضحة لا تقبل الشك أن أعضاءنا متحدة بعضها ببعض، وأنها تكون جسما واحدا غير منقسم؛ فإن كل إحساس، في كل نقطة من جسمنا، محس معلوم للفور دون واسطة أو استدلال. ويشهد العقل أن أجزاء الكائن الحي تحيا كلها بالحياة الشخصية، وأن في الكائن الحي مبدءا واحدا حالا فيه، ولو كانت الأجزاء والأعضاء منفصلة لاستحالت الحياة الشخصية. والأمر واحد في الجماد ووحدته وفعله وانفعاله.
ووجه الاستحالة أن إنكار الاتصال يستلزم التسليم بأن كل فعل فهو يتم «عن بعد»، سواء في كل جسم جسم، أي في الخلاء الفاصل بين الأجزاء، وبين الأجسام بعضها والبعض في الخارج. ولكن لا فعل عن بعد، أو «لا حركة في الخلاء» كما يقول الإسلاميون، فإن الذي يسلم بها مضطر للتسليم بأن المخلوق يفعل حيث لا وجود له، أو أن يزعم أنه موجود عن بعد، وكلا هاتين القضيتين متناقضة معارضة للعقل، إذ من غير الممكن فصل الفعل عن فاعله، ولا الفصل بين الفاعل وحيزه. ويتوهم البعض أن الفعل عن بعد إصدار أعرض من الفاعل إلى المنفعل في الخلاء، وليس للأعراض وجود مستقل حتى تسير هكذا، وليس الخلاء شيئا حتى يحمل العرض أو الجوهر .
يقال: إن الجسم أو الامتداد منقسم إلى غير نهاية، وهذه عبارة متداولة لا يغني تداولها عن شرحها. إن الجسم ينقسم إلى ما لا نهاية من الوجهة الرياضية وفي العقل فقط، أي من جهة ما هو جسم ممتد، فإن القسمة الامتداد تعطي دائما آحادا ذات امتداد، لما ذكرناه من استحالة تكون المركب من بسائط ووجوب قبوله للقسمة دائما. أما من الوجهة الواقعية، أي من حيث هو موجود متشخص فلا ينقسم إلى غير نهاية، فإن الجسم المتشخص حاصل على صورة متحدة بالمادة، فإذا قسمنا مادته غير ماهيته، وأفضينا به إلى التلاشي بصفته هذه الماهية المعينة.
Bilinmeyen sayfa
فإذا ما اتجهنا صوب المذهب الدينامي المنكر لموضوعيته الامتداد، سألنا: من أين جاءنا هذا الوهم وليس فينا ولا في الأشياء امتداد؟ قلنا ونكرر القول: ليس الممتد مركبا من غير الممتد، ومهما أضفنا البسيط إلى البسيط فلن نؤلف مادة، كما أن إضافة الأصفار إلى الأصفار لا تؤلف واحدا، وأن النقط البسيطة - إذا تماست - لا تؤلف مركبا، بل تحتل كلها نقطة واحدة. وحين يقول الرياضيون، أو أشباه الرياضيين، إن الخط مركب من نقط غير ممتدة، فكذلك الأجسام مركبة من مونادات، نجيب أن هذا التعبير ينقصه شيء كثير من الدقة، فليس للنقطة وجود واقعي، وليس الخط إذن مركبا من نقط؛ وإنما الرياضيون يفترضون خطا حادثا عن نقطة متحركة، ولا يحدث خط متصل إلا لوجود مكان متصل تتصل فيه الحركة فيحصل اتصال الخط. فالامتداد أو الاتصال سابق بالطبع على الحركة، وإلا لم تستطع النقطة أن تتحرك. يقول ليبنتز إن الامتداد تصور بحت ينشأ في الذهن من إدراك مونادات عدة متقارنة في الوجود، فهو «نسبة» بينها. وجوابنا عين الجواب السالف: أعني أن هذه النسبة تفترض المكان ولا توجده، وكذلك نقول للديناميين الذين يعللون حدوث فكرة المكان بحركات جذب ودفع، أعني أنه لو لم يكن المكان موجودا استحالت هذه الحركات.
الكمية والمكان إذن شرط الحركة، فمنكرهما منكر لها ضرورة. غير أن الديناميين لا يلتزمون بهذه الضرورة، بل يتحدثون عن الحركة بأنها الظاهرة الكبرى في الطبيعة، وأن بها تعلل سائر الظواهر، كما يتحدث الآليون ، خشية أن يمتنع عليهم العلم الطبيعي، وما أقوى سحر العلم الطبيعي في العصر الحديث! وهذا افتئات صريح على المنطق، يدل على بطلان مبدئهم الذي يفضي بهم إلى هذا التناقض الظاهر. والآليون من جهتهم لا يكتفون بإثبات الحركة، بل يدفعون بمذهبهم فيها إلى أقصى حد، وذلك بما يسمونه مبدأ القصور الذاتي القائل: «إن كل جسم فهو مستمر في حاله من سكون أو حركة مستقيمة راتبة إلا أن يتأثر بجسم آخر.» ويرتبون على هذا المبدأ نتيجة خطيرة هي: إذا افترضنا جسما يقذف في الخلاء فإنه يستمر في حركته إلى ما لا نهاية. ويرتبون على هذه النتيجة نتيجة أخرى أعظم خطورة، وهي: أن العالم لما حركه الله مضى في الحركة دون حاجة إلى الله، فإن من شأن القصور الذاتي أن يجعل الحركة آلية، ويغني عن المحرك بعد أن كان محتاجا إليه فقط للانتقال من حال السكون إلى حال الحركة.
ولنا على هذه النظرية ردان؛ أحدهما خاص بالأجسام الطبيعية، والآخر خاص بالله، فنقول أولا: إن هذا المبدأ لم يستخلص من الواقع، فليس في تجربتنا خلاء صرف ننظر فيه إلى الحركة إن كانت غير متناهية، بل ما نشاهده بالفعل هو أن حركة الأجسام تسكن في جونا بسبب مقاومة الهواء. ومن جهة ثانية أن قوة التحريك محدودة - من غير شك - بقوة المحرك وبكفاية المتحرك لقبولها؛ وإذن فقوة التحريك نافذة لا محالة، ومتى نفدت سكتت حركة المتحرك لانعدام فعل المحرك. ونقول ثانيا: إن الجسم الطبيعي محدود الكفاية، فلا يمكن أن يقال: إن العالم يقبل من الله حركة غير متناهية تغنيه عن الله؛ بل المعقول أنه يقبل تحريكا متناهيا، فتكون حاجته إلى المحرك، ليس فقط لتوليد الحركة، بل أيضا إلى تجديدها واستمرارها؛ ومن غير المعقول أن يتحرك الجسم إلى ما لا نهاية بقوة متناهية.
والبحث في الحركة يؤدي إلى البحث في الزمان، فإن الزمان «عدد الحركة» أو أن الحركة قابلة للعد بحسب تعاقبها. وكثير من الفلاسفة - فضلا عن الجمهور - تخيلوا الزمان لا متناهيا كليا ضروريا: فاليونان منهم كافة - إذ كانوا يجهلون أو ينكرون فكرة الخلق - اعتقدوا أن المادة أزلية أبدية، فنتج لهم أن الزمان أزلي أبدي، أي: لا أول له ولا آخر؛ بعضهم قالوا بذلك انقيادا للمخيلة، وبعضهم ادعى ثبوته عقلا، مثل أرسطو الذي أجل الله عن التنزل إلى العلم بالمادة والتأثير فيها؛ ومنهم ديكارت بعقليته الرياضية، ثم سبينوزا بمذهبه في وحدة الوجود، ثم نيوتن وكلارك، وقد بلغ الأمر بهؤلاء الثلاثة إلى جعل الزمان والمكان صفتين من الصفات الإلهية.
