في الفراش وأنا نائم كنت أعشق قراءة كتب التراث، وأكثر ما كنت أعشق هو كتاب ألف ليلة وليلة. أرتدي نظارة القراءة وأخلع وجه الإمام. وفي المرآة أرى وجهي مستديرا تحت الضوء الأبيض، وبشرتي تصبح بيضاء، وأسناني بيضاء تلمع كأسنان الملك شهريار، وقلبي أبيض مثل قلبه يعشق الجواري السود، وروحي بريئة مثل روحه لا تعرف أن المرأة يمكن أن تعشق رجلا غير زوجها، ويرتعد جسدي حين أرى زوجة شهريار في الفراش مع العبد الأسود، وفي أحلامي أرى زوجتي في الفراش مع عبد من عبيدي، فأفتح عيني فجأة وأراها نائمة وحدها تحتضن الكتاب وعيناها مغمضتان، تسري الطمأنينة في جسدي كالدم الدافئ، وأتسلل من الفراش إلى جاريتي السوداء، وفي الطريق إليها أتوقف تحت ظل شجرة كما كان الملك شهريار يتوقف، أستنشق الهواء، وأستمتع بالخروج وحدي دون حرس، ودون أن يعرفني أحد. كنت أملأ صدري بالهواء حين رأيت ماردا طويلا يحمل فوق رأسه صندوقا كبيرا، تصورته عفريتا من الجان أو أحد أعدائي من حزب الشيطان. تسلقت الشجرة كما كنت أفعل وأنا طفل، واختبأت بين الأغصان. رأيت المارد يجلس تحت ظل الشجرة، ويفتح أقفال الصندوق القفل وراء القفل، سبعة أقفال. داخل الصندوق رأيت صندوقا آخر، فتحه وأخرج منه ساحرة الجمال، وقال لها: يا زوجتي الوفية، أريد أن أنام قليلا . ووضع رأسه على ركبتها ونام. ورأيت الحسناء ترفع رأسها إلى أعلى الشجرة وتهمس بصوت خافت: انزل ولا تخف من هذا العفريت؛ فهو من بني آدم وليس من الجان. ونزلت إليها، فرفعت رأس زوجها من فوق ركبتها، ووضعته على الأرض، وعانقتني كما تعانق الزوجة زوجها، وحدث لي كل ما يمكن أن يتمناه الرجل الصالح مع حورية الجنة. وقبل أن أودعها أخرجت من جيبها كيسا، أخرجت منه عقدا فيه تسعمائة وتسعون خاتما، وقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا أدري. قالت: أصحاب هذه الخواتم كلهم فعلت معهم على غفلة من زوجي ما فعلته معك، فأعطني خاتمك أنت الآخر. خلعت من يدي خاتمي وأعطيته لها، فقالت: إن هذا الرجل اختطفني ليلة فرحي ووضعني في صندوق، ورمى على الصندوق سبعة أقفال، وجعلني في بطن الأرض، ولم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء. ارتعد جسدي، وارتج قلبي، وانصرفت مسرعا إلى القصر، فوجدت زوجتي في الفراش ومعها عشيقها. رميت عنقها بالسيف كما فعل شهريار بالضبط، وصرت إلى زوجاتي القديمات أضرب عنق الواحدة بعد الأخرى، وصرت كل شهر حين يصبح القمر بدرا أتزوج بنتا بكرا، أزيل بكارتها وأقتلها في ليلتها، وبقيت على هذه الحال عشرين عاما حتى ضجت الناس، وهربت بناتها ولم يبق في الدنيا بنت تتحمل الوطء. وفي ليلة العيد ناديت على رئيس الأمن وقلت له: أريد جارية عذراء لا يكون في زمانها أحسن منها. وقرأت عليه الأوصاف الواردة في كتب التراث. قلت: أريدها رشيقة القد، قاعدة النهد، كحيل الطرف، رأسها صغير، وردفها ثقيل، ريقها زهر بستان أتقنت صناعة الحب، لم يمسسها رجل، وبياضها أربعة؛ وجهها وفرقها وثغرها وبياض عينيها، وسواد أربعة؛ أهدابها وحاجبها وعيناها وشعرها، وحمرة أربعة؛ لسانها وخدها وشفتاها مع لعس وإشراب بياضها بحمرة، وغلظ أربعة؛ ساقها ومعصمها وعجيزتها، وسعة أربعة؛ جبهتها وجبينها وعيناها وصدرها، وضيق أربعة؛ فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها والمنفذ الآخر وهو المقصود الأعظم من المرأة.
