أشخاص الرواية
وقائع الرواية
1 - بين الولاء والحب
2 - بين العرش والجمال
3 - بين الخداع والحب
4 - بين الجامع والنطع
5 - بين الزوج والحبيب
الصوت والصدى
أشخاص الرواية
وقائع الرواية
1 - بين الولاء والحب
2 - بين العرش والجمال
3 - بين الخداع والحب
4 - بين الجامع والنطع
5 - بين الزوج والحبيب
الصوت والصدى
سقوط غرناطة
سقوط غرناطة
تأليف
فوزي المعلوف
أشخاص الرواية
أبو عبد الله:
سلطان غرناطة.
إبراهيم:
من أشراف الأندلس.
دريدة:
بنت إبراهيم.
ابن حامد:
سيد بني سراج.
علي:
سيد بني زغرة.
طرفة:
سيد بني عبس.
عتبة:
سيد بني مكناسة.
موسى:
أحد فرسان العرب.
المنصور:
من رجال ابن حامد.
عمر:
من رجال ابن حامد.
حمد:
خادم علي.
عثمان:
خادم دريدة.
أحد حجاب السلطان.
قائد إسباني.
رسول إسباني.
عبيد - حجاب - جوار - جنود عرب وإسبان.
وقائع الرواية
استوحى فوزي المعلوف موضوع روايته المسرحية هذه من قصة «كونزلف القرطبي» «بالفرنسية:
Gonzalve de Cordoue
وبالإسبانية:
Gonzalo Fernandez de Cordoba » للكاتب الفرنسي فلوريان (Florian) . وهي رواية شعرية تشيد بمآثر ذلك البطل الأندلسي الذي انتصر على آخر ملوك العرب في إسبانيا أبو عبد الله الأحمر صاحب غرناطة، سنة 1492م.
كذلك استلهم فوزي في تأليف مسرحيته الكاتب الفرنسي الكبير شاتوبريان (Chateaubriand)
الذي أصدر سنة 1826م قصته التاريخية «مغامرات آخر بني سراج» (Les Aventures du dernier Abencerage)
وسمى بطلها ابن حامد، وهو اسم البطل أيضا في مسرحية «سقوط غرناطة».
وفيما يلي وقائع المسرحية المأساة بحسب تتابع فصولها:
الفصل الأول: «بين الولاء والحب»
علي سيد بني زغرة المعروف بحقده على ابن حامد وحسده له بسبب تفوقه وبطولته، يوغر صدر السلطان أبي عبد الله على ابن حامد وحبيبته دريدة التي ينظر إليها السلطان دائما بشبق عارم، فلا تعيره أي اهتمام، بل تعرض عنه باستمرار، ويشجع علي أبا عبد الله على قتل ابن حامد للحصول على تلك المرأة الخارقة الجمال، لكن السلطان يطري مناقب ابن حامد وبطولاته في الدفاع عن العرش، ويرفض الغدر به، فينصحه علي بأن يعرض عليها حبه علنا، فإما تقبل أو ترفض. وبعد حوار حميم حول الحب والحرب بين دريدة وابن حامد، يلبي هذا الأخير دعوة والدها إبراهيم الذي طلبه لأمر مهم .
ينتهز أبو عبد الله وعلي الفرصة فيكشفان عن وجهيهما وكانا متنكرين، ويتقدم السلطان طالبا يد دريدة، واعدا إياها بالملك، معلنا شغفه بها، لكنها ترفض قطعا، وينتهي الحوار بمشادة عنيفة بينهما ينسحب على أثرها أبو عبد الله ورفيقه مهددا متوعدا.
يعود ابن حامد وإبراهيم والد دريدة إلى لقائها، ويخبرانها أن الإسبان بدءوا حصار المدينة، وأن الحرب واقعة لا محالة، ثم يقترحان ترحيلها إلى منطقة آمنة؛ فترفض رفضا قاطعا، وتخبرهما بما كان بينها وبين أبي عبد الله، وهكذا يبدأ الصراع في نفس ابن حامد بين حبه لدريدة وولائه للعرش الذي يزاحمه صاحبه على قلبها.
الفصل الثاني: «بين العرش والجمال»
ينشط علي في تحريض السلطان على ابن حامد وحبيبته التي يدعي أنها وجهت إلى أبي عبد الله إهانة كبرى برفضها يده، ويقنعه بأن يستدعي إليه كلا من خطيبها ابن حامد ووالدها إبراهيم، ويطلب منهما أن تتخلى دريدة عن ذلك الخطيب وتسلم إليه، ولكن الرجلين رفضا ذلك وتسلحا بأن الرأي يعود إليها في الموضوع.
يدخل أمراء القبائل ويوضحون للسلطان أن المدينة مهددة بالجوع والانهيار، وأنه لا بد من مواجهة الأعداء. وهنا يصل رسول من الإسبان يعرض على سلطان غرناطة تسليم المدينة وفق شروط مناسبة، فيميل معظم رؤساء القبائل إلى ذلك الحل، لكن ابن حامد وبعض الفرسان يرفضون التسليم، ويقررون القتال.
وكان علي قد وجد حلا ملغوما؛ بأن يسلم السلطان لابن حامد علم غرناطة المقدس الموروث عن أجداد العرب منذ فتح الأندلس، فإن خسره وانتزع منه في المعركة حكم عليه بالموت، وكانت دريدة من نصيب سلطانه، وإن استطاع المحافظة عليه يكون قد انتصر على الإسبان وبقيت حبيبته له.
وهكذا تقرر خوض القتال، فرد السلطان الرسول إلى الملكين الإسبانيين؛ إيزابيلا وفرديناند، وسلم العلم إلى ابن حامد الذي أعلن أن قومه بني سراج سيهاجمون الإسبان عند الفجر.
ولكن عليا كلف خادمه حمد بقتل إبراهيم وابن حامد، وسرقة العلم من هذا الأخير، مقابل مبلغ كبير من المال، وذلك أثناء المعركة أو في أي مناسبة ممكنة.
الفصل الثالث: «بين الخداع والحب »
تحاول دريدة عبثا أن تثني والدها الشيخ إبراهيم وحبيبها ابن حامد عن خوض المعركة أو تذهب معهما إلى ساحة القتال؛ فتفشل في ذلك. وفيما يجتمع فرسان بني سراج ويمشون إلى القتال شاهرين سيوفهم يكيد علي وخادمه حمد المكائد لهم، وتدور رحى الحرب بينهم وبين الإسبان، فيغنم ابن حامد ورجاله من العدو غنائم شتى بعد انتصاره الساحق عليهم في اليوم الأول.
ثم يأوي ابن حامد وجنوده إلى مضاربهم ليلا، ويصر إبراهيم أن يحمي العلم في مضربه، ويحاول ابن حامد أن يثنيه عن ذلك ويتولى حماية العلم بنفسه فلا يوفق، وينام الجميع فيتسلل حمد إلى مضرب إبراهيم ويقتله ويمضي بالعلم، ويصحو بنو سراج على جلبة الإسبان وقد انقضوا ليلا بمساعدة حمد على مخيم بني سراج، فيغدرون بهم وهم نيام. وتدور معارك طاحنة يصاب خلالها ابن حامد بجراح، ويقبض عليه جنود السلطان ويسجنوه بعد أن نقله رجاله جريحا إلى داخل المدينة.
دريدة تنتحب على جثة أبيها.
الفصل الرابع: «بين الجامع والنطع»
1
يتألف هذا الفصل من قسمين:
في القسم الأول: يحاول أبو عبد الله وعلي بكل وسيلة إقناعها بالتخلي عن ابن حامد واعتلاء العرش زوجة للسلطان فترفض. عندئذ يبرز أمامها أبو عبد الله حكم علماء غرناطة وقضاة الشرع فيها بإعدام ابن حامد لأنه خسر العلم المقدس. وبعد جدل طويل ومحاولة انتحار من جانب دريدة، يعدها السلطان بأن يعفو عن ابن حامد ويبعده عن غرناطة إن هي قبلت به - أي بالسلطان - زوجا. وينتهي الأمر بقبول الفتاة تلك التضحية لافتداء حياة ابن حامد.
أما في القسم الثاني: فيبدو ابن حامد الجريح في السجن خاضعا لتحرشات علي وحمد، ويعاني آلاما مبرحة من جراحه كادت تودي بحياته. ثم يخبره علي بأن دريدة زفت إلى السلطان والتمست من زوجها العفو عنه شرط نفيه إلى إفريقية. ويطلق علي ابن حامد من السجن ويذهب به إلى منفاه.
الفصل الخامس: «بين الزوج والحبيب»
يعود ابن حامد إلى غرناطة خلسة ويتسلل إلى قصر الحمراء متنكرا بزي زنجي، ويدخل جناح دريدة في الحرم الملكي ، فيدور بينهما عتاب طويل، ويتهمها ابن حامد بأنها خانته وأنكرت عهده، ثم يدفع إليها بخنجر طالبا منها قتله في صراع عاطفي، فيسقط الخنجر على الأرض، وتدافع دريدة عن موقفها وتفهمه أنها الآن حريصة على شرف زوجها إلى آخر ما هنالك من حوار عميق، كما تطلب منه أن يبتعد عن غرناطة إذا كان فعلا وفيا لحبها.
كان علي وحمد يستمعان خلسة إلى الحوار الدائر بين الحبيبين، فنقلا الكلام محرفا إلى أبي عبد الله، وسلماه خنجر ابن حامد زاعمين أن الرجل سلمه إلى دريدة لتقتل به سلطان غرناطة.
يحاول ابن حامد الفرار، ولكن حامية القصر تقبض عليه، ويتهمه أبو عبد الله بخيانة الوطن، كما يتهم زوجته دريدة بخيانته شخصيا، ويطوق بنو سراج القصر طالبين تسليمهم ابن حامد، فيأمر السلطان بقتله، ويكلف بذلك حمدا؛ فينفذ الحكم فورا، ثم يطلب أبو عبد الله من جنوده رد بني سراج على أعقابهم. وهنا ينتاب دريدة ضرب من الجنون، فتفقد صوابها، وتمر بحالة من الهستيريا بين الحياة والموت، ثم لا تنفك تضرب رأسها بالأرض حتى تزهق روحها انتحارا. أما حمد فيكون قد هرب مع الذهب الذي غنم من خيانته، ولكن سيده عليا الذي جرح في الدفاع عن القصر ضد بني سراج يعود إليه ضميره، ويعترف أمام السلطان بالمؤامرات التي دبرها ضد ابن حامد ودريدة، وتفيض روحه من عمق جراحه.
أبو عبد الله يعاني هو الآخر صحوة ضميره، ويدخل الإسبان القصر، فيشهر سيفه، لكن الأعداء يطوقونه فورا طالبين سيفه، فيقول لهم: إن سيف سلطان غرناطة لا يسلم لأحد. ثم يكسر السيف، ويسمع صوت يقول له من الخارج: ابك مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه مثل الرجال.
الفصل الأول
بين الولاء والحب
المكان:
جنة العريف في حدائق قصر الحمراء بغرناطة العربية.
المنظر:
ليلة مقمرة، أشجار وأزهار.
المشهد الأول (أبو عبد الله - علي «متنكران»)
أبو عبد الله :
أهنا يجتمع الحبيبان؟ وبين قصوري؟ إن هذا لا يكاد يصدق!
علي :
ثق بي يا مولاي السلطان ...
أبو عبد الله :
صه! ولا تلفظ كلمة «سلطان»! أفما ترى في أي موقف نحن؟
علي :
طالما رأيتهما يا سيدي في هذا المكان، وفي ظل هذه الشجرة، يتناجيان ويتشاكيان.
أبو عبد الله :
قدك تثير غيرتي وغضبي! الويل كل الويل لتلك الفتاة!
فكم أعربت لها بنظراتي عما بي وهي تعرض عني وتنفر مني!
علي :
ما الذنب ذنب فتاة لا تميز بين أمسها وغدها، بل ذنب من أغراها وزرع بغضك في قلبها! فأنت تعرف ابن حامد وتعرف مبلغ عداوته لك. فمتى انتقمت منه خلا لك الجو بها!
أبو عبد الله :
أواه! من لي بتلك السعادة! ...
علي :
إذا قتلت حبيبها سلته، فقلوب النساء في «الهوى» كالريشة يلعب بها «الهوا»! ...
أبو عبد الله :
أراك تذكر القتل كأمر غير خطير! ولكن هبنا تمكنا من الإيقاع بالرجل، فما تكون العاقبة؟ ثورة تلطخ جدران الحمراء بالدم، وتصبح للمؤرخين من بعدنا موضوع طباق بديعي بديع الحمرة! وهل يهدر دمه عند قومه بني سراج وهو عميدهم وفارسهم، فلا ينتقموا له؟ أما والله إننا أحوج إلى السكينة منا إلى الثورة! كيف لا والإسبان على قاب قوسين من أسوارنا! ...
علي :
للقتل ضروب يا مولاي، وقد تفعل الحيلة ما لا يفعله الخنجر.
أبو عبد الله :
وهل أجعل ابن حامد أشرف مني بعد أن قدم سيفه لنصرتي وهو من ألد أعدائي؟ أوأنسى بلاءه الحسن في الذود عن عرشي فأناجزه العداء لا لشيء إلا لحبه غادة أحبها أنا؟
علي :
ليس في الحب - يا مليكي - سلطان
فكل العباد فيه سواء
إنما السلطة الوحيدة للحسن
فيقضي سلطانه ما يشاء
أبو عبد الله :
كفى يا علي، فمن العار أن أفرق بين قلبين جمعهما الحب، وفضلا عن ذلك فابن حامد أنقذ والد الفتاة من الأسر؛ فهي له وهو لها. وإن صيانة عرشي تقضي بعدم إغضابه.
علي :
إذا كنت تخشاه فذلك أمر آخر ... ولكن ليثق مولاي أن بين رجالي أسودا لا تنام على ضيم، وهي تنتظر إشارة واحدة لتنقض على بني سراج وتسحقهم.
أبو عبد الله :
يا لك من خل وفي! أما سحق عرشي في سبيل غرامي فهو تضحية لا قبل لي بها ...
علي :
إنك في غنى عن هذه التضحية، وحسبك مطارحة تلك الفتاة حبك فتفضلك على حبيبها، ولا بد من حضورها هذه الليلة؛ فتكاشفها بما بك.
أبو عبد الله :
ولكن ... لا بأس فيما قلته ... فإما قبول - وذاك ما أتمناه - وإما صدود - وذاك ما أخشاه!
فديتك يا دار الحبيبة موردا
يحوم عليه اليوم قلبي للورد
لأنت كمن تحوين، إن قلت: رحمة
لهذا المعنى، لم تعيدي ولم تبدي
فمن علم الأحجار أمثولة الجفا
سوى ذات قلب قد من حجر صلد
تعلقها قلبي لأول نظرة
فهل عندها من لوعة الحب ما عندي
جننت بها، والحسن كم ضيع الحجى!
جنون هوى لا ينتهي بي إلى حد
فسبحان من أعطى الهوى كل سلطة
فصار به السلطان أطوع من عبد
ومن قسم النارين، نارا بخدها
من الحسن والأخرى بقلبي من الوجد!
علي :
على رسلك يا مولاي؛ أرى شبحين يتقدمان نحونا. هذا ابن حامد وبقربه دريدة!
أبو عبد الله :
فلنذهب قبل أن يشعرا بوجودنا.
علي :
بل نختبئ حيث نسمع حديثهما ولا يرانا أحد.
أبو عبد الله (يتردد قليلا) :
حسنا. (يختبئان.)
المشهد الثاني (ابن حامد - دريدة)
ابن حامد :
أفترين هذا الليل جميلا؟ إنك لأجمل منه! ففي غدائرك تموج لا ألمسه في فحمة سواده، وفي عينيك سحر لا أراه في بريق نجومه. وهذا القمر المتسلل بخيوطه الفضية من خلال الأوراق؟ إن نظراته أقل عمقا وشعرا من نظراتك ...
دريدة :
أشعر أن الليل يحبني لأنني أشبهه، أشبهه بعمق عواطفي، وبتألق حبي! أما الجمال الذي تصف فلم يهبنيه غير حبك ... وكم أتمنى لو لبست الليل رداء أوشيه بالنجوم، وأمنطقه بالقمر؛ فأزيد جمالا في عينيك.
ابن حامد :
وأنا أتمنى لو كان لي هذا الليل؛ فأنظم من نجومه لك عقدا، وأخلع من قمره عليك تاجا، لا لأزيدك جمالا، فأنت فوق الجمال، وإنما لأرفعك فوق البشر.
دريدة :
إن حبك حسبي، فبه أحيا وبه أموت. حدثني عن الحب بنغمتك الشعرية الساحرة، ففي كلماتك ما يرفعني إلى عالم السماء.
ابن حامد :
الحب؟ ومن يحدد الحب؟ هو أنت، هو أنا، هو كل شيء نابض فوق هذه الأرض ...
هو ثغر المنى فمشربه
عبرات وقوته قبل
هو في معرض النوى ألم
وهو في معرض اللقا أمل
هو رب والروح هيكله
عرفته إلى الورى المقل
مقل ألبسته علتها
فمشت في عبيده العلل
دريدة :
ليت سماء حبنا صافية كهذا الأديم! ولكنها، أواه، قاتمة متلبدة بالغيوم، فلا أكاد أشعر بالسعادة التي نحن فيها حتى يتراءى لي شبح الحرب، فأحس بخوف يعكر علي صفائي.