والحقيقة أن الزمان متناه لتناهي مدة العالم وحركته، فإن العالم حالما يوجد وحالما تبدأ حركته، ينفصل عن عدم الوجود السابق بآن واحد هو آن وجوده، ثم يأخذ في التحرك، فيبدأ الزمان، ولا أهمية بعد ذلك للفحص عما إذا كانت الحركة تستمر أو تنتهي ما دامت النهاية قد بانت في الأول. والحقيقة من جهة ثانية أن فكرة الزمان مكونة باشتراك العقل والتجربة: فأول إدراك للزمان هو إدراك «الزمان الذاتي»، أي الشعور بالديمومة واتصال الوجود في شخصنا، وفيما حولنا من الناس والأشياء. اتصال الوجود مدة تتعاقب فيها أفعالنا، وتبين في عاداتنا البدنية والمعنوية، وفي آفاتنا البدنية الناتجة عن الوراثة والمرض والإفراط، وفي ذكرياتنا التي تساعدنا على فهم التجربة الحاضرة واستكمالها. ومن المستحيل قياس هذه المدة قياسا مباشرا واقعا على الحالات التي تملؤها؛ وذلك لأن شعورنا بها متقطع متفاوت، فقد لا نشعر بكثير منها، وقد لا نشعر بها على حد سواء، فمنها ما يهمنا ويستغرق انتباهنا فيطغى على غيره، وتبدو مدته قصيرة؛ ومنها ما يهمنا قليلا أو كثيرا، فيتفاوت شعورنا بمدته.
وأصغر جزء في الزمان الذاتي هو «الآن النفسي» أو مدة الظاهرة التي نوليها انتباهنا؛ ويدوم هذا الحاضر حتى تعرض ظاهرة تستغرق الانتباه فيذهب، أي يصير ماضيا. والحاضر الواقعي يمكن أن يدوم من أربعة أخماس الثانية إلى اثنتي عشرة ثانية. وهو مدرك كأنه كلي لاستيعاب الانتباه أمورا عدة، ولو أنه يتضمن تعاقبا، فإن من الثواني ما يتقدم فيلحق بالماضي، ومنها ما يتأخر فينتظر في المستقبل. وبين الماضي والمستقبل ثانية حاضرة تصل هذا بذاك كنقطة غير متجزئة؛ وهي أيضا زمان لسيلانها وعدم ثباتها. وإذن فنحن نشعر بالزمان بوساطة التعاقب، ولكنه تعاقب غير منتظم.
فلجأ الإنسان إلى قياس غير مباشر باستخدام بعض الحركات الراتبة إما في جسدنا كالجوع والعطش والنوم والتعب والنبض والتنفس والمشي، وإما في الخارج كحركة الشمس والقمر والمزولة والساعة؛ وهذا النوع الثاني أدق بكثير، وبخاصة حركة الشمس، أو ما يسمى كذلك؛ إذ المقصود هنا حركة الأرض حول الشمس كما هو معلوم، فإن فصول السنة متوقفة عليها، وأيام السنة عائدة في مواعيدها من هذه الفصول؛ فحصل الإنسان بها على زمان عام لنظامنا الفلكي، ولكنه زمان نسبي؛ إذ إن نظامنا الفلكي جزء صغير من الفلك أجمع يكاد لا يذكر، وأهل العصر القديم والعصر الوسيط هم الذين كانوا يحسبونه جملة العالم، ويظنون أن المتحرك الأول هو الفلك المحيط في نظامنا البادي للعيان. وقد أبطل العلم الحديث هذا التصور باستكشافه أنظمة فلكية كثيرة، فوسع آفاقنا به، ولكنه لم يتوصل بعد إلى الإلمام بأطراف الكون وتعيين مركزه، حتى نعتبر حركة هذا المركز حركة أولى إطلاقا، ونتخذ منها معيارا تتقدر به سائر الحركات. فنحن لم نحصل بعد على «الزمان المطلق». ولو حصلنا عليه لما كان مطلقا إلا بمعنى أنه زمان العالم الواقعي، وفي مقدورنا أن نتصور عالما أكبر أو عالما أصغر تختلف فيهما النقطة المركزية.
ففكرة الزمان فكرة نسبية للغاية مكونة تكوينا؛ ويخطئ كل من يتخيل الزمان شيئا واحدا أو معنى واحدا أصيلا فطريا في الذهن. إن الموجود منه بالفعل في كل آن هو «الآن» الميتافيزيقي، أي أدنى جزء يتجدد باستمرار طوال جريان الحركة، ويمكن تصوره على غرار الآن النفسي كما شرحناه، إلا أنه ليس مثله ممتدا، وإنما هو واسطة بين الماضي والمستقبل، هو الحد الأخير بالنسبة إلى الماضي، والحد الأول بالنسبة إلى المستقبل. «لا يدخل في الوجود المتحرك من الزمان في الحقيقة إلا الآن.»
11
فإذا بدا الزمان متصلا قائما بجميع أجزائه، أو بجميع أجزاء الماضي على الأقل، ففي ذهننا فقط أن الماضي قد فات، والمستقبل لما يأت بعد، وأجزاء الزمان متتالية لا توجد معا كوجود أجزاء المتصل القار بها جميعها. فالزمان موجود ذهني له أساس في الواقع هو الآن، ولا مقابل له، ولا يمكن أن يوجد له مقابل على ما يبدو في الذهن. ولولا العقل لما كان لنا معنى الزمان، فإن العقل أو الذاكرة العقلية هو الذي يستحضر الماضي مجتمعا، ويتوقع المستقبل مجتمعا، ويكون منهما متصلا واحدا تتقدر به الحركات على اختلافها،
Bilinmeyen sayfa
12
بل تتقدر به سكنات الأشياء القابلة للحركة بالذات، فإنها سكنات أشياء يمكن أن تتحرك، فالزمان المتصور هكذا مقياس الحركات وعدمها. وفيما تقدم كفاية بعد ما قلناه في كتاب «العقل والوجود» عن الزمان عند التصوريين، وبخاصة عند كنط. ويبقى لنا أن نعجب لفلاسفة كبار ينقادون إلى الخيال ويغفلون عن حكم العقل. (7) كيفيات الأجسام الطبيعية
مع الكمية ولواحقها تطرأ على الجسم الطبيعي أعراض «تكفيه»، أي تدخل عليه؛ من حيث الوجود ومن حيث الفعل، تغيرات تتفاوت أهمية وعمقا، بها ندرك خصائصه ونتعرف ماهيته. هذه الكيفيات مجموعة في أربعة أقسام مزدوجة:
القسم الأول:
بالنسبة إلى الشخص، ويشمل العادات؛ أو الاستعدادات والملكات، كالعلم والفضيلة والرذيلة والفن، وكل عادة أو صناعة مكتسبة، طيبة أو رديئة. فالموسيقي مثلا يوجد في عقله العلم بفنه وفي أصابع يديه عادة خادمة لذلك العلم. وانقسام العادة إلى استعداد وملكة سببه أن الاكتساب يولد أولا - في النفس وفي البدن - استعدادا قلق القرار سريع الزوال، وإذا استمر صار ملكة راسخة عسيرة الزوال. وليس يعني ثبات الملكة دوامها حتما، بل يعني تأصلها وصعوبة تحولها. وهما للإنسان خاصة لما يقتضيه الاكتساب من عقل يتصور غاية ويرتب الوسائل إليها ومن إرادة تصممم وتثابر، والإنسان وحده حاصل على هاتين القوتين. ثم هما للحيوان الأعم في دائرته الضيقة، وللنبات في دائرة أضيق بكثير، بدافع الظروف الطبيعية وتدخل الإنسان يروض الحيوان ويربي النبات، ولا ملكة ولا استعداد للجماد، فإنهما يفترضان عدم التعيين حتى يتعينا بالفعل، والمادة الصرف معينة غير مطاوعة لحال جديدة. فلا استعداد ولا ملكة لغير الأحياء. والذين يأبون الاعتقاد «بالقوة»؛ لأنهم لا يحسبونها، كيف يفسرون بقاء الاستعداد والملكة طوال بقائهما وتزايدهما وتناقصهما إذا لم يكونا في النفس بالقوة، والتجربة تشهد وجودهما في النفس شهادة بينة كل بيان.
القسم الثاني:
بالنسبة إلى الفعل، ويشمل القوة والعجز، أو الكفاية وعدم الكفاية. والمراد بالقوة هنا المبدأ القريب للفعل أو للممانعة إطلاقا، لا القوة المقابلة للفعل التي أشرنا إليها الآن؛ ولفظ «إطلاقا» يميز القوة المقابلة للعجز من الاستعداد والملكة، فإنهما هما أيضا مبدأ فعل وممانعة، ولكنهما مبدأ فعل طيب أو رديء بينما القوة مبدأ الفعل إطلاقا. القوة مبدأ قوى الفعل أو للممانعة، مثل قوة الإبصار في الشاب السليم الجسم؛ والعجز أو اللاقوة مبدأ ضعيف للفعل أو للممانعة، مثل قوة الإبصار في الشيخ الهرم. فليست اللاقوة عدم القوة، وليس العدم كيفية، ولكنها نقصان غير كاف للفعل أو للممانعة.
