Tabakat
طبقات مشاهير الدمشقيين من أهل القرن الرابع عشر الهجري
Türler
كان جده يحترف صنعة الحلاقة، ثم استأجر حماما وأدار عمله، ونشأ أبوه حلاقا أيضا، ثم تاجر ببيع ورق التبغ فاستغنى بذلك وأثرى، وتوفي وعمر ولده المترجم نحو ست سنين، وقد كانت ولادة ابنه سنة (1276) ثم شب وعين العناية ترمقه فجود القرآن والكتابة والحساب، وحفظ معظم القرآن عن ظهر قلب، وأقبل على طلب العلم إقبالا عظيما وتفرغ له، مع يتمه وحداثة سنه. وجهل كافليه، [و] كان ذلك بوازع رباني ومدد إلهي، وأخذ يحضر دروس شيوخ دمشق في العلوم العربية والشرعية، وتفقه على المذهب الحنفي أولا، وأخذ يقرأ ويقرئ على صغره بهمة لا تعرف الملل ولا الفتور، وكم أحيا ليله وواصل به نهاره، وظهرت عليه نجابة ونباهة انفرد بها، وبلغ من الذكاء والفطنة مبلغا لم يلحقه فيه أحد من أقرانه ولا من شيوخه ولا من تلامذته، حتى ضرب بذكائه المثل، وأصبح أعجوبة في الفهم وسرعة البديهة وحسن المحاضرة وقوة الحفظ وإفحام المناظر بالحق وإدهاش المحاور بالإلزام، وصارت له مكانة الفضل في القلوب وهيبة العلم في النفوس. وكان شديدا حديدا توجل النفوس منه وتشفق لاستيقان محاوره الغلب معه، وأنه ليس من رجال ميدانه، وأجلته شيوخه، وأضحى بهجة الدروس وزينة المجالس ومجلي غوامض المشكلات، وعرف بذلك وشهر به شهرة أربت على أقرانه كلهم. وقد كان لمعاشريه راحة أنفسهم وقرة أعينهم، إذ له من المحاضرة والنكت والأجوبة اللطيفة والشواهد العذبة ما يسلي الحزين ويكشف الغمة. وقد فطر على سخاء ندر أن يوجد في كبار المثرين على قلة ذات يده، وبلغ من ذكائه أن كان يدرك خفايا الأمور ودقائقها حتى من الصناعات والحرف والتجارة والمبيعات، فكان لا يخفى عليه مكامن غش المصنوعات والمنسوجات والمبيعات على أنواعها، وقد يظن من يساومه أنه ممن احترف بحرفته وعمل بصنعته لقوة إدراكه وشدة فطنته، وكنت أشاهد منه عجائب وغرائب، وأما سرعة فهمه لدقائق المسائل وغوامض العبارات لا سيما في المؤلفات التي اشتهرت بالصعوبة والغموض وإنها كالألغاز والأحاجي وإدراكه لها بأدنى التفات فأمر لم أره لغيره، وقد أدرك ما أدرك من العلوم بمدة قليلة لأنه كان لا يعوزه لنيله إلا تصفحه والمرور عليه، وربما كان شهره أيام طلبه بستين من غيره، وكان في خلال ترداده على الشيوخ يقرئ الطلبة ويصبر على طول حصة الدرس، وربما قضى معظم الليل معهم. وقد أقرأ في مدرسة التعديل بالقنوات وهو في عنفوان الشباب، ولازمه كثير من طلبة العلم، وأقرأ أيضا في مدرسة العداس في القنوات. وكان له حجرة فيها يقطنها، ومن الأسف أن كل من تردد للقراءة عليه لم يصبر على صحبته لينتفع منه إذ يرون منه سرعة التأثر مما لا يوافق مشربه والصدع فيما لا يلائم مزاجه وفكره، مع أن ذلك الخلق سببه شدة الذكاء ولطف المزاج والثبات على الأحسن والأكمل وعدم النفاق، لذا كان يرغب أن يكون معاشره وتلميذه على شاكلته، فكان يحتد ويشتد على من يتهاون فيما لا يحبه أو يتساهل فيما لا يوافقه، وربما أعرض عنه وهجره، ولكنه كان سليم القلب فلا يلبث بعد هجره صاحبه أن يقبل عليه ويصافحه ويدعوه لمحله ويضيفه ويكرمه، وقد كان كثير الضيافات لأصدقائه وتلامذته، يعمل لهم أحسن المطاعم حسب جهده