أجل.. إن ذلك فعل النفوس الكبيرة هيهات أن ينال من مضائه بعد الزمن. ولقد واجه آثاره من قريب أقوام آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فالتفوا بصاحب الدعوة الأولى التفاف الكواكب حول أشدها قوة وأعظمها سنى. فهل ننتظم فى دورة هذا الفلك نحن الآخرين؟ من يدرى؟! لعلنا لا نخلد إلى الأرض مع أهوائنا. على أن لنا طموحا إن لم تواته الأسباب المحض، فقد يواتيه فضل الله، وفى جانب الله لا تتوقف عواطف الرجاء. * * * * سر العظمة: لله عز وجل رسل كثير قاموا بواجب الدعوة إليه، وتوارثوا كابرا عن كابر هداية الخلق ونصرة الحق، فأنقذوا الناس من أنفسهم وعرفوهم إلى ربهم. ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم كان بشخصيته، وطبيعة رسالته، إمام الأنبياء، وكان بحق سيد الدعاة إلى الله. فما سر هذه العظمة؟ وبم كان هذا الفضل المبين؟ السر فى هذا أن محمدا الرسول كلف أن يغرس فى قلوب من حوله إيمانا لا تستخدم فى غرسه إلا الوسائل المقدورة لطاقة البشر. وقد استطاع ذلك من غير أن تتبدل الأرض غير الأرض. على عكس ما حدث على عهد موسى مثلا، إذ رفع الطور فوق رؤوس الناس ليؤمنوا بالله ويعطوا على ذلك الموثق! (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون). وكما كان نبينا بين أتباعه بشرا رسولا، فقد كان كذلك مع أعدائه، لم تسخر ضدهم قوى السماء على كثرة ما لحقه منهم من إيذاء. على عكس ما حدث لموسى فقد نكل الله بأعدائه تنكيلا قاهرا، إذ مسخهم قردة وخنازير: ص _072 (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين * فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين). وليس يفهم من ذلك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت خلوا من الخوارق. لا، فإن النبوات قائمة على أن تقترن بالخوارق فى الكثير من مظاهرها . إنما المهم أن تأسيس اليقين فى قلوب الموقنين، واستئصال العدوان من نفوس المعتدين، كان العامل الفعال فيه بشرا اكتملت فى خلقه وخفقه عناصر الكمال الإنسانى، وانتهت إلى شخصيته أمجاد الفطرة البشرية الناصعة، فكان أتباعه من أعمق الناس حبا له، لأنه أهل لكل حب. وكان أعداؤه من أشد الناس تهيبا له، لأنهم يدركون أن أمامهم بطولة يعز تناولها ويصعب الكيد لها. وكان هو فى محبته للمؤمنين برا ودودا تنبثق من فؤاده النبيل عواطف جياشة لا ينضب معينها، ولا يتعكر صفوها. اتسعت للسابقين واللاحقين من أمته، من رآهم ومن لم يرهم. سمعه أصحابه يقول: "وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! ص _073 قال: أنتم أصحابي ، إخواننا الذين لم يأتوا بعد ". فأى حب هذا الذى يمتد مع العصور المستقبلة ليرتبط بقلوب بنيها فى ضمير الغيب. أما أعداؤه فحسبك من نقاء صدره أن ابن أبى- الذى طعن الرسول صلى الله عليه وسلم فى شرفه وافترى الإفك على أهله- كفن يوم مات فى قميص الرسول !!. وأن النبى صلى الله عليه وسلم السمح لم يرفض الاستغفار له حتى أمر بالكف عنه... * * * * هذه الرسالة الإسلامية: ذاك أمر يتصل بشخصية الداعية الموفق الأريب الذى تخيرته العناية لحماية الأمانة العظمى (الله أعلم حيث يجعل رسالته). وهناك أمر آخر يتصل بطبيعة الرسالة الإسلامية نفسها، فقد شاء الله أن يكون كتابها مسك الختام، وأن تغلق من بعده أبواب السماء، فلن ينزل ملك بوحى، ولن ينزل من الملأ الأعلى نبأ. وعلى الناس من كل جنس ولون أن يستمعوا فى هذا القرآن إلى الكلمة الأخيرة من هدى الرحمن: (لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). هذه الرسالة إذن باقية مع الزمن ما بقى الزمن، فصاحبها نبى الخلود. وإذا علمت أنها استوعبت كل ما فى الرسالات الأولى من أصول ثابتة بعد أن نفت عنها خرافات الجهلة من الأتباع، وأكاذيب الدجالين من رجال الدين، علمت أن الإسلام فى جوهره النقى دين الأزل والأبد، وأن نبى الإسلام هو إمام الأنبياء، وحامل لواء الحق من بداية أمره إلى نهاية مستقره... ولئن كان نبى القرآن عربيا بحكم المولد واللسان. إنه ليس وقفا على أمة دون أمة. من حيث التعاليم والتشاريع وميراثه ملك الناس جميعا على سواء. وحق القيام على دعوته يجب على كل من تبلغه آياتها: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ). ص _074 فإذا افتخرت أمة بأن النبى منها فلتفتخر الأمم جميعا بأن النبى لها: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ومن الخطأ أن نظن فى عموم الرسالة وخلودها تحكما فى عقليات الأجيال، وتجاهلا لأحوال الأمم وظروفها المتجددة، ووقفا لحركات التطور الإنسانى نحو الكمال. " فإن تعميم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتخليدها لم يقصد به إلا المحافظة على ذلك كله لخير الإنسان وحده. فإن الإسلام أوضح الحقائق الأساسية فى علاقة الإنسان بالله وبالناس وبالكون، وربطها بهدى الفطرة وضياء العقل. فإن كانت ثمت قيود مفروضة أو صور مرسومة حددها الإسلام، فلكيلا تجمح الفطرة ويستحمق العقل ويخرج الإنسان على نفسه. إن الإسلام دين الإنسانية الخالصة، ونبى الإسلام أحق من نلجأ إليه هذه الإنسانية لتأوى فى كنفه إلى الإيمان والأمان: (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين * وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون). * * * * عبدا رسولا: تحمل أعباء الحياة على اشتداد وطأتها واسوداده صورتها مع بقاء القلب موفور الثقة، والعقل مؤتلق الذكاء، أمر لا يستطيعه إلا القليلون. ذلك أن كآبة المنظر فى الأهل والمال تلقى على النفس ظلالا محزنة، وتترك فى الفكر شرودا يقصر به عن المساهمة فى الحياة العامة بقسط معقول. فكيف إذا كان الرجل مكلفا أن ينشئ الحياة، ويغير الطبائع، ويؤدى رسالة تغير مجرى التاريخ؟ إنه يريد أن يؤمن حياته الخاصة حتى يطيق تحمل أعبائها مع أعباء الناس وقد رأينا من الأنبياء من طلب ذلك وعنى به، فكان سليمان ملكا رسولا: ص _075 نبى فهو عدل حيث يقضى وملك فهو يفعل ما يشاء إلا أن نبينا رزق من سعة الطاقة على حمل الأعباء الخاصة والعامة الشىء الكثير، فلقى أعنت ما يلقاه المجاهدون من آلام، وأدى مع ذلك أعظم وأوسع ما أداه النبيون من رسالات... وقد كان لرقة مشاعره يحس بوخز الآلام إحساسا مضاعفا، وتلك ضريبة العظمة البالغة، شاء الله أن يفرضها عليه وحده، وليس يستطيع أداءها إلا عظيم مثله. روى أنه قال لجبريل: والذى بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفة من دقيق ولا كف من سويق! فأنزل الله أحد ملائكته يقول له: إن الله سمع ما ذكرت فبعثنى إليك بمفاتيح خزائن الأرض، وأمرنى أن أعرض عليك أن أسير معك جبال تهامة ذهبا وفضة وزمردا وياقوتا. فإن شئت كنت نبيا ملكا ، وإن شئت كنت نبيا عبدا. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل نبيا عبدا. ولقد آثر ذلك ولم يزل ضجيج المشركين يدوى حوله طالبين إليه أن يكون ملكا غنيا، مستنكرين عليه أن يكون عبدا رسولا. (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). ولكن ما قيمة هذه الصيحات الخافتة، وكيف ينتظر من بضعة نفر أو بضع قبائل أن يقفوا أطوار رسالة أعدت لأقطار الأرض قطرا قطرا، ولأجيالها جيلا جيلا. لقد امتد الشعاع الباهر وتمزقت من حوله الغيوم. وها نحن أولاء بعد قرون طوال نسير فى ضوئه ونمشى على هديه. أو أننا نستطيع ذلك إن شئنا، فلم تزل رسالة الإسلام وضاحة الشعاع، تنعى على المنتسبين إليها أن يكونوا من سقط المتاع... ص _076 الهجرة عقيدة.. وتضحية.. وحب.. وفداء مكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما فى مكة يدعو إلى الله على بصيرة، ويهدى الناس إلى الحق فى تؤدة ومهل، ويفك أغلال القرون الأولى، ليرد على البشر كرامتهم المفقودة. وما كرامة البشر إلا كرامة الفطرة السليمة، والقلب المستنير، والعقل الرشيد. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعايته لدينه، سهلا واضحا مطمئنا إلى نصاعة الحق الذى شرفه الله به، فهو لا يطلب من الناس إلا أن يمكنوه من شىء واحد. أن يتركوه يلقى ما معه بين أيديهم. وأن يسلطوا عليه أفكارهم وحدها! فإما قبلوه بعد، وإما رفضوه. وهو لم يجنح فى سبيل الانتصار لدينه إلى أساليب الدعاية الملتوية، ولم يتكلف فى تأليف أنصاره أو رد خصومه، وسائل الإغراء والإغواء، فإن ذلك ليس شرفا للدعوات المعتادة، فما بالك بدعوة أودع الله فى تعاليمها عناصر الديانات السابقة، وأودع فى قواعدها حاجات العصور المتلاحقة؟ لا جرم أنها أسمى مكانا من أن تقوم إلا على الحق وحده. وأين يستطيع الناس ميز الحق من الباطل؟ فى جو الحرية النقى من شوائب الضغط والقسوة والاستبداد. فى هذا الجو تتنازع المبادئ، وتتدافع المذاهب، ولكن النتيجة محتومة . (.. فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ..). والأغبياء والطغاة يكرهون أبدا حرية الرأى، لأنهم يعيشون فى ظلال الجدران التى تسجن وراءها كرامة البشر النفسية والفكرية. وطالما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمشركين : (لكم دينكم ولي دين). فأبوا إلا أن يقولوا له: لنا ديننا وليس لك دينك! ص _077 ومن ثم سلطت القوة الجائرة لمحاولة إسكات الألسنة التى تجهر بالقرآن- والقرآن هو يومئذ صحافة المسلمين التى تنطق باسمهم وتنافح عنهم- واتبعت الطرائق الصبيانية للتشويش عليه وفض الناس عنه: (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)!. وكذلك سلطت الفتنة القاهرة على المستضعفين من المؤمنين، فشرد من شرد، وقتل من قتل، وشعر المؤمنون الباقون على عقيدتهم، بالمغارم الفادحة التى تحل بهم، ولكنهم صبروا على المكاره إيمانا واحتسابا، وتطلعا إلى ما عند الله. هل كان القرآن جديرا بهذه المواجهة العنيفة التى قوبل بها؟ لقد كان شديد الحملة على خصومه حقا، مبينا فى تزييفه لأباطيلهم، ولكنه سلك فى ذلك سبيل القوة الممزوجة بالنبل. والرجل النبيل إذا صرع خصمه لم يتركه على الأرض متعثرا فى أذيال هزيمته، بل يسرع إلى الأخذ بيده قبل أن يستولى عليه شعور الخزى والمعرة فى سقطته. وهكذا فعل القرآن بأعدائه ، فهو يلفت نظرهم إلى ضلالهم، ويضع أيديهم على أخطائهم، ثم يأبى- أدبا وتكرما- أن يقول- فى شماتة- للضال: إنك ضال، أو للمخطئ إنك مخطئ والآخر مصيب: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون). على أن هذا كله لم يرق فى نظر قوم يأبون الاعتراف بطرق الإقناع والاقتناع، ويجمعون إلى جريمة الكفر، جريمة الصد عن سبيل الله، فكانت خاتمة ثلاثة عشر عاما فى الدعوة إلى الله أن تشاور رؤساء قريش فى نفى الداعى أو حبسه أو قتله! ثم يستقر رأيهم على أن يقتلوه بطريقة يهدر فيها دمه ويضيع بها ثأره. * * * * هجرة بدين لا فرار من موت: وأصبح أهل مكة وهم يرقبون صوت الناعى- أخزاه الله- ليبشر دولة اللؤم والغدر والطغيان، أن عدوها الألد قد لقى حتفه قبل أن يوردها حتفها، وهيهات، لقد خرج ص _078 محمد صلى الله عليه وسلم لم يمسسه سوء، فإن الله العلى القدير لا يترك الحقائق العظمى تذهب قبل أن تأخذ مداها، وقبل أن تترك على تاريخ الأرض طابعها العميق. والدين الذى بعث به إمام الأنبياء هو أبو الحقائق العظمى وأمها، فهو باق وأسباب حياته باقية معه مادامت السموات والأرض. نعم لقد أخرج محمد صلى الله عليه وسلم ليكمل الله به الرسالة التى لم تكن قد استوفت بعد جملة حقائقها، وعلم الطغاة الذين ألجأوه إلى الهجرة مدى الخطر المبيت لهم، وشعروا من الهواجس المنبعثة من أعماق نفوسهم، أن الدائرة سوف تدور قريبا عليهم. لقد هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ومن قبله هاجر أكثر المسلمين، فهل كانت هذه الهجرة تهربأ من لقاء الموت؟ كلا، يدلك على ذلك أن هؤلاء المهاجرين كانوا وقود الغزوات والمعارك الكبرى التى دارت رحاها لهدم كل السلطات المستبدة، عربية كانت أو غير عربية، ولم يؤثر عن مهاجر أنه تردد فى مواطن الموت لحظة. إذن لم كانت؟ كانت لأن الإسلام فى هذه الفترة من تاريخه، يتطلب أن يعيش له وأن يحيا من أجله كل فرد من أبنائه، فضلا عن الرجل الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم. كان الإسلام يفرض عليهم أان يعيشوا من أجله حتى يكونوا له على ظهر الأرض أمة راسخة البناء، ودولة سامقة اللواء. فإذا استقامت للدين الجديد أمته ودولته، سفكت لحياطتها الدماء. وقدم للدفاع عنها الفداء!! لقد كانت حياة كل مسلم قذى فى عين الكفر والكافرين، فضلا عن حياة المسلم الأول صلى الله عليه وسلم إذن فليتمسك المسلمون بحياتهم حتى يغرسوا نبت التوحيد فى أرض الجزيرة وفيما حولها، ولا عليهم بعد إذ غرسوه، أن يرووه بدمائهم. فما كانت الهجرة فرارا ولكنها كانت انتصارا، وكذلك سماها القرآن الكريم: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم). ص _079
Sayfa 79