القسم الثالث:
بالنسبة إلى الانفعال، ويشمل الإحساسات الظاهرية الحادثة عن تأثير الأشياء في الحواس، والإحساسات الباطنية الحادثة عن تأثير في النفس، مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل. ومنها المفاجئة العابرة وتسمى انفعالات، والراسخة وتسمى انفعاليات، كالحمرة الناتجة عن مزاج الجسم. ويقال الآن: «كيفيات محسوسة» للموضوعات المدركة بالحواس الظاهرة، وهي على خمسة أنواع بحسب الحواس الخمس كما هو معلوم.
القسم الرابع:
Bilinmeyen sayfa
بالنسبة إلى الهيئة والشكل، أي إلى ترتيب أجزاء الكمية في الشيء. ويفرقون بين الهيئة والشكل بقولهم: إن الهيئة تطلق على الطبيعيات، مثل: هيئة الإنسان وهيئة الأسد، وإن الشكل يطلق على المصنوعات. الهيئة صادرة عن الجوهر، كما نشاهد في المتبلورات وفي الأحياء؛ والشكل مفروض من الإنسان على المادة، أو من الطبيعة في تغيرها المستمر، وعلم الفراسة مؤسس على صدور الهيئة من الجوهر، بينما الشكل ترتيب خارجي فقط. فهذا القسم الرابع يشمل الهيئات والأشكال على اختلافها، فإنها تبدي الأشياء في ترتيبات معينة.
وبعد فإن للآليين رأيا في الكيفيات المحسوسة لازما من رأيهم في المادة، نذكره الآن ونرد عليه، ولو أنا عرضنا له في كتاب «العقل والوجود» إلا أنا نثبت هنا جميع وجوه التهافت في مذهبهم، فنرسم له صورة وافية تكشف عما يعتوره من بطلان، وخلاصة ذلك الرأي قول إمامهم ديموقريطس: إنه لما كانت المادة مجرد امتداد، كان الشكل والمقدار والحركة والسكون الكيفيات الوحيدة التي تصح إضافتها للأجسام؛ بينما الضوء واللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة انفعالات تثيرها في حواسنا حركات الأجسام تبعا لتكوين المؤثر وخصائص الحركة وتكوين الشخص في تغيره من حال إلى حال. والطائفة الأولى من الكيفيات ملازمة للأجسام، ومن ثمة موضوعية وقد دعيت بالكيفيات الأولية؛ بينما الطائفة الثانية ذاتية للشخص المنفعل، عديمة الشبه لما يلوح في أذهاننا، وقد دعيت بالكيفيات الثانوية.
ولما بزغ عصر النهضة الحديثة، وأراد العلماء الفلاسفة - وفي طليعتهم جليليو وديكارت - تحويل العلم الطبيعي إلى علم رياضي، اصطنعوا هذا الرأي لإمكان تطبيق الرياضيات على المادة الصرف، واستحالة تطبيقها على الانفعالات النفسانية، وأرجعوا ما يسمى تغيرات كيفية إلى تغيرات كمية، أي حركات تقاس مباشرة فيقاس بها سائر الانفعالات بصفة غير مباشرة، بل يحدث بعضها عن بعض ما دامت تتفق كلها في الحركة: فكمية معينة من الحركة الميكانيكية يحدث عنها دائما كمية معينة من الحرارة. وهكذا في مختلف الحالات.
والواقع أن هذه الأقوال واهية لا تثبت للامتحان:
فأولا:
ومن جهة المعرفة الإنسانية: تبدو الكيفيات الثانوية كأنها في الأشياء كالكيفيات الأولية سواء بسواء، فإذا لم تكن فيها كان شعورنا باليقين باطلا، ووجب الشك في كل يقين. ثم إن لنا حواس عدة، ولكل حاسة جهاز خاص لإدراك موضوع خاص، فكيف نفسر تغاير الأجهزة والموضوعات على هذا النحو؟ فإن قيل - كما قال فعلا ديكارت ومالبرانش وبرجسون وغيرهم - إنها للفائدة العملية وتدبير الحياة طبقا للعلاقة بين جسمنا وما يحيط بنا من أجسام، أجبنا: إذا كانت الفائدة لا تتحقق إلا هكذا، أليس هذا دليلا على أن الكيفيات في أنفسها مختلفة، وأن الإدراك يقع عليها كما هي؟
ثانيا:
ومن جهة الكيفيات: لو كانت حركات ليس غير، لاختلفت بالدرجة فقط، فأحسسناها بدرجات متفاوتة، ولم نحس ألوانا وطعوما وروائح عدة مختلفة. فما السبب في هذه الفوارق بينها، مع العلم بأن التغاير بالدرجة، أي بالكم لا يحدث تغايرا بالذات ، كما لاحظنا غير مرة. وما السبب في اطراد الحركات وآثارها، وليست تقتضي المادة بذاتها نسقا معينة أو نسبة متداولة؟
ثالثا:
ومن جهة المضاهاة بين الطائقتين من الكيفيات: إن الثانوية منها تدرك تبعا للأولية، فبالضوء واللون وباللمس والسمع ندرك أشكال الأشياء ومقاديرها: فكيف تكون هذه ذاتية وتكون تلك موضوعية؟ ثم كيف تكون الصلابة موضوعية ويكون باقي المحسوسات الأولية ذاتيا، وهي جميعا محسوسة على السواء؟ فإما أن نقبل موضوعية الصلابة ونضم إليها غيرها من المحسوسات الثانوية، وإما أن نرفض موضوعية الصلابة، ونضم إليها في الرفض غيرها من المحسوسات الأولية.
Bilinmeyen sayfa
أجل إن الكيفية مصحوبة بحركة؛ أما الزعم بأنها محض حركة، فليس يمكن إثباته. الحركة أداة لنقل الكيفية - وقديما نبه أرسطو على لزومها للتغير الكيميائي المدعو استحالة - وللزيادة والنقصان في الأحياء، وهي عرض لا ينتقل بعينه، ولا يتحول إلى آخر، فإن الحركة حركة جسم، والحرارة حرارة جسم. والرأي الصواب أن لكل كيفية أثرا محركا نوعيا، أي خاصا بها تابعا لنوعها، كما يظهر في الحركات المؤثرة في الحواس الخمس والمحدثة الكيفيات فيها، وهذا الأثر المحرك النوعي يتنقل كيفية في المنفعل، ويجاوب عليه المنفعل بكيفية من نفس النوع. فالحرارة لا تنتقل، ولكنها تحدث حرارة في منطقة معينة؛ والحركة لا تنتقل، ولكنها تولد في الجسم المنفعل بها قوة على التحرك، ولكن الآليين لا يفهمون توليد الحركة وانتقال «معنى الكيفية» دون الكيفية نفسها، ويريدون دائما الاعتماد على المخيلة بدلا من العقل.
مسألة أخيرة خاصة بالأقسام الثلاثة الأولى للكيفيات: هل الكيفية قابلة للأكثر والأقل من حيث الشدة؟ لقد وجد من أنكروا ذلك لمغايرة الكيفية للكمية. غير أن التجربة تشهد أن العلم والفضيلة والقوة وما إليها تزداد أو تنقص. واعتقد أصحاب علم النفس الفيزيقي
psycho-physique
أنهم وجدوا نسبة أو تقابلا بين المؤثر والإحساس، وأن إحساسا ما يمكن أن يكون ضعف إحساس آخر أو ثلاثة أضعافه. والحقيقة أن الشدة كمية الكيفية، ولكنها لا تقاس مباشرة على نحو ما تقاس الكمية، لعدم وجود وحدة تتكرر في الزيادة والنقصان كما تتكرر وحدة الكمية، لا توجد «وحدة إحساس»، أي: إحساس ذو كمية معينة ثابتة تقدر بها الإحساسات. إذا كنا على يقين من شدة الكيفية، فليس باستطاعتنا تقديرها؛ وإذا لاحظنا أن الكيفيات التي تزيد وتنقص تدريجيا مرتبطة بالكمية والحركة المكانية، دون أن يمكن قياسها مع ذلك، فإن الكيفيات المعنوية، كالفضيلة والعلم، تزيد وتنقص بوثبات، فقياسها أقل إمكانا؛ وحينما نقسم بالوهم قوة ما إلى درجات، فنحن لا نقسم القوة نفسها إلى أجزاء متكثرة حقا، وإنما نعتبرها معادلة لكثير، وهذا يكفي لقياسها بصفة غير مباشرة، وذلك بآثارها المحسوسة، أو بالمضاهاة بينها وبين كيفية أخرى من نوعها، فيقال: «مساوية، أكبر، أصغر» أو بالمضاهاة بينها وبين نفسها في مراحل أخرى.