ومشربه، وكان لا يأكل إلا أجود المطاعم ولا يبتاع إلا أثمنها، وله براعة في فن الطبخ وتفنن في إجادة ذلك، أربى به على أربابه، وقد عين له مرتب شهري من صندوق البلدية، وكذا مرتب شهري على تدريس في الجامع الأموي بعد الظهر من جهة أحد أغنياء الأتراك، ثم انقطع عنه المرتب الثاني فرأى قلة الأول جدا، ورأى أن الوظائف العلمية متسلسلة بناموس الوراثة عن الأب والجد لا بناموس الأهلية والاستحقاق، ورأى أن الديون ركبته فأخذ يتعلم فن المحاماة ووكالة الدعاوي بمصاحبة نجباء أهلها، فبرع في ذلك في أقرب وقت، وصار يحامي في المحكمة الشرعية والمحاكم النظامية واشتهر بذلك لذكائه وقوة عارضته، وعرف بين المحامين ورزق حظا من ذلك واتسعت دنياه عن ذي قبل، وتزوج، ورزق أولادا، وزاد سخاء وجودا واختص بشؤون المحاماة، وقصد للمراجعة في معضلاتها واستفادة المخارج من الدعاوي العسيرة. وكان يحدثني بغرائب من تقصيه في مضايق يحار لها اللبيب الألمعي، وكانت عنده على طرف الثمام وكان أوحد خلاني وأصدقائي، صحبته وصحبني في كثير من مشايخي ودروسي، ولما ألفت كتاب «إرشاد الخلق في العمل بخبر البرق» كان يعجب من المعترضين في ذلك ويرد شبههم التي أوردتها بطريقتي، وأعانني في تلك الأجوبة وقت المذاكرة، وكان يميل إلى الأخذ بالأثر إذا صح ولا يقلد إلا ما وافق الحق، ويناظر أهل الجمود والتقليد ويحجهم، وكان ربما عد في هذا الباب بألف من غيره، وكان يرغب إلي في السير إلى المنتزهات في أوقاتها شفقة منه علي لما يرى من انكبابي على ما أنا عليه ويسير بي من دروسي وجامعي إلى داره كثيرا، واستفاد من صحبة الأستاذ العلامة الشيخ عبد الرزاق أفندي البيطار علما جما وتنويرا للفكر لم ينله قبل، وكان يحمد الله على ذلك. ومن أشياخه والدي، قرأ عليه شيئا من العربية أوائل طلبه، وكذا قرأ على الشيخ سليم العطار، والشيخ بكري العطار، ولازمهما كثيرا في عدة فنون، وعلى الشيخ بدر الدين المغربي، وأعاد له درسه سنين ثم تركه، وعلى الشيخ محمد الخاني. . . في «اصطلاحات الكاشاني» و«المواقف» و«حواشي الأمير. . . 1 عليه السلام» معي، وقرأ على غير هؤلاء وجل انتفاعه من صدق طلبه وحرصه على القراءة والإقراء وما وهب من الذكاء، وكان يترخص أحيانا بالجلوس على حافات الأنهار والمنتديات العامة يقصد بذلك ترويح نفسه إذ عراه رحمه الله مرض ضيق الصدر والسعال، وكانت وفاته فجأة ليلة الأربعاء غرة رجب سنة (1329) متأثرا من قضية أصابه بها نزلة صدرية فعاجلته المنية، ودفن ضحوة الأربعاء في مقبرة الباب الصغير غربي المقام البلالي ولم أحضر مشهده لتغيبي في القلمون ولكن جئت ثاني يوم وصليت على قبره ودعوت له، وتلك القضية أشارت لها جريدة المقتبس في عدد (716) بتاريخ (2) رجب سنة (1329) قالت في الصفحة (4) ليلة أمس في الساعة الثالثة تقريبا بينما كان الشيخ مصطفى الحلاق مع رفيقه أحمد أفندي أمام مكتب الإعدادي جالسين بقهوة الجسر إذ بأديب الحلبي من سكان حي باب السريجة ومن المتشردين جاءهما وهو بحالة السكر وطلب من الشيخ مصطفى دراهم على سبيل الصدقة وبما أنه لم يعطه (أي لأنه رأى ذلك إعانة على معصية) أخذ السائل يسبه ويشتمه بكلمات مهينة فأخبر بوليس النقطة بالأمر وبعد جلبه إلى