في خدمة المسلمين ورعاية لمصالحهم، وبُعْدًا عن التزلف لأصحاب السلطة، كان يحضر الغزوات مع صلاح الدين (١)، ويجمع الشّيح من الجبل، ويحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل إليهم في الليل الدراهم والدقيق ولا يعرفونه، ومتى أتاه شيء من الدنيا آثر به أقاربه وغيرهم، وتصدَّق بثيابه، وربما خرج الشتاء وعلى جسده جُبَّة بغير ثوب، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل، وعِمَامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خِرْقة، أو مات صغير يحتاج إلى كفن قَطَعَ له منها قطعة. وكان ينام على الحصير، ويأكل خبز الشعير، وثوبه خام إلى أنصاف ساقيه، وما نَهَرَ أحدًا، ولا أوجع قلب أحد، وكان يقول: أنا زاهد، ولكن في الحرام (٢). ومن ثَمَّ قال أبو شامة: بهم سُمِّيت الصالحيةُ لصلاحهم (٣)، ولكن أبا عمر كان يوري ذلك عنهم، ويقول: إنما هي نسبة إلى مسجد أبي صالح لأنَّا نزلنا فيه أولًا، لا أنَّا من الصالحين (٤).
وتوفي أبو عمر سنة (٦٠٧ هـ) عن ثمانين سنة، لم يخلِّف دينارًا ولا درهمًا ولا قليلًا ولا كثيرًا (٥)، وبارك الله في نسله، فأغلب المقادسة من حفدة أحمد هم من ذريَّتِهِ.
لقد غدت هذه البقعة العزلاء بعد أقل من قرن مدينةً فيها الأسواق العامة، والمساجد، والمكتبات. ورغم أنها تعرضت لمحنة سنة (٦٩٩ هـ) على يد قازان سلطان التتار من قَتْلٍ وأسر ونهبٍ للكتب (٦)، إلا أنها
_________
(١) "ذيل الروضتين": ٧١.
(٢) المصدر السابق.
(٣) "القلائد الجوهرية": ١/ ٢٦.
(٤) المصدر السابق.
(٥) "ذيل الروضتين": ٧٤.
(٦) "البداية والنهاية": ١٤/ ٨.
1 / 17