إلى هنا فرغنا من أعم مسألة في الفلسفة الطبيعية، وهي مسألة تكوين الأجسام على العموم والعلاقة بينها وبين لواحقها. وقد رأينا أن المذهب فيها ثلاثة، ولا يمكن أن تكون سوى ثلاثة: المذهب الآلي الذي يرد الطبيعة وما فيها إلى المادة البحتة والحركة؛ والمذهب الدينامي المنكر للمادة والحركة والمستعيض عنهما بالقوة وتصور الإنسان؛ والمذهب الهيولومور في الجامع بين المادة والحركة والقوة، كل بمقدار وتمييز دقيق لما يرتبط بها. والنتائج الكبرى لنظرية الهيولي والصورة هي تفسير الشواهد العامية والعلمية على ما يقتضي العلم الصحيح، ومعقولة الطبيعيات بما فيها من صور شبيهة بالمثل الأفلاطونية، وصون المعرفة عن التصويرية والشك اللتين يؤدي إليهما إنكار المادة من جهة وإنكار القوة من جهة أخرى. وفي البقية من هذا الكتاب شواهد عديدة قوية على صوابه.
هوامش
الفصل الثاني
الحياة النامية
(1) تعريف الحياة
موضوعات الفصل الأول بمثابة الأمور العامة بالنسبة للطبيعة بالإجمال، أي أعم المعاني المشتركة فيها جميع الأجسام، التي يجب أن تقدم على ما سواها في الفلسفة الطبيعية، كما أن الموضوعات التي عالجناها في كتاب «العقل والوجود» هي الأمور العامة بالنسبة للموجودات إطلاقا. فكل ما قلناه في الفصل الأول ينطبق على جميع الموجودات الطبيعية، فكأننا قد استوفينا الفحص عن الجماد. وفي الواقع كان كلامنا منصبا عليه في أكثره، وكانت استشهاداتنا مأخوذة منه في معظمها.
Bilinmeyen sayfa
وفي الطبيعة أجسام حية عديدة مختلفة الماهية موزعة في ثلاث ممالك كما يقولون: مملكة النبات، ومملكة الحيوان، ومملكة الإنسان الذي وإن كان حيوانا إلا أنه حيوان عاقل، والعقل يجعل منه كائنا ممتازا للغاية، بينه وبين سائر الحيوانات مسافة سحيقة تستحق له مكانة خاصة. نخطو إذن في دراسة الطبيعة إلى المملكة التالية لمملكة الجماد، والتي توجد قواها وظواهرها في المملكتين الأخريين، فنعرف الحياة على العموم، ثم نعرف الحياة في النبات على الخصوص. ثم ننتقل إلى الحياة الحاسة المشتركة بين الحيوان والإنسان، فإلى الحياة الناطقة أو العاقلة الخاصة بالإنسان وحده على سطح الأرض.
هنا أيضا نلقى المذهب الحسي، ونقرأ له تاريخا طويلا منذ فجر الفلسفة اليونانية، بل قبل بزوغه، إلى عصرنا الحاضر. أشياعه القدماء يتحدثون عن النفس كمبدأ للحياة وقوام للجسم، ولكنهم يعتبرونها مادية، ويجعلها كل منهم شيئا من العنصر الذي رآه مبدأ الأشياء: الماء عند طاليس، أو الهواء عند انكسيمانس، أو النار عند هرقليطس؛ وتصور كل منهم عنصره مدركا ومتحركا بذاته، فوعدوا هيلورفيست
Hylozoïsts
أي: أصحاب المادة الحية. وذهب أنبادوقليس إلى أنها مركبة من العناصر الأربعة. وقال ديموقريطس، صاحب نظرية الجوهر الفرد أو الذرة، والمؤسس الحقيقي للمذهب الحسي: إنها مركبة من أدق الذرات وأسرعها حركة، وهي المستديرة المركبة للنار ألطف المركبات وأكثرها تحركا.
وفي العصر الحديث نجد ديكارت، وقد رد الطبيعة كلها إلى الامتداد والحركة، يقول: إن النبات والحيوان وجسم الإنسان آلات كآلاتنا الصناعية، ولو أنها أكثر تعقيدا وأعجب أفعالا، أي إن الجسم الحي مجموع أجزاء من الامتداد خاضعة لقوانين الميكانيكا، وإن ترتيبها بعضها من بعض كاف لتعليل الظواهر الحيوية. وتبعه كثيرون أو قالوا: إن الحياة ترجع إلى القوى الفيزيقية والكيميائية. ويمكن القول: إن غالبية العلماء والفلاسفة تميل إلى الآلية؛ لأن الآلية تبدو لهم أقرب إلى فكرة العلم، والعلم مجموع من القوانين الكلية الثابتة المتعالية على الفوارق الجزئية والتنوعات الحادثة. وقد كدسوا الحجج آملين أن يبينوا أن ليس للأحياء تفوق على الجماد بالماهية، بل فقط بالتركيب والتعقيد.
والحق أن الناس، ومن بينهم الآليون حين لا يفلسفون، متفقون بداهة على تمايز الحي من غير الحي بخاصتين أساسيتين: إحداهما الحركة الذاتية في كافة الأحياء، أعني التغير باطنيا وظاهريا، والخروج من القوة إلى الفعل، لا الحركة المكانية فقط، بينما المادة الصرف لا حراك لها إلا بدفع من خارج أو إزالة عائق، بحيث إن الحي الذي يفقد هذه الخاصية يعتبر ميتا محروما من الحياة، والخاصية الأخرى الإدراك في بعض الأحياء، لا سيما والإدراك نفسه، فعل أو حركة، وأنه مبدأ باعث على الحركة الذاتية طلبا أو هربا، وهم جميعا يعتقدون أن للكائن الحي قوة باطنة هي علة حياته وأفعاله الحيوية، تسمى بالنفس، والحركة الذاتية مقدمة على الإدراك لوجودها في الأحياء قاطبة، بل هي لهذا السبب الخاصية الأساسية للحياة الأرضية.
ينتج من هذا التعريف أن الأفعال الحيوية باطنية في الحي قارة فيه، وأن هذه الباطنية تفترض فيه أجزاء أو أعضاء متنوعة الوظائف والتراكيب. فلنشرح هاتين الخاصتين: أما باطنية الفعل أو استقراره في الحي، فمعناها أن الفعل الحيوي يصدر عن الحي وينتهي إليه، ولكن من وجهين: أحدهما بالنسبة إلى الحي في جملته، تحرك قوة فيه قوة أخرى، ولا تتعدى الحركة إلى شيء خارجي، بخلاف فعل الجماد فإنه يبدأ في الفاعل ويتجه إلى شيء خارجي، فهو متعد بالذات. والوجه الآخر بالنسبة إلى كل قوة من قوى الحي: يبدأ منها الفعل ويبقى فيها، كالعقل والإرادة، وهذه هي الباطنية بمعنى الكلمة، على ما سنبينه عند الكلام عن النفس الناطقة، وباطنية الحياة من هذا الوجه الثاني. أما ما يبدو في الجماد حركة ذاتية، كانفجار بعض المركبات الكيميائية، فناشئ من اختلال التوازن بين الذرات أو الجسيمات. وتتفاوت الباطنية وتكون الحياة أشرف فأشرف كلما بعد الحي عن تأثير المادة: فالنبات المستغرق كله في المادة يتحرك تنفيذا لغايات مفروضة عليه بالطبع؛ والحيوان يتحرك لذلك ولأجل مدركات يكتسبها بحواسه ويدبر أحواله بحسبها في حدود الإحساس والغريزة، ولغاية لا تفرضها عليه طبيعته، فإن المعرفة الحسية تدع شيئا من عدم التعيين؛ فمن الحيوان ما لا يدرك سوى الأشياء المماسة له، فحركاته ترجع إلى الانبساط والانقباض؛ ومنه ما يدرك أشياء بعيدة منه بفضل ما له من حواس ومن قوة تؤهله للانتقال في المكان؛ والإنسان يتحرك لأجل غاية يعينها بنفسه لنفسه بفضل العقل والإرادة الحرة.