أويردي الإنسان في الحرب خلق
الله ظلما لكي تعيش بلاده
ابن حامد :
إن تكن ميتة البسالة والمجد
فأكرم بها، ونعم جهاده
انظري، إننا أمام الحمراء. هذا القصر الذي يعانق السماء بقببه، والرابض على الثرى بأعمدته. إن هذا القصر بما حوله هو كل ما بقي لنا من تراث الجدود، ملوك عزيزو الجانب قاموا بتشييده، فاشتركت في بنائه عقول ناضجة، وقلوب نبيلة، وسواعد قوية. وها هو تحفة الفن وأعجوبة العصر، ولكن غرناطة صائرة بحمرائها إلى ما صارت إليه طليطلة بمعاهدها، وقرطبة بجوامعها، وأشبيلية بقلاعها، وذلك إذا لم نذد عن الحمراء بالأحمر من دمائنا، فلا تقع لقمة سائغة في فم أعدائنا. أفلا يسوءك أن تندثر هذه المدنية الزاهرة وقد اندثرت قرون وقرون في سبيل ازدهارها؟
دريدة :
ولكنك تدافع عن عرش طاغية ظالم لا عن غرناطة! وهل تنسى فساد أبي عبد الله وما يضمره لك من ضغينة؟
ابن حامد :
أنا أدافع عن عرش وطني لا عن عرش أبي عبد الله! إن الملوك فانون، أما المبادئ فخالدة، أنا أعلم أن أبا عبد الله طاغية غاشم، وأشعر بعدائه لي، ولكن الوطن فوق كل عاطفة! إنني أرى هذه الرياض حولي زاهية زاهرة، وأرى هذه الجوامع والمباني قائمة مشمخرة، ولكن ... قد يأتي زمن تندثر فيه، وتصبح خرائب وأطلالا، فلا يبقى من الحمراء غير بعض جدرانها، ومن جنة العريف غير بعض ترابها، فإذا مر بها أحد حفدتنا في المستقبل البعيد، ووقف في هذا الموضع، ونظر إلى الأطلال والدمعة في عينه، والحسرة في قلبه ، وقال: هنا تألق مجد أجدادي وهنا تقلص، هنا قامت مدينة بناها الشمم وهدمها الفساد، هنا ضاعت أمجادي وحال عزي، فأصبحت من أمة خاملة مضيعة، وأنا سليل شعب رفع للمدنية منارها، وكان للوطنية فخارها! هذا الحفيد سيعلن أبا عبد الله مضيع عرش أجداده، ولكنه لن يلعن من استماتوا في سبيل الذود عن حياضهم. وهذه أعظم مكافأة لنا عن جهادنا إذا لم يثمر دفاعنا؛ فضاعت جهودنا.
دريدة :
لا أعلم، ولكنني خائفة عليك.
ابن حامد :
دريدة، إنني واقف الآن بين الحب والمجد، وعلي لكل منهما واجب سأقضيه.
أنتركهم طوعا يثلون عرشنا
وذا ركنه فوق النجوم مشيد
فيمحون من أوربة اسم محمد
وليس لعمر الحق يمحى محمد
أنتركهم يسترجعون بلادهم
ونحن سكوت لا حسام ولا يد
دريدة :
إذا كنت تهواني تجنب لظى الوغى
وحاذر فإن الحرب للموت مورد
وروحك روحي إن أصبت بنكبة
أصبت بها فالعيش بعدك أنكد
ابن حامد :
إذا كنت في حبي تشكين فاسألي
فؤادك يخبر عنه والله يشهد
ولكن أوطاني علي عزيزة
وها هي تدعوني فحتام أقعد
سأنذر نفسي للوغى غير هائب
فربي يحميني وحبك ينجد
وإن كان عز في الحياة فحبذا
وإن كان ذل فالمنية أحمد
وإن قدر الله وعشنا أنتشلك من هذا القصر ونذهب حيث نشاء ويشاء لنا الهوى.
دريدة :
ولكن قلبي يحدثني، وهو لم يخطئ أبدا، أننا لن نعيش إلى نهاية هذه الحرب، بل نموت معا ضحية حبنا.
ابن حامد :
لا تدعي الوساوس تستولي عليك؛ فأنا بقربك أفتك بمن يمس شعرة من رأسك. (يدخل عثمان.)
المشهد الثالث (ابن حامد - دريدة - عثمان)
عثمان :
أسعد الله مساء سيدي.
ابن حامد :
ما وراءك يا عثمان؟
عثمان :
مولاي إبراهيم أنفذني في طلبك.
دريدة :
والدي يدعوك إليه؟ وفي مثل هذه الساعة؟ لا بد من حدوث أمر مهم!
ابن حامد :
ابقي هنا يا دريدة بينما أقابله وأوافيك.
دريدة :
سأبقى؛ فلا تبطئ بالرجوع. (يخرج ابن حامد وعثمان، وتجلس دريدة على المقعد.)
المشهد الرابع (دريدة - أبو عبد الله - علي)
أبو عبد الله :
أسعد الله مساء دريدة الحسناء.
دريدة :
من هذا؟
أبو عبد الله :
أسير غرام في يديك زمامه.
دريدة :
كفاك هذرا يا هذا؟ قل من أنت وإلا أستنجد.
أبو عبد الله : «تسائلني من أنت وهي عليمة
وهل لفتى مثلي على حاله نكر»
1
من أنا؟ ألم تعرفي بعد من أنا؟ (يكشف قناعه.)
دريدة :
مولاي السلطان.
أبو عبد الله :
أجل، سلطان غرناطة، ولا تدعيه بمولاك؛ فما هو في هذه الساعة غير عبد جاء يطرح قلبه على أقدام مولاته.
دريدة :
لا أفهم ما تعنيه يا سيدي.
أبو عبد الله :
ألم تفهمي ما أعنيه يا قاسية؟ أولم يدلك قلبك على أنني أحبك ولم أقصدك في جنح هذا الليل إلا لأقول لك هذه الكلمة السحرية: أحبك!
دريدة :
تحبني، أنا؟
أبو عبد الله :
لا لوم عليك في تهيبك من سلطان غرناطة، وما أتيتك إلا لأقدم لك السعادة؛ فلا تخاطبيني كسلطان، بل خاطبيني كعاشق أقصى أمانيه أن يراك أسعد بنات حواء.
دريدة (بتهكم) :
حاشا لمثلي أن تكون غير جارية من جواري السلطان أبي عبد الله.
أبو عبد الله :
وما يمنع أن تكوني حبيبتي، بل سلطانة غرناطة أجمع؟
دريدة :
لا يمكنني ذلك، وهذا الموقف لا يليق بمثلي.
أبو عبد الله :
يا للعجب! أأدعوك إلى السعادة وأنت ترفضينها؟ ألا تعلمين أن أجمل فتاة في المملكة تتحسر على مثل ما أدعوك إليه؟
دريدة :
دعني وشأني يا مولاي؛ فأنت صاحب عز وسلطان، وما أنا غير فتاة مسكينة كل ما لي من حطام هذه الدنيا والد شيخ من واجبي ملازمته في زمن شيخوخته.
أبو عبد الله :
إنه يبقى معك في قصري، هاك يدي!
دريدة :
لا، لا.
أبو عبد الله :
إذن أنت تفضلين علي ابن حامد وهو ربيب نعمتي!
دريدة :
كفى يا أبا عبد الله؛ فقد أهنتني بشخص حبيبي! وعدت ابن حامد بيدي، ووعده أبي بي، فلا سبيل إلى نقض ما وعد شريفان. ليس لي غير قلب واحد، وقد وهبته فلا تحاول المحال.
أبو عبد الله :
ولكن العاقل يختار الأفضل، ولا لوم عليه ولا تثريب؛ فالسعادة تطرق من أبوابها .
دريدة :
إن سعادتي بحبيبي وسعادته بي.
أبو عبد الله :
وهل ابن حامد يا دريدة أحق بك مني؟ إنك لا تزالين حديثة السن، ولولا ذلك لم تفضليه علي. ارجعي إلى نفسك واعلمي أن سلطانا عظيم القدر يعرض عليك السلطان والعرش والتاج.
دريدة :
لا أبيع حبيبي بكل سلطان الأرض، ولا أبيع قلامة ظفره بالعرش والتاج.
أبو عبد الله :
أهذا جوابك الأخير؟ ألا تخافين سطوتي؟
دريدة :
يا أبا عبد الله، إن عرشك يخصك، وقلبي يخصني. إنك تقدر أن تقول لأجمل الغادات: أحبك فتشجعك على حبك، ولكن ليس هذا شأنك مع حبيبة ابن حامد!
أبو عبد الله :
حذار أيتها الفتاة الشامخة! أنت قوية بنظراتك الفتانة، وابتساماتك الساحرة، ولكنك ضعيفة أمام قوتي وسلطاني؛ فلا تنسي أن حبيبك تحت مطلق تصرفي أفعل به ما أشاء، فكلما زدت نحوه حبا زدت عليه حقدا. أنا لست ممن يخفضون الجناح؛ فلي إرادة لا تتزعزع، وأنا عزيز الجانب أرفع بك إذا شئت إلى أسمى الدرجات، وأحط بك إذا شئت إلى أسفل الدركات.
دريدة :
وهل تظنني جبانة القلب لئيمة العواطف؟ لا؛ فأنت لا تعرف النساء، إن الحب لا يتطرق إليهن عن طريق الخوف، والقلوب لا تؤخذ بالقوة.
أبو عبد الله :
سترين كيف أمتلكك بالرغم منك.
دريدة :
ربما تقدر على امتلاك جسمي، ولكنك عاجز عن امتلاك قلبي. إن للقلوب سلطانا يأمرها بما يشاء فتمتثل له، وهذا السلطان هو الحب الذي لا تقدر عليه بكل ما لك من عنفوان.
أبو عبد الله :
أما والله لقد تطاولت علي، فلا بد لي من الحصول عليك!
دريدة :
ابتعد عني وإلا أستنجد وأجمع أهل غرناطة وأقول لهم: انظروا من وليتموه أمركم يقترف أفظع الذنوب، هاكم من سلمتموه أعراضكم يسعى إلى اغتصابها.
علي :
دعني أكم فمها يا مولاي؛ فلم أشهد قط مثل هذه الوقاحة.
أبو عبد الله :
قف! والله لأتغلبن عليك وأجعلنك عبرة لأمثالك.
دريدة قد أعرضت عني جهالة
على كل حال أنت لا بد لي منك
فإما بذل وهو أليق بالهوى
وإما بعز وهو أليق بالملك
سر يا علي ! (يخرجان.)
المشهد الخامس (دريدة وحدها)
سر يا ظلوم مهددا متوعدا
ما أنت إلا الحاكم المتحكم
وحيال سدتك المنيعة عصبة
تعنو لما تبغي وقوم نوم
لهم لأمرك طاعة عميت فإن
تفتك بهم صلوا عليك وسلموا
ألفوا الخمول وعودوا أرواحهم
ذلا فلا تشكو ولا تتظلم
لك في الورى حتى الحرام محلل
أما عليهم فالعفاف محرم
لله من جور الشرائع إنها
نير على عنق الضعيف محكم •••
يا أنفسا ثوب الصغارة ثوبها
لم يخف عارك قدرك المتجسم
والعرش لا يعليك شأنا في الورى
ولو أن سدته هناك الأنجم
يا من أتى تحت الظلام يقوده
أمل وعاد وقلبه متحطم
أتظن أفئدة العذارى سلعة
تشرى بمال أو بسيف تغنم
كذبتك نفسك إن بين ضلوعنا
من غامض النزعات ما لا تعلم
فاذهب بتاجك إن عاطفة الهوى
عندي لأثمن من حلاه وأعظم
المشهد السادس (دريدة - إبراهيم - ابن حامد)
دريدة (تقبل يدي والدها وتهم بالركوع فيمنعها) :
دعني أركع على قدميك يا أبي مستميحة منك صفحا.
إبراهيم :
وبما أسأت إلي يا دريدة؟ لا أفهم ما تقولين.
ابن حامد :
ما أصابك يا دريدة؟ وعم تطلبين عفوا؟
دريدة :
لم يصبني شيء، وسأقول الحقيقة؛ فاسمعا ما جرى لي: لم تكد تفارقني يا ابن حامد حتى دخل السلطان علي وكاشفني بغرامه، وقدم لي تاجه، وبعد نقاش بيننا وعدته بيدي.
إبراهيم :
ماذا؟ إذا كان ذلك حقا؛ فما أنت ابنتي ولا أنا أبوك!
ابن حامد :
لا، لا، أنت تمزحين ورب الكعبة!
دريدة :
لم أقل غير الحق، فعذرا يا أبي إذا نقضت وعدك، وعفوا يا ابن حامد إذا خنت عهدك.
إبراهيم :
ويحك يا بنية، أين شرفك؟ أين عزة نفسك؟ ليتك لم تخلقي. أتريدين أن تلطخي شعوري البيضاء بوصمة العار؟ أنت لابن حامد وهو لك، ولا يفرق بينكما غير الموت.
ابن حامد :
سيرى أبو عبد الله أن روحه تغتصب قبل أن يغتصب حبيبتي. (يقبض على حسامه ويحاول الخروج فتوقفه دريدة.)
دريدة :
قف يا ابن حامد فقد عرفتك، تعال إلى ذراعي فلا حبيب لي سواك، وأنت يا والدي شكرا لك على ثباتك.
إبراهيم (بابتسامة تأنيب) :
دريدة! ...
ابن حامد :
قولي الحقيقة، تكلمي ...
دريدة :
لم أقصد بما فعلت غير امتحانكما؛ فإننا مقدمون على شرور وفتن. إن أبا عبد الله جاءني عارضا عرشه فرفضته، فتوعدني وتوعدته، وذهب يائسا مزمجرا لا يلوي على شيء.
إبراهيم :
حسنا فعلت يا بنية؛ فالموت ولا العار.
ابن حامد :
السلطان كان عندك؟ ويل له! ألم يعلم أن الأعداء أحاطوا بالمدينة؟ ألم يعلم أن عرشه على شفير الهاوية؟ تنبئوا أن المملكة ستسقط عن يده، وقد صحت النبوءة؛ فسلام يا وطن أجدادي!
إبراهيم :
هذه عاقبة الضلال لمن ضل سواء السبيل.
ابن حامد :
ولكن ... هل كان السلطان وحده؟
دريدة :
لا، فقد كان علي برفقته.
ابن حامد :
هذه الرواية من تأليف علي عدونا الألد؛ فويل لهما!
دريدة :
إذا كنت تحبني يا ابن حامد فلا تتعرض لهما، دعونا من هذا الحديث الآن (لوالدها)
كنت يا أبت دعوت ابن حامد إليك، فما سبب هذه الدعوة؟
إبراهيم :
دعوته يا بنيتي لنفتكر بطريقة نبعدك بها عن غرناطة.
دريدة :
تبعدوني أنا؟ ولماذا؟
إبراهيم :
علمنا يا دريدة أن الأعداء طوقوا المدينة، ولا بد من سقوطها ما دام أبو عبد الله منغمسا في حمأة فساده.
ابن حامد :
إننا ارتأينا أن نبعدك لمدى قريب عن غرناطة، وعندي أنسباء في خارجها تنزلين بينهم على الرحب والسعة، وتكونين في مأمن من بلايا الحرب.
دريدة :
وحدي لا أذهب. هيا بنا معا.
إبراهيم :
نحن يا بنيتي رجال يمكننا الدفاع إذا هوجمنا، أما أنت فلا طاقة لك بذلك.
دريدة :
لا تخشيا؛ فإن الحب الذي بين جوانحي يجعل لي ساعدا أشد من الصخر.
ابن حامد :
بربك يا دريدة، اقبلي بما اقترحناه عليك؛ فإن ذلك آمن لك وأضمن.
إبراهيم :
لا تركبي رأسك يا بنية؛ فنحن أبصر منك بالعواقب.
دريدة :
هيا بنا جميعا فنأمن كلنا. أما إذا أبيتما وكان الموت ينتظرنا؛ فنموت معا، فما لذتي في العيش بعدكما.
ابن حامد :
نحن تقضي علينا الواجبات الوطنية بالبقاء هنا.
دريدة :
وأنا تقضي علي واجبات الحب بملازمتكما.
إبراهيم :
أهذا جوابك الأخير ؟
دريدة :
بالله لا تحرجاني على الذهاب؛ فأنا لا يطيب لي عيش في البعد عنكما.
إبراهيم :
شأنك وما تريدين. والآن هيا بنا. إلى اللقاء يا بني.
دريدة :
إلى اللقاء يا حبيبي.
ابن حامد :
مع السلامة يا أبي ويا حبيبتي، وإلى الغد.
المشهد السابع (ابن حامد وحده)
حياك ربي يا روحي وريحاني
فأنت في الأرض معبودي وإيماني
لله عيناك هل عيناك أدركتا
ما أججت في قلوب الأسد عينان
لله قلبك إذ قلبي يطارحه
وجدي فيخفق ولهانا لولهان
في أضلعي من لهيب الحب نار جوى
ما زلت أسكب فيها ماء أجفاني
لولا دم عربي في العروق جرى
هجرت من أجلك الدنيا وأوطاني
لكن مجد جدودي من قبورهم
لنصرة الوطن المحبوب ناداني
لبيكم يا أباة الضيم ها أنذا
ما خاب ظنكم في ليث قحطان
روحي وما ملكت كفي فدى وطني
فلينسج الموت منذ اليوم أكفاني
وطني، وما أعذب هذه الكلمة! يعز علي أن أراك تباع رخيصا! لهفي عليك فأنت على شفير الهاوية.
المجد بالعدل، فأين عدل حكامك؟ القوة بالاتحاد، فأين اتحاد أبنائك؟
مرحى لعزك الغابر! عز تألق من الشرق تألق الشمس، وانبسط نوره على ما وراء المحيط، وها هو يغيب في الغرب متقلصا متضائلا.