حين سمع رئيس الأمن هذه الأوصاف انسحب الدم من وجهه، وأصبح لونه أبيض كوجوه الموتى، وآمن بتناسخ الأرواح، وقال هذه هي روح الملك شهريار تركب جسد الإمام، أو روح الإمام تركب جسد شهريار، وظل صامتا يخفي وجهه في الأرض، وصوت الإمام يدوي في أذنيه مرددا الأوصاف، وعلى أصابعه يعدها وينتهي بضيق أربعة؛ فمها ومنخرها ومنفذ أذنيها والمنفذ الآخر وهو المقصود الأعظم من المرأة. ويقول رئيس الأمن: لكن هذه الجارية يا سيدي الإمام لا يقل ثمنها عن تسعين ألف دينار، وخزانة الدولة خاوية والديون الخارجية ... وقاطعه الإمام مناديا على حارس الخزانة، وقال الحارس: إن الخزانة عامرة بإذن الله. وتساءل عن بند الصرف. وقال الإمام: ما هي بنودك الخاوية؟ قال: جميع البنود خاوية فيما عدا بند العشق، لكن العشق يا سيدنا الإمام مجهول لا يعرف، ومعروف لا يجهل. هزله جد، وجده هزل، والله أعلم. وصاح الإمام مناديا على الكاتب الكبير، وقال له: ما هو تعريف العشق في علم التراث؟ قال الكاتب الكبير: العشق تحريك الساكن، وتسكين المتحرك. ليس بمنكر في الدين، ولا بمحظور في الشريعة. وهو دواء لكل داء. مقام مستلذ، علة مشتهاة. لا يلذ سليمها البرء، ولا يتمنى الإفاقة. يزين للرجل ما كان يأنفه. يحيل الطبائع المركبة. يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته. كامن في الصدور كمون النار في الحجر. إن قدحته أورى، وإن تركته توارى. إن لم يكن طرفا من العبادة فهو عصارة الإيمان، ورمق الإمام كاتبه الكبير منبهرا باتساع ثقافته وإلمامه بالتراث. دخل المعارض الشرعي صامتا على غير عادته يخفي وجهه في الأرض منتظرا دوره لإبداء الرأي الآخر. وجاء عليه الدور آخر الجلسة، فقال: العشق يا سيدنا الإمام بخار رديء يرتفع إلى الدماغ عن مني محتقن بعد عشوة دسمة ملوثة بالإشعاع، وهو تلبيس إبليس، يورث نحافة البدن وانقطاع النفس ونبض القلب غير المنتظم، يترك الرجل منا في العالم السفلي وعدواه قاتلة. أوله لعب، وآخره عطب. وما بعث الله نبيا إلا وتخوف عليه من فتنة النساء، وإذا قام ذكر الرجل ذهب نصف عقله. وقيام الذكر بلية غالية، إذا هاج لا يقاومه عقل ولا دين ، وهو حرب يحتاج إلى كر وفر، وإقدام وإدبار، والمرأة تأتي في صورة ملاك، وتدبر في صورة شيطان، وتسحر الرجل جروا أو خروفا يزحف على بطنه، ولا يطأ الرجل معشوقته إلا وتقول قتلتني، وصاح الإمام منفعلا: اقتلها وعلي إثمها. وقال المعارض الشرعي: وهل في الخزانة ما يكفي لي ولك يا سيدنا الإمام؟ وظل حارس الخزانة صامتا، وقال رئيس الأمن: وأنا يا سيدنا الإمام، أليس لي نصيب من العشق؟ ولمعت عينا الكاتب الكبير وهو يرمق الجميع. وقال حارس الخزانة بعد صمت طويل: ليس في الخزانة إلا ما يكفي الإمام، ورجلا واحدا آخر يختاره الإمام. وتوقع حارس الخزانة أن يختاره الإمام، وقال: لا يمر الماء على عطشان. ونظر الإمام متحيرا إلى الأعمدة الأربعة، يقوم عليهم حكمه لا يملك إغضاب واحد منهم، وفي يد رئيس الأمن حياته، والخزانة في يد الحارس، والديمقراطية في يد المعارض الشرعي، والتراث في يد الكاتب الكبير. وانتهى الأمر بأن تنازل الأربعة عن نصيبهم للإمام؛ فهو يستحق زينة الحياة الدنيا، وله من الجواري ما يشاء، وفي الآخرة له سبع وسبعون حورية، وليس لأحد أن يتساوى معه في الحقوق، وفيما عدا الإمام فنحن جميعا أمام القانون سواء، ومن حدث في أمرنا ما ليس فيه فهو بدعة وتلبيس إبليس.