وأما التنوع فباد للعيان، وهو خاص بالحي كباطنية الحركة، فإن الحي كل مركب من أعضاء منسقة فيما بينها بحسب رسم معين لكل نوع، لتأدية وظائف مختلفة متجهة كلها إلى بقاء الحي ونمائه، بينما الجماد متجانس، فكل جزء من الخشب خشب، وكل جزء من الذهب ذهب، حتى ذو الخلية الواحدة، فإنه مركب من ألياف وبروتوبلاسما ونواة؛ فليس هو مجرد كتلة زلالية، ولكنه بناء متنوع متناسب؛ تمثل فيه النواة مركزا مدبرا؛ وإذا حرمت منها الخلية لم تستطع الهضم ولا التمثيل، فهلك، وهذا يكفي لدحض نظرية الحياة الكلية أو المادة الحية عند قدماء اليونان من إيونيين ومن رواقيين قائلين: إن العالم حيوان كبير، وفي العصر الحديث عند كل مشايع لوحدة الوجود ولتطور الموجودات. في الخليقة إذن جميع ظواهر الحياة مصغرة؛ فإنها تولد وتتغذى وتنمو وتتكاثر وتموت. وفي الحي التام أجهزة منها ما هو جملة أعضاء متعاونة على تحقيق غاية مشتركة، كالجهاز الهضمي؛ ومنها ما هو جملة أجزاء ذات طبيعة واحدة تؤدي وظيفة واحدة في البدن بأكمله، كالجهاز العصبي يضم جميع الأعصاب، والجهاز العضلي يضم جميع العضلات. (2) تعريف الحياة النامية
هي المشتركة بين جميع الأحياء التي نعرفها. وقد قلنا: إن لها ثلاث وظائف هي: الاغتذاء والنمو والتوليد. الاغتذاء مرتب بذاته لتحويل المادة الغذائية إلى جوهر الحي، فيحفظ كيانه ويحفظ له الكمية اللائقة بنوعه وبحالته الشخصية. والنمو مرتب بذاته لتحويل كمية الغذاء إلى كمية الحي، والتوليد مرتب بذاته؛ لإيجاد جوهر جديد شبيه بالمولد. ثلاث وظائف متباينة، فلها في النفس النامية ثلاث قوى متباينة. فليس من الصواب إرجاع النمو إلى الاغتذاء، كما قال بعضهم بحجة أن النمو ينتج عن فائض الغذاء، فإن هذا لا يفسر تعيين كمية الحي أو مقداره، إذ إن من شأن الغذاء أن ينضاف بعضه إلى بعض دون حد؛ ولكن القوة المنمية تستخدم فائض الغذاء كمادة يتم بها النمو وهي تدبر جسم الحي وتوجه الحياة، بينما القوة الغاذية تعمل على تمثيل الغذاء وتقديم مادة النمو. «الفج من الثمار له القوة الغاذية دون المولدة، والهرم من الحيوان له الغاذية وليس له المنمية.»
1
Bilinmeyen sayfa
في هذه الوظائف الثلاث تتبين فاعلية الحي بأجلى بيان: ففي التغذية يقبل مواد غريبة عنه، فتفسد بالتدريج في أعضاء الجهاز الهضمي، فيتمثلها، أي يحيلها إلى ذاته مادة حية بعد أن كانت خلوا من الحياة. فليست التغذية إضافة مادة إلى مادة، ولكنها تمثيل؛ ويختلف التمثيل عن الهضم، ومن ثم يختلف عن التفاعلات الكيميائية. ومهما يكن تنوع المواد الغذائية فإن الحي يحيلها إلى جسمه، ويستخدمها لاستبقاء كيانه، وهذا ما لا يتسنى للجماد بحال.
والنمو يحدث بفعل باطن وفي جميع أجزاء الحي على السواء، اللهم إلا إذا طرأ طارئ على جزء منه، وليس للشذوذ حكم الكلية. أما الجماد فيزداد ازديادا خارجيا بإضافة مادة إلى مادة. فبالنمو تتكثر الخلية الأصلية وتتنوع إلى أنسجة وأعضاء مختلفة، فيتكون الحي على حسب نوعه وبالحجم الملائم له، ويقاوم أعداء الداخل والخارج، ويعوض ما يتحلل منه، ويصلح ما يفسد. ويستحيل تعليل الحد والنسبة بالاغتذاء وحده، أو بالقوى الفيزيقية والكيميائية. بل إن الحياة تبدو قوة حقيقة تحمل في طيها «فكرة موجهة»، أي: خطة مرسومة تعمل على تحقيقها وصيانتها وسط تغير الخلايا المستمر. وليس في عالم الجماد نظام ينتقل بذاته من التجانس أو من تنوع أقل إلى تنوع أكثر. والحياة توازن غير مستقر دائم متقلب: يستنفد الحي مادته باستمرار، ويكتسب غيرها؛ فهو في نمو ونقصان لا ينقطعان، يلائم بين نفسه وبين البيئة والظروف، حتى لقد تنشأ من هنا أصناف من الأحياء في النوع الواحد. وهذه الملاءمة خاصية أخرى للحي، وليس لها ولآثارها نظير في الجماد.
والتوليد شأنه أن يوجد الحي من ذاته حيا آخر من نوعه، يتطور كما تطور هو: وهكذا تتداول الأجيال إذ يصنع الحي من جسمه خلايا قادرة على النمو الحي حتى تصير أشخاصا من ذات النوع. وليس في الجماد شيء من ذلك أيضا. وليس في ظواهر التبلور ما يصح مقارنته بهذه الوظائف. وسنعرض لهذه المسألة بعد حين.
وثمة خاصية أخرى هي أن للحي عمرا، وليس للجماد عمر. يولد الحي وينمو ثم يموت؛ فلوجوده مراحل معينة، وليس يمكن أن يقال: إن الجماد يتطور؛ فإن التطور الحق من باطن. ولنا في الموت الظاهر شاهد قاطع على حقيقة «القوة» التي ينكرها الآليون: فإن الغرقى المختنقين الذين «يردون للحياة» بالتنفس الصناعي، والمصروعين الذين يشرع في دفنهم، والحشرات التي تخلد للخمود التام أثناء الشتاء، لا يظهر منهم أي علامة على الحياة، والحياة باقية مع ذلك. فليس يكفي توقف الوظائف الحيوية للدلالة على الموت الحقيقي، كما يكفي انحلال جسم الحي وتعفنه؛ بحيث لا نعرف الحياة التعريف الدقيق بقولنا: إنها حركة باطنة، بل يجب القول: إنها «القوة على الحركة الباطنة»، ولهذه القوة أن توجد بالفعل أو أن تكمن بالقوة، وللآليين أن يعجبوا لذلك ما يشاءون.
يضاف إلى ما تقدم أن للأحياء خاصية أساسية لا مثيل لها في الجماد؛ وهي المجاوبة بحركة نوعية، أي خاصة بكل نوع على تأثير الفاعلين الخارجيين، مثل الانقباض العضلي والإفراز، ونقل التيار العصبي والفعل المنعكس وتقلص أوراق النبات. والغرض من هذه المجاوبة اتقاء الخطر أو جلب النفع؛ وهي تختلف اختلافا جوهريا عن المجاوبات الميكانيكية. أجل إن في الجماد أيضا مجاوبات على التأثيرات الخارجية؛ بل إن ظاهرة فيزيقية بعينها، كالمجاوبة الكهربائية، توجد في مجاوبات المادة الحية وغير الحية، بيد أن مجاوبات الأحياء ظواهر خاصة كالتي ذكرناها، ولا يلاحظ مثلها في سائر المجاوبات. وفوق المجاوبة المشاهدة في النبات نجد الإحساس في الحيوان والإنسان، فإنه مجاوبة على تأثير خارجي، ولكنه «إدراك» لا يتسنى للنبات. (3) الغائية في الحياة النامية
من هذا الوصف للحياة النامية ووظائفها الكبرى يلزم أن في الحي مبدأ غائيا يوجهه إلى تمام طبيعته دون علم ولا إرادة. والعلم هاهنا لا يجدي، فإن تحليل الظواهر الفيزيقية والكيميائية التي تجري في البيضة لا يسمح لنا بتوقع النتيجة التي نراها فيما بعد. وحالما يوجد الجنين نراه يعمل للمستقبل كأنه يعلمه؛ وهذا المستقبل غير ظاهر فيه بالمرة. إن الحي يتعهد حياته، فإن عطب جزء من أجزائه أصلحه، وإن بتر جزء شفي جرحه، بل قد يستعيد عضوا بتمامه في بعض الحالات. وعظام الهيكل الإنساني تجبر ما ينكسر منها، والألياف العصبية المجروحة تندمل جروحها، بل قد يستعيدها الحي، ولو في أطراف الجهاز العصبي. وفي جزء من الأخطبوط يظهر رأس أو ذيل. وكذلك تعود الأرجل التي يفقدها السلطعون، وقد لوحظت عودة مخ الحمام وذيل الحردون، وتصنع بعض الأعضاء ترياقا لمادة سامة يصنعها عضو آخر، يصنع الترياق بوفرة تفوق الحاجة الراهنة، ويكون «احتياطيا» للمستقبل، أو مناعة مكتسبة. فليست هي الأعضاء التي تحدث الحياة، ولكنها الحياة التي تحدث الأعضاء لتكوين الحي، وتعيدها لاستبقائه. توجد قوة حيوية متقدمة على الجسم الحي، وهي مبدأ مدبر بالطبع دون تدبير مروي، وخير مثال للصورة في المركب منها ومن الهيولي، فإذا كان الجسم الحي آلة، فإنه آلة تصنع نفسها: هي المهندس وهي البناء، وفنها عجيب.