الدائرة والقيام بالتحقيق كرر السائل سبه وشتمه ومن بعدها خرج الشيخ مصطفى آيبا إلى القهوة وقال لرفيقه أحمد أفندي أثناء الطريق اذهب أمامي للقهوة وأنا باق لدفع حاجة فعندها ذهب رفيقه إلى القهوة وبقي وحده في الطريق قاعدا وعند مجيء دورية الشرطة نظرت إليه فوجدت القميص وباقي ثيابه ملقاة على الأرض وهو يئن أنينا ضعيفا، فسألاه ما ذا أصابك فالتفت إليهم مشيرا بيده اليمنى إلى قلبه وبالحال أحضروه للدائرة من دون حراك والزبد يخرج من فمه وبعد خمس دقائق فاضت روحه. وقد تبين من تقرير البلدية أنه توفي بداء السكتة القلبية ا. ه. قال المقتبس مذيلا المرحوم الشيخ مصطفى الحلاق هو من وكلاء الدعاوي، ومن أهل العلم، أسف لوفاته جميع من عرفوه رحمه الله تعالى وعزى آله ا. ه. وقد اعترضت جريدة العصر الجديد في عددها (499) لما ذكرت هذه الحادثة بتاريخ (3) رجب سنة (1329) قالت في الصفحة (3) وفي قرار طبيب البلدية: إن سبب موته داء السكتة القلبية. قلنا في الأمر نظر إذ من المعلوم أن التأثرات النفسية إذا شاركت العلة القلبية سببت موت المتأثر وعليه يحكم على مسبب التأثر بالجنحة شرعا لأنه سبب اشتراك التأثر مع العلة ولنا على ذلك عدة شواهد منها حادثة جرت في دمشق منذ آن غير بعيد انته. ثم كتبت جريدة المقتبس في عددها (717) بتاريخ (4) رجب (1329) على حادثة المرحوم المترجم مقالة افتتاحية عنوانها (المتشردون والجنايات) قالت: لو نفذ قانون المتشردين الجديد على بعض فكان النقد فيه حق تنفيذه في دمشق بل سورية بل الولايات أجمع لقلت الجنايات قلة لا تكاد تصدق، بل ولو نفذ الحكم الشرعي والقانوني بالقاتلين فقتل القاتل في أسرع ما يمكن لما رأينا في بضع سنين رجلا يقدم على ارتكاب أمر فظيع كقتل نفس وغير ذلك، خذ لذلك مدينة دمشق، فقد وقعت فيها بعد الدستور من جملة الجنايات ثلاث جنايات مهمة لو عجل بإنزال العقوبة الشرعية بالمجرمين لما كان اثنان من المتشردين أمس قتلا رجلا وامرأة، قتل المتشرد الأول رجلا من أهل الفضل والعرض والناموس، ونعني به المرحوم الشيخ مصطفى الحلاق لأنه آذاه بكلام قاله له في حال سكره وهو يطلب منه صدقة (ثم ذكرت الحادثة الثانية وقالت بعد: إن الجنايتين اللتين وقعتا أول أمس في دمشق فاهتزت لسماع خبرهما الأعصاب الحساسة كان فيها الجرم مشهودا فهل لعدلية دمشق أن ترينا معاملة الحكومة الدستورية في الإسراع بالحكم على القاتلين في بضعة أيام إذا فعلت فنحن على ثقة من أن دمشق لا تعود تسمع بجناية يرتكبها متشرد أو معربد في كل خمس سنين) ثم قالت: وفي الختام نلقي كلمة إلى الحاكم الأعظم في هذه الولاية ونعني به واليها: إن كنت تحب تقوى الله وتخاف عقابه وترجو ثوابه وتحب أن تأخذ راتبك الجسيم حلالا طاهرا فاصدع بحكم الله واسع مع المراجع العليا في إقامة الحد على أولئك القاتلين فلا يعبد الله بأجمل من تنفيذ شريعته في خليقته انته. وقد اهتمت الحكومة بعد ذلك في استنطاق هذا المتشرد المتسبب، لعنه الله وأخزاه، وسجنته بضعة أيام ثم أطلقت سراحه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد خسرنا بوفاة هذا الصديق النبيه رجلا لا يخلف مثله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
***
Sayfa 108