بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي ميز عِصَابَة السّنة بأنوار الْيَقِين وأيد رَهْط الْحق بالهداية إِلَى دعائم الدّين ووفقهم للاقتداء بِسَيِّد الْمُرْسلين وسددهم للتأسي بصحبه الأكرمين وَيسر لَهُم اقتفاء آثَار السّلف الصَّالِحين
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة أفوز بهَا يَوْم الدّين وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله خَاتم النَّبِيين ﷺ وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ
أما بعد فَهَذَا كتاب تَارِيخ مُخْتَصر من التَّارِيخ الْكَبِير الَّذِي جمعته فِي بَيَان الْعلمَاء والفضلاء بِالْيمن وَمن اشْتهر مِنْهُم فِي المئة التَّاسِعَة وَقد أذكر أمورا من بعض من توفّي قبلهَا فِي المئة الثَّامِنَة من الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة والوافدين إِلَيْهِ فِي الْعَصْر الْمَذْكُور من سَائِر الأقطار وَجَعَلته تذكرة لأولي البصائر والعقول مِمَّا شاهدته وأخبرت عَنهُ وحذفت مُكَرر القصائد المطولات مِمَّا قد كنت أرصدته ودونته فِي الأَصْل لهَذَا الْمُخْتَصر
فَمن رغب إِلَى تَحْقِيق ذَلِك فلينظره ويراجعه فِيمَا هُنَالك فَفِيهِ زِيَادَة تصنيف عَن هَذَا الْمُخْتَصر
وبدأت بالسادة الشرفاء الشَّافِعِيَّة من أهل صنعاء وَمَا والاها من حراز وملحان وبرع وريمة ووصاب ثمَّ بعدهمْ الْعلمَاء والفضلاء من أهل مخلاف جَعْفَر وَذَلِكَ بعدان والسحول وإب وبلدة بني سيف وبلد بني حُبَيْش والشوافي وجبلة ومعشار التعكر وَمَا والى ذَلِك وختمت بالعلماء والفضلاء من أهل تعز وزبيد وموزع وعدن وَمَا والى ذَلِك
1 / 17
فَأَما أهل صنعاء فأولهم السَّيِّد الشريف أوحد الْعلمَاء الْأَعْلَام الْهَادِي بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ المرتضى الهادوي الحسني وَمن المفاخر صَعب مرتقاها لَهُ النّظم المعجز والنثر الموجز وَله مصنفات فِي سَائِر فنون الْأَدَب كَأَنَّهَا عُقُود من جمان أَو شذور من ذهب
قلت وَالدَّلِيل على دُخُوله مَذْهَب أهل السّنة مَا شاهدته مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ إِلَى الإِمَام أبي الرّبيع سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم الْعلوِي نفع الله بِهِ قَالَ فِي أثْنَاء مَا كتبه إِلَيْهِ ثمَّ إِنِّي كنت فِي إبان الحداثة مُولَعا فِي علم الْكَلَام وَفِي هَذِه الْمدَّة رغبت عَنهُ إِلَى علم الحَدِيث وَرجعت عَمَّا كنت عَلَيْهِ الْقَهْقَرَى وفضلت فِي الحَدِيث من قرى وَقلت الصَّيْد كل الصَّيْد من جَوف الفرا وَكم بَين علم من لَا ينْطق صَاحبه عَن الْهوى مَعْصُوم فِي جَمِيع أَحْوَاله عَن الْخَطَأ وَقد تلفع فِي حَضْرَة الْقُدس بِثِيَاب النَّجْوَى وَكَانَ من الْقرب قاب قوسين أَو أدنى وَأرَاهُ الله ثَوَاب نَفسه وَبعث النَّفس فِي جنَّة المأوى وَجَاوَزَ بِهِ وَلم يقف عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى ﴿مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى﴾ وَبَين ثارت علم بَين أَهله عجابة المراء فأعشى أبصار كثير مِنْهُم عَن طَرِيق الْهدى وَأَصْحَابه أهل الصِّرَاط السوي وَمن اهْتَدَى أُولَئِكَ أهل علم الْمُصْطَفى الْمَعْقُود على رؤوسهم تيجان الرضى من الْملك الْأَعْلَى
وَأنْشد
1 / 18
(عَلَيْك بحبهم فاجعله فرضا ... وَقدم حبهم فِي الله قرضا)
(وَأمْسك بالقوادم من هدَاهُم ... وَخص فِي علمهمْ ترضي وترضى)
(أحب سَمَاء أَرضهم وأرضا ... تكون لَهُم سَواد الْعين أَرضًا)
(أطباء الْقُلُوب هم إِذا مَا ... غَدَتْ من كَثْرَة التدقيق مرضى)
ثمَّ قَالَ وَهَذِه هِيَ الطَّرِيقَة الجادة وَهِي اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وحسبنا مَا ورد فِي آدَاب الْقُرْآن الْكَرِيم ﴿قل آمنا بِاللَّه وَمَا أنزل علينا﴾ الْآيَات
وانْتهى
أخْبرت أَنه حج سنة ٨٠٩ وَكَانَ هَذَا الشريف وَزِير الإِمَام الشريف صَلَاح بن عَليّ ثمَّ لوَلَده عَليّ فَسُمي ذُو الوزارتين وَله شعر حسن ذكرته فِي الأَصْل فليطالع من هُنَالك فِي مُكَاتبَته إِلَى الْفَقِيه الْعَلامَة شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي بكر الْمقري إِلَى مَدِينَة زبيد وَغير ذَلِك مِنْهُ مَا قَالَه وَقد حضر عِنْده زبيب أَبيض استحسنه فَقَالَ
(يَا أهل صنعاء قد رزقتم جنَّة ... أنهارها تجْرِي بِأَمْر الْخَالِق)
(ورزقتم فِيهَا زبيبا أبيضا ... من رَازِق فتنعموا بالرازقي)