تلك هي الغائية الباطنة واضحة كل الوضوح في الوظائف الكبرى والصغرى. وليست الغائية الظاهرة - وهي ترتيب الكائن لغاية خارجة عنه - بأقل منها وضوحا، فإن الموجودات - حية كانت أو جمادا - مرتبطة بعضها ببعض أوثق ارتباط، وبذلك يتحقق النظام الكلي: هل يمكن دراسة العين بدون دراسة الضوء، أو دراسة الأذن دون دراسة الصوت؟ والشواهد عديدة لا تحصى، وبحسبنا ذكر تبادل الأكسجين والكربون بين عالم النبات وعالم الحيوان: ينظف النبات الهواء المشبع بالحامض الكربوني الناتج عن تنفس الحيوان ويحلله ويلفظ الأكسجين الضروري لحياة الحيوان، ويستنشق الكربون. هذا مع ملاحظة أن الغائية الظاهرة قد لا تتحقق دائما: ففي الوقت الذي لم تكن ظهرت فيه الحياة الحيوانية، لم تكن الحياة النباتية (إن كانت حينذاك) تبلغ غايتها الظاهرة؛ على حين أن الغائية الباطنة متحققة ضرورة، وإلا لم يوجد الموجود.
وقد اعترض الماديون على الغائية الباطنة بالمسوخ أو الأحياء الناقصة التكوين المشوهة الخلقة. والرد على هذا الاعتراض أن المسوخ ترجع، لا إلى صنع الطبيعة باعتبارها مبدأ غائية وترتيب وتنظيم ، بل إلى فساد المادة التي يخرج منها الحي، ذاتا أو تفريطا أو إفراطا، فتعجز عن مطاوعة الصورة. يدل على ذلك أن المسوخ قلة ضئيلة لا تذكر بالقياس إلى الأحياء المستوية طبقا لطبيعتها؛ وأنها لا تحيا، أو تحيا حياة ناقصة، كأن الطبيعة تنكر الإخلال بقوانينها وتنتقم له، النظام هو الغالب، ولا وجه لتجريحه بشواذ لا حكم لها.
وخطر لبرجسون، وقد تبين بطلان التفسير الآلي للحياة، أن الغائيين ينهجون منهج الآليين؛ إذ يتخيلون الجسم الحي مركبا من أصول معينة جاهزة كما تتركب الآلة من أجزائها، مع أن الحياة فعل ذاتي موجد للأعضاء، فيجب اطراح الغائية أيضا.
2
Bilinmeyen sayfa
يريد أن الحياة فعل تلقائي وخلق فجائي، فهي تعلو على كل تفسير، وتدفع بنا إلى تصور العالم «تطورا خالقا» على مثالها؛ وأن العقل هو الذي يتصور الآلية، ويتصور الغائية على مثال الآلية، في حين أن التجربة باطنة وظاهرة ترينا الحياة ماضية في «وثبات» لا عداد لها. فرأي برجسون في المعرفة العقلية، على ما فصلناه ونقدناه في كتاب «العقل والوجود» هو الذي يتفق مع رفضه الآلية والغائية جميعا، ومحاولته التسامي عليهما لاتخاذ موقف أعم. والحقيقة أن العمل الغائي في الحياة يختلف كل الاختلاف عن العمل الغائي المركب للآلة بأجزاء جاهزة، فإن هذه الأجزاء موجودة بالفعل وبتركيبها نحصل على كل عرضي، وأجزاء الحي لا توجد قبل تعضونها في كل جوهري، حتى إن اليد المبتورة لا تدعى يدا إلا تجاوزا على حد ملاحظة أرسطو، وقد فصلت عن الكل الذي يحييها وينميها. فالمبدأ الحيوي مبدأ وجود ومبدأ تعضون في آن واحد؛ أما مبدأ التركيب الآلي فهو مبدأ تركيب فقط. فليس تطور الحياة الكلمة الأخيرة في الوجود، ولا هو يمنع من السؤال عن أصله وعلته، بل بالعكس يحتم هذا السؤال من حيث إن لكل تطور علة، وإن الغائية المسندة إلى علة عليا هي تفسير واف له. (4) حجج مادية
للماديين حجج يعارضون بها القول بالنفس كمبدأ حيوي متمايز من المادة الصرف، فينكرون تفوق الحي بالماهية على الجماد، ويذهبون إلى أن كل ما هنالك قاصر على تعقد القوى الفيزيقية والكيميائية. من حججهم تشبيه الحياة بالتبلور، واعتبارهم البلور حلقة وسطى تسد الثغرة بين الجماد والحياة. والواقع أن للبلور كما للحي شكلا نوعيا معينا يبين طبيعته؛ وأنه يكتسب هذا الشكل بالتدريج، ويتعهده بالاغتذاء في ماء التبلور، ويوجد بلورا مثله بانقسام مادته، ويصلحها متى انكسرت أو تلفت في موضع ما. ولكن الواقع أيضا أن ليس في البلور دليل على الحياة: فالشكل هندسي، والبلور الكبير يتكون من بلورات صغيرة من نفس الشكل، والبلور في حالة توازن تام من حيث المادة والقوى، وهذا يعارض الحياة معارضة كلية، وليس في البلور اغتذاء بأغذية غريبة عن المغتذي، ولا تمثيل، بل فقط تجمع أجزاء من طبيعة واحدة، أي: تكوين جسيمات من ماء التبلور، ومن ثمة من طبيعة واحدة، تتبلور على التعاقب، وبقوة أشد في المواضع غير المنتظمة، ولا نمو من باطن ابتداء من خلية واحدة تتنوع إلى أعضاء مختلفة، بل فقط قبول أجزاء من خارج بمحض التجاور، وهذا النمو من خارج ليس حيويا ولكنه فيزيقي بحت. ويلزم عن انتفاء الاغتذاء والنمو انتفاء التوليد بمعنى الكلمة، أي: بإيجاد جرثومة تصدر عنها عين الأفعال في عين المراحل، وتنتهي إلى تكوين حي جديد.
ويتخذون حجة على مادية الحياة انقسام النبات والحيوانات الدنيا أشخاصا قائمة بذاتها من عين النوع، ويقولون: إن هذا الانقسام يعني أن الأحياء المنقسمة هكذا إلى أحياء تامة، ليست بسيطة ولكنها كالمادة قابلة للقسمة، خلافا لما يدعيه القائلون بالنفس من أنها بسيطة غير منقسمة. وفعلا من المعلوم منذ أمد مديد أن كل غصن ينتزع من نبات ويزرع أو يطعم به نبات آخر، فإنه يعطي شخصا من النبات كله، أو يحتفظ بنوعه أو يعطي ثمرا من نوعه، ولا يفيد من النبات المنقول إليه سوى الحياة. وفي الحيوان أيضا نجد بعضا منه، وهو البسيط التركيب، إن قسم أعطى أشخاصا تامة التكوين بعدد الأقسام. ويمكن قسمة البروتوبلاسما، فكل قسم محتو على جزء من النواة يحيا منفردا حياة الشخص كله. والحيوانات العليا تبدو قابلة للقسمة في المرحلة الجنينية التي هي أبسط المراحل. ولكن كلما ارتقى الحيوان كان أشد إباء للقسمة حتى في المرحلة الجنينية. وبعض الأجزاء المنتزعة تستطيع استطالة الحياة: فقلب الضفدع إذا انتزع استمر على النبض، وقطعة من عضل تحيا بعض الوقت، وتنقبض تحت التأثير الكهربائي، هذه الوقائع وأمثالها تفسر ببساطة التركيب وكفايته للحياة وللفعل: ففي النبات والحيوانات الدنيا ليست الوظائف وأعضاؤها مخصصة لفعل بعينه، فكل قسم منها ذي مقدار كاف فهو حاصل على ما يلزم لاستمرار حياة الكل؛ وهذا الحكم يسري على الأعضاء المنتزعة. أما في الحيوانات العليا فكل وظيفة فهي مخصصة بعضو أو جهاز، فلا تتحقق حياة الشخص إلا بتمامه، وما من عضو يستطيع أن يعيد بناء الحي بتمامه وأن يطيل بقاءه، فإذا قسم الحي هلك؛ بل ما من عضو يستطيع استطالة فعله بذاته، وإذا استطيل الفعل فليست حركته حركة حياة نامية، ولكنها حركة آلية راجعة إلى معالجة صناعية. فتلك الوقائع تؤيد رأي القائلين بالنفس ولا تنقضه، وليست القسمة واقعة على النفس مباشرة، ولكنها واقعة على بدن الحي ونسبته إلى الحياة.
