قلت: وماذا قال لك؟ قال: أخذ الأجر وكتب لى دواء ذهب أخى الصغير لاستحضاره من البندر. قلت: وكم كلفك ذلك كله؟ قال: مائة وثلاثون قرشا! وكأن الرجل لمح فى سؤالى استفسارا آخر عن مصدر هذا المال الذى هبط عليه فجأة وحالته كما أعلم- فقال: جاء أحد تجار الفاكهة واشترى منى ثمار النخيل عند نضجها وأعطانى هذا المبلغ من الثمن. فرفعت عينى إلى النخيل السامقة ، والمريض يتابع حديثه المتقطع فى إعياء وحزن قائلا: كنت أرجو أن أشترى بثمنها غذاء للأولاد لا دواء لى. وسكتنا جميعا وأنا أسائل نفسى أكان غارس هذه النخيل يعلم أن أولاده ستدركهم هذه التعاسة فى ظلها؟؟ لكنه كفلاحى مصر جميعا يعملون للعمل وحده. عليهم التعب ولغيرهم الربح... وقرع الباب ودخل الأخ الصغير يحمل فى يده لفافة صغيرة فضضناها عن حبوب وأقراص وزجاجات نظر إليها المريض نظرة أمل ونظرت إليها وأنا موقن بأن ثمرات النخيل قد تقاسم ربحها طبيب وصيدلى! ماذا تصنع هذه الحبوب والسوائل فى علاج رجل علته طول الجوع وطول الجهد؟ لقد تلفت أجهزته وأعضاؤه لطول ما جرعت الماء الملوث، وأكلت الطعام التافه، وطحنتها وطأة العمل فى الحر والقر، فسئمت الكلى والكبد والمعدة هذه الحال وتوقفت عن العمل، فهل ستكرهها إلى العودة فى مجراها هذه السوائل التافهة؟ لا أظن! وإن كان المريض قد اشتراها بثمار نخلاته جميعا!... واستأذنت إلى عودة قريبة... * * * * بين الدين والدنيا: وبعد أيام قلائل كنت فى الغرفة الكئيبة أتفرس فى ملامح الرجل المسجى على فراشه يتلوى ويشتكى، وسمعته يتمتم، أن الدواء الغالى لم يرد إليه شيئا من صحته المفقودة! وزراعته فى حقله معطلة لا تجد من يعنى بها. قلت له: لا تجزع، ولا تضاعف أحمال الهموم على كاهلك، وعسى أن يعقب هذه الأزمة فرج قريب. فقال لى- وأنفاسه لاهثة وجبينه المغضن يرشح بالعرق وينضح بالجهد-: ص _052
Sayfa 52