توفّي هَذَا الشريف بِمَدِينَة ذمار بحمام السعيدي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثمانمئة من دُخان الْحمام ﵀ ونفع بِهِ آمين
1 / 19
وَمِنْهُم السَّيِّد الشريف الْعَلامَة عز الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن عَليّ المرتضى الهادوي الحسني
كَانَ إِمَامًا يرجع إِلَيْهِ فِي المعضلات ويقصد لإيضاح المشكلات أَجمعت الْعَامَّة من أهل بَلَده على جلالته واحترامه وتفضيله وإكرامه ولزومه طَرِيق السّنة ورفضه لأهل الْبِدْعَة
ترْجم لَهُ بعض أَئِمَّة الزيدية فَقَالَ هُوَ الشريف الْمُحدث الأصولي النَّحْوِيّ الْمُفَسّر الْمُتَكَلّم الْفَقِيه البليغ المفوه الرحالة الْحجَّة السّني فريد الْعَصْر ونادرة الدَّهْر وخاتمة النقاد وحامل لِوَاء الْإِسْنَاد وَبَقِيَّة أهل الِاجْتِهَاد بِلَا خلاف وَلَا عناد
كشاف أصداف الفرائد قطاف أزهار الْفَوَائِد فاتح أقفال الظرائف مانح أثقال اللطائف مُصِيب شواكل المشكلات بثواقب أبصاره مطبق معاضل المعضلات بصوارم أفكاره مضحك كمائم النكت من نوادره مفتح نَوَادِر الظرائف من موارده ومصادره انْتهى مَا وجدته من التَّرْجَمَة
أخْبرت أَن مولده فِي رَجَب سنة سِتّ وَسبعين وسبعمئة وَأَنه توفّي شَهِيدا من ألم الطَّاعُون سنة أَرْبَعِينَ وثمانمئة وَأَن هَذَا الشريف سمع الحَدِيث من جمَاعَة أَجلهم شيخ الْحرم جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله بن ظهيرة الْقرشِي الشَّافِعِي الْمَكِّيّ وَشَيخ عُلَمَاء الْيمن نَفِيس الدّين سُلَيْمَان بن إِبْرَاهِيم الْعلوِي وَشَيخ الحَدِيث بِصَنْعَاء حُسَيْن بن مُحَمَّد العلفي وَغَيرهم مِمَّن عني بِمَعْرِفَة أَحَادِيث الْأَحْكَام وتمييز الرِّجَال
1 / 20
وَمَا يجب مَعْرفَته على الْمُجْتَهد
وَكَانَ دَاعِيَة إِلَى السّنة وَأكْثر تآليفه فِي ذَلِك ككتاب العواصم فِي أَرْبَعَة مجلدات يشْتَمل على تَحْقِيق مَذْهَب السّلف وَأهل السّنة وَالرَّدّ على المبتدعة والذب عَن أَئِمَّة الْفُقَهَاء الْأَرْبَعَة جود فِيهِ القَوْل فِي مَسْأَلَة الْأَفْعَال وَمَا يتَعَلَّق بهَا من مَسْأَلَة الْمَشِيئَة والأقدار
وصنف مُخْتَصرا فِي السّنة الْخَالِصَة عَن عِبَارَات الْمُتَأَخِّرين عَن جَمِيع الْمذَاهب وَهُوَ جُزْء لطيف
وصنف كتاب تَرْجِيح أساليب الْقُرْآن على أساليب اليونان فِي معرفَة الله تَعَالَى ﷾ وَكتاب الْبُرْهَان الْقَاطِع فِي معرفَة الصَّانِع وَله غير ذَلِك من المصفنات المفيدة
وَله شعر رائق من ذَلِك مَا سَنذكرُهُ من قصيدة طَوِيلَة قَالَ فِيهَا
(إِذا افتتحت أَبْوَاب رَحْمَة رَبنَا ... صغرن لَدَيْهَا موبقات الجرائم)
(وَإِن هِيَ لم تفتح وَلم تسمح الخطا ... فعد من الْهَلَاك أهل العزائم)
(وَمَا الرِّبْح والخسران إِلَّا لحكمة ... بهَا جَفتْ الأقلام قبل الْخَوَاتِم)
وَله فِي جمع الْعشْرَة ﵃ فِي بَيت وَاحِد هُوَ قَوْله
(للمصطفى خير صحب نَص أَنهم ... فِي جنَّة الْخلد نصا زادهم شرفا)
(هم طَلْحَة وَابْن عَوْف وَالزُّبَيْر كَذَا ... أَبُو عُبَيْدَة والسعدان والخلفا)
1 / 21
قلت شعر هَذَا الشريف الْمَذْكُور كثير مِنْهُ مَا قد ذكرته فِي الأَصْل وَمِنْه غير ذَلِك مِمَّا لَا ينْحَصر وَقد مدحه جمَاعَة من الشُّعَرَاء مِنْهُم الأديب البليغ أَحْمد قَاسم بن عَليّ بن سريع الشهير بالشامي وَهُوَ أحد الشُّعَرَاء المجودين كَانَ بحرا زاخرا بعلوم الزيدية والتاريخ وَغَيرهَا فَقَالَ شعرًا فِيهِ
(ألم بمحمود السجايا مُحَمَّدًا ... يعنك وَإِن صالت عَلَيْك المهالك)
(فتقتبس الْأَنْوَار من نور علمه ... وتلتمس الأزهار وَهِي ضواحك)
(هُوَ الْبَحْر علما بل هُوَ الْبَدْر طلعة ... هُوَ الْقطر جودا وَهُوَ للمجد مَالك)
وَهِي طَوِيلَة ذكرتها فِي التَّارِيخ الْكَبِير فَمن أحب ذَلِك فلينظرها مِنْهُ رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ وبعلومه آمين
وَمن المتوفين بِصَنْعَاء الْيمن الْفَقِيه الْكَاتِب الْوَزير أَبُو الْحسن عَليّ بن يحيى العمراني رَحمَه الله تَعَالَى
قَالَ بَعضهم فِيهِ هُوَ طود كَمَال وبحر إنصاف إِجْمَال حلى كَتِفي الْأَدَب والرياسة وَأخذ بطرفي أَحْكَام الشَّرِيعَة والسياسة وَضرب فِي علم التصوف بِسَهْم وَنصِيب وَرمى أغراض الْحَقِيقَة بِسَهْم مُصِيب