وحمل رئيس الأمن التسعين ألف دينار، وخرج إلى السوق يبحث ويوصي السماسرة، وأصدر الأمر بألا تباع جارية يزيد ثمنها عن تسعين ألف دينار دون أن تعرض عليه للفحص. ولم تكن حركة السوق نشطة بعد الهزيمة في الحرب، وهاجرت الجواري والبنات إلى بلاد الله الواسعة، ودار رئيس الأمن يفتش البيوت وفي يده كشافات الضوء، ومن خلفه الحراس وكلاب الصيد، ولم يعثر على عذراء واحدة تنطبق عليها الأوصاف، وكاد يستدير عائدا خاوي الوفاض لولا أنه لمحها تجري بخطوات سريعة كالغزال ومن خلفها كلبها، فانطلق وراءها يجري ومن ورائه الحراس والكلاب. لم يرها إلا من ظهرها وهي تركض رشيقة القد، ممشوقة الظهر، نحيلة الخصر، ملفوفة الجسم، وانطبقت صورتها من الظهر على المقدس والخيال والتراث، ورفع يديه إلى السماء شكر الله، ولم يكن لها أن تفلت من قضاء الله. •••
رآها الإمام تدخل عليه وكان لا يزال في الفراش، وزوجته الأخيرة تحت وهو ينخر في الجماع، فطلقها وهي تحته محركا شفتيه هامسا: طالق ثلاث مرات. وارتدى سرواله الجديد، ودخلت إليه ممشوقة الظهر، مرفوعة الرأس، ومن خلفها كلبها مرزوق. ورفع الكلب عينيه إلى وجهه، وتذكره على الفور رغم مرور السنين، ولم تكن الكلاب تنسى التاريخ أو التراث.
وراح مرزوق ينبح ويشده من سرواله بحركة بدت كأنما هي إعادة التاريخ، ولم يكن للكلاب أن تعيد التاريخ، فأمسكه رئيس الأمن من عنقه وربط قدميه ويديه بالسلاسل، وفي سكون الليل بعد أن نام الهواء أطلق عليه الرصاص دون صوت، وكانت هي قد أصبحت بين ذراعي الإمام، وليلة واحدة في عمرها باقية هي ليلة العيد واكتمال البدر. تمددت تحت الضوء الأبيض عارية كما ولدتها أمها. رأت وجه أمها في الضوء شاحبا أبيض، فقالت: إما أن أعيش أو أن أكون فداء لبنات الوطن، وسببا لخلاصهن من بين يديه. •••
من ثقب الباب تعجب رئيس الأمن غاية العجب حين رآها ترشه بكوز فيه ماء، وقالت: اخرج من هذه الصورة إلى صورة خروف. فصار في الحال خروفا يمأمئ طول الليل. وقبل شروق الشمس أمسكت الكوز وتكلمت فيه ورشته بالماء، وهي تقول: اخرج من هذه الصورة إلى صورتك الأولى. فعاد إلى صورته القديمة وله وجه الإمام.
وارتعد رئيس الأمن وهو ينظر من ثقب الباب. إنها قادرة على السحر كالنساء في كتب التراث، وتعجب غاية العجب كيف تقدر الجارية على أن تخرج الإمام من صورته الأولى، وتجعله من ذوات الأربع، ولا يستطيع هو أن يغير من صورتها شيئا، وضرب كفا بكف وقال: لعلها إرادة الله سبحانه يضع سره في أضعف خلقه. واستغفر الله وقال: إنها إرادة الشيطان؛ لأن الله مع الإمام، ولا يمكن أن يرضى الله بهذا. واستغفر الله مرة أخرى، وقال: إرادة الله فوق إرادة الشيطان، ولا يمكن للشيطان أن يفعل شيئا دون إرادة الله. وهنا أطبق شفتيه وسكت كأنما إلى الأبد، وظل ينظر من ثقب الباب.
بنت الله مع الإمام
ليلة العيد والفرح لم يكن هو اختياري. ساقوني إليه في يدي سلسلة، ومن حولي ثوب أبيض بلون أرواح الملائكة وكفن الموتى، وفي سرير مزركش من الرخام الغالي كقبور الملكات، وجدت نفسي عارية كما ولدتني أمي، وتذكرت، لم أر أمي منذ ولدت، وفي بيت الأطفال كنت أمشي في النوم، أبحث عن وجهها في الظلمة، وفي الحلم أسمع صوت الله كصوت أمي يناديني فأجري إليه أعانقه، أحتمي في صدره من أرواح الجان والشياطين، وأنام الليل والله معي، وأصحو في الصباح ومعي المسيح. أحسه في أعماقي يتحرك بأرجل ناعمة كالقطيفة. أحوطه بذراعي من تحت جدار البطن، وأرفعه إلى أعلى تحت ضوء الشمس ليراه الله والوطن والإمام. أبتسم في الوجوه والوجوه لا تبتسم. تتقلب العيون داخل الجفون، وتسقط الوجوه من فوق الرءوس، وتصبح الرأس حمراء بغير شعر، والوجه يغطيه الشعر، والصوت الناعم الحنون يصبح عواء الذئب يطاردني في النوم، وأنا أمشي في الظلمة أبحث عن أمي، ومن خلفي أسمع الصوت يدوي كصوت الشيطان، وأنا أجري وأقدام كثيرة من ورائي تجري، مائة قدم أو ألف كدبيب جيش لا يكف، مائة يد أو ألف تمتد تضربني من الخلف. وحين أستدير يهربون. يخافون المواجهة وجها لوجه، يخاف الواحد منهم أن يسير وحده، لا يشعر بالقوة إلا وفي يده آلة قتل. يسيرون على شكل صفوف متعرجة، وسيقانهم متعرجة، وعيونهم معوجة. أعرفهم واحدا واحدا، وأعرف وجه رئيسهم ووجوه كلابهم. يرتدي الكلب في النهار وجه الحمل، وفي الليل يرتدي وجه الذئب. يسير الرجال في المقدمة، ومن خلفهم الحراس، ومن خلفهم الكلاب، والقطط أيضا تأتي تكشف عن أنيابها، وتدب فوق الأرض بأقدام صغيرة مليئة باللحم خالية من العظم، عيونها تلمع بالشبق، وبطونها منتفخة يملؤها الحرمان، كالهواء الراكد في الغرف المغلقة.
كنت أجري، ومن بعيد أرى أمي واقفة عند الصخرة، تنتظرني فوق الهضبة بين البحر والنهر، ذارعاها ممدودتان نحوي، وأكاد أصل إليها وأنجو لولا أنني توقفت عند الطلعة أملأ عيني بالمكان، حيث علامة الأمان وحيث ولدت. وأصابوني من الخلف بالطعنة، واستدرت قبل أن أسقط وأنسى الحروف، وقلت: أتقتلون الضحية وتتركون الجاني؟ قالوا: من هو الجاني؟ وأشرت إلى وجهه المعلق فوق عمود طويل ممدود في السماء.
Bilinmeyen sayfa