تسلمت الشهادة وفي قلبي ارتجاج، وأطراف الأنامل لامست أصابعي لمسة كهرباء، وانطلقت في طريقي فياضة الحماس، أحمل العلم وأرفع صوتي بالهتاف: الله والوطن ويحيا الإمام. أختي ماتت لرجل واحد وأنا أعيش لكل الناس. الاستقلال التام أو الموت الزؤام. وفي النهار أنتقل من جريح إلى جريح، أحمل وعاء البول والبراز، وفي الليل أظل ساهرة أرهف السمع لصوت الأنين. أراه في الضوء الخافت راقدا شاخصا نحوي بوجه شاحب، في صدره جرح غائر، وفي عينيه حنين، وفي الظلمة أسير إليه وأقول: فضل الله ذهب إلى جبهة القتال، أرأيته هناك، وهل لا زال يعيش؟ ويقول: من هو فضل الله؛ أهو زوجك؟ وأقول: إنه أخي في الرضاع، وفي بيت الأطفال كان. وأسكت لا أكمل الكلام، ويقول: لماذا سكت؟ وأقول: ماذا أقول؟ يقول: احكي لي عن نفسك. ماذا أحكي؟ احكي كل شيء. ولا أعرف ماذا أحكي. حياتي تبدو مليئة بالأسرار، وحين أبدأ الكلام تبدو خالية ولا شيء فيها يقال. وحوطني بذراعيه كالأم وقال: نامي ولا تخافي. وأغمضت عيني ونمت. وفي النوم ذهب عني الخوف. بدأت أحكي حياتي، ومع كل حكاية يتحرر لساني، وقلبي يخف، وجسمي يطير كالروح بلا جسم. وفي الطلعة فلتت مني الشهقة وأنا أحلم بالصعود، عشرون عاما منذ ولدت وأنا أرى هذه الهضبة بين البحر والنهر، وأمي واقفة تنتظرني، ورائحة الهواء لم تغب عن ذاكرتي، والشجرة، والصخرة، وذرات الهواء، أستنشقها؛ فهي وطني ورائحة حياتي. أحوطها بذراعي، أملأ صدري كأول نفس عند الولادة، وآخر نفس قبل الممات. ولأول مرة أشم البحر وملوحة الماء واليود، وأنفاس العشب والقواقع والسمك الطازج، وتركت نفسي لهواء البحر يملؤني ويغرقني، وأمواجه ترتفع في الليل بيضاء في السماء تحوطني كأذرع الله، وهو إلى جواري يعانقني يحدثني: أتحبين السمك المشوي؟ - جدا جدا. - أتحبين الرأس أم الذيل أكثر؟ - أحبهما، الاثنين معا.
وترن ضحكتها الطفولية في الكون كمحارة تنفتح للشوق، وهواء البحر أصابها بجوع للحياة كالنهم، وحواسها الخمس تستيقظ كالموج، وأنوار النجوم تلمع فوق البحر كفصوص اللؤلؤ، وأوراق الشجر مع الأمواج مع الهواء تذوب في نداء واحد، وعيناها السوداوان الواسعتان تتسعان لنشوة الحب حتى الإغماء، وتغمض عينيها تنام فوق صدره كالطفلة يهدهدها، وصوته في أذنها يأتيها من بعيد: أحبك.
حين كان الحب أعمى
كنت لا أزال في نشوة الحب، وأغمض عيني حين يلامسني الحب فلا أراه، وأحس قلبي كبيرا بحجم قرص الشمس، وجسدي محارة تتفتح للشوق، وهواء البحر يوقظ حواسي الخمس، وصوته في أذني كالهمس، يأتيني من بعيد كنداء الأم، وأنوار النجوم في الليل كفصوص الماس. وكنت لا أزال أسير في طابور الممرضات، وأحمل لقب الخادمة المثالية، وأهتف في عيد النصر: «الله والوطن والإمام.» وفي غمرة الحب والحماس نسيت أن أختي ماتت بالحب، وأخي ذهب إلى الحرب ولم يعد، وقلت الحب هو الحياة وليس الموت، والحرب من أجل الوطن هي الحب، وفي جبهة القتال رأيتني واقفة وسلاحي على كتفي، جاهزة للموت أصوب الطلقة للأعداء، وفي الليل أركض إلى جوار الزملاء، أركض وأركض، وفي الخندق أختبئ ثم أعود أركض، وفي الخندق أختبئ ثم أخرج من بطن الأرض أركض وأركض، وفي الظلمة أرى وجه العدو. أعرف الوجه لا أخطئه. أصوب الطلقة في نقطة الوسط بين العينين وأضغط على الزناد. يسقط الوجه إلى الأرض، ومن خلفي أسمع وقع الأقدام تدب بأحذية حديدية. أظن أنهم الأعداء فأركض وأركض. وعند منعطف الطلعة بين البحر والنهر أتوقف؛ فهذه منطقة الأمان. أعرف المكان، وأعرف رائحة الشجر والماء، وأسير بخطى بطيئة أستنشق الهواء، وأسمع من خلفي وقع الأقدام. قلت إنهم الأصدقاء لا بد وجنود الوطن، وفي مقدمتهم رئيس الأمن ومعه الوسام يحمله إلي نيابة عن الإمام. وحين أصابتني الطعنة في ظهري استدرت وتساءلت باندهاش:
لماذا تضربوني وقد ضربت العدو؟ قالوا: إنه الصديق وليس العدو.