أخْبرت أَنه وَأَهله وَأَبوهُ وَإِخْوَته وقبيلهم على مَذْهَب الإِمَام أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي ﵁ وهم من بلد بمغرب صنعاء تسمى الحيام بِالْحَاء الْمُهْملَة وَكَانَ لَهُم الْعِبَادَة وَلَهُم مُشَاركَة بِشَيْء من الْعُلُوم فسلك الْفَقِيه صَاحب التَّرْجَمَة طَرِيق التصوف وتحكم عل يَد شيخ الشُّيُوخ ولي الله تَعَالَى محيي الدّين العرابي وتأدب بآدابه وَألبسهُ الْخِرْقَة الْمُتَّصِلَة سندها بسيدنا رَسُول الله ﷺ على اصْطِلَاح الصُّوفِيَّة
وَكَانَ يجمع جمَاعَة إِلَى بَيته يذكرُونَ
1 / 22
الله تَعَالَى من صَلَاة الصُّبْح إِلَى بعد ظُهُور ٤ الشَّمْس وَمثل ذَلِك بآخر النَّهَار يَتلون الذّكر الْمَشْهُور عَن الشَّيْخ العرابي فاشتهر هَذَا الْوَزير شمس الدّين بِالْعَمَلِ الصَّالح وبرع فِي فن الكتابات للإنشاء واستنابه الإِمَام الشريف عَليّ صَلَاح على أَحْكَام صنعاء ومعظم بَلَده وحوائج وَالِده فَصَارَ بِبَاب الإِمَام هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ وَسَار فيهم سيرة حَسَنَة حَمده عَلَيْهَا كل أحد مَعَ علم الإِمَام عَليّ بن صَلَاح أَنه شَافِعِيّ الْمَذْهَب وَكَانَ بِهِ نفع عَظِيم للشَّافِعِيَّة وَغَيرهم
وَصَحب الشريف جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم مقدم الذّكر والمقرىء جمال الدّين مُحَمَّد الساودي فاغتاظت الزيدية من ذَلِك وَلم يظهروا عَدَاوَة العمراني
وَلم يزل الْوَزير العمراني الْمَذْكُور على الْحَال المرضي إِلَى أَن توفّي سنة أَرْبَعِينَ وثمانمئة شَهِيدا من ألم الطَّاعُون
وَله شعر رَقِيق من ذَلِك مَا قَالَه من قصيدة طَوِيلَة
(إِلَيْك إلهي جِئْت أسعى وأحفد ... وأنصب فِيمَا ترتضيه وأجهد)
(وأخلص فِي فعلي وَقَوْلِي تقربا ... إِلَيْك وأقضي مَا قضيت وأعبد)
(وأثني عَلَيْك الله فِي كل لَحْظَة ... وأقصد بالنجوى إِلَيْك واصمد)
وَله غير ذَلِك مِمَّا قد أثْبته فِي التَّارِيخ الْكَبِير وَغَيره ﵁ ونفع بِهِ آمين
وَمِنْهُم المقرىء الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْخَولَانِيّ الْمَشْهُور بالساودي قَرَأَ بالقراءات السَّبع والْحَدِيث والنحو وَالْأُصُول على جمَاعَة من أَئِمَّة وقته وأجازوا لَهُ فدرس وَتخرج على يَده جمَاعَة بِهَذِهِ الْعُلُوم
1 / 23
وَكَانَ وحيد عصره ومقرىء مصره وفريد دهره فِي بَلَده لجمعه لفنون شَتَّى من أَنْوَاع الْعُلُوم
اتَّفقُوا على أَنه لم يكن فِي زَمَنه بِصَنْعَاء وذمار وصعدة وَغَيرهَا من تِلْكَ الْجِهَات الْعليا من يماثله ويدانيه فِي علم الْقرَاءَات السَّبع وصنف فِي ذَلِك كتابا حافلا سَمَّاهُ فكاهة الْبَصَر والسمع فِي معرفَة الْقرَاءَات السَّبع وَجعله فِي ثَلَاثَة مجلدات كبار وَألف كتابا مُخْتَصرا فِي قِرَاءَة نَافِع وَأبي عَمْرو ووفدت عَلَيْهِ طلبة الْعلم من جِهَات شَتَّى فأفادهم الْفَوَائِد السّنيَّة
وَكَانَ قد يخْطب فَإِذا وعظ كَانَ كمن لانت لَهُ صم الصخور وأذهب كَلَامه كل زيغ فِي الصُّدُور بِلَفْظ مُوَافق لعقيدة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَخْبرنِي وتلفظ لي وأشهدني أَنه شَافِعِيّ الْمَذْهَب يعْتَقد مَا يَعْتَقِدهُ أهل السّنة وَيُخَالف مَا عَلَيْهِ أهل الْبِدْعَة وَغَيرهم
وَكَانَ قد يضْطَر إِلَى موافقتهم فِي اعْتِقَادهم تقية مِنْهُم
وَله فِي علم التصوف مجَال ممتد وَمَكَان مُعْتَد
وَكَانَت طَائِفَة من أهل وصاب مِنْهُم بَنو البعيثي وَأهل قطرهم وَجَمَاعَة من غَيرهم يَعْتَقِدُونَ أَنه قطب الْوُجُود وبركة كل مَوْجُود وَكَانُوا يؤدون إِلَيْهِ زكاتهم وفطرتهم ويأتمرون بأَمْره وينتهون لنَهْيه ويتبركون بمواقع أنامله وَلما كفى الله هَذَا المقرىء جمال الدّين شَرّ الزيدية قَالَ بَيْتَيْنِ متمثلا بهما
(وَإِنِّي لمن قوم إِذا لبس الورى ... دروعا وجالوا فِي ظبا وأسنة)
(لباسهم الذّكر الْحَكِيم لبأسهم ... فهم فِي حمى حدي كتاب وَسنة)
وَقيل إِن هذَيْن الْبَيْتَيْنِ لغيره وَإِنَّمَا أَتَى بهما متمثلا وَحكي عَنهُ كرامات ذكرتها فِي الأَصْل
توفّي هَذَا المقرىء سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وثمانمئة فِي دولة الإِمَام النَّاصِر بن مُحَمَّد وَقد كَانَ مكرما لَهُ مفوضا إِلَيْهِ كِتَابَة الْإِنْشَاء وَأمر الْوَقْف والوصايا ففاق أهل زَمَانه برسائله المبهجة وَكَلَامه المسجوع رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ وبعلومه
1 / 24
وَمن المتوفين بِصَنْعَاء من الوافدين إِلَيْهَا سنة تسع وَأَرْبَعين وثمانمئة الشَّيْخ الْعَارِف الرّحال تَاج الْإِسْلَام بن صدر الدّين بن فَخر الْملَّة الْقرشِي الْخُرَاسَانِي