نور سطع من الجزيرة فطارت بمشاعيله نسور الإسلام حاملة إلى العالم كل تمدن وكل عمران، فجثم خالد على سفح حرمون، وحوم ابن العاص على ضفاف النيل، ورفرف موسى على مجاهل إفريقية، وبسط طارق جناحيه على جنات الأندلس؛ فازدهرت الصحارى، وعمرت القفار، فيا لك من نور!
ولكن ماذا يفيد التغني بأمجاد الماضي، والحاضر تختلج فيه الحسرة، والغد تغشاه الظلمة؟!
أي طارق ... لقد شاهدت النسر العربي يبسط جناحيه على الأندلس، فقم وشاهده الآن محطم الجناحين.
أنت القائل في قومك: العدو أمامكم، والبحر وراءكم؛ فاختاروا! وقد اقتحموا الموت، فكان لهم مجد الحياة. أما حفدتهم، حفدة أولئك الأبطال، أفتعلم علام وقع اختيارهم؟ إنهم فضلوا عار الهزيمة من وجه الموت تمسكا بالحياة.
الترف قبلة نفوسهم، والفساد وجهة ميولهم، والشقاق مطمح زعمائهم، والجور شعار ملوكهم!
والأندلس ، تلك الكأس المترعة بالفخار والمجد، لقد اشتفها الفاتحون، ولم يبق من خمرتها غير الثمالة، وما هذه الثمالة إلا غرناطة، وها هي في يد العدو تلتهب شفتاه ظمأ إلى ارتشافها.
إيه يا أبا عبد الله! إن اسمك سيظل في صفحات التاريخ ملطخا بالعار، وملعونا بكل فم؛ فوا خجلة الحفدة من مضيع أمجادهم!
قمت تزاحمني على حبيبتي، وسأصفح عنك في سبيل الوطن، ولكن حذار حذار؛ فابن حامد لا يرق ولا يرحم!
دع لابن حامد من يحب ولا تكن - ألا تذل - على دريد مزاحمي
دون البلوغ إلى دريد حبيبتي
إرعاد آساد وبرق صوارم (يخرج فيدخل علي.)
المشهد الثامن (علي وحده)
إني أعد لك انقضاض صواعق
إن كان دون هواك برق صوارم
هدد بكفيك السما متوعدا
وغدا تعضهما بذل النادم
واحلم بتحقيق المنى فستغتدي
كسراب قفر أو كخطرة حالم
إني وراءك حيث سرت يقودني
حقدي فجاهد ما استطعت وقاوم
وغدا ترى عكس الذي أملته
وتقول: يا تعس المحب الهائم (ستار)
الفصل الثاني
بين العرش والجمال
المكان:
قصر الحمراء في غرناطة.
المنظر:
قاعة العرش؛ وتبدو فيها السدة الملكية محاطة بالمقاعد، ومفروشة بالسجاد الثمين. كما تظهر مجمرتان للطيب في مقدمة المسرح.
المشهد الأول (علي وحده)
بشرارة مكر من فكري
أوقدت الفتنة في القصر
فعلي انهض وابطش بطشا
أتت الفرصة فانهش نهشا
وافتن وافتك وانحر وامكر
فدم الأعدا خمر أحمر
ودهاك فهز به الأرضا
شرقا غربا طولا عرضا
إيه يا علي، اسرح وامرح؛ فقد خطوت أول خطوة في طريق الانتقام، وهذه شرارة النار التي أوقدتها قد هبت، فمن يجسر على إطفائها؟
وأنت يا ابن حامد، حذار حذار؛ فإن الذي استهزأت به وانتصرت عليه معد لك حبائل الأبالسة، وعذابات الجحيم. خلقك الله محبوبا، وخلقني مكروها، وميزك عني بالشجاعة أيضا، ولكن القوة ليست للسيف ولا للفضائل، وإنما هي للرءوس المملوءة بالحيلة.
سر أنت على طريق المجد والشرف، وأنا أسير على طريق المكر والخداع، وسنلتقي فيرى كل منا مصيره.
الأبالسة معي، وأبو عبد الله بين يدي ألعب به على هواي ، فقاوم ما استطعت وسنرى. أوغرت صدر السلطان عليك وعلى حبيبتك فكان ما كان، ولن يرجع عن عدائكما ما دمت بجانبه كلما خمدت جمرة من حقده أوقدت نيرانا.
سأذيقك عذاب الموت، فأنتشل دريدة من يديك لأضعها بين ذراعي أبي عبد الله، ثم أنزلك إلى القبر محمولا على عواصف انتقامي؛ فاستعد!
يظن السلطان أنني أفعل ما أفعل لأجل مصلحته، ولكنه لا يعلم أن ذلك كله في سبيل انتقامي. وماذا يهمني أبو عبد الله إذا تزوج دريدة أو لا، وإن سقط عرشه أم لم يسقط؟ كل شيء أضحي به في سبيل غايتي؛ وطني وديني والعرش والسلطان!
هذا السلطان مقبل، فويل لي إذا كان سمع ما قلت ... (يدخل السلطان وأمامه عبدان يقفان على البابين المقابلين، وخلفه أربعة عبيد؛ اثنان بالمراوح يقفان حول العرش، واثنان يوقدان المجامر.)
المشهد الثاني (أبو عبد الله - علي - العبيد)
علي :
أسعد الله صباح مولاي السلطان.
أبو عبد الله :
وصباحك يا علي. ما أتى بك في هذه الساعة؟
علي :
لم يأخذني غمض طول ليلي غيظا مما جرى لنا البارحة، وقد جئت لأشاهد عقابك لمن أهانوك. ويل لتلك الفتاة! فإن الكلام الذي خاطبتك به لا يقال في حضرة سلطان مثلك.
أبو عبد الله :
على من الحق يا علي؟ ومن بدأ بالتحرش؟ ألسنا نحن؟ لو لم ندخل عليها ونطارحها الغرام لما خاطبتنا بتلك اللهجة القاسية.
علي :
وما أنت صانع إذن؟
أبو عبد الله :
سأتركها وشأنها؛ فمن العار على سلطان مثلي أن يعرض نفسه للإهانة، فذلك مما يحط من قدري.
علي :
أفتصبر إذن على ما نالك من الإهانة؟
أبو عبد الله :
نعم سأصبر، فإن الصبر بالملوك أجدر، والرجل من إذا قدر عفا.
علي :
إذا صبرت أنت فلا أصبر أنا، وإذا عفوت فلا أعفو، أهانوا سلطاني ولن أترك لهم هذه الإهانة. نحن نسعى لنمكن هيبتك من القلوب، فتقوم فتاة كهذه تهينك في وجهك! إن ذلك لا يحتمل.
أبو عبد الله :
ولكننا في موقف يجبرنا على التضحية بكل شيء في سبيل الوطن. إنني أسمع صراخ أمتي متألمة من حالتها، إنني أرى جدودي في قبورهم ينظرون إلي بعين اللوم، فمتى أجليت الأعداء عن أسواري عدت إلى البحث عن ملذاتي.
علي :
ذلك لا يرضى به رجالك المخلصون؛ فمرنا بإشارة واحدة نخلصك ممن أهانوك ولو قامت معهم قوات الأرض بأجمعها.
أبو عبد الله :
ويلاه! إنني أكاد أفقد صوابي، فالحب يدفعني والوطنية ترجعني.
علي :
المسألة بسيطة يا سيدي؛ فيكفي الآن أن تدعو إليك ابن حامد ووالد خطيبته فتمنع الأول عن حب دريدة، والثاني عن مصاهرة ابن حامد.
أبو عبد الله :
إنما أكون كالكاتب على صفحات الماء، وأعرض نفسي للإهانة.
علي :
وأية إهانة يا ترى؟ مرني بإرسال من يدعوهما، وأنا الكفيل بالنجاح. أنا ذاهب لإنفاذ من يأمرهما بالمجيء. (يخرج علي.)
أبو عبد الله (لأحد الحاجبين) :
علي بالقهوة. (يتمشى قليلا ثم يجلس على العرش فيأتيه الحاجب بالقهوة، فيشربها ثم يعود إلى السير جيئة وذهابا.)
المشهد الثالث (أبو عبد الله - علي)
أبو عبد الله :
وقفت بين الهوى والعرش والهفي
فالقلب يدفعني والعقل ينهاني
إذا اشتريت الهوى بالعرش أفقرني
وإن فديت بحبي العرش أشقاني
يا قلب ما كنت يوم الروع مضطربا
فما لك اليوم؟ جاوب أيها العاني
يا ويح سلطان عدل جار قاتله
وذللته بعيد العز عينان
أأتبع الحب؟ إن الحب أفضل لي
وإن تحكم في أمري وأضناني
مضحيا تاج أجدادي ومجدهم
فالحسن أثمن من مجد وتيجان
لا كان سلطاني المشئوم طالعه
إذا أذل جمال الغيد سلطاني (يدخل علي.)
علي :
أرسلت يا مولاي أستدعي إبراهيم وابن حامد.
أبو عبد الله :
حسنا، ولكن ما عساها تكون نتيجة هذه المقابلة؟
علي :
لا تعبأ بنتيجتها ما دمنا ندبر الأمر بالتعقل والدهاء، وخير ما تفعله الآن إرغام أنف ابن حامد؛ فيعرف مقامه أمام سلطانه.
أبو عبد الله :
إنني أخجل من إهانته وتحقيره بعد أن بادأني بإخلاص كان علي مقابلته بمثله، فبأية عين أقابله؟
علي :
قابله بعين الازدراء، بعين العظمة، بعين سلطان رفيع القدر. ها هو مقبل مع إبراهيم، انظر إليه؛ فهو يمشي مختالا كأنه داخل إلى منزله، أهذه هيبتك من نفسه؟
المشهد الرابع (أبو عبد الله - علي - ابن حامد - إبراهيم)
إبراهيم :
عليك السلام ورحمة الله وبركاته.
ابن حامد :
حيا الله السلطان.
أبو عبد الله :
حياكما الله.
إبراهيم :
أرسلت يا مولاي في دعوتنا، وقد امتثلنا لأمرك؛ فمر بما تشاء.
أبو عبد الله :
أأنت مخلص يا إبراهيم لسلطان غمرك بنعمه مدة سنوات؟
إبراهيم :
ما نحن إلا صنيعة السلطان.
أبو عبد الله :
وأنت يا ابن حامد، أترضخ لما يقوله لك سلطانك؟
ابن حامد :
إذا كان ذلك خاصا بالوطن، فأنا أضحي بالروح في سبيلك.
أبو عبد الله :
وإذا كان خاصا بي أنا؟
ابن حامد :
لكل سؤال جواب، فإذا كان لا يمسني فبكل طيبة خاطر.
أبو عبد الله :
ليس فيه ما يمسك، بل جله أن تتخلى لسلطانك عن أمر لا أعلم مكانه من نفسك.
ابن حامد :
وما هو ذلك الأمر؟
أبو عبد الله :
إنها دريدة يا ابن حامد، فإذا كنت مخلصا لسلطانك فتخل عنها.
ابن حامد :
إن التخلي عنها ليس منوطا بي وحدي، إنما هو متعلق بها وبأبيها. وأنا أقول ما يقولان، وأفعل ما يفعلان.
أبو عبد الله :
وأنت يا إبراهيم، ما تقول؟
إبراهيم :
مولاي! إن الشيخ الواقف أمامك أصبح على حافة قبره، ولم يخل قط بشرفه، فإذا كانت شيخوخته وخدماته تشفع لديك به؛ فلا تجبره على تلطيخ شعوره البيضاء بوصمة العار. إن الشرف آخر ما بقي لي من حياتي الذاهبة فلا تسلبنيه. وعدت ابن حامد بابنتي، ولن أرجع عن وعدي.
أبو عبد الله :
ولكن سلطانك يطلبها منك، وما الرعية إلا ملك حلال للسلاطين!
إبراهيم :
أستحلفك بالله الذي تعبده، والوطن الذي تحبه أن لا تجبرني على نكث عهدي.
أبو عبد الله :
اقبل بالرضى وإلا أضطر إلى أخذها بالقوة!
إبراهيم :
باستطاعتك ذلك، ولكنك لا تصل إليها إلا بعد أن نكون أنا وهي جثتين هامدتين!
أبو عبد الله :
كفى كفى! فدريدة لي!
إبراهيم (يركع) :
بربك يا مولاي ...
ابن حامد (ماسكا بيد إبراهيم) :
قف يا أبتي؛ فالركوع أمام الله لا أمام الناس! (للسلطان)
أما وقد أبى فأنا أدافع الآن عن حقوقي.
أبو عبد الله :
وأية حقوق هذه؟ ليس لرجالي إلا ما أسمح لهم به! ولولا حرمة الوطن لكنت أؤدبك.
ابن حامد :
لو كنت ممن يحافظون على حرمة الوطن لما وصل إلى هذه الحالة! إن الوطن بمثابة وديعة استودعتها، فمتى مثلت يوم الحشر أمام أجدادك وطالبوك بها فبم تجيب؟
علي :
كفاك يا ابن حامد، أهكذا يخاطب الناس سلطانهم؟
ابن حامد :
صه! فما كلمتك لتجيب.
أبو عبد الله :
وحرمة المصطفى لترين ما يشيب له رأسك.
علي :
مرني فأعاقبه على وقاحته بما يستحق.
أبو عبد الله :
لم يبق مجال للصبر؛ فاقبض عليه يا علي. (يجرد علي خنجره ويهجم على ابن حامد، فيجرد هذا خنجره ويقف إبراهيم بينهما.)
إبراهيم :
اقبضوا علي؛ أنا أنا المذنب.
ابن حامد :
تعال يا أبتي؛ فإن هذا الخنجر يخترق صدر من يقترب مني، ولكن لا (يطرح الخنجر من يده)
لا حاجة إلى الخناجر؛ فأنت قادر يا أبا عبد الله على قتلي! هاك رأسي فاقطعه! هاك يدي فغللهما بالقيود. إنني لا أدافع، إنني أعزل فاقتلني! ولكن افتكر بالعاقبة، افتكر بالوطن! أنا أضحي بكل شيء في سبيل وطني، ألا تعلم أن ورائي ألوفا من الرجال، فإذا أصابني مكروه قامت عليك وعلى عرشك؟ وهل نحن الآن في حاجة إلى الثورات أم إلى التكاتف والاتحاد؟ الوطن يدعونا لنصرته فحتام نقعد؟ الأمة تئن فإلام لا نسمع أنينها؟
أبو عبد الله :
الوطن ... إن هذه الكلمة تغير في لحظة واحدة كل أفكاري، اخرجوا جميعا ريثما أدعوكم. (يخرج الجميع ما عدا علي؛ فإنه يبقى منزويا حيث لا يراه السلطان.)
المشهد الخامس (أبو عبد الله - علي منزويا)
أبو عبد الله :
يا أشباح أجدادي، ابتعدي عني، ولا ترشقيني بهذه النظرات القاتلة، ابتعدي فإن منظرك مخيف، ونظراتك أحد من السهام. يحق لك أن توبخيني فقد أسأت إليك وإلى وطني، يحق لك أن ترشقيني بهذه النظرات النارية فقد تهاملت كثيرا.
ولكن عفوا يا أجدادي عفوا، سأكفر عما مضى بسلوكي المقبل، سأترك الحب وأتفرغ لمصلحة وطني، سأبعد عني كل مفسد، وسأصم أذني عن سماع وشايات علي. (يلمح عليا.)
هه! أراك لا تزال هنا يا علي.
علي :
لم أكن هنا يا مولاي، فقد وصلت الساعة لعلك بحاجة إلي، فما يرى فعله مولاي؟
أبو عبد الله :
سأفعل ما يوحيه إلي ديني ووطني، سأترك هذا الحب فإنه يكلفني كثيرا.
علي :
وهل تترك ابن حامد بلا عقاب. والله لم أر قبل اليوم رجلا تمرد على سلطانه، ومتى كان مجلس السلاطين معرضا لبذاءة العبيد، ألا تتذكر استخفافه وتهديده؟
أبو عبد الله :
أتذكر كل شيء، ولكنني سأعفو عنه، بل سأرفع منزلته؛ فهو وطني بطل، وأنا الآن بحاجة إلى أمثاله للوقوف بوجه الأعداء.
علي :
ودريده؟ وهل نسيت دريده
وهي في الحسن آية الناظرينا؟
أفتسلو جمالها بعد أن كن
ت له عابدا به مفتونا؟
ليت شعري أهذه شيمة العش
ق وهذي صبابة العاشقينا؟
أبو عبد الله :
أجل نسيتها، وقد محوت حبها من قلبي، وصورتها من فكري، فلا تذكرها لي بعد الآن.
علي :
طرق مخيلتي فكر أظنه صوابا يا مولاي، فهل تريد أن أذكره لك؟
أبو عبد الله :
وما هو؟ قل!
علي :
ستعفو عن ابن حامد وتسمح له بدريدة، أليس كذلك؟
أبو عبد الله :
بلى.
علي :
من رأيي يا مولاي أن لا تعفو عن ابن حامد بلا مقابل.
أبو عبد الله :
وما هو ذلك المقابل؟
علي :
هو أن تجعل التقادير حكما بينك وبينه، ويكون مهر دريدة علم المملكة المقدس.
أبو عبد الله :
وكيف ذلك؟
علي :
ألم تقل إنك سترسل ابن حامد إلى الحرب؟ إذن سلمه علمنا المقدس، فإذا حافظ عليه تكون دريدة نصيبه، وهكذا يكون الله حكما بينكما، ويأخذ الحق مجراه.
أبو عبد الله :
حسنا، ولكن حذار أن تكون هناك مكيدة لاغتياله (للحاجب)
علي بإبراهيم وابن حامد! (يخرج الحاجب ويجلس السلطان على عرشه.)
علي (على حدة) :
رجعت فقبضت عليك يا ابن حامد، فلن تفلت من يدي!