ويقولون: بالتمثيل يحدث في داخل الخلايا الحية تحليلات شبيهة بتلك التي تحدث عن الفواعل الجمادية، وتحدث مركبات كيميائية من مواد دهنية توصل الكيميائيون إلى صنع مثلها خاضعة لعين القوانين، فليست الحياة مباينة للجماد. ولكنهم يغفلون عن الفوارق الكبيرة بين الطرفين: فالكيميائيون لم يصنعوا جميع المركبات؛ والتي صنعوها ليست مواد حية، بل الأحرى أن تسمى مواد حيوية، فلم يصنعوا ورقة نبات أو ثمرة أو عضلا أو عضوا، مع أن المادة الحية لا تحتوي إلا على العناصر التي تحتوي عليها المادة البحت. وصنعوا تلك المواد الحيوية بوسائل تختلف كثيرا عن وسائل الحي: ففي الهضم مثلا لا يستخدم الحي الأحماض القوية ولا الحرارة العالية أو الضغط المرتفع، وإنما تتركب المواد الحيوية تركيبا طبيعيا في الحي فقط، ولا توجد طبعا في عالم الجماد. وإذا كانوا قد أفلحوا في تقليد الهضم، فإنهم لم يفلحوا ولن يفلحوا في تقليد التمثيل أو أي فعل حي بمعنى الكلمة. (5) مبدأ الحياة أو النفس
وإذا جئنا إلى تفسير الحي تفسيرا فلسفيا قلنا: إنه كائن واحد مع تعدد وظائفه وأعضائه. ومحال أن تكون المادة البحتة علة هذه الوحدة، فإنها هي ذات أجزاء متخارجة وقابلة للقسمة بالذات، ويستحيل أن تكون المادة البحتة علة الوظائف الحيوية لما بينا من الفوارق الجوهرية بين أفعالها وأفعال الجماد. الأفعال الحيوية أرقى من القوى الفيزيقية والكيميائية مسيطرة عليها. ففي الحي إذن مبدأ مغاير للمادة هو علة حياته. وإذا كان الجسم الطبيعي مركبا من هيولي وصورة، كما أسلفنا، كان ذلك المبدأ صورة الجسم الحي أو نفسه قبل أن يخصص ديكارت لفظ النفس، ويقصره على القوة المفكرة في الإنسان، ويتبعه معظم المحدثين، ولا بد من مزيد تعليل لوجود النفس النامية، ومزيد شرح لطبيعتها فنقول:
من الوجهة النسيجية نجد بين الخلايا اتصالا عجيبا يدل على الوحدة، فإن تكاثر الخلايا لا يتم بمحض انفصالها ومحض تجاورها، بل يتم بحيث يتكون منها بدن واحد، وبحيث يخضع بعضها لبعض، حتى إنه من جزء واحد، كالسن مثلا، يمكن معرفة طبيعة الحي كله ورسم هيكله ووصف معيشته، فتنوع الأعضاء أو تبيانها لا يعطيها استقلالا الواحد عن الآخر، ولكنها تتسق وتتوافق، فتبين الوحدة تمام التبيين. ومما تجب ملاحظته أن العظام والعضلات والأعصاب ليست متشابهة في جميع الأحياء، فإن هناك فرقا جوهريا بين عظم الإنسان وعظم الكلب مثلا. وكثيرا ما أخطأ العلماء في استدلالهم بفعل دواء ما في حيوان أو حيوانات ما على فعل هذا الدواء في الإنسان، ومن باب أولى ليس يمكن القول بأن الحي «مستعمرة خلايا» لكل منها حياتها الخاصة: هذه وحدة عرضية كالتي في الآلات الصناعية، لا تكفي تعليلا للوحدة النامية في الوجود وفي الفعل على ما هو ظاهر في الجسم الحي. فليس الحي آلة مركبة من خلايا أو من أعضاء، وإلا كان كل جزء ينتج جزءا من الحي، بينما هو ينتج الحي بتمامه. وإذا سلمنا جدلا أن التركيب علة الحياة - وهذا محال كما قدمنا - سألنا عن علة التركيب ذاته، إذ ليس للمادة أن تتركب هكذا أجزاء معينة مؤتلفة بعضها مع بعض مطردة الظهور والفعل؛ ثم سألنا عما يحفظ على الجسم الحي كيانه، وهو دائم التغير حتى تزول مادته بأكملها مرات أثناء العمر.
وليس للقوى الفيزيقية والكيميائية في الحي أفعال مستقلة، ولكنها آلات لمبدأ الحياة. وهذا هو السبب في أنها تحدث في الحي معلولات أشرف منها، هي الأفعال الحيوية، مما هو شأن الآلة تحت توجيه المنصرف فيها، النفس ترفعها إلى مرتبة أعلى، وتدبرها بقواها المنمية والمولدة. فالعناصر المركبة للخلايا موجودة فيها على نحو أسمى من وجودها مستقلة. وأظهر ما يبين سيطرة المبدأ الحيوي أو النفس تقدم الوظيفة على العضو، فإن الأحياء المكروسكوبية تهضم وتتنفس وتتناسل وتنقبض وتحس دون أعضاء. ففائدة الأعضاء المعاونة على استكمال الوظائف، لا على توفير الحياة وبناء الحي، فإن الوظائف في أسفل سلم الأحياء منبثة في كل الجسم، ثم تتمكن وتستكمل خلال هذا السلم.
على أنه لا ينبغي تصور النفس النامية روحية، وجوهرا تاما متقوما بذاته، ومدبرا للجسم من خارج. في هذا التصوير لا يكون الجسم حيا، بل يكون آلة صناعية كما قال أفلاطون وديكارت، وقد بينا بطلان هذا القول. وفي هذا التصور خلط بين البساطة والروحية: النفس النامية صورة جوهرية أو قوة بسيطة غير منقسمة بالفعل، وإن كانت منقسمة بالقوة على ما فصلنا، وهكذا تتحد بالجسم اتحادا كليا، وتحفظ عليه كيانه، وتؤلف وإياه موجودا واحدا هو الذي يحيا ويعمل. ليس لها مقدار لا بالذات ولا بالعرض، فهي موجودة كلها في الجسم كله، وموجودة بقواها في كل جزء منه، فهي في العين بقوة الإبصار، وفي الأذن بقوة السمع، وهلم جرا. فهي في الكل أولا وبالذات؛ لأنها صورته الجوهرية، وهي في الأجزاء ثانيا بمختلف القوى. ولو كانت متصلة بالجسم كالمحرك فقط لجاز أن يقال إنها ليست في كل جزء منه، بل في جزء واحد فقط به تحرك سائر الأجزاء؛ ولكنها متصلة بالجسم كالصورة الجوهرية، فيجب أن تكون فيه كله وفي كل جزء منه كما أسلفنا. وجميع أفعالها تتم بأعضاء جسمية وبوساطة كيفيات جسمية، وإذن فليست هي روحية، ونستطيع أن نقول: إنها مادية، لا بمعنى أنها مادة، أو أنها مركبة من هيولي وصورة؛ إذ إنها هي صورة ومبدأ وحدة، بل بمعنى أنها عاجزة عن التقوم بذاتها باستقلال عن الجسم الذي توجد فيه وتحييه.
وليس في الحي سوى نفس واحدة متعددة القوى والوظائف، وإلا انفصمت وحدته. وهذا التمييز بين الماهية وقواها سنصادفه عند الكلام على النفس الحاسة والنفس الناطقة للغرض عينه، وهو صون الوحدة في الحيوان وفي الإنسان فنقول: إن للحيوان نفسا واحدة لها قوى النفس النامية وتزيد عليها الحواس، وإن للإنسان نفسا واحدة لها قوى النفس النامية والنفس الحاسة، وتزيد عليها العقل والإرادة. غير أن بعض الفلاسفة أخذ القوة كأنها ماهية فوضع في الإنسان أكثر من نفس واحدة: مثلما يذكر عن الفيلسوف الصيني «تسي تسشان» من أهل القرن السادس قبل الميلاد أن قال: إن للإنسان نفسين؛ واحدة سفلى تقوم بوظائف الحياة النامية، وتتكون من الجسم، وأخرى عليا تتكون شيئا فشيئا بعد الميلاد بتكاثف الهواء المستنشق، والنفس السفلى تتبع الجسم إلى الغير ثم تتلاشى أما العليا فتخلد. وذهب أفلاطون إلى أن للإنسان ثلاث نفوس: واحدة في الرأس للأفعال العقلية، وثانية في الصدر للأفعال الغضبية، وثالثة في أسفل الحجاب للأفعال الشهوية. وهذان الرأيان يتضمنان تمييزا واضحا بين الحياة النامية وحياة الإدراك، وبين ما يفنى من الإنسان وما يبقى، ولكنهما يقضيان على وحدته.
ويظن الكثيرون من العامة، بل بعض العلماء أيضا، أن للنبات حياة حاسة، مستشهدين بانقباض بعض النبات على الذباب أو غيره من الحشرات التي تحط عليه وتماسه. لكن الحساسية ينم عليها أفعال تلقائية تصدر دون سوابق ثابتة مجاوبة على الإحساسات، وهذه متنوعة مفاجئة، فتتنوع تلك الأفعال تبعا لها، ويستحيل على المشاهد توقع اتجاهها ومداها وتغيراتها ومدتها. وأفعال النبات آلية تتم على وتيرة واحدة ويمكن توقعها؛ فانقباض النبات فعل منعكس آلي لا نتيجة إحساس. ثم ليس للنبات أعضاء حاسة، وليس الإحساس مجرد تأثر الأعصاب، ولكنه الإدراك الموعي الحادث بعد تأثر الأعصاب، وما من إدراك موع إلا بوساطة أعضاء مخصصة بموضوعات. (6) أصل الحياة
Bilinmeyen sayfa
إذا كانت طبيعة الحياة مباينة لطبيعة المادة الصرف وقواها الفيزيقية والكيميائية، فما أصل الحياة؟ تلك هي المسألة الأخيرة في هذا الباب، ولا يعلم أصل الشيء إلا بعد العلم بطبيعته؛ ولقد كان عدم العلم بحقيقة الحياة سببا في تعدد الآراء في أصلها وبطلان هذه الآراء. فمنذ أمد بعيد كان الاعتقاد شائعا بأن بعض الحيوانات الدنيا تتولد من الماء الآسن والطين والجثث المتعفنة؛ أو أن الأحياء جميعا تولدت في مياه الأنهار والبحار، ثم تطورت إلى ما نشاهده الآن: وهذا ما يسمى بالتولد الذاتي، أي التولد الحادث عن الجماد مباشرة، لا عن حي سابق.
ولكن وجد من الفلاسفة عدد قليل لم يمنعهم هذا الاعتقاد من الإيمان بمبدأ العلية، وما يحتمه هذا المبدأ من علو العلة على المعلول، أو مساواته على الأقل، فلا تكون أدنى منه؛ فعلل أرسطو نشوء الحي من غير الحي بتأثير الأجرام السماوية في المادة الأرضية؛ وكانت هذه الأجرام، في نظره ونظر اليونان عموما، أجساما أثيرية تحركها أرواح، فكانت لها في ظنهم فاعلية أعلى من فاعلية العناصر الأربعة. واصطنع هذا الرأي الفلاسفة المسلمون والمسيحيون في العصر الوسيط، فأقروا بذلك بقصور العناصر الأرضية عن توليد الحياة، ووجوب إضافته إلى فعل الشمس وغيرها من الكواكب، اعتمادا على حكم العقل بأن الأكثر لا يخرج من الأقل أو أن الأكمل لا يخرج من الأنقص. وظل هذا الإيمان بالفاعلية السماوية سائدا إلى أن أثبت باستور بالتجربة القاطعة أن تلك الحيوانات تتولد من جراثيم حية لا ينالها البصر المجرد، وأن كل حي فهو من حي.
وارتأى القديس أوغسطين أن الله في البدء أودع المادة البحت غير المعضونة بذورا حية، كمنت فيها ونمت بعد ذلك في مختلف الأنواع على مر الزمان. وهذا الرأي جائز في حد ذاته؛ لأنه يرجع الحياة إلى فعل الخالق، ويرجع الأنواع الحية إلى أصول خاصة بكل نوع، فيحترم مبدأ العلية ونبذ الرأي القائل بالمادة الحية بما يتضمنه من التمييز البات بين الحياة والمادة، وما يضع تبعا لذلك من مبدأ للحياة متمايز من المادة هو الأصل البذري المودع من الله. وليس يمكن دحضه بالتجربة، فكل ما تشهد به هو أن الجسم الحي يخرج دائما من الحي «الآن»، أي في عهد التاريخ، ولا تدل بذاتها على أن الله لم يستخدم التولد المشكك لإيجاد الأحياء الأولى، غير أنه ليس من الطبيعي للبذرة الحية أن تكمن في المادة البحت لما بينهما من منافاة تعطل البذرة عن كل عمل أزمنة متطاولة إلى أن تطلق من أسرها وتشرع في نشاطها. وإذا كان الغرض من احتباسها على هذا النحو تنزيه الله عن تكرار الخلق، فإن هذا التكرار متحقق فعلا بالنسبة للنفوس الإنسانية على الأقل، وهي روحانية تعلو على الأسباب الطبيعية وتحتم خلقا من الله. فلا موجب لهذا الرأي.
ويشبهه رأي النظام المعتزلي، وقد صدر عن الغرض السابق، وأخذ مثل أوغسطين عن الرواقيين، فقال: «إن الله تعالى خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، ولم يتقدم خلق آدم خلق أولاده، غير أن الله تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهورها من مكامنها دون حدوثها ووجودها. وإنما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة.»
3
وليس لدينا شيء نقوله بعد الذي قلناه ما دام الرأي واحدا عند أوغسطين وعند النظام.
وكان لابن سينا موقف غريب حاول به أن يجمع بين فاعلية المادة والفاعلية السماوية. قال: «وقد يتكون من العناصر أكوان بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجا أكثر اعتدالا، وأولها النبات ... فإذا حدثت مادة بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها، أحدثت العلل المفارقة [الأرواح المحركة للكواكب] النفس الجزئية ... فالنفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح. لاستعمالها إياه.»
4
ونحن ننكر جواز تكون أجسام صالحة لاستعمال النفس إياها، من العناصر، سواء أكانت العناصر فاعلة وحدها أو متأثرة بالكواكب، فإن فاعليتها الخاصة، وهي مادة صرف، لا تسمو إلى هذه المرتبة، وفاعلية الكواكب، خصوصا كما نعلمها الآن، لا تتناول مثل هذا التكوين، ولا تخلق نفوسا، فإن الخلق لله وحده.
وبدا لبعض العلماء المعاصرين، وأشهرهم هلمولتز، أن الجراثيم الحية هبطت إلى الأرض من بعض الكواكب. ولكن هذا الرأي يدع المسألة حيث هي؛ إذ إننا نفحص عن أصل الحياة أرضية كانت أو فلكية، وكل ما يفعله أصحابه هو أنهم يرجعون القهقرى إلى زمن مديد وعلة خارجة عن مشاهدتنا، وكان يتعين عليهم أن يفسروا أصل الحياة في تلك الكواكب، وذهب غيرهم إلى أن حرارة الشمس كانت في العصور الخوالي أشد بكثير مما هي الآن، فكانت أغنى بالأشعة فوق البنفسجية وأقدر على تركيب المادة الحية. ولكنهم غفلوا عن نقطة جوهرية هي أن مثل هذه الحرارة كانت خليقة أن تقتل الحياة لا أن توجدها.
Bilinmeyen sayfa