كَانَ من أكَابِر الْعلمَاء العارفين وَأكْثر مَعْرفَته فِي علم الْمنطق ويروي فِي الْأَخْبَار عَن سنَن الْأَوَّلين وَعَن الْأَئِمَّة أهل عصره من أهل بَلَده وَعَن مَا مر عَلَيْهِ من سَائِر الْبلدَانِ مَا يضيق عَن ذكره هَذَا الْمَجْمُوع
وَذكر فِيمَا حُكيَ عَنهُ فَوَائِد وعجائب ذكرتها فِي الأَصْل
وَمِمَّنْ تقدّمت وَفَاته بِمَدِينَة صنعاء من أهل السّنة الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة جمال الدّين مُحَمَّد بن حُسَيْن بن عَليّ بن سُلَيْمَان السراج
أخْبرت أَنه كَانَ فَقِيها مُحدثا نحويا جَامعا لأشتات من الْعُلُوم مصنفا
قَرَأَ على المشائخ الْكِبَار فأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى وانتفع بِهِ أهل صنعاء وَغَيرهم وقصده طلبة الْعلم الشريف من نواحي الْيمن وَمن تلامذته المقرىء جمال الدّين مُحَمَّد بن عمر اليريمي وَهُوَ مِمَّن أثني عَلَيْهِ وَشهد لَهُ أَنه فِي الْعُلُوم لَا يجارى وَلَا يمارى
وَنقل عَنهُ أَئِمَّة الْعَصْر من الْفَوَائِد الصَّحِيحَة بالعبارات الصَّرِيحَة مَا مَلأ السطور وشفى الصُّدُور وَحصل الْإِجْمَاع على جلالته وعلو رتبته
وَله تصانيف كَثِيرَة مِنْهَا شرح الْحَاوِي الصَّغِير وَمِنْهَا تعاليق مفيدة على مَوَاضِع كَثِيرَة من كتب الْفِقْه والْحَدِيث والنحو وَغَيرهَا
وعَلى الْجُمْلَة فَهُوَ مِمَّن سلمت إِلَيْهِ الرِّئَاسَة بِبَلَدِهِ وبوقته وَهُوَ أشهر من أَن نطيل بوصفه
توفّي بِمَدِينَة صنعاء بعد الْخمسين الأول من المئة الثَّامِنَة رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ
وَمِنْهُم الْحَافِظ شرف الدّين حُسَيْن بن مُحَمَّد الْقرشِي العلفي أخْبرت أَنه كَانَ شيخ الحَدِيث بِمَدِينَة صنعاء وَأَنه كَانَ يرحل إِلَيْهِ من أنحاء الْيمن لطلب الْعلم وَعنهُ أَخذ السَّيِّد الشريف جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمُقدم الذّكر وَهُوَ مَعْدُود من شُيُوخه
1 / 25
كَانَ هَذَا الشَّيْخ شرف الدّين على جَانب عَظِيم من الزّهْد وَالْعِبَادَة وَكَانَ أهل بَلَده يجلونه ويعظمونه وانتفع بِهِ طلبة الْعلم الشريف وَكَانَ سَنَده فِي الحَدِيث عَالِيا وَطَالَ عمره وَلم أتحقق تَارِيخ وَفَاته إِلَّا أَنه كَانَ مَوْجُودا فِي أَوَائِل المئة الثَّامِنَة رَحمَه الله تَعَالَى
وَمن الوافدين إِلَى صنعاء من الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة الْفَقِيه شهَاب الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد اليريمي قَرَأَ فِي الْفِقْه على عَمه الْفَقِيه تَقِيّ الدّين عمر بن مُحَمَّد اليريمي وعَلى جمَاعَة من الْفُقَهَاء بِمَدِينَة تعز وَقَرَأَ فِي النَّحْو بِمَدِينَة صنعاء على جمَاعَة من الْأَئِمَّة فبرع بذلك ودرس فِيهِ وأضيف إِلَيْهِ تدريس الْمدرسَة الفرحانية بتعز والإعادة فِي الْمدرسَة المعتبية بتعز
وَكَانَ كثير التَّرَدُّد إِلَى بَلَده يريم وَإِلَى مَدِينَة صنعاء فطلع من مَدِينَة تعز إِلَى مَدِينَة صنعاء على عَادَته فعاجلته الْمنية فِيهَا وَكَانَت وَفَاته سنة سبعين وثمانمئة وَكَانَت لَهُ قريحة ينظم بهَا الشّعْر وَله أحجيات يوردها على أهل الْأَدَب رَحمَه الله تَعَالَى
وَمِنْهُم المقرىء الْفَاضِل مفضل بن عمرَان الْحرَازِي
رَحل من بلد حراز إِلَى مَدِينَة صنعاء فَقَرَأَ بالقراءات السَّبع وبالنحو على المقرىء جمال الدّين مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الساودي وَأقَام عِنْده سِنِين ثمَّ انْتقل إِلَى مَدِينَة تعز وَقَرَأَ بالنحو على الْفَقِيه عفيف الدّين عبد الْوَهَّاب السرافي وعَلى المقرىء شمس الدّين على الشرعبي وَتزَوج بِمَدِينَة تعز وَسكن بهَا
ثمَّ استدعاه الإِمَام النَّاصِر إِلَى مَدِينَة صنعاء بوساطة شَيْخه المقرىء جمال الدّين الساودي فانتقل إِلَيْهَا وَأحسن إِلَيْهِ الإِمَام النَّاصِر ورتب لَهُ مَا يَكْفِيهِ وَجعله مؤدبا لوَلَده إِلَى أَن توفّي بعد سنة خمسين وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى
1 / 26
القَوْل فِي ذكر من علمنَا حَاله من الْعلمَاء والفضلاء من أهل وصاب وريمة وَمَا والى ذَلِك
فنبدأ بِذكر الْفُقَهَاء من أهل الْحَرْف فِي مخلاف جعر من وصاب الْأَعْلَى فَمنهمْ الإِمَام الْعَلامَة الصَّالح وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن عمر الحبيشي