المشهد السادس (أبو عبد الله - علي - إبراهيم - ابن حامد)
أبو عبد الله :
عفوت عنكما تقديرا لوفائكما وإعجابا بوطنيتكما.
إبراهيم :
شكرا لك يا مولاي.
أبو عبد الله :
وفضلا عن ذلك فدريدة تبقى لخطيبها، ولكن بشرط.
ابن حامد :
مر بما تشاء؛ فحياتي أضحي بها في سبيل الحصول عليها.
أبو عبد الله :
دريدة لك على أن تؤدي خدمة للوطن! إن الأعداء حول المدينة فأرجعهم عنا.
ابن حامد :
لعينيك يا دريدة! وعسى أن إخلاصي المقبل ينسيك كلمات دفعني إليها نزق الشباب. وقد يعذر العاشقون.
أبو عبد الله :
إنني أصفح عنك، وهاك يدي عربون اتفاق جديد بيننا.
ابن حامد :
هذي يدي وهي تنساني وتجحدني
إن حدت عن شرفي أو حدت عن وطني
إذا حييت ستبدي كل معجزة
أو مت تنسج من غار العلى كفني (يدخل الحاجب.)
الحاجب :
مولاي إن زعماء القبائل يستميحون الإذن لمقابلتكم.
أبو عبد الله :
أدخلهم. (يخرج الحاجب.)
ابن حامد :
والآن نستأذنكم بالذهاب.
أبو عبد الله :
بل تبقيان هنا لنرى مطالب الأمراء.
المشهد السابع (أبو عبد الله - علي - إبراهيم - ابن حامد - موسى - طرفة - عقبة وغيرهم)
الأمراء :
حيا الله السلطان.
أبو عبد الله :
أهلا بخيرة الأمراء والفرسان، خذوا مجالسكم. كيف حال الرعية في هذه الأزمة؟
موسى :
إنها تدعو ببقاء عزكم، أيدكم الله، لكن أزمة الحصار دفعتها إلى اليأس. وقد أخذ الجوع يفتك في الرعاية بسبب انقطاع الزاد عنها.
أبو عبد الله :
هذه مشيئة الله. فكيف العمل والخزائن فرغت من المال، وإذا وجد المال تعذر علينا مشترى القوت.
موسى :
وقد خلعت النساء جواهرهن وعهدن إلي بتسليمها إليكم قائلات: لا يجدر بنا التزين بهذه الحلي وبلادنا خراب، وعيالنا محتاجة إلى القوت الضروري؛ بيعوها أو فارهنوها ودافعوا بها عن ديارنا وأولادنا، فإذا انتصرنا لم نحتج إلى الزينة لإظهار فرحنا، وإذا سبينا فما حاجة الأسيرات بالحلي والجواهر. (يقدم للسلطان حليا وجواهر.)
أبو عبد الله :
أإلى هذه الدرجة بلغت الحالة في البلاد؟
طرفة :
لا تتعجب يا مولاي، فإن أهراءنا خلت من المئونة ولا ننتظر لا واردا ولا صادرا، وإن الذي كان واردا للخيل صار قوتا للخيالة أنفسهم، وربما أكلوا الخيل نفسها.
عقبة :
ناهيك بأن من السبعة آلاف من رءوس الخيل التي كانت عندنا لم يبق سوى ثلاثمائة رأس، وإن في مدينتنا مائتي ألف نسمة كلها تطلب الخبز.
موسى :
لقد صدئت سيوفنا من الانزواء في الأغماد، وظمئت إلى ارتشاف الدماء.
ابن حامد :
وقد آن لنا أن نصقل صدأها ونروي ظمأها.
علي (يقف) :
كيف نحارب وأهل غرناطة على هذه الحالة والجوع يتهددهم؟ ولم لا نسلم ما دام العدو غير مقلع عنا ولا راض منا إلا بالتسليم؟
ابن حامد :
أنسلم ولا تزال فينا بقية دم يجري؟ إن وسائلنا لم تنقطع بعد، ولا يزال عندنا قوة عظيمة هي الاستماتة، فلنستنصرن العامة إلى الجهاد ونقحمن صفوف الأعداء، فإما موت ونحن على الحالتين صائرون إليه، وإما نصر والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء.
موسى :
أحسنت أحسنت؛ فالموت ولا العار.
الحاجب :
في الباب يا مولاي رسول من قبل الأعداء.
أبو عبد الله :
أدخله. (يخرج الحاجب)
ما شأن هذا الرسول؟ لا شك أنه آت يعرض علينا شروط التسليم.
ابن حامد :
فلنظهرن أمامه من الضعف قوة.
المشهد الثامن (أشخاص المشهد السابق - رسول إسباني)
الرسول :
سلام على سلطان غرناطة.
أبو عبد الله :
وعليك السلام، حللت على الرحب والسعة، فما وراؤك؟
الرسول :
لقد أنفذني صاحبا الجلالة بهذه الرسالة إليكم. (يركع أمامه ويقدم إليه الرسالة.)
أبو عبد الله (يأخذ الرسالة ويقدمها إلى علي) :
اقرأ يا علي.
علي (يقرأ) :
من إيزابيلا ملكة قشتالة، وفرديناند ملك الأراغون إلى السلطان أبي عبد الله صاحب غرناطة.
كفى ما أهرق من دماء رجالنا ورجالكم، فاحقنوا الدماء، وسلموا غرناطة؛ فالجوع يتهددها، وإن لم تسلموها عاجلا فآجلا، وعنوة إن لم يكن طوعا، فاختاروا أخف الويلين؛ أما شروط التسليم فهي أن يقسم السلطان والأمراء يمين الأمانة للملكين، فتتعين لهم إقطاعات معلومة لأجل معيشتهم، أما سكان غرناطة فيصبحون رعية لملوك الإسبان يؤدون الجزية، وتكون لهم الحرية التامة في أمور دينهم، وتبقى لهم دورهم وعقارهم وأسلحتهم ما عدا مدافعهم، ويكون لهم قضاة من أنفسهم يحكمون بمقتضى قواعد دينهم، واعلموا أننا لا نرجع عن حربكم ما دام فينا رجل واحد. هذا ولكم الخيار.
أبو عبد الله (للرسول) :
اذهب الآن ريثما نتداول في الأمر ثم ندعوك (يخرج الرسول)
أتفهمتم الشروط جيدا؟
عقبة :
إنها موافقة جدا.
علي :
بل هي فوق ما كنا نؤمل.
طرفة :
إن لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون.
أبو عبد الله (بعد التفكر) :
لقد عولت على التسليم، وليس ذلك حقنا لدمي أنا، وإنما ضنا بدمائكم يا أهل غرناطة أن تهدر، وأطفالكم أن يموتوا جوعا، ونسائكم وبناتكم أن تنزل بهن معرات الحرب.
طرفة :
هذا هو الرأي الموافق.
عقبة :
إن لم نسلم عاجلا فسنسلم آجلا.
أبو عبد الله :
الله أكبر، لا إله إلا الله، ومحمد رسول الله!
باطل اجتهادنا في معاكسة الإرادة الإلهية، فقد كتب علي أن أكون شقيا، وأن يذهب هذا الملك عن يدي.
عقبة :
والهفي عليك يا غرناطة.
ابن حامد :
دعوا اليأس للنساء والأطفال؛ فنحن رجال ولنا قلوب لا لذرف الدموع بل لهدر الدماء. والله لقد بقي علينا أشرف الخطتين؛ وهي الموت، فلنمت إذن في سبيل استقلالنا.
موسى :
لا قدر الله أن أشراف غرناطة أصبحوا يخافون الموت في سبيل الدفاع عنها.
أبو عبد الله :
وما الفائدة من الدفاع وغرناطة إن لم تسقط اليوم فستسقط غدا؟!
عقبة :
إذا كنا نقوى على النضال، فالشعب لا يقوى على احتمال الجوع.
طرفة :
ونحن لم نعد نقوى على احتمال بكاء الأطفال وشكوى النساء.
علي :
فلنسلم ونحقن دماءنا لإنقاذ عيالنا.
ابن حامد :
والله هذا ذل لا يرضى به من يجول في عروقه الدم العربي، فلنكافح إلى النهاية ويفعل الله ما يشاء.
إبراهيم :
يا قوم، لا تغشوا أنفسكم بالمحال، ولا تظنوا أن ملوك الإسبان وافون بمواعيدهم لكم. إن الموت الأحمر أهون ما نتوقع، وإنما نحن مستقبلون أمرا أيسره اكتساح الأوطان، وفضيحة العيال، وانتهاب الأموال، وقلب المساجد، وتدمير المنازل.
موسى :
هذا عدا السوط والنار والنطع والنفي إلى غير ذلك مما نحن صائرون إليه. «فإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تكون جبانا»
1
أبو عبد الله :
كيف العمل؟ رجالنا يائسة، وخيولنا نفقت، وخزائننا فرغت، فمن منكم يقوم إلى الأعداء ؟
ابن حامد :
أنا لها! فإنني على أهبة المضي وقبيلتي في هذا السبيل، فخير لنا مرارا أن نعد فيمن استأكلهم الدفاع عن غرناطة من أن نعد في الأحياء من بعدها. وغدا - إن شاء الله - نقوم بالهجوم الأول، فلا نزال نكافح حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، فإما الموت وإما النصر.
موسى :
وأنا رفيقك يا ابن حامد.
أبو عبد الله :
عاشت همتك يا رئيس بني سراج، وبورك في إخلاصك!
ابن حامد :
نادتك أندلس فلب نداءها
واجعل طواغيت العدو فداءها
حاشاك أن تفنى حشاشتها وقد
قصرت عليك نداءها ورجاءها
جرد ظباك لمحو أجناد العدى
تقتل ضراغمها وتسب ظباءها
موسى :
هبوا لها يا معشر التوحيد قد
آن الهبوب وأحرزوا علياءها
دار الجهاد فلا تفتكم ساحة
ساوت بها أحياؤها شهداءها
أبو عبد الله :
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى
فأبصر شمل المشركين طريدا
وهل بعد يقضى في الأعادي بعثرة
تغادرهم للمرهفات حصيدا
اذهب يا علي وادع الرسول، واجلب علم الجهاد (يخرج علي)
فلنتكل على الله أيها الفرسان، ونرفض شروط الأعداء، وغدا يقوم ابن حامد بهجومه. (يسمع من الخارج صوت المؤذن فيقوم الجميع بفروض الصلاة، ثم يدخل علي والرسول وحمد حاملا العلم، فينحني الجميع أمام العلم.)
المشهد التاسع (أشخاص المشهد السابق كلهم - حمد حاملا العلم)
أبو عبد الله (للرسول) :
اذهب وقل لمليكيك أن ينكفئا على أعقابهما ولا يطمعا بالمحال.
ابن حامد :
غرناطة للمسلمين فقل لهم:
ما غير سيف المسلمين يسودها
هي قبة الدنيا ونحن نجومها
وهي العرين ونحن نحن أسودها
موسى :
قل لهم إنها أمنع من عقاب الجو ما دام فيها رجل عربي واحد.
إبراهيم :
قل لهم إنه إذا قدر الله وقضى كل شبانها في القتال؛ فإن شيوخها ونساءها يهبون للدفاع عن استقلالها.
أبو عبد الله :
إنهم يطلبون الجزية فأخبرهم أن دار سك النقد في غرناطة عادت لا تضرب فضة ولا ذهبا، بل سيوفا وحرابا! اذهب فأنت في أمان. (للحاجب)
خذه إلى دار الأضياف وأكرموا وفادته. (يخرج الرسول مع الحاجب.)
علي :
لقد أخطأنا برفض هذه الشروط؛ فقد كانت على تمام الموافقة.
أبو عبد الله :
ليقض الله بما يشاء، فلم نفعل غير واجباتنا. والآن هاك يا ابن حامد علم الجهاد (يأخذ العلم من حمد ويسلمه لابن حامد)
ولا أوصيك بالاحتراس عليه، فأنت أدرى بما تحكم شريعتنا على من يفقده، وفضلا عن ذلك فإنه مهر لدريدة إذا فقدته فقدتها. إن آمال الأمة العربية معلقة على بسالتك في موقعة الغد، فإلى الغد!
ابن حامد :
لعينيك يا دريدة، وإلى الغد. (يخرجون وفي مقدمتهم ابن حامد حاملا العلم، ولا يبقى غير علي وحمد.)
المشهد العاشر (علي - حمد)
علي :
أعندك للسر موضع يا حمد؟
حمد :
بئر عميقة لا تهتدي إليها الأبالسة.
علي :
وكيف أنت وابن حامد؟
حمد :
على ما يرام، فلو استطعت مزقته بأسناني.
علي :
وما هي منزلة الوطن عندك؟
حمد :
له عندي منزلة كبيرة، فهو في عرفي لا شيء.
علي :
وكيف أنت وارتكاب الجرائم؟
حمد :
لا قلب يرحم، ولا أذن تسمع، ولا ضمير يبكت.
علي :
أنت الرجل الذي أفتش عنه، وسأعتمد عليك في مهمة خطيرة.
حمد :
كلما صعبت المهمة كثرت لذتي.
علي :
ولك مني مكافأة عظيمة.
حمد :
ستقلدني منصبا، إيه؟
علي :
أراك تحب المناصب! لا، سأعطيك كيسا من الذهب الرنان.
حمد :
ماذا؟
علي :
كيسين من الذهب الرنان.
حمد :
كيسين من الذهب الرنان؟ أوه! وما هي هذه المهمة يا ترى؟
علي :
هي أولا أن تقتل الشيخ إبراهيم والد دريدة.
حمد :
مسألة بسيطة، أجره من لحيته بين سنابك الخيل حتى أنتزعها من أصلها مع اللحم والدم، وثانيا؟
علي :
أن تسرق العلم المقدس.
حمد :
أفتدعون تلك الخرقة مقدسة، بخ بخ ... وثالثا؟ أنا أقول لك: فأنت تريد مني قتل ابن حامد.
علي :
لم تصب المرمى، فأنا لا أزال بحاجة إلى حياة ابن حامد لتعذيبه. أريد منك بعد سرقة العلم طرحه في أيدي الأعداء.
حمد :
كل ذلك من أهون المهمات على من كان مثلي. أعطني ما وعدت به.
علي :
هذا كيس من النقود الذهبية، ومتى أتممت مهمتك أعطيتك الكيس الثاني، ولكن أوصيك بالكتمان التام عن أي كان (يعطيه كيسا) .
حمد :
كن براحة بال (يقلب الكيس بين يديه) .
علي :
والآن هل انتهت المهمة؟
حمد :
هذا ما أراه يا سيدي.
علي :
إذن تهيأ للغد ولا تنس العلم.
عليك سأتكل.
حمد :
على إبليس الاتكال. (ستار)
الفصل الثالث
بين الخداع والحب
المكان:
ضاحية من ضواحي غرناطة.
المنظر:
صخور وأعشاب ومضارب.
المشهد الأول (إبراهيم - دريدة - عثمان معتزلا)
إبراهيم :
لا فائدة من الجدل يا دريدة؛ فقد قضي الأمر.
دريدة :
أبت رفقا بضعفي، ولا تطوح بنفسك إلى الموت. إن نذيرا أنذرني بمكيدة مدبرة لاغتيالك وابن حامد.
إبراهيم :
وهل ترغبين أن نفر من وجه الموت؟ لا كانت حياة موردها الذل، وحبذا الموت في سبيل العز.
دريدة :
إذن اسمح لي بمرافقتكما لأرد عنكما بصدري طعنات الأسنة.
إبراهيم :
بل تعودين إلى الخدر، فما على الله أمر عسير.
دريدة :
أبت أشفق علي.
إبراهيم :
كنت أعهدك رابطة الجأش، فما أصابك؟ ألست مسلمة؟ ألا يجول دم العرب في عروقك؟ ألا تعلمين أن حياتنا وقف على سلامة الوطن؟
دريدة :
ولكنك يا أبتي شيخ مسن، وقد جاهدت كثيرا فآن لك الآن أن تستريح.
إبراهيم :
لن أستريح ولن أكف عن الوغى
حتى أرى وطني بأرفع منزل
إن كنت في سن الشيوخ فإن لي
عزم الفتى بين الرماح الذبل
1
دريدة :
لا أفهم ما تقول يا أبي، فأنا أكره هذه العقائد الجائرة.
إبراهيم :
هذا ابن حامد قادم؛ فكوني رابطة الجأش، ولا تتأخري عن العودة إلى المنزل. (لعثمان)
عد معها، ولا تتهامل بأمر حراستها حتى نعود. والآن إلى اللقاء يا بنيتي ولا توجسي شرا. (يقبلها في جبينها فتقبل يديه.)
دريدة :
حرسك الرحمن يا أبي. (يخرج إبراهيم، وبعد قليل يدخل ابن حامد.)
المشهد الثاني (دريدة - ابن حامد)
ابن حامد :
أمر عجب! فما أتى بك إلى هنا؟ وما هذه الصفرة المرتسمة على محياك؟
دريدة :
أتيت على جناحين من الحب والخوف، فإن الحبائل تنصب لك ولأبي.
ابن حامد :
خرافات عجائز؛ فلا تنزليها من نفسك منزلا.
دريدة :
ولكن قلبي وا أسفاه ينذرني بصحتها، أرى دماء حولي ولا أعرف دماء من هي، وأشعر بمصائب تتحفز للانقضاض علينا ولا أعلم ما هي. فللخوف رعشة تتملك علي مشاعري، فبالله لا ترم بنفسك بين أنياب الردى.
ابن حامد :
ومن أنبأك أنني أذهب إلى الموت بذهابي للدفاع عن وطني؟ إن جهادي ليس في سبيل بلادي فحسب، إنما هو في سبيل غرامي أيضا، أفلا يرقص فؤادك طربا إذا قال عنك هذا الشعب وأنا عامل على تحريره: هذه خطيبة منقذنا.