قلت: كان هو العدو بالأمس.
قالوا: كان ذلك الأمس، واليوم غير الأمس .
معا في الخندق
عيناها سوداوان واسعتان تتسعان لدهشة الكون، تدوران حولها في الظلمة الداكنة. نجم واحد تراه في مساحة هائلة سوداء، يتحرك بسرعة الضوء، وصوته يدوي كالرعد. يقترب من الأرض ويسقط منفجرا شعلة نار. بحر من اللهيب الأحمر. وعيناها مفتوحتان لا تعرف الليل من النهار. انطفأت النار ولم يبق إلا دخان أسود ورائحة تراب في أنفها. تحت يدها اليمنى ملمس السلاح، ويدها اليسرى في يده. صوته في أذنها: أطلقت عليه النار وسقط ... انظري. أطلت برأسها من حافة الخندق، لم تر شيئا. دخان كثيف كالليل بغير نقطة ضوء. وجهه أيضا لا تراه. قالت: لا أراك. قال: وأنا أيضا لا أراك. حملقت في الظلمة، رأته واقفا إلى جوارها في الخندق يده على الزناد، وسلاحه لا زال نحو السماء. قال: سقط واحد ولا زال آخرون. وفي الظلمة رأت يده ممدودة إليها قابضة على ورقة مطوية، وقال: لو مت اذهبي إلى أمي وأعطيها هذه الرسالة.
همست: من أمك؟ قال: هي أمي، وبيتها إلى جوار بيت الأطفال، واسمه بيت السعادة. وعرفت أنه فضل الله، وأنه لا زال يعيش، ولا زال ممشوق الظهر مرفوع الرأس. بشرته سمراء بلون الطمي، ووجهه شاحب نحيل. ينظر في عينيها مباشرة دون أن يحرك عينيه إلى أسفل. في بريق عينيه انبهار الطفولة، ونظرته ثابتة لا يبهره شيء. قالت: هل تراني بوضوح في الظلمة فأنا بنت الله؟ وعرفها من وجهها وعينيها ورائحة شعرها. سألها عن نعمة الله، قالت: ماتت بالحب. قال: وأنت؟ قالت: أنا أعيش بالحب. وحوطته بذراعيها، وقالت: ماذا كتبت لي في الرسالة؟ قال: كتبت أقول لك لا تحزني يا أمي؛ لأني لم أرك منذ ولدت، ولم أدخل بيت السعادة، حيث أنت وحيث الحب، لكن الموت في سبيل الوطن هو الحياة من أجلك، فهل تغفرين لي غيابي الطويل إلى الأبد؟ وأغمضت عينيها. قالت: أراك كما كنت كأنما غيابك كان بالأمس، ولم يفارقني وجهك يوما. وأغمض عينيه، ونام على صدرها كما كان يفعل وهو طفل، ثم استيقظ فجأة وأدرك أنه لم يعد طفلا، وهي أصبحت امرأة مكتملة النضج، وحوطها بذراعيه في الخندق، فأصبح الخندق ضيقا بذراعيه، والكون في عينيه كبيرا كقرص الشمس. وحوطته بذراعيها في الخندق والمكان يضيق، وعناقهما يملأ الأرض. وحين كشفهما الضوء ظلا متعانقين، وفي لحظة العناق توقف العالم يرقب مشهد الحب، وهما متعانقان كشخص واحد، ولا أحد منهما ينفصل عن الآخر أو يخاف الضوء أو يخاف الموت؛ فكلاهما قد مات من قبل.
Bilinmeyen sayfa