كَانَ دوحة علم وذكاء أَصْلهَا ثَابت وفرعها فِي السَّمَاء سقته الْفَضَائِل بشآبيبها وكسته المعارف جلابيبها
نَشأ يَتِيما فِي حجر أمه واشتغل فِي صباه بالشعر واللغة واشتهر بالفصاحة والبلاغة فَكَانَ ينشىء الشّعْر العجيب وَهُوَ صَغِير حدث السن ثمَّ اشْتغل بالفقه فَقَرَأَ على جمَاعَة من الشُّيُوخ مِنْهُم الْفَقِيه عفيف الدّين عبد الله بن مُحَمَّد بن أسعد والفقيه تَقِيّ الدّين عمر بن عبد الله بن صَالح اليحيويان وَفِي الحَدِيث على الإِمَام برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عمر الْعلوِي وَالْإِمَام شهَاب الدّين أَحْمد بن أبي الْخَيْر الشماخي بِالْمُعْجَمَةِ وَاسْتمرّ فِي الْمدرسَة المؤيدية مدرسا فِي مَدِينَة تعز فَأَقَامَ بهَا أَيَّامًا ثمَّ تَركهَا
1 / 27
ورحل إِلَى بَلَده فَأَقَامَ بهَا يدرس ويفتي ثمَّ تولى الْقَضَاء هُنَالك فَكَانَ ﵀ إِمَامًا محققا للفنون كلهَا كالتفسير والْحَدِيث والنحو واللغة وَالْأُصُول وَالْفُرُوع وَسَائِر الْعُلُوم
وَكَانَ صواما قواما ورعا مُجْتَهدا ألف كتبا كَثِيرَة حَسَنَة مِنْهَا كتاب بلغَة الأديب إِلَى معرفَة الْغَرِيب وَمِنْهَا كتاب الِاعْتِبَار لِذَوي الْأَبْصَار وَمِنْهَا كتاب الجدل بَين اللَّبن وَالْعَسَل وَمِنْهَا كتاب المعتقد لِذَوي الْأَلْبَاب وَالْمُعْتَمد فِي الْآدَاب نظما قدر ألف وأربعمئة بَيت تَقْرِيبًا وَمِنْهَا كتاب زهر الْبَسَاتِين فِي الدُّعَاء على عَدو الدّين وَمِنْهَا كتاب النّظم والتبيان نظم بِهِ كتاب التَّنْبِيه فِي الْفِقْه وَلم يكمله وَقيل أكمله وَله غير ذَلِك من الْخطب والآداب وَله مَنَاقِب وفضائل ذكرتها فِي الأَصْل مَعَ شعر رائق
توفّي رَحمَه الله تَعَالَى لَيْلَة السبت الثَّامِن من شهر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَانِينَ وسبعمئة رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ وَدفن فِي التربة تَحت مَسْجِد قَرْيَة الْحَرْف واشتهر لَهُ ثَلَاثَة أَوْلَاد نجباء عُلَمَاء فضلاء
مِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة الإِمَام قدوة الصَّالِحين بوقته وبركتهم وصفوة العارفين وعمدتهم السَّيِّد الْجَلِيل الْكَبِير الشهير جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن أخْبرت أَنه مِمَّن طابت لَهُ المحافد والمغارس وأنارت بمصابيح علمه الْمَسَاجِد والمدارس وَكَانَ عَالما عَاملا بِعِلْمِهِ صَالحا جَامعا لأنواع الْفَضَائِل كثير الذّكر وَالِاجْتِهَاد
أَخذ الْعُلُوم عَن عدَّة مَشَايِخ مِنْهُم وَالِده الْمُقدم الذّكر ثمَّ الإِمَام برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عمر الْعلوِي
وَكَانَ ﵀ ذَا معرفَة قَوِيَّة فِي الْقرَاءَات السَّبع وَالتَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه واللغة وَالْأَدب وَالْحكمَة وَله استدراكات وتنبيهات على الْمَوَاضِع المشكلات
وصنف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا نشر طي التَّعْرِيف فِي فضل حَملَة الْعلم الشريف وَمِنْهَا كتاب الْبركَة فِي السَّعْي وَالْحَرَكَة وَمِنْهَا كتاب النورين فِي إصْلَاح الدَّاريْنِ وَمِنْهَا التَّذْكِير بِمَا إِلَيْهِ الْمصير وَكتاب فرحة الْقُلُوب وسلوة المكروب وَله غير ذَلِك من الرسائل
1 / 28
والمنظومات
وَمن شعره مَا كتبه إِلَى وَلَده عبد الرَّحْمَن يحثه على طلب الْعلم الشريف القصيدة الْمَعْرُوفَة الَّتِي أَولهَا قَوْله
(مَا لَذَّة الْخلق فِي الدُّنْيَا جَمِيعهم ... وَلَا الْمُلُوك وَأهل اللَّهْو والطرب)
(كلذتي فِي طلاب الْعلم يَا وَلَدي ... فالعلم معتمدي حَقًا ومكتسبي)
وَبَاقِي القصيدة مثبتة فِي الأَصْل فَمن أَرَادَ مطالعتها فلينظرها فِيهِ
توفّي هَذَا الإِمَام فِي شهر رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وثمانمئة رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ
ولد أَوْلَاد نجباء فضلاء عُلَمَاء أحدهم يُسمى عمر كَانَ رجلا فطنا ذكيا فصيحا لَهُ لِسَان يضْرب بِهِ أرنبة أَنفه كلسان الشَّافِعِي ﵁ وَكَانَ مشاركا بِالْعلمِ
وَالثَّانِي أَحْمد تفقه بِأَبِيهِ وجده وَغَيرهمَا فَأفْتى ودرس وَكَانَ مسموع القَوْل مُطَاع الْكَلِمَة بِبَلَدِهِ وَهُوَ الَّذِي سعى بِإِخْرَاج المَاء الْجَارِي فِي الْحَرْف وَحدث لَهُ ولد سَمَّاهُ عمر كَانَ مُبَارَكًا مشاركا بِشَيْء من الْعلم