دريدة :
ولكنك ستقضي علي وعلى نفسك.
ابن حامد :
دريد، أنت أعز علي من الحياة، ولكن الواجب أعز علي منك.
دريدة :
إذن حارب وأنا أذهب معك.
ابن حامد :
وإلى أين تذهبين؟
دريدة :
وأنت إلى أين تذهب؟
ابن حامد :
أنا جندي أذهب للدفاع عن بلادي.
دريدة :
وأنا عاشقة أذهب للدفاع عن خطيبي.
ابن حامد :
تالله إنك لتهذين، ألا تعلمين أن على موقعة اليوم يتوقف مستقبل الإسلام والعروبة في هذه الديار، كما يتوقف مستقبلنا نحن أيضا؟ فإن أبا عبد الله جعل علم المملكة مهرا لك، فهل تريدين مني الانقياد لعواطفي واعتزال القتال، وأنا الذي أضحي بروحي في سبيل نظرة منك؟
إن لم نجد لبلادنا بدمائنا
ما أنت مسلمة ولا أنا مسلم «لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم»
2
دريدة :
أواه! فأنت لا تحبني.
ابن حامد :
ماذا؟ أحقا تنكرين صبابتي
كفرت لعمري بالهوى شفتاك
فأنا الذي لم أدر ما معنى الهوى
من قبل أن بعثت به عيناك
شفتاك ظالمة وقلبك ظالم
دريدة :
شفتاي كاذبة، فأنت ملاكي
ولديك مني شاهدان على الهوى
قلبي الخفوق جوى وجفني الباكي
روحي فداؤك يا ابن حامد في الهوى
ابن حامد :
وأنا حياتي يا دريد فداك
دريدة :
ولكن عاهدني أن لا تستهدف للأخطار، فإن بسلامتك سلامتي.
ابن حامد :
أعاهدك على ذلك أنت يا من بنظرة واحدة، وبابتسامة واحدة تكافئينني على كل ما أفعل. والآن أعطيني من هذا الجبين الناصع قبلة طاهرة هي القبلة الأولى، ولكنها قبلة الوداع.
قبلة من كوثر الأحلام ما
بين قلب يستقيها منه قلب
نفحة من أثر النفس على
طرف المبسم بالعطر تهب
نهزة يسمع منها نغم
كطنين النحل والفجر يدب
هي سر فضل الثغر على
الأذن غير الحس ليست تستحب
هي عهد ختمته شفة
حبذا ختم بحبر الريق عذب
هذه القبلة ما أجملها
نقطة تسكب في باء «أحب»!
دريدة :
عدني بأن لا تنساني. هات حسامك (تمسك حسامه وتربطه بمنديل)
هذا المنديل تذكار مني، وقد وشيته باسمينا رمزا لاتحاد قلبينا.
ابن حامد :
إذا افترقت الأجسام وتباعدت فلا تفترق الأرواح المتحابة.
وأنت عاهديني على حفظ عهدي ما دمت في قيد الحياة، وإذا مت فأنت طليقة من كل عهد.
دريدة :
إنني لك بكليتي في الحياة وفي الموت.
ابن حامد :
وأنا أعاهدك وأعاهد بلادي، فإذا عشت فلأجلكما، وإذا مت فلأجلكما. إلى اللقاء على الأرض أو في السماء. (يتعانقان.)
دريدة :
سر بنا يا عثمان. (تخرج ويشيعها ابن حامد بنظره حتى تختفي، فيصفق بيديه فيدخل عمر.)
ابن حامد :
انفخوا بوق الحرب. (تنفخ الأبواق، ثم يدخل القواد والجنود.)
المشهد الثالث (ابن حامد - إبراهيم - موسى - المنصور - عمر حاملا العلم - رجال بني سراج)
ابن حامد :
مرحبا بإخواني فرسان غرناطة وأبطال الأندلس، أحييكم وأحيي فيكم وارثي بطولة العرب ومجددي أمجادهم.
إنني لأشعر بروح أولئك الأجداد مختلجة بين ضلوعكم، وأرى يد طارق بن زياد مبسوطة فوق رءوسكم، روح الأجداد تناشدكم، وتبث نار الحماسة في قلوبكم، ويد طارق تبارككم وتقودكم في طريق المجد إلى ساحة النصر.
وإنني لأسمع من بعيد أصواتا تستصرخ هي أصوات الأمة العربية في الخافقين تهيب بنا، وتناشدنا أن نحرص على وديعة الجدود، فلا نخمد بأيدينا نور نجم سطع طيلة ثمانية قرون على هذه البلاد الجميلة.
فمن منا لا يلبي ذلك النداء ونحن أرباب السيوف وعنوان الإباء.
تالله يا غرناطة، يا عروس الأندلس، تركناك بين أنياب الجوع في وهدة اليأس، وعلى وشك التسليم، ولكن صبرا يا غابة الأسود، وبقوى فتوحات العرب في الغرب، فلن تنامي بعد اليوم على ضيم، ولن ينال العدو منك! إننا شربنا من مائك، ونشقنا من هوائك، ورأينا النور من سمائك ، فبسيوفنا نحميك ، وبأرواحنا نفديك.
أصبرا والبلاء طغى علينا
فلا خلف يجير ولا أمام
وحلما والعدو عدا علينا
فكان الموت أهون ما نسام
هوت أمجادنا لما هوينا
فلا رمح يقيل ولا حسام
ألا هبوا نعد بالسيف مجدا
لأجداد لنا بالسيف قاموا
وفوا قسط الحياة وهم كرام
وماتوا في الجهاد وهم كرام
إبراهيم :
أتنتزع الإمارة من يدينا
ويملكها من القوم الطغام
ونحن بنو الإمارة صاحبوها
قعود عند سدتها نيام
أيبطش في أسود الغاب ذئب
ويحكم في الكرام به اللئام
ولم يعتد بنو قحطان ذلا
ولم يعلق بعرضهم انثلام
موسى :
لئن سكتوا فرب سكوت ليث
يقصر عن بلاغته الكلام
ولم يرضوا بنير الذل، لكن
قضى الصبر التعقل فاستناموا
ولا يطفي الرماد لهيب نار
فتحت رمادها أبدا ضرام
ابن حامد :
حياكم الله وبياكم.
المنصور :
مرنا أيها الرئيس ترنا طوع أمرك.
ترنا إذا وقفت جهنم دون ما
نبغيه من فتك ومن إقدام
وطلبت منا المشي فوق لهيبها
سرنا بلا خوف ولا إحجام
ابن حامد :
أرى العدو يتحرك من مضاربه؛ فسلوا سيوفكم واصرخوا معي:
يا لثأر العرب! (يجرد سيفه فيجردون سيوفهم.)
الجميع :
يا لثأر العرب!
ابن حامد :
خذوا ثأر العقيدة وانصروها
فقد حامت على القتلى النسور
وموتوا كلكم فالموت أولى
لكم من أن تجاروا أو تجوروا (يخرجون منشدين.)
وغى وغى وغى وغى
حر الحرار والتظى
وملئت منه الربى
يا ما أحيلى الملتقى
يا قوم سلوا المرهفات
ثم اشحذوا بيض الظباة
ويل لقلب الأمهات
يصبحن يوما ثاكلات
بسيوفنا وحرابنا (يدخل حمد بعد خروجهم.)
المشهد الرابع (حمد وحده)
غنوا واهزجوا، واحلموا بالنصر؛ فسينقلب هذا الغناء عويلا، فأنا وراءكم أهيئ دماركم.
دارت رحى الحرب، وتلاحم الجيشان. إن النار تتصاعد من خلال الصفوف. هذا ابن حامد يفرق الكتائب ... لله دره من باسل! ولكنه لن يقوى على مناضلتي. هذا موسى ... إنه كالأسد الهائج، وهذا إبراهيم ... إنه يبارز قائدا إسبانيا، يا للعجب؛ فإن له عزم الفتيان، ظننت أن الشيب هد قواه، فكيف السبيل إلى قتله؟ هو قوي وأنا أرتعد من خيالي، ويقولون : إن الموت في المعارك أول ما يصيب الجبناء أمثالي، فكيف العمل؟
لم يبق لي غير الغدر؛ فلأحاربهم به. أتفق مع الإسبانيين فأدخلهم ليلا إلى مضارب بني سراج فيفتكون بهم وهم نيام، فأسرق علم الجهاد، وأفتك بالشيخ إبراهيم، وأغنم كيس الذهب الثاني.
إن ذلك سفالة في عرف من يدعون الشرف، لكنني - والحمد لله - لست منهم، فليقولوا عني ما شاءوا، فالشرف فارق نفسي منذ فارق الذهب جيبي.
حمي وطيس القتال، ورجحت كفة الفوز لابن حامد ... تقهقر الإسبانيون إلى الوراء ... لحق بهم العرب حتى المضارب ... توقف القتال ...
هذا ابن حامد وعشيرته يرجعون ثملين بخمرة النصر، فلأذهب لقضاء مهمتي وتدبير المكيدة. (يخرج وتسمع من الخارج أهازيج بني سراج.)
ورماحنا من خيزران
من خيزران رماحنا
وسيوفنا تقد الصخور
تقد الصخور سيوفنا
وخيولنا تجوب السهول
تجوب السهول خيولنا
راياتنا براس الجبال
براس الجبال راياتنا
المشهد الخامس (ابن حامد - إبراهيم - موسى - المنصور - عمر حاملا العلم - بضعة رجال من بني سراج «وكلهم شاهرو السيوف»)
ابن حامد :
ولما التقينا والأسنة شرع
ونادى المنادي لا نجاة من الحتف
عطفت على سيف المنية فانجلت
صفوف وكان الصف ألصق بالصف
فرحت وفي وجهي وجوه عبوسة
وعدت وأشلاء الفوارس من خلفي
وقسم سيفي القوم قسمة عادل
فأرضي الثرى بالنصف والطير بالنصف
إبراهيم :
أصليتهم نار الجحيم فأدبروا
تتعثر الهامات بالأقدام
ألقيت درسا في الطعان عليهم
خطت روائعه بحد حسامي
موسى :
لله قومي عند مشتجر القنا
إذ ثوب الداعي المهيب وأقبلوا
قوم إذا لفح الهجير وجوههم
حجبوا برايات الجهاد وظللوا
المنصور :
لله موقفنا الذي وثباته
وثباته مثل به يتمثل
والخيل خط، والمجال صحيفة،
والسمر تنقط، والصوارم تشكل
ابن حامد :
حياكم الله، أيها الفرسان، ولا شلت يمينكم، سيسطر لكم التاريخ هذا الموقف بمداد الفخر، فقد فتكتم فتك الأسود، وأظهرتم للعالم أن في المسلمين بقية تذود عن حياضها. إنني أرى الشعب العربي مكبرا لبسالتكم، ومهللا لانتصاركم من مكة المقدسة إلى بغداد دار السلام إلى دمشق عاصمة الأمويين إلى القاهرة قاهرة الفراعنة، وأشعر بعظام عبد الرحمن الداخل صقر قريش تهتز طربا في قبرها محيية فيكم إباء العرب.
أجل، إننا تركنا في ساحة المعمعة عشرات من الشهداء، ولكن قتلى العدو أضعاف قتلانا. رحم الله أولئك الشهداء، وجعل لكل منا نصيبهم، فمرحى لمن استشهد في سبيل الوطن.
أيها الأبطال، إن غدا الحد الفاصل بيننا وبين أعدائنا، فمن كان منكم أبا فليحارب في سبيل أولاده، ومن كان ابنا ففي سبيل والديه، ومن كان عاشقا ففي سبيل حبيبته، حاربوا في سبيل الوطن؛ لأن بحياته حياة الأمة العربية أجمع.
إبراهيم :
هذي السيوف جميعها ظمآنة
شوقا لنهل دم العدو المعتدي
وغدا يرون الموت بين صفوفهم
متنقلا فإلى غد ...
الجميع : ... فإلى غد (يغمدون سيوفهم.)
ابن حامد :
اذهبوا وانحروا الذبائح للجيش، وأعدوا لنا القهوة. (يضع عمر العلم في المكان المعد له ويخرج مع الجنود.)
المشهد السادس (ابن حامد - إبراهيم - موسى - المنصور)
ابن حامد :
كم بلغت غنائمنا اليوم أيها الرفاق؟
موسى :
لقد غنمنا من العدو مائتي مضرب، وثمانين حساما، وسبعين رأس غنم.
المنصور :
وغنمنا أيضا أربعين رأسا من الخيل، وثلاثة مدافع، وخمسين ثورا.
إبراهيم :
هذا عدا المآكل والمؤن والذخائر مما لا يحصى عدده. (يرجع عمر بقرب الماء وجرن قهوة يدق عليه أحد الجنود، ثم يوقدون النار ويشرعون بعمل القهوة.)
ابن حامد :
وزعوا غنائم الملابس والمآكل ورءوس الخيل والغنم على الجنود لحث حميتهم، واستنهاض همتهم. (تقدم لهم القهوة فيشرعون بشربها، ويسمع من الخارج صوت الدف والمزمار وأهازيج الجنود.)
إبراهيم :
لقد رجعت الحماسة إلى رجالنا بعد هذه الموقعة، فلله الحمد.
ابن حامد :
وهل نحرتم الذبائح وأطعمتموهم؟
عمر :
أجل يا مولاي.
ابن حامد :
وهل بعثتم بالرسل إلى غرناطة يحملون أخبار اليوم؟
عمر :
لقد ذهب المبشرون منذ أكثر من ساعة. (يدخل الجنود وهم يرقصون الدبكة برافقهم المجوز والدف وغيرهما، ويدورون على المسرح راقصين هازجين، ثم يخرجون.)
ابن حامد :
بقي علينا أمر حراسة العلم، فمن منكم يجد بنفسه القوة على السهر بعد تعب النهار.
إبراهيم :
أنا لها يا بني.
ابن حامد :
أنت يا أبتاه! أنت تقوم بهذه المهمة؟
إبراهيم :
أفلست أهلا للقيام بها؟
ابن حامد :
أنت أجدر الجميع ولكن ...
إبراهيم :
عزمت ولن أرجع عن عزمي. سأعود بعد قليل فابق بجانب العلم. (يخرج إبراهيم.)
ابن حامد :
وأنتم اذهبوا إلى خيامكم وخذوا لأنفسكم قليلا من الراحة، وكونوا مستعدين لكل طارئ.
المنصور :
كن براحة بال أيها الأمير؛ فلكل منا عينان؛ عين تنام، وعين ترقب.
ابن حامد :
حييتم يا بني سراج. (يخرج الجميع ما عدا ابن حامد.)
المشهد السابع (ابن حامد وحده)
نام الجميع وكيف النوم يطرقني
والنار في قلبي المشتاق تضطرم
ناموا هنيئا لكم إذ ليس يشغلكم
من الهوى أمل مثلي ولا ألم
أبيت وحدي في الظلماء تؤنسني
ذكرى دريد فتدميني وأبتسم
يرفرف المجد فوقي والغرام معا
كلاهما خافق ما يخفق العلم
طيران وكرهما قلبي وما برحا
فيه، قرى لهما لحم به ودم
المشهد الثامن (ابن حامد - إبراهيم)
إبراهيم :
قم إلى مضربك يا ابن حامد.
ابن حامد :
رجاء آخر يا أبت، أنا أحرس العلم مكانك.
إبراهيم :
لا تحاول منعي يا بني عن القيام بهذا الواجب المقدس.
ابن حامد :
إذن أستودعك الله، وإلى الغد. (يخرج ابن حامد فيتمشى إبراهيم قليلا.)
إبراهيم (يخاطب العلم) :
أيتها القطيفة الخضراء، يا رمز الأمل، وبنت المجد؛ اخفقي بما في صدرك من اختلاج قلوبنا، وميلي بما في عطفك من تردد أنفاسنا، واشمخي بما في تاريخك من عز غابر، وانتصارات باهرة، المجد نسر مرفرف عليك، والنصر فرخ خافق بين جناحيك، فيا لله ما أعظمك!
أنت صحيفة مجيدة شفار الأسنة أقلامها، ودم القلوب مدادها، وآي النصر كلماتها، وأنت وديعة ثمينة مرت على مر الأجيال من أيدي أبطال إلى أيدي أبطال، فكانت فخار الإسلام، ومحط آمال المسلمين. (يدخل حمد ويطعنه بخنجره وينتشل العلم.)
المشهد التاسع (حمد - ابن حامد)
حمد (والعلم في يده) :
قتلت إبراهيم وامتلكت العلم، فأصبت رميتين بحجر واحد، وغدا أصبح من الأغنياء فأكفر عما مضى. هه، هه، لقد وصل الإسبانيون فلأسلمهم العلم. (يخرج فيدخل ابن حامد.)
ابن حامد :
سمعت حركة فماذا جرى؟ أين العلم؟ هذا إبراهيم قتيل ... (يركع بجانبه)
إن يده باردة ولا أثر فيه للحياة ... رحمك الله يا والد الحبيبة، كان الأولى أن تموت في ساحة القتال لا غدرا وغيلة (تسمع ضجة من الخارج)
أسمع صليل سيوف ... يا بني سراج هبوا إلى سلاحكم (صراخ من الخارج)
خيانة، خيانة. (يدخل إلى المسرح جنود إسبانيون من جهة، وبنو سراج من الأخرى وهم مجردون سيوفهم، فيرخى الستار ثم يرفع عن جثة إبراهيم، وعن ابن حامد طريحا بين عدد من القتلى العرب والإسبان. وبعد قليل يدخل بنو سراج.)
المشهد العاشر (موسى - المنصور - عمر - بضعة جنود من بني سراج)
موسى :
هذه جثة ابن حامد. (يقترب الجميع منها ويركع موسى بقربه.)
شكرا لله فهو لا يزال حيا. (يأخذ بفحص جراحه.)
المنصور (وهو يفتش بين الجثث) :
إبراهيم قتيل، والعلم فقد، فتبا لهذه الليلة ما أشأمها!
موسى :
لنعتن الآن بابن حامد ونحمله إلى غرناطة، ثم نرسل رجالا يحملون جثة إبراهيم إلى ابنته. سيروا بنا يا بني سراج واحملوا أميركم. (يحملون ابن حامد ويخرجون، ثم تدخل دريدة.)
المشهد الحادي عشر (دريدة وحدها)
أين جثتك يا أبي؟ أين هي لأقبلها القبلة الأخيرة، وأزودها بالنظرة الأخيرة، وا تعس حظي! فأبي مات، وابن حامد جريح، وقد التقيت به يحمله رجال قبيلته، فأي رجاء لي بعد في الحياة؟ أين أنت يا أبي؟ (تفتش بين الجثث)
هذا هو، أبتاه، وا رحمتاه عليك (ترتمي على جثته) . (ستار)
الفصل الرابع
بين الجامع والنطع
المكان:
في حي بمدينة غرناطة.
المنظر الأول:
داخل منزل دريدة.
المنظر الثاني:
في السجن المظلم.
المنظر الأول (في منزل دريدة.)
المشهد الأول (دريدة وحدها)
أين أنت الآن يا أبي؟ وأين تسبح روحك؟ إنها لا شك في السماء تنظر إلي أنا الشقية ولا تمد يدا لمساعدتي. أرى الكون من بعدك قاعا صفصفا لأنك لست فيه، وأرى الناس كأنني لا أرى أحدا لأنك لست بينهم.
ابن حامد في غياهب السجن، وأبو عبد الله يريدني فريسة له. إنما خسئ الظالم؛ فلن يصل إلي وفي بقية روح. (يدخل عثمان.)
عثمان :
سيدتي، إن السلطان وعليا يطلبان المثول لديك.
دريدة :
وماذا يريدان مني ؟ إن منظرهما يهيج أحزاني، فهما سبب كل شقاء أصابنا. قل لهما: إنني مريضة (يخرج عثمان)
تبا لهما من ماكرين (يدخل عثمان) .
عثمان :
لم يذهبا يا سيدتي، وهما يلحان بالدخول.
دريدة :
قل لهما إنني مغمي علي ... ولكن لا، أدخلهما إلى هذه الغرفة، ولينتظراني قليلا؛ فإن بنفسي أشياء لذلك الطاغية. (تخرج وعثمان، وبعد قليل يدخل أبو عبد الله وعلي.)
المشهد الثاني (أبو عبد الله - علي)
علي :
وأي حرج عليك يا مولاي والقدر كان الحكم بينك وبين ابن حامد؟
أبو عبد الله :
لا أدري، وقد تكون في الأمر دسيسة منك أو من قبيلتك.
علي :
حلفة صادق يا مولاي، فلم يحدث شيء من ذلك؛ فكل ما حدث قضاء وقدر.
أبو عبد الله :
وهل يجدر بي الآن محادثتها في شأن الزواج وهي فيما هي عليه من حزن وأسف؟ إن الأولى بي تأجيل هذا الأمر إلى فرصة أخرى.
علي :
إن التأجيل قد يمكن العاشقين من الفرار.
أبو عبد الله :
ولكن دريدة متصلبة الرأي ثابتة على الود، فما أدرانا أنها لا تفضل الانتحار على هذا الزواج، فنكون جنينا جناية لا تغتفر.
علي :
فكرت بذلك كله يا مولاي، ووجدت له دواء ناجعا، فإنني استحصلت من أئمة غرناطة على فتوى بإعدام ابن حامد لفقدانه العلم المقدس، وها هي (يعطيه ورقة) ، فتخيرها بين اثنتين؛ إما تنفيذ حكم الإعدام بحبيبها، وإما العفو عن حياته وإبعاده عن غرناطة مقابل زفافها إليك.
أبو عبد الله :
تلك سفالة لم يقدم عليها أحد من أجدادي.
علي :
وما ذنبك والله قدر ذلك فكتب أن تكون هذه الفتاة من نصيبك؟
ها هي أقبلت يا مولاي، انظر إلى هذا الجمال الفتان، فقد زاده الحزن سحرا. لله ما أجمل عينيها المنكسرتين!
المشهد الثالث (أبو عبد الله - علي - دريدة)
دريدة :
السلام عليكما.
أبو عبد الله :
وعليك السلام، أما والله لقد فجعنا مصابك بأبيك كما فجع المملكة أجمع، ولكن هو حكم القضاء ولا مرد لأحكامه، وقد أتيت أعرض عليك مالي ورجالي، فأنا أعتبر نفسي في مقام والدك.
دريدة (ببرود ) :
أشكرك.
أبو عبد الله :
وعليك أن تتدرعي بالصبر، ولا تستسلمي إلى أشجانك، فقد مات رحمه الله بشرف كما عاش بشرف.
دريدة :
بل قل مات ضحية مكيدة هائلة دبرت له ولابن حامد.
أبو عبد الله :
ومن نقل إليك ذلك؟ إذا كان الخبر يقينا فويل لمن كاد لهما! فإذا كنت أرسلتهما إلى الحرب فلخير الوطن المجرد، وأقسم على صحة قولي.
دريدة :
إن المفسدين حولك كثيرون. طلبت مقابلتي لأمر، فما هو؟
أبو عبد الله :
أصغي إلي يا دريدة؟ فوالدك مات، وليس من الحكمة بقاؤك وحدك في هذا المكان.
دريدة :
وهل نسيت أن لي خطيبا ولست وحيدة في هذا العالم.
أبو عبد الله :
ومن تعنين به؟
دريدة :
وهل أعني به غير خطيبي ابن حامد.
أبو عبد الله :
يسوءني كثيرا أن أقوض صرح آمالك؛ فابن حامد خائن لوطنه، وقد سلم علمنا المقدس إلى الأعداء.
دريدة :
بربك يا مولاي، لا تقل لي هذا القول عن خطيبي، أفأفقد الاثنين في يوم واحد؟ إن ذلك لا يحتمل.
أبو عبد الله :
هي الحقيقة بأمها وأبيها، فاستعدي للذهاب إلى قصري مكافأة لخدمات أبيك.
دريدة :
إذا كان لأبي عندك من مقام فدعني هنا.
أبو عبد الله :
وهل تخالفين أوامري؟
دريدة :
بربك يا مولاي، ارفق بي، وارث لدموعي. خذ كل ما أملك ودعني لخطيبي ودعه لي، ألم تخفق جوانحك للحب فتشفق على المحبين؟
أبو عبد الله :
قلت ولن أرجع عن قولي.
دريدة :
أتريد أن أتبعك إلى القصر وخطيبي في ظلمات السجن يقاسي ضروب العذاب؟ لا، إن تحت هذه الثياب قلبا كبيرا يستقبح الخيانة، وفي هذه العروق دما حيا يعرف كيف يحب.
أبو عبد الله :
حذار أن تندمي حين لا ينفع الندم، فمن أشد المصائب يأس بعد أمل.
دريدة :
كل كلمة توجهها إلي تذهب أدراج الرياح، فأنت لا تعرف ما هو الحب، وهل تحسب أن المرأة تحب الرجل في السراء فحسب؟ وأن شفتيها لا تبتسمان له ما لم يملأهما بالطيبات؟ وأن صدرها لا يخفق له إلا إذا وشحه بالحرير؟ وأن أذنها لا تصغي إليه إلا إذا علق فيهما أقراط اللؤلؤ؟ لا، إننا كلما دهمتنا النوائب زاد فينا الحب.
أبو عبد الله :
ولماذا تحبينه هذا الحب؟ أفيقابلك هو بمثله؟ إنه هجرك ساعيا وراء المجد، فهل تعدين ذلك منه حبا؟ أما أنا ففي سبيل الحظوة بحبك لأترك السيف في غمده، وأترك الأعداء يتسلقون أسواري.
دريدة :
ربي لك الحمد، فحبيبي لا يحبني مثل هذا الحب، ولا يسعى إلى إلباسي ثوب عاره. إنه يحبني لأجلي أنا، يحبني ليجعلني سعيدة بسعادته، فخورة بفخره، أما أنت فتحبني لأجل نفسك، لأجل ميولك.
أبو عبد الله :
أنت لي ولن يغتصبك مني أحد.
دريدة :
رباه ما هذا الجور! خسئت يا أبا عبد الله! إنك انتظرت هذه النتيجة عندما دبرت تلك المكيدة الشائنة، ولكن ساء فألك!
أبو عبد الله :
لو لم تكوني امرأة خرقت فؤادك بحسامي.
دريدة :
من يقدم على المكايد يقدم على قتل النساء.
هاك صدري فاخرقه بالسيف واقتل
ني ترح مهجتي من الآلام
إنما الموت جل ما أشتهيه
حبذا الموت في سبيل الغرام
أبو عبد الله :
أما وقد أرادت هذه النتيجة، فلا بأس. فارقتني الشفقة عليك؛ فاستعدي لسماع الحقيقة، قضى القضاء بموت أبيك وبفقدان خطيبك العلم. وأبوك الآن من أهل القبور، كما أن خطيبك من أهل السجون، ولكنه صائر مصيره؛ فقد حكم عليه أئمة غرناطة بالموت لفقدانه العلم المقدس. وها هي صورة الحكم (يريها الورقة) .
دريدة :
تبا لك من غاشم (تجرد خنجرا)
إذا كان حكم على حبيبي بالموت، فأنا أسبقه إلى القبر.
أبو عبد الله (ينتشل الخنجر من يدها) :
قفي، فلي اقتراح أقترحه عليك؛ إذا قبلت بي بعلا لك عفوت عن حياة ابن حامد، واكتفيت بنفيه عن غرناطة.
دريدة :
إنك لن تنال مني غير جثة هامدة.
أبو عبد الله (لعلي) :
اذهب وجئني برأس ابن حامد.
علي :
سمعا وطاعة يا مولاي (يهم بالخروج فتمسكه دريدة) .
دريدة :
اصبر قليلا. إنهم سيقتلونه بسببي. أستحلفك يا أبا عبد الله بكل ما هو عزيز عليك، اعف عنه وأنا أفتديه بدمي، اقتلني ودع له حياته! ما ذنبه وهو الذي دافع مرارا عن عرشك، ووقف حياته على خدمتك.
أبو عبد الله :
إنه محبوب منك، وهذا كل ذنبه.
دريدة :
أعلى هذا الشكل تتعمد إهانتي؟
أبو عبد الله :
أفتعدين حبي لك إهانة؟ حسنا، اذهب يا علي ولا تعد إلا برأسه.
دريدة :
إن قوتي تتلاشى. لا، لا تذهب.
أبو عبد الله :
اختاري إذن بين الجامع والنطع.
1
دريدة :
سأقبل بهذه التضحية في سبيلك يا ابن حامد، فعفوا! سيروا بنا، وإلى الجامع (يخرجان ويبقى علي).
المشهد الرابع (علي وحده)
سر بها للزفاف وانعم بحسن
لم تنله إلا بسعيي ومكري
يا فؤادي بشراك بشراك أني
نلت ما أبتغي وأدركت ثأري
وبلوت الاثنين بالحزن والبعد
فويل الاثنين من نار شري
هي في حوزة المليك تعاني
مضض العيش في مغاني القصر
وهو في وهدة السجون يقاسي
لوعة الهجر في قيود الأسر
المنظر الثاني (في السجن: حصير بال، باب حديدي مع قضبان، ظلمة.)
المشهد الخامس (ابن حامد جالسا على الحصير يهذي)
خسرت شرفي ... أين العلم ... خيانة ... إلي يا بني سراج ... فقدتك يا دريدة ... (يستفيق.)
أين أنا؟ هذا المكان ليس مضربي ... وهذه الظلمة ... أتراني في السجن؟ (يفكر.)
أواه! لقد تذكرت ... ألم أكن في حلم؟ وفقدان العلم، وموت والد دريدة، وتشتت رجالي، إذن كل ذلك كان حقيقة.
ليتني بقيت نائما إلى الأبد فلم تتأكل هذه الحسرة فؤادي. تبا لتلك الليلة ما أشأمها! لا شك أنني كنت ضحية مكيدة هائلة. من دبرها؟ وهل يمكن أن يدبرها غير أبي عبد الله وعلي؟ فويل لهما من نقمتي!
ولكن ما تراه حل بدريدة بعد موت أبيها وسجني؟ لا شك أنها فريسة لأبي عبد الله جكط فكيف السبيل إلى الخلاص لأحميها؟ رب خلصني من هذا الأسر لأخلص نعجة طاهرة وقعت بين مخالب ذئاب كاسرة، حطم قيودي؛ فإن دريدة بحاجة إلي وإلى معونتي.
فدى لك سهد الصب يا منية الصب
وما تذرف العينان من مدمع صب
فدى لك قلب لا يلاقي سوى الشقا
فيضحي على كرب ويمسي على كرب
أراني أسيرا في السجون معذبا
ويا لعذاب في سبيل الهوى عذب
ألا نسمات من حماك عليلة
أحملها ما بي من الشوق والحب
ولو لم يكن قلبي لديك بعثته
إليك رسولا ثم عشت بلا قلب
حبيبة قلبي كيف حالك في النوى؟
أأنت على بعدي كما كنت في قربي؟
فيا ربي اجعلني فدى من أحبها
ولا تؤتها إلا السعادة يا ربي
وإن نحن كنا مذنبين فإنني
أكفر عن ذنب الحبيب وعن ذنبي (يدخل حمد وبيده قصعة فخار وكسرة خبز.)
المشهد السادس (ابن حامد - حمد)
حمد :
هاك يا سيدي ما تتقوت به.
ابن حامد :
لست في حاجة إلى الطعام؛ فاغرب عني.
حمد :
ما لسيدي منذ قدومه في حالة هياج؟ قد يضر هذا التصرف بصحتك.
ابن حامد :
أنا أدرى بما يضرني؛ فلا تطل الحديث.
حمد :
أظن أن الحب سبب ما بك. ألست عند ظني؟ أنت لا تزال عالقا بهوى تلك الماكرة دريدة، إيه.
ابن حامد :
ما تقول يا رجل؟ صه! فلو لم تكن من الصعاليك لكنت أؤدبك. سر من هنا في الحال.
حمد :
قلت إنها ماكرة ولا أزال أقول، وإذا شئت برهانا قدمته.
ابن حامد :
لا يجدر بي أن أصغي إلى كلامك؛ فأنت كاذب.
حمد :
وإذا كنت صادقا؟ إن دريدة بعد أفول نجمك التجأت إلى السلطان فعقد له عليها.
ابن حامد :
لا أزال أقول لك: إنك كاذب؛ فانصرف من وجهي.
حمد :
ولكني أثبت لك صحة قولي. أصغ جيدا، ألا تسمع أصواتا؟
إنها تقترب ... أعرني أذنيك؛ فاليوم يوم الزفاف.
ابن حامد :
كذب وبهتان.
حمد :
ولكن الأصوات اقتربت، أصغ ... (يسمع من الخارج هتاف الشعب: ليحي السلطان، لتحي الملكة دريدة!)
أسمعت؟ وهل فهمت ما يقولون؟ إنهم يصرخون: لتحي الملكة دريدة!
ابن حامد :
أسمع كل شيء ولا أصدق، فأنا في حلم.
حمد :
أفرك عينيك جيدا تر أنك في اليقظة.
ابن حامد :
لا لا، لا يمكن أن يكون ذلك. إن دريدة لا تقدم على هذه السفالة.
حمد :
ما أجهلكم أيها العشاق! تسلمون زمامكم لفتاة تخدعكم بحنوها، حتى إذا دارت عليكم الدائرة طرحتكم طرح النواة.
ابن حامد :
أيمكن أن يكون ذلك ... إنما هي الحقيقة بعينها، إنها كانت تخدعني؛ فتبا لها! ولكن ألا يمكن أن أكون ضحية مكيدة جديدة؟
حمد :
بلى، إنك ضحية خداع تلك الفتاة.
ابن حامد :
ومن يسألك أنت لتجيب؟
حمد :
حسبتك موجها إلي السؤال؛ فجاوبت الجواب الحق.
ابن حامد :
اخرج من هنا يا نذير السوء. (يهم بضربه فيهرب من أمامه.)
المشهد السابع (ابن حامد وحده)
لعلعي يا رعود، والمعي يا بروق، وتدفقي يا سماء بالصواعق، وتمخضي يا أرض بالزلازل، ففي البشر أقذار أجدر بها الحرق، وفي القلوب أفاع أولى بها السحق.
اسمعي يا سماء، واشهدي يا كواكب: كل ما في نفسي من عواطف قطرته، وكل ما في شبابي من آمال جمعته، فسكبت من ذلك الكل حبا شريفا طاهرا سكبته لدى عذراء حسبتها شريفة طاهرة، فإذا بها خداعة ماكرة، وها هي تسحق قلبي بيديها، وتدوس حبي بقدميها.
كم نادتني بحبيبها! وكم بكت لفراقي! وكم خفق فؤادها بقربي خفوق فؤادي! حتى إذا ما أفل نجمي نبذتني نبذ النواة.
يا أرض، إن نداك يمتزج بالتراب فيحول وحلا، ولكن الحب، ذلك الندى السماوي المتفجر من قلب السماء، أيمكن أن تحوله القلوب كما يحول التراب الندى؟ ويل لك أيها الكون! وويل لكم أيها البشر!
ولكن رباه ... إنني لا أزال أحبها ... ولا يزال قلبي يخفق لذكرها؛ دريدة، دريدة، لقد فقدتك إلى الأبد.
