أهؤلاء الذين أجتمع بهم هم قادة الأمة وأصحاب الكفاءات، والمؤهلون للنهوض بهذه البلاد، والسير بها إلى قمم الحضارة والقوة؟
لقد كثرت التقولات عن أسباب دخولي الحزب القومي الاجتماعي: فالدكتور نمر طوقان مثلا: يجزم أنني ما انضممت إلى الحزب إلا لكي أتخذ حجة لنشر ذلك البيان - عفوا يا قارئي، البيان الشهير - وهنالك عبقري أكد أن حافزي هو تحقيق أمنية حياتي الكبرى بأن أصبح رئيس بلدية «بعقلين».
بل كانت الخيبة هي أولى اختباراتي في الحزب، وكان من أهم أسباب الخيبة ذلك الكره الشديد، الذي في نفسي عند لقائي الأول لجورج عبد المسيح؛ فإن مظاهره الجسدية، وصوته الأبح، وتلك القذائف الكلامية التي قصف بها أذني وهي خليط من: فلسفة، ومواعظ، وذكريات، وتقريع عن تهامل في الميدان الوطني، وتلك الغرفة المعتمة أظلمتها السجف على شباكيها، وعتمها بابان مقفلان؛ كل ذلك هدم في نفسي شيئا، فشعرت أنني قد تركت البولفار الجميل الذي كنت أتنزه عليه، ودخلت أكمة كلها أشواك وحلك، ولم تسعفني وما أعادت الطمأنينة إلى نفسي، حملة صحفية استهدفتني، وما هو بالشيء الهين أن تكتشف الجفاء والبعد حتى والعداء فيمن أحببت وعاشرت طوال حياتك.
عدم المؤاخذة، فاتني أن أخبرك أن الشاعر عمر أبو ريشة، والصديق نقولا خير كانا من القلائل الذين استشرت قبل دخولي الحزب.
لم يطل الأمر حتى نشأت بيني وبين جورج عبد المسيح، عدا العلاقة الحزبية، أخوة، لا أعلم، وأنا منذ طفولتي كثير الأصدقاء، أن بيني وبين سواه مثلها ؛ فهو لي جد وأب، وأخ، وعم، وابن وحفيد، وأعتقد أنني أفهمه أكثر من سواي؛ لأنني مثله، برغم السنين وتنوع التجارب، لا أزال قرويا.
جورج عبد المسيح ما هو بالشخص الذي شاع عنه. إن الصورة الراسخة في ذهن الشعب أن هذا الرجل بطاش يسكر بالدماء، ولقد وجدته بعد أن عاشرته وعاملته على كل السويات الشخصية والحزبية أنه طفل له جسد جبار وعقله، وله ثقافة الجبابرة، ولا أعلم في الألوف الذين عاشرت من الناس أن في أحدهم من يبزه مناقبية ورفعة أخلاق، ولا أعلم أن في الدنيا من يمكن أن يتجاوزه في الانصراف لخدمة بلاده وإعطائها كل ما في نفسه من مقدرة عطاء.
يقولون: إن جورج عبد المسيح يوحي بالاغتيالات، خذها مني أن الذي منع الاغتيالات هو جورج عبد المسيح، ويقولون: إنه شرس يأمر بالهدم. إن الشراسة في جورج عبد المسيح تطفو في بعض أحاديثه، ولكني لا أعلم من كان، سواه، يقدر أن يضبط هذه القوة الناقمة الثائرة، التي قتل زعيمها وستة من أعضائها واضطهد وشرد ألوفها، من كان يقدر أن يضبطها لو لم تمسك بأعنتها يدان قويتان هما يدا جورج عبد المسيح، لقد اتهمه البعض من القوميين الاجتماعيين بالجبن وبالتخاذل وبالحيرة بعد كارثة 1949؛ لأنه لم يرد عليها فورا وبعنف، ولقد سمعته مرات لا عداد لها يعظ بالفتيان الذين كانوا يأتونه يوميا متطوعين لأعمال العنف، قائلا لهم: إن الانتقام حقارة وأننا لن نثأر لسعادة إلا بانتصار مبادئه. ولو لم يكن لجورج عبد المسيح ماض في القتال وشهرة في البأس؛ لما احترم مواعظه المتهوسون من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي. أذكر أن آخر من يطلب القتال هو الجندي، وجورج عبد المسيح تخرج في الميادين، ويحمل في جسده جرحين اثنين: أحدهما في فلسطين، والثاني ناله في لبنان. •••
ومن الشخصيات الحزبية التي تعرفت إليها المقدم غسان جديد، اجتمعنا لأول مرة بعد أن سرحوه من الجيش، وستثبت الأيام أن هذا الرجل له كفاءات تؤهله؛ لأن يكون من قادة العالم العربي.
إنه صقيل الثقافة عميقها، يتكلم الفرنسية كأحد أبنائها، ويتكلم الإنكليزية بلكنة وتوقف، شأن المثقفين الذين تعلموا لغة على كبر، وهو كاتب يجيد الكتابة في المواضيع العسكرية والفنية، عاش في أميركا نحوا من أربع سنوات، ملحقا عسكريا في الوفد السوري إلى منظمة الأمم، وكان الثقة الذي استشارته الوفود العربية في كل ما يختص بقضايانا مع اليهود؛ لأنه كذلك ترأس اللجنة السورية لأعمال الهدنة، وقد نال تهاني عديدة من الجيش السوري لأعماله في هذا الميدان، أما شأنه كجندي في القتال، فلقد بدأت شهرته سنة 1947؛ إذ تسلل بمائة وعشرين جنديا، تخفوا في ألبسة الجيش الأردني، وهاجموا مخيما بريطانيا في حيفا.
قيدها أمامك: من قادة العالم العربي غدا المقدم غسان جديد. •••
Bilinmeyen sayfa