وَالثَّالِث من أَوْلَاد الْفَقِيه جمال الدّين اسْمه عبد الرَّحْمَن كَانَ فَقِيها مؤرخا صنف كتاب الِاعْتِبَار فِي التواريخ وَالْأَخْبَار خص بذلك مُلُوك الْيمن وفقهاء وصاب وصلحاءها ومشايخها وَلم يتَعَرَّض لباقي أهل الْيمن سوى من عرض ذكره عِنْد ذكر من ذكرهم بكتابه وَتُوفِّي بالعشر الأول من المئة التَّاسِعَة
1 / 29
وَأما ولد الإِمَام وجيه الدّين الثَّانِي فَهُوَ الْفَقِيه الْعَالم صفي الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن عمر
أخْبرت أَنه كَانَ إِمَام الفصحاء وقدوة البلغاء يجتنى من رياض معارفه الْعُلُوم ويقتطف من أزهارها المنثور والمنظوم قَرَأَ فِي الْفِقْه على أَبِيه وأخيه الْمقدمِي الذّكر ثمَّ على جمَاعَة من عُلَمَاء وصاب وعَلى الإِمَام الْمُحدث برهَان الدّين إِبْرَاهِيم بن عمر الْعلوِي بتعز وعَلى غَيرهم وسافر إِلَى مَكَّة المشرفة فحج وزار قبر النَّبِي ﷺ وَقَرَأَ على الْأَئِمَّة هُنَالك فأجازوا لَهُ
وَكَانَت لَهُ فطنة وقادة وطبيعة منقادة حُلْو الْكَلَام محببا إِلَى النَّاس مقرءا مُحدثا فَقِيها نحويا لغويا لبيبا مهيبا لطيفا ظريفا حَافِظًا لافظا محققا شَاعِرًا فصيحا جَامعا لجَمِيع فنون الْعلم اشْتهر بذلك مَعَ وجود أَبِيه وأخيه
وصنف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا الْإِرْشَاد فِي سباعيات الْأَعْدَاد وَهُوَ كتاب عَجِيب مُفِيد وَمِنْهَا كتاب رياضة النُّفُوس الزكية فِي فضل الْجُوع وَترك اللذائذ الشهية وَمِنْهَا كتاب تحفة الطالبين وَتَذْكِرَة السالكين وَمِنْهَا كتاب التَّعْرِيف فِي بَيَان أَحْكَام التَّأْلِيف وَمِنْهَا جُزْء مُخْتَصر فِي مدح الطول وذم الْقصر وَله غير ذَلِك من المصنفات وَله ديوَان شعر فِي مُجَلد ضخم أَخْبرنِي الْفَقِيه الصَّالح إِبْرَاهِيم بن حسن بن سَالم من قَرْيَة المخادر أَنه رأى فِي النّوم قَائِلا يَقُول بلغ الْعلم السار بانتقال صفوة الأخيار ذِي السكينَة وَالْوَقار إِلَى منَازِل الْأَبْرَار فليهنه طيب الْجوَار فَحمل ذَلِك على موت هَذَا الْفَقِيه لِأَن هَذِه الرُّؤْيَا كَانَت وَقت أَن مَاتَ
توفّي رَحمَه الله تَعَالَى سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وثمانمئة
1 / 30
وَكَانَ لَهُ خَمْسَة أَوْلَاد اشْتهر مِنْهُم اثْنَان أَحدهمَا الْفَقِيه الْعَلامَة الرحالة عبد القدوس كَانَ فَقِيها مجودا قَرَأَ على بعض أَهله وعَلى غَيرهم وأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى وَهُوَ الْأَكْبَر من أَوْلَاد أَبِيه
وَالثَّانِي هُوَ القَاضِي الْعَلامَة أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز وَكَانَ إِمَامًا عَاملا عَالما فَقِيها ذكيا ورث الْفَضَائِل من آبَائِهِ الأفاضل وفَاق أهل وقته بِحسن الْأَخْلَاق وَالشَّمَائِل تفقه على بعض أهل بَلَده ثمَّ ارتحل إِلَى شنين فِي بلد السحول فَقَرَأَ على الإِمَام رَضِي الدّين أبي بكر عمر الأصبحي الشنيني حَتَّى انْتفع فَأجَاز لَهُ فَعَاد إِلَى بَلَده فدرس وَأفْتى وَأَحْيَا مآثر أَهله وَتَوَلَّى الْقَضَاء فِي بَلَده وَكَانَ مَقْصُودا للمهمات مكرما للضيف شَاعِرًا مُولَعا بِكَثْرَة التَّزْوِيج حكى بعض أَهله أَنه تزوج امْرَأَة سَحْمَاء فَقَالَ على صفة المزاح شعرًا اشْتهر على أَلْسِنَة الْعَامَّة من ذَلِك قَوْله
(حكمت بِأَن الْبيض خير من السحم ... وأجريت أحكامي وَمَا جرت فِي حكمي)
وَهِي قدر اثْنَي عشر بَيْتا وَذَلِكَ مُثبت فِي الأَصْل فَلَمَّا وقفت الزَّوْجَة على هَذِه القصيدة واشتهرت بوصاب وتناقلتها الألسن سَاءَ ذَلِك السحماء زَوجته فَأرْسلت لجَماعَة من النِّسَاء فاجتمعن إِلَيْهَا ثمَّ دخلن على القَاضِي الْمَذْكُور إِلَى مجْلِس كتبه الَّذِي يَخْلُو فِيهِ للتدريس والتأليف فَلَمَّا رآهن قَالَ لامْرَأَته مَا بالكن فَقَالَت أَتَيْنَا لنخاصمك على قصيدتك الَّتِي قلت فِيهَا حكمت بِأَن الْبيض خير من السحم فَقَالَ الذَّنب هَين فَقُلْنَ مَا نتحول من مَكَاننَا حَتَّى تنَاقض هَذِه القصيدة فَكتب مَا مِثَاله مناقضا لقَوْله الأول
(أيا مادحا للبيض من غير مَا علم ... وَيَا مُعْلنا للسحم بالسب والذم)
1 / 31
(أفق وانتبه وارجع إِلَى الْحق واتعظ ... وَتب عَن قَبِيح القَوْل وَالْفُحْش والجرم)
وَهِي طَوِيلَة وَقد ذكرتها فِي الأَصْل تركت هُنَا ذكرهَا إيثارا للاختصار
فَلَمَّا فرغ من نظم ذَلِك أخذت النِّسَاء نسختها وشهرتها فتناقلتها الألسن من الرِّجَال وَالنِّسَاء بِتِلْكَ الْبَلَد
وَمن شعره مَا نبه بِهِ على أَن كل أحد يعود إِلَى أَصله فَقَالَ
(خُذ العوسج الْمَشْهُور بالشوك غارسا ... لَهُ فِي فتيت الطين أَو كثب الْمسك)
(وأسقه ذوب الشهد أَو بقطارة ... يكون جناه الشوك حَقًا بِلَا شكّ)
(كَذَاك يعود الطَّبْع وَالْأَصْل دَائِما ... يَقِينا وتحقيقا إِلَى الطَّبْع والبتك)
وَله غير ذَلِك من الشّعْر الْحسن
توفّي رَحمَه الله تَعَالَى بمنزله بالحرف سنة خمس وَعشْرين وثمانمئة
وَنَشَأ لَهُ ولد نجيب هُوَ الْفَقِيه الصَّالح جمال الدّين مُحَمَّد قَرَأَ فِي الْعلم على أَبِيه وعَلى غَيره فدرس وَأفْتى وَتَوَلَّى الْقَضَاء هُنَالك وَكَانَ عَالما صَالحا يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل وَيكرم الضَّيْف وَظَهَرت لَهُ كرامات أَقَامَ على الْحَال المرضي فِي التدريس وَالْفَتْوَى وَالْعِبَادَة إِلَى أَن توفّي مقتولا بعد سنة أَرْبَعِينَ وثمانمئة فَعظم الْأَمر على أهل وصاب واحتالوا فِي معرفَة من قَتله حَتَّى فضحهم الله فَلَزِمَ وَالِي الْأَمر أحد قاتليه فَأقر بذلك وَقَالَ كُنَّا أَرْبَعَة عشر فَبعد أَن قَتَلْنَاهُ اجتهدنا بِأَن نطرح جثته إِلَى ضاحة هُنَالك لنخفي قَتله وحملناه لنطرحه فَلم نقدر نسقطه إِلَى الضاحة بل جلس كالحي ورزن حمله علينا فعجزنا عَن طَرحه
فَقتل الْوَالِي من قدر على إِمْسَاكه
1 / 32
من قاتليه وَمَات باقيهم بأقرب مُدَّة رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ آمين
وَأما الثَّالِث من أَوْلَاد الإِمَام وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن عمر الْمُقدم ذكره فاسمه عبد الله تفقه على أَبِيه وَإِخْوَته فأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى وَكَانَ زاهدا عابدا وَامْتنع عَن قبُول التَّمْلِيك لما بذل أَهله أَن يعطوه من الأَرْض تورعا
وَكَانَ متورعا عَن الْفَتْوَى وَإِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة قَالَ هِيَ فِي الْكتاب الْفُلَانِيّ بالصفحة الْفُلَانِيَّة وَالنَّص فِيهَا كَذَا وَكَذَا قَالَ ابْن أَخِيه صَاحب الِاعْتِبَار مَا مِثَاله صَحَّ عِنْدِي أَن عمي عبد لله لم ينظر إِلَى امْرَأَة أَجْنَبِيَّة قطّ وَإِنَّمَا كَانَ يغض بَصَره إِذا سَار فِي طَرِيق وَقضى أَكثر أَيَّامه معتكفا فِي الْمَسْجِد اَوْ وَاقِفًا فِي بَيته وَأجْمع أهل بَلَده على صَلَاحه وَلم أتحقق تَارِيخ وَفَاته ﵀ ونفع بِهِ آمين
وَمِنْهُم القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن عمر بن أَحْمد بن مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الحبيشي الْمُقدم الذّكر
كَانَ هَذَا القَاضِي فَقِيها قَرَأَ على جمَاعَة من أَهله وَمن غَيرهم وَلما قتل ابْن عَمه القَاضِي جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْمُقدم الذّكر قَامَ مقَامه بالتدريس وَالْفَتْوَى وَولَايَة الْقَضَاء وَلم يزل على ذَلِك الى أَن توفاه الله تَعَالَى قريب سنة خمسين وثمانمئة
وَمن أهل وصاب الْفَقِيه الصَّالح الْوَلِيّ شمس الدّين يُوسُف بن الميسر الشهابي نسبا قَرَأَ على الْأَئِمَّة من أهل وقته ثمَّ وصل إِلَى مَدِينَة ذِي جبلة فَقَرَأَ على الإِمَام رَضِي الدّين بن الْخياط وَصَحبه الْفَقِيه عفيف الدّين عَطِيَّة بن عبد الرَّزَّاق فَقَرَأَ عَلَيْهِ بالفقه وَأَجَازَ لَهُ وَأخْبر عَنهُ بكرامات ثمَّ ارتحل من مَدِينَة ذِي جبلة إِلَى بَلَده فَتوفي بهَا وَلم أتحقق تَارِيخ وَفَاته إِلَّا أَنه كَانَ فِي الْحَيَاة بِأول المئة التَّاسِعَة ﵀ ونفع بِهِ
1 / 33
وَمِنْهُم الشَّيْخ شهَاب الدّين أَحْمد بن سَالم الوصابي قَرَأَ بِشَيْء من الْعُلُوم الْفِقْهِيَّة على الْفُقَهَاء بوصاب فأجازوا لَهُ فدرس وَأفْتى وسلك طَريقَة التصوف واشتهر بِالْكَرمِ وإطعام الطَّعَام فِي بلد وصاب فانقاد لَهُ أهل الْبَلَد وَكَانَ ذَا جاه عريض واجتهد بِالْعبَادَة وَنسب إِلَيْهِ شَيْء من الكرامات وَلأَهل بَلَده فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم بِالْخَيرِ وَالصَّلَاح توفّي بعد سنة خمسين وثمانمئة
وَأما المشهورون فِي عصرنا من أهل بَلْدَة ريمة
فَمنهمْ الْفَقِيه الْفَاضِل أَبُو بكر بن أَحْمد بن دروب
قَالَ الإِمَام جمال الدّين بن الْخياط كَانَ فَقِيها فَاضلا تفقه على الْفَقِيه عمر بن المقرىء من بَلَده وَأخذ الحَدِيث عَن عُثْمَان الديابي من أهل وصاب وَتُوفِّي بِذِي الْحجَّة سنة تسع وَسِتِّينَ وسبعمئة ﵀ ونفع بِهِ
وَمِنْهُم شهَاب الدّين أَحْمد بن عَليّ بن دروب قَرَأَ على الْفَقِيه صفي الدّين أَحْمد بن أبي بكر البريهي وعَلى الْفَقِيه جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاهِلِي ثمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَده فدرس وَأفْتى وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وَنهى عَن الْمُنكر وَكَانَ مُطَاع القَوْل مَقْصُودا للمهمات توفّي سنة عشْرين وثمانمئة
وَمِنْهُم الْفَقِيه عبد الرَّحِيم بن عبد الأول أخبر الثِّقَة أَنه من الْفُضَلَاء والعباد وَكَانَ كثير الذّكر وتلاوة كتاب الله تَعَالَى وَيخْتم بِالْيَوْمِ ثَلَاث ختمات لَا يفتر لِسَانه عَن التِّلَاوَة أَو ذكر الله تَعَالَى وَهُوَ مُعْتَمد قِرَاءَة الرَّاتِب الْمَعْرُوف للشَّيْخ عمر العرابي
1 / 34
أول النَّهَار وَآخره وَكَانَ آمرا بِالْمَعْرُوفِ ناهيا عَن الْمُنكر مُطَاعًا رَحمَه الله تَعَالَى ونفع بِهِ
وَمن أهل وصاب المقرىء الْأَجَل الصَّالح عفيف الدّين عبد الله بن مُحَمَّد البعيثي
كَانَ رجلا عَالما عَاملا صَالحا لَهُ عبَادَة وزهد وَصِيَام وَقيام واجتهاد بِقَضَاء حوائج الْمُسلمين وأخلاق حَسَنَة وَطَرِيق مستحسنة يفعل الْخيرَات وَيطْعم الطَّعَام ويحيي اللَّيْل بِالْقيامِ
وَأخْبر الثِّقَة أَن وَالِده كَانَ من الصَّالِحين وَمن عباد الله الْمُجْتَهدين يَأْمر هُوَ وَولده بِالْمَعْرُوفِ ويمتثلون أَمرهمَا وينتهون عَمَّا نهيا عَنهُ واشتهر لَهما كرامات رحمهمَا الله ونفع بهما
وَمِنْهُم الشَّيْخ الصَّالح وجيه الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْخَولَانِيّ العتمي اشتهرت نسبته إِلَى البعيثي الْمُقدم الذّكر وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُم وَإِنَّمَا أمه أُخْت المقرىء عفيف الدّين الْمُقدم الذّكر كَانَ هَذَا الشَّيْخ وجيه الدّين يحفظ الْقُرْآن الْعَظِيم ويشارك بِسَائِر الْعُلُوم ثمَّ سلك طَرِيق التصوف فاجتهد بِالْعبَادَة والورع والزهد وَالْكَرم فاشتهر غَايَة الشُّهْرَة بذلك وَظَهَرت لَهُ كرامات كَثِيرَة فانقاد لَهُ أهل وصاب أجمع وامتثلوا أمره واعتمدوا قَوْله وأطاعوه بِجَمِيعِ الْأُمُور فاتفق بوقته أُمُور مُنكرَة من جمَاعَة من الرافضة الَّتِي تسميها أهل الْيمن الإسماعيلية فَأمر الشَّيْخ وجيه الدّين بِجمع الشَّافِعِيَّة من أهل وصاب فَاجْتمع إِلَيْهِ خلق كثير فقصدوا الرافضة إِلَى بلدهم وأخرجوهم من حصونهم وَقبض أَمْوَالهم وسبا ذَرَارِيهمْ فَلَمَّا علم الإِمَام شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن أبي بكر
1 / 35
المقرىء أنكر عَلَيْهِم ذَلِك لإقدامهم على مَا فعلوا من غير إنذار وَلَا اسْتِتَابَة وَأَنْشَأَ رِسَالَة أرسل بهَا إِلَى الشَّيْخ وجيه الدّين وَإِلَى أهل وصاب وَهِي طَوِيلَة ذكرتها فِي الأَصْل حَاصِل مَا فِيهَا أَنه إِذا صَحَّ مَا نسب إِلَى الرافضة وَجب إِنْذَارهم واستتابتهم فَإِن تَابُوا وَإِلَّا أجري عَلَيْهِم مَا يسْتَحقُّونَ من الْأَحْكَام الْمَعْرُوفَة على الْقَاعِدَة الشَّرْعِيَّة
توفّي الْفَقِيه وجيه الدّين فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثمانمئة سنة وَالله أعلم
وَمِنْهُم الْفَقِيه الْعَلامَة شهَاب الدّين أَحْمد بن مطهر بن مُوسَى الْحِمْيَرِي الموسوي وصل هَذَا الْفَقِيه إِلَى مَدِينَة إب فجد واجتهد حَتَّى حفظ الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ حفظ منظومة الْحَاوِي وَبَعض كتب النَّحْو وَكَانَ يجْهر بتلاوته نَهَارا وليلا وَكَانَ لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا وَيَقُول عجبت لفقيه ينَام اللَّيْل وَأَعْطَاهُ الله تَعَالَى قُوَّة وصبرا على الدراسة والجهر بِالْقِرَاءَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار
قَرَأَ بالفقه على الْفَقِيه صفي الدّين أَحْمد بن أبي بكر البريهي وعَلى الْفَقِيه جمال الدّين مُحَمَّد بن عبد الله الْكَاهِلِي وبالنحو على القَاضِي مُحَمَّد بن أبي بكر البريهي وبالفرائض على القَاضِي صفي الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد البريهي ثمَّ طلع إِلَى مَدِينَة صنعاء فَقَرَأَ بالنحو عل الْأَئِمَّة هُنَالك وَحصل بِخَطِّهِ نَحْو عشْرين كتابا بالنحو وانتفع بِمَا قَرَأَ من الْعُلُوم فَأجَاز لَهُ الْفُقَهَاء فدرس وَأفْتى بِمَدِينَة إب ثمَّ بالشماحي ثمَّ بحقله ثمَّ انْتقل إِلَى وصاب فَأَقَامَ يدرس ويفتي إِلَى أَن
1 / 36