أرى أدمعي تنهل أنا الرجل القوي الذي لم يذرف دمعة في حياته، وأنا الذي لا يرهبني الموت ولو تجسم رجلا أشعر برعدة الذعر تتمشى في عروقي.
لتلعنك السماء يا من نغصت أيامي، لتلعنك السماء يا من خنت عهودي ... ولكن لا ... ليسامحك الله لقاء أيام سعيدة أوليتنيها، ليغفر لك الله ويملأ حياتك بالهناء؛ فإنني لا أجسر أن أدعو عليك بالشقاء.
وأنت يا من تضع ذراعك الآن بذراعها، حذار أن تعذبها؛ فجسمها أرق من أن يحتمل عذابا، حذار أن تكون سببا لبكائها؛ فإن عينها المنكسرة تقرحها الدمعة. كن رفيقا بها كي لا تتأسف على خيانتي فتصبح صفراء ناحلة. متى وضعت شفتيك على شفتيها فألهها عن تذكر قبلتنا الأولى، قبلة الوداع، فلربما بكت وأنا لا أتمنى لها إلا الابتسام!
ولكنني أشعر بألم. أرى دما يسيل من جسمي ... لقد تفتحت جراحي ... إنني من البشر، وهذا العذاب فوق طاقة البشر. (يقع مغميا عليه.)
المشهد الثامن (ابن حامد - علي - حمد)
علي :
أراه جثة هامدة، وأخشى أن يكون قد انتحر؛ فما انتهيت بعد من انتقامي.
حمد :
لم ينتحر يا سيدي، ولكنني جرحته في قلبه جرحا قاتلا.
علي :
مرحى لك يا حمد! وسأجزل لك المكافأة إذا كنت أقنعته بخيانة دريدة.
حمد :
لو كنت حاضرا يا سيدي لشاهدت عذابه، فإنه لعنها وتوعد السماء بقبضته، وبلغ به اليأس أشده حتى تفتحت جراحه.
علي :
ليتني شاهدته وهو على هذه الحالة.
ابن حامد (يهذي) :
دريدة، دريدة.
حمد :
قف هناك يا سيدي بينما أنبئه بقدومك (يبتعد علي)
بشراك يا ابن حامد؛ فقد نجوت. قف؛ فأنت مطلق السراح.
ابن حامد :
وبأمر من يطلق سراحي.
حمد :
بأمر الملكة.
ابن حامد :
وأية ملكة هذه؟
حمد :
ملكة غرناطة، أفنسيت أن دريدة تبوأت العرش.
ابن حامد :
ألم أكن في حلم إذن؟
حمد :
وها أنا أطلق سراحك امتثالا لأوامر سيدتي الملكة، فلا شك أنها ندمت على خديعتك؛ فاستحصلت من زوجها على هذا العفو بعد أن حكم عليك بالإعدام لفقدانك العلم.
ابن حامد :
وبأي شرط يطلقون سراحي؟
حمد :
بشرط أن تبرح غرناطة إلى الأبد. وقد عهدوا إلى سيدي علي بمرافقتك إلى المرية، ومنها تبحر إلى إفريقية. وها هو من عنده الخبر اليقين. (يظهر علي.)
علي :
قال لك الحقيقة؛ فاستعد للذهاب معي.
ابن حامد :
هه، أراك هنا يا علي، فمرحبا بك. أنا على أحر من الجمر لأراك، وأقول لك: إنك رجل سافل!
علي :
قه! قه! أنت في قبضتي وتتطاول علي؟ أنا لا ألومك؛ فمن فقد مثلك شرفه وحريته وحبيبته، قد يعذر على فلتات اللسان.
ابن حامد :
ما أنت إلا ذئب مخاتل، ولو كنت رجلا ما اعتصمت بالغدر لإدراك مآربك.
علي :
قد يكون قصدك أن تدفعني إلى قتلك فأخلصك من عذابك، ولكن ساء فألك؛ إن حياتك لثمينة عندي؛ فهي آلة لتنفيذ انتقامي. إنك ستحيا، ولكنها حياة أمر من الموت، ستحيا ولكن مرذولا من قومك، منفيا من وطنك، محروما من حبيبتك.
ابن حامد :
إن قلبا مثل قلبي لا يتسرب إليه اليأس، فالأيام بيننا.
علي :
فزت عليك يا ابن حامد؛ فلا تلبس الضعف ثوب القوة.
ابن حامد :
عش رجبا تر عجبا، فما الفوز إلا الفوز الأخير.
علي :
لن أخشاك بعد الآن؛ فرجالك قتلوا، ومن نجا منهم جريح في فراشه لن يمد يدا لنصرتك؛ فلا تعلل نفسك بالأمل. والآن سر معي وإلى إفريقية!
ابن حامد :
سأسير إلى إفريقية؛ فإن بين وحوش صحاريها نفوسا أعز من أبي عبد الله ورجاله، ولكن حذار يا علي فسأرجع.
علي :
إذا تمكنت من الرجوع فلا تحجم؛ أنا أنتظرك على باب السجن فلا تتأخر. (يخرج علي.)
المشهد التاسع (ابن حامد وحده)
غرناطة لعب الزمان بشملنا
وقضى القضاء فما لعهدك مرجع
ما أنت بعد دريد إلا مهمه
قفر، وما مغناك إلا بلقع
سأعود لكن كالصواعق حاملا
نارا تصب على بنيك فتصرع
متحفزا للثار وحشا ضاريا
يحلو له كرع الدماء فيكرع
أجل، سأعود يا غرناطة، فوداعا وإلى اللقاء! (يهم بالخروج ثم يرجع)
ولكن وقفة أيها المودع؛ فقد تكون آخر وقفة لك هنا.
هنا عش كان مأوى عاشقين في مقتبل العمر، هنا جلس وجلست للمرة الأخيرة، وهنا ناجته وناجاها فأقسم لها على تضحية حياته في سبيلها، وحلفت له أن لا تخون عهوده.
وسقط الدهر كالنسر على ذلك العش فحطمه. أما هو فما زال أمينا لعهودها، أما هي فخانته. ويا لها من خيانة!
إيه غرناطة! لقد كنت ربيعا لزهور آمالي. أما الآن فما أنت إلا خريف ذابل الإهاب، خريف تنثر الأيام أوراقه، فتحملها العواصف إلى الوادي، وادي الصدى، وادي الذكرى، حيث تدفن إلى الأبد.
هنا انفتح قلبي لحبها كما ينفتح كم الزهرة لاقتبال ندى الفجر، هنا سكبت روحي على قدميها، وأحببتها بكل ما في نفسي من الخوالج.
هنا كنا نتخطر معا والمنى ملء قلبينا، وهناك على تلك الساقية كم جلسنا وتناغينا، وهناك تحت تلك السروة كم هزجنا وابتسمنا! وهناك ... وهناك ... ويلاه إنني لا أقوى على تذكر تلك الأيام السعيدة! فقلبي يتحطم بين ضلوعي. سلام يا غرناطة، سلام يا مهد غرامي، وقبر آمالي! وحذار فانتقامي سيكون هائلا! (يخرج.) (ستار)
الفصل الخامس
بين الزوج والحبيب
المكان:
جنة العريف في قصر الحمراء.
المنظر:
أشجار، أزهار، مقعد خشبي، ظلمة يتخللها ضوء القمر.
المشهد الأول (دريدة مع وصائفها) (غناء من الخارج، وصائف حول دريدة، اثنتان منهن تحملان المراوح. بعد انتهاء الغناء ترقص الوصائف رقصا أندلسيا يرافقه الدف والفقاشات، وبعد أن ينتهين من الرقص ينحنين أمامها، فتقف وتشير إليهن بالخروج، فيخرجن وتبقى وحدها مع وصيفتها الأولى.)
دريدة :
قامت بنات الليل من خدرها
تخفق ما بين ضلوع الظلام
وقمت وحدي، لا فقلبي معي
نندب أيام الصفا والسلام
تخط بالدمع جفوني على
خدي ما يملي عليها الغرام
كم ليلة أحييتها للضحى
أبكي! وهل مثل عيوني تنام؟
فيا بنات الروض قومي ارقصي
حولي في الوادي وبين الإكام
وليبتسم وردك عن كمه
فالدهر أنساني ما الابتسام
المشهد الثاني (دريدة - ابن حامد في ملابس زنجي)
الزنجي :
سيدتي الملكة.
دريدة (بذعر) :
من أنت يا رجل؟
الزنجي :
لا تخشي شرا يا مولاتي؛ فأنا رسول ابن حامد إليك.
دريدة :
وما برهانك؟
الزنجي :
هو هذا المنديل (يعطيها المنديل) .
دريدة (تتأمل المنديل) :
أجل هذا هو المنديل الذي ربطت به حسامه يوم ذهابه إلى المعركة (على حدة)
فلأتكتم أمام هذا الرجل؛ فقد يكون آتيا لخداعي (للزنجي)
وأين سيدك الآن؟
الزنجي :
على الطريق يا مولاتي، وقد أرسلني لأبشرك بقدومه.
دريدة :
وإلى أين هو قادم؟
الزنجي :
إلى غرناطة؛ فقد لج به الشوق إلى رؤيتك.
دريدة :
ولكن ألا يعلم أن الموت يترصده في دخوله إلى غرناطة؟ وما الذي يريده مني؟ إنني امرأة متزوجة، ومن واجبي المحافظة على عرض زوجي؛ فلا يمكنني مقابلته.
الزنجي :
إذن صح ظني؛ فقد خدعت.
دريدة :
رباه! إنني أعرف هذا الصوت.
الزنجي :
وتعرفين صاحبه أيضا (يكشف قناعه)
أعرفتني الآن؟
دريدة :
ماذا؟ ابن حامد، أنت هنا؟ (تقترب منه فيبتعد عنها.)
ابن حامد :
إني هنا وحذار أن تدني إلى
صدري فإن بجوفه نيرانا
والهف نفسي إذ تحققت الذي
قالوا وكنت أظنه بهتانا
ألأجل هذا التاج خنت متيما
ضحى لديك بقلبه قربانا؟
ألبسته ثمنا لحسن لم يكن
عهدي بأن لبيعه أثمانا؟
دريدة :
أتشك في حبي إذن؟
ابن حامد : ... لا إنما
زدت الهوى حتى استحال هوانا
حقا بأنك في الغرام وفية
ترعى العهود وتحفظ الأيمانا
لو كنت أعلم أن رأسك مغرم
بالتاج تبهره الحلى لمعانا
لدخلت حتى بيت ربي سارقا
وقتلت حتى الغول والشيطانا
وأتيت دارك حاملا عوضا عن
التاج الذي تبغينه تيجانا
ونزعت من عيني الضيا نورا لها
وسكبت من دمعي لها مرجانا
دريدة :
ويلاه، إنه يتهمني! ابن حامد ...
ابن حامد :
ولكنك جميلة بهذا التاج، فهو يستحق تلك التضحية. أنت فتانة بهذه الملابس؛ فهي تزيدك تيها ودلالا، جذابة بهذه الجواهر؛ فقد جعلتك مشعة كالفجر، متلألئة كالليل، فانعمي بها! أما أنا، فمن أين لي مثل هذه النفائس لأقدمها إليك؟ لم يكن لي غير قلبي، ولكنك لم تكتفي به.
دريدة :
ابن حامد، ماذا أصابك؟ أصغ إلي.
ابن حامد :
ولكن ... ألا تشعرين بثقل هذا التاج وقد حمل عار الخيانة؟ ألا تشعرين بوخز هذه اللآلئ وقد تلطخت بدم الجريمة؟ وهذه الثياب، ألا تشعرين بلذعها وقد شبت بها نار الغدر؟
دريدة :
رحماك لا تزد (تسقط على المقعد) .
ابن حامد :
هه، هه. إنها تتنازل لاستعطافي وهي ملكة متوجة، ولكنك جديرة بعظمة الملك، وما أنا غير شقي لا يريد إلا الموت. (يركع ويقدم إليها خنجرا) فهاك روحي واختطفيها. هذه الروح التي لم تخفق إلا لك. (تقف وتنتزع منه الخنجر وترميه على الأرض.)
دريدة :
أهذا اعتقادك في يا ابن حامد؟ أهذا جزائي على التضحية التي احتملتها لأجلك؟ ويل لكم أيها الرجال ما أقسى قلوبكم!
ابن حامد :
ولكن ...
دريدة :
أفتظن أنني سعيدة؟ أنا التي احتملت ما لا يحتمله بشر. ألم تدر أنني ضحيت بقلبي وجسدي في سبيل تخليص حياتك؟
فأتيت تطلب مني أن أقضي على تلك الحياة، وقد دفعت ثمنا لها دم قلبي، ودمع جفوني؟
ابن حامد :
ما تقولين؟ أخال نفسي في حلم ... بربك أعيدي ما قلته! إذن لم يتغير قلبك علي؟
دريدة :
أصغ إلي يا ابن حامد. إنني لا أخاف الموت، ولو قدرت أن أراك قبل زفافي لحملت إليك مثل هذا الخنجر وقلت لك: لنمت معا ... ولكنني كنت أمام أبي عبد الله بين إعدامك أو امتلاكي. فتأمل في موقفي، واحكم على سلوكي.
ابن حامد :
اسمعوا، انظروا؛ إنها ضحت بنفسها لأجلي، فكانت لعنتي جزاءها، (يركع)
عفوا يا دريدة، عفوا أيها الملاك؛ إنهم خدعوني فاتهمتك بالخيانة، اصفحي عني فقد تجاوزت بفظاظتي كل حد.
دريدة :
قف يا ابن حامد، فأنا لا ألومك، أنا الأولى بطلب الصفح، ولكن خوفي عليك كان سببا لما جرى، فلا يزال فينا نحن النساء موضع ضعف مهما تبلغ قوتنا.
ابن حامد :
ويل لأبي عبد الله، فسيرى كيف ينتقم ابن حامد من أعدائه.
دريدة :
لا يا ابن حامد، لا تفتكر بالانتقام؛ إن أبا عبد الله زوجي، فكيف تلطخ يديك بدمه؟ فإذا كنت لا تزال تحترمني فابتعد عن غرناطة.
ابن حامد :
وأية لذة لي في هذه الحياة وأنا بعيد عنك؟
دريدة :
ليس لي غير كلمة أقولها لك: إن الشرف يمنعني عن أن أراك. فقدت كل شيء في هذا العالم، ولم يبق لي غير الشرف، ولن أعبث به.
ابن حامد :
إنني - والله - لأكبر فيك هذا النبل! ولكنني في موقف لا ينقذني منه غير الموت.
دريدة :
وما يدفعك إلى الموت وإلى خنق هذا الحب المتقد في قلبينا؟ أنت ستتعذب، ولكن عذابك لن يبلغ عذابي، فكما اشتريت أنا بحياتي حياتك، اشتر أنت بحياتك حياتي، ولتكن ضحية بضحية.
ابن حامد :
وكيف أعيش بلا أمل لقاء؟
دريدة :
ألم تسمع بأخبار بني عذرة؟ ليكن حبنا إذن مثل حبهم، لنعش كما عاش جميل وبثينة، ولنحب كما أحب كثير وعزة.
ابن حامد :
أمرت بأن يحيا وها هو طائع
فتى لم يكن طوعا لغيرك لبه
أيعصي مقالا من شفاهك صادرا
ولو كان في الأمر الذي رمت نحبه
إذا كان فيما قاله لك مغلظا
وشك ولو حينا بقلبك قلبه
فلا تعذليه فالغرام أضله
وإن كان ذا ذنب فحبك ذنبه
قفي واسمعي نجواه قبل وداعه
وبالله قولي: لا أزال أحبه
دريدة :
إنني أسمع حركة؛ فاذهب يا ابن حامد ولا تنس ما قلته لك عن استحالة لقائنا. انظر إلى هذه الشجرة، إن دريدا تبكي في ظلها كل مساء.
ابن حامد :
كما تريدين فوداعا. (يقبل يدها ويخرج.)
دريدة :
يا سماء، إنني احتملت فوق ما يحتمل البشر، فمتى ينتهي عذابي؟
ابن حامد، أحببتك وأحبك وسأحبك إلى الأبد! (تخرج.)
المشهد الثالث (علي - حمد)
علي :
أرأيت وسمعت يا حمد؟
حمد :
لم تفتني كلمة واحدة.
علي :
ابن حامد، وفي قصر السلطان! تلك جرأة لم يسمع بمثلها! فلنسرع بنقل الخبر إلى أبي عبد الله؛ فيأمر بالقبض عليه.
ولكن ... بأية جريمة نتهمه؟
حمد :
نتهمه بما رأينا.
علي :
وما رأينا ولم يكن بينهما ما يريب؟! (تطل دريدة من الكواليس وتتراجع إلى الوراء.)
حمد :
ولكنك على خطأ يا سيدي، ولم تر جيدا ولم تسمع ما قيل، فأنا رأيته يضمها إلى صدره، وتضمه إلى صدرها، كما رأيته يعطيها خنجره لتقتل به السلطان.
علي :
كيف لم أر ما رأيت ولم أسمع ما سمعت؟
حمد :
يجب أن تقول إنك رأيت ذلك؛ إذن كيف نثبت عليهما الجريمة؟
علي :
أحسنت كل الإحسان والخنجر لا يزال هنا شاهدا عليهما؛ فلنسرع إلى القبض على ابن حامد قبل أن يتمكن من الفرار. (يخرجان وتدخل دريدة.)
المشهد الرابع (دريدة وحدها)
لقد قضي علينا؛ إنهم يدبرون مكيدة للفتك بابن حامد، فيا رب خذ بيدنا وخلصنا من هذا المأزق! إن ابن حامد بريء، وسيلصقون به أشنع التهم فلا يكون نصيبه غير الموت.
هذا أبو عبد الله خارج من قصره، ورفيق علي يقص عليه ولكن عكس ما رأى. إنه يرتجف غيظا ... إنه يتهدد ويتوعد. أرى الرجال تقوم إلى سلاحها، لقد تفرقوا كل منهم في جهة ليسدوا المنافذ على ابن حامد؛ فلأرسل من يعلم بني سراج بما جرى ، فيهرعون إلى إنقاذ أميرهم؛ إنه بريء يا إلهي؛ فليس من العدل أن يموت. (تخرج.)
المشهد الخامس (أبو عبد الله - حمد)
حمد :
هنا كانا يا سيدي، وها هو الخنجر. (يلتقط الخنجر ويقدمه لأبي عبد الله.)
أبو عبد الله :
رباه! هذا خنجره بعينه، فويل له وتبا لها! هو يسطو على عرضي، وهي تتلاعب بشرفي ... لقد اتفقا على اغتيالي، فيا لانتقامي! سأقتل زوجتي، سأقتل ابن حامد، سأقتل كل بني سراج (لحمد)
ألم يظهر علي بعد؟
حمد :
كلا يا مولاي، ولكنه لن يرجع قبل أن يقبض عليه.
أبو عبد الله :
إذا قيض له الإفلات من يدي؛ فسأقلب غرناطة رأسا على عقب للعثور عليه! إنه جرحني في شرفي، جرحني في قلبي، فويل له!
حمد :
ظهر علي، فيا له من باسل!
أبو عبد الله :
أرى بقربه رجلا بملابس الزنوج.
حمد :
هو ابن حامد وقد تنكر بها كي لا يعرفه أحد.
أبو عبد الله :
شكرا لله؛ فقد قيض لي أن أنتقم.
ابن حامد (من الخارج) :
دعني؛ فأنا أسير وحدي، ولن أحاول الفرار، فأنا أسيرك.
علي :
أعرفت الآن لمن الفوز الأخير؟
المشهد السادس (أبو عبد الله - حمد - ابن حامد - علي)
أبو عبد الله :
مرحبا بقائد جيشي الخائن وطنه.
ابن حامد :
لا تهني يا أبا عبد الله؛ فأنا شريف والأشراف لا يهانون.
أبو عبد الله :
لا أعهد الأشراف يتسللون إلى القصور تسلل اللصوص.
ابن حامد :
والآن ما تريد مني؟
أبو عبد الله :
عرفت برجوعك من المنفى، فبعثت في طلبك لأرجع إليك خنجرا وجده أحد رجالي هنا. أليس لك؟
ابن حامد :
بلى، هو لي.
أبو عبد الله :
وكيف وجد هنا؟ وما سبب رجوعك إلى غرناطة بعد أن نفيتك عنها؟
ابن حامد :
لا جواب عندي على ما تسألني.
أبو عبد الله :
وكيف تجاسرت على الاجتماع بزوجتي؟ أوتجهل ما تحكم به الشريعة على من يفعل فعلك؟ أتنكر أنك قابلت دريدة؟ أجب ... ولكنك لا تجسر على البوح بسفالتك يا خائن.
ابن حامد :
قلت لك لا تهني؛ فأنا مستعد لاحتمال كل عقاب عدا الإهانة .
أبو عبد الله :
لو كنت ممن يحافظون على كرامتهم لما تركت سبيلا إلى إهانتك! ولكنك ستعاقب أشد عقاب أنت وزوجتي، فتعلمان كيف يقتص أبو عبد الله من الخونة أمثالكما.
ابن حامد :
يا أبا عبد الله، إن الموت أقصى مناي، فاقتلني ومتع عينيك بمشهد طالما اشتهته عيناك، ولكن دريدة بريئة، وأقسم على ذلك بالسماء، وبالله الذي سأقف الآن أمامه.
أبو عبد الله :
كذبت يا ابن حامد.
ابن حامد :
وبأية جريمة يتهمونها؟ ومن يتهمها؟
أبو عبد الله :
يتهمونها بالتآمر معك على الفتك بي، وقد أعطيتها هذا الخنجر لتقتلني به. أما الذي يتهمكما فهو أمامك (يشير إلى حمد) .
ابن حامد :
كاذب - والله - هذا الرجل.
حمد :
الكاذب من أنكر جريمته وقد وضحت وضوح الشمس.
ابن حامد :
وما دليلك يا رجل؟
حمد :
دليلي عيناي وأذناي؛ فأنا والحمد لله لا أعمى ولا أصم، وقد رأيت وسمعت فلا تنكر.
ابن حامد :
أأنت سمعتنا نتآمر على أبي عبد الله؟
حمد :
نعم، نعم، نعم. أتريد أكثر من ذلك؟ وسيدي علي كان حاضرا وقد رأى ما رأيت.
علي :
أشهد بصحة ما قاله حمد.
ابن حامد :
أيها الرجلان، إن للدينا آخرة، وللإنسان ضمير يبكته، فأنتما تكذبان، ودريدة بريئة.
علي :
أقر بكل ما كان يا ابن حامد، فذلك خير لك وأبقى.
ابن حامد :
إن هناك دما بريئا ستهدره، فلتسقط تبعته على رأسك.
حمد :
وأنا أشاطره حمل النصف.
حاجب (من الخارج) :
ولكن الدخول ممنوع.
دريدة :
أنا الملكة آمرك؛ فعليك بالطاعة.
حاجب :
هذه أوامر سيدي السلطان.
أبو عبد الله :
دعها تدخل لتشاهد بأم عينها عقاب خليلها.
المشهد السابع (أبو عبد الله - ابن حامد - علي - حمد - دريدة)
دريدة (تركع على قدمي أبي عبد الله) :
حذار من الحكم عليه؛ فإنه بريء. وهذان الرجلان كاذبان، وقد سمعتهما يتآمران علينا.
أبو عبد الله :
أنت الكاذبة يا خائنة.
ابن حامد :
قفي يا دريدة؛ فلا يجدر بك الركوع أمام هذا الظالم، (يرفعها عن الأرض)
ومتى كانت الملائكة تركع أمام الأبالسة؟ دعيني أموت فإن الموت أقصى مناي.
دريدة :
وكيف تموت وأنت البريء؟ أنا المذنبة يا أبا عبد الله، أنا التي دعوته إلى مقابلتي، ويشهد الله أننا لم نتآمر عليك، ولم يكن في اجتماعنا ما يريب، فأنا المذنبة أنا وحدي.
أبو عبد الله :
تبا لك من خائنة! سلمتك شرفي فتلاعبت به، ووضعت بين يديك قلبي فسحقته، فاستعدي للعقاب الهائل عقاب الزوجة الخئون.
دريدة :
عاقبني بما شئت، ولكن أبق على حياته فهو بريء.
ابن حامد :
نفذ بي حكمك يا أبا عبد الله، ولا تصغ إلى كلامها؛ فأنا المذنب.
أبو عبد الله :
ستموت الآن تحت سيف الجلاد، وستتبعك هي عن قريب.
دريدة :
لا، لا، إنك من البشر، وفي قلبك شيء من العواطف. إنك شاب ولن تقتل شابا بريئا في مقتبل العمر، إن ساعته لم تحن، إن ظهره لم ينحن بعد لتقصفه العاصفة، إن رأسه لم يطأطأ ليمر تحت سقف الضريح. إن الله وهبه القوة والشباب، فكيف تطفئ هاتين العينين المتقدتين بالحياة، وتشل هذه اليد التي طالما قاتلت في سبيل عرشك؟
ابن حامد :
لا أريد أن تستعطفي هذا الظالم؛ فاحترمي إرادة الرجل الواقف أمام الموت، واذهبي من هنا.
دريدة :
أنت قادر أيها السلطان، وما أجمل قدرتك إذا قرنتها بالعدل!
أبو عبد الله :
اسمعوا، إنها تطلب أن أبقي على عشيقها لترجع إلى خيانتي.
دريدة :
إنك غيور منه، فاعف عنه، وأعاهدك أن لا أراه مدى الحياة، ولا أسمع صوته، ولا أتمثله في مخيلتي، فلا يكون أحد مزاحما لك على قلبي. (تسمع حركة من الخارج وصليل سلاح، ويدخل أحد الحجاب.)
الحاجب :
سيدي، إن بني سراج طوقوا القصر وهم يطلبون ابن حامد.
أبو عبد الله :
سر يا علي واجمع رجال القصر، وإذا احتجت إلى حامية الأسوار فادعها لمساعدتك، وأنت يا حمد، اذهب بابن حامد بعيدا واقطع رأسه. (يخرج علي.)
دريدة :
ملكي، زوجي، رويدا، رحمة
فبريء هو ...
أبو عبد الله : ... لا يجدي الكلام
دريدة :
ذنبي الذنب فاعدمني أنا
إنما قتل البري أمر حرام
ابن حامد :
اسكتي، بالله لا تصغ لها
أبو عبد الله :
سر به حالا ...
ابن حامد :
على الدنيا السلام
سر بنا فالموت أقصى منيتي
حبذا موتي في ظل الغرام
ووداعا يا دريد
دريدة : ... لا، أنا
بدمي أفديك من سهم الحمام
اقتلوني واتركوه
أبو عبد الله :
انظري! ...
دريدة :
قتلوه آه يا ويح اللئام (تسقط مغشيا عليها.)
أبو عبد الله (يقف على طرف المسرح) :
عشتم أيها الأبطال، سر يا علي برجالك إلى ورائهم وطوقوهم، لا شلت يمينكم، اتبعوهم ولا تبقوا على أحد منهم. (يخرج، ويدخل حمد بعد أن يوصل جثة ابن حامد إلى طرف المسرح.)
حمد :
أنهيت مهمتي وقتلت ابن حامد، فأصبحت من الأغنياء (يضرب على صدره فترن الدراهم)
فلأذهب إلى بلاد بعيدة قبل أن يطلع السلطان على الحقيقة فينفضح أمري. إن رجال ابن حامد ملتحمون مع رجال السلطان؛ فلأهرب وأنج بنفسي. (يهرب.)
المشهد الثامن (دريدة وحدها) (تفيق شيئا فشيئا من إغمائها.)
أين أنا ... ما هذا الحلم الذي ساورني؟ ... رباه، أيمكن أن يكون حقيقة موت ابن حامد؟
قتلوه، لا، لا أصدق هذا
فأنا في مهامه الأحلام
أومن كان مثله في ربيع
العمر يقضى عليه بالإعدام
أومن كان بقربي منذ ساعة ميت؟ ميت لن أسمع صوته ولن أرى محياه؟ ميت تقف بيني وبينه الظلمات؟ أتلك العيون المتقدة حبا، وتلك الشفاه الباسمة زهوا، وذلك الجسم الممتلئ حياة، أفتلك كلها لم تعد شيئا؟
لا، لا، ما أنا إلا على ضلال، فهو لا يزال حيا، حيا يتشوق إلى لقائي، فإذا كان في الكون عدل فحبيبي لا يموت.
ولكن ... ما هذه الرعشة المتسربة في عروقي ... ما هذه الدماء ... (تقف فيقع نظرها على الجثة)
ماذا أرى؟ (تغطي عينيها ثم تضحك ضحكة جنون)
هو، هه، هذا ابن حامد، هو نائم ... وجدتك أخيرا، كنت أبحث عنك يا حبيبي، فأين كنت؟ ... لقد خيل لي أنهم قتلوك. أنا أنتظرك للذهاب إلى الجامع، فقم بنا.
قف حبيبي أنا عروسك أدعوك
فهيا واعطف على آلامي
قم إلى العرس، قم فنمشي
إلى الجامع بين الهتاف والأنغام
ألا تسمع هتاف الشعب؟ إنهم ينتظروننا لحفلة الزفاف، فهيا بنا، هات يدك لأضعها بيدي، ولكن ... ما لك لا تجيب؟ ألا تسمع صوتي؟ أما كنت تقول: إن صوتي يوقظك حتى من الموت؟ ...
انتظره أيها الشعب؛ فحبيبي نائم وسأوقظه، انتظر أيها الإمام؛ فنحن سائران إليك. حبيبي نائم، هاتوا له عباءته، وهاتوا له حسامه ... قم يا ابن حامد (تشير إلى النجوم)
ها إن السماء أوقدت مصابيحها لتنير طريقنا، وهذا دخانها متلبد حولها ... هاك هذه الزهرة (تقطف زهرة وترميها على الجثة)
ضعها على صدرك. (يدخل أبو عبد الله.)
المشهد التاسع (دريدة - أبو عبد الله)
دريدة :
أنت قادم لتقول لنا: إنهم ينتظروننا. اصبر قليلا، فحبيبي لا لا يزال نائما.
أبو عبد الله :
رباه ماذا أرى؟ مجنونة ...
دريدة :
إنني أعرف هذا الوجه، فقد رأيته مرارا ... أنت ... أنت ... لا أدري ولكنك أنت الذي ألبستني هذه العباءة، أنت الذي وهبتني هذا التاج. وهذه الجواهر أنت خلعتها علي، ولكنني لا أريدها، خذها فلا حاجة لي بها (تنزع العباءة والتاج والجواهر وترميها بوجهه)
إن ابن حامد يكفيني، وسيقدم لي ما هو أثمن؛ سيعطيني قلبه.
أبو عبد الله :
دريدة، ما أصابك؟! ارجعي إلى نفسك.
دريدة :
من أنت أيها الواقف هنا؟ اذهب، اذهب، دعني مختلية مع حبيبي، ولكن لا، أوقظه من نومه وليلبس ثيابه وينتظرني. أنا ذاهبة للتردي بثوب العرس؛ فابق معه وحافظ على حياته، إنهم يريدون قتله فحذار. (تخرج.)
أبو عبد الله :
مجنونة، وأنا سبب جنونها. ويحا لنفسي، وتعسا لحظي! أيبلغ الحب في القلوب هذا المبلغ؟ يا لفظاعة جرمي! إنني انتزعتها منه كما ينتزع الطفل من مهد أمه، والقلوب لا تؤخذ بالقوة، عاقبني يا إلهي؛ فأنا وحش ضار لا يستحق الرحمة، ماذا؟ الرأس يتحرك؟ إنه يئن، ماذا أسمع؟ (أصوات بني سراج من بعيد صارخة: الثأر، الثأر)
إنه يطلب الثأر مني، إنه يمد يده للانتقام! (يبتعد برعب)
ما هذه الأشباح المحيطة بي؟ إن النقمة في عيونها، والنار في أيديها! أيها الحجاب، أدركوني! (يدخل حاجب) .
الحاجب :
بماذا يأمر مولاي؟
أبو عبد الله :
ماذا؟ ماذا؟ من دعاك؟ قف، خذ هذه الجثة وارمها بعيدا. (يأخذ الحاجب الجثة ثم تدخل دريدة وشعورها مشوهة .)
دريدة :
ألم توقظه بعد؟ (تلتفت حولها)
ولكن أين هو؟
أبو عبد الله :
هدئي روعك يا دريدة.
دريدة :
من يدعوني باسمي؟ ابن حامد ... أين أنت؟ كيف تركته يذهب، ألم أعهد إليك بحراسته؟ كيف هرب مني؟ إنه لا يحبني ... ولكن لا، ربما أنهم قتلوه ... (تلطم خدها)
ها هو ... إن السيف مجرد فوق رأسه، هجموا عليه، سيقتلونه، ويل لك ... أنت سبب موته ... ألم أقل لك: لا تتركه؟ (تهجم عليه فيهرب من وجهها)
ولكنهم لن يصلوا إليه؛ أنا أخلصه من سيوفهم؛ هو عريسي ولن أتركهم يقتلونه يوم العرس. (تخرج.)
أبو عبد الله :
ما هذه المصيبة الفادحة؟ إن جنونها مطبق؛ فارحمها يا إلهي! (يدخل الحاجب.)
الحاجب :
مولاي، إن عليا جرح في خلال المعركة بيننا وبين بني سراج، وهو يطلب المثول لديكم.
أبو عبد الله :
جيئوا به. (يقف مذهولا حتى يدخل رجلان يتوكأ عليهما علي وهو جريح.)
المشهد العاشر (أبو عبد الله - علي - جنديان)
علي :
لم يبق لي إلا دقائق معدودة ... وأنا الآن تحت نقمة الضمير ... فأرجو أن تصغي إلي وتصفح عني ... إنني سافل وقد خدعتك ... أنا الذي دبرت سرقة العلم، فحكم بسببه على ابن حامد بالإعدام ... وأنا الذي سعيت بقتل إبراهيم ... وابن حامد بريء، وكذلك زوجتك ... هما بريئان من التآمر عليك ... ولم يوجد الخنجر هنا إلا لأن ابن حامد كان يهم بالانتحار به، ولم يحدث بينه وبين الملكة ريبة ...
أبو عبد الله :
أحقا ما أسمع؟ تبا لك من ماكر! ... وما دفعك إلى هذه الجرائم كلها؟
علي :
لم يدفعني غير الحسد، فأطلب عفوك ... أرى ساعتي تقترب. هذا شبح ابن حامد يتقدم مني ... إن نظراته نارية ... عفوا يا ابن حامد عفوا. (تفيض روحه.)
أبو عبد الله :
لا رحمك الله. خذوه وليدفنوه. (يدخل حاجب.)
الحاجب :
مولاي، إن سيدتي الملكة.
أبو عبد الله :
وما أصابها؟ قل ...
الحاجب :
مصيبة عظيمة يا سيدي، إنها ما زالت تضرب رأسها على الأرض بقرب جثة ابن حامد حتى تهشم ...
أبو عبد الله :
وبعد ذلك؟
الحاجب :
قضت نحبها يا سيدي. (ينحني ويخرج.)
المشهد الحادي عشر (أبو عبد الله وحده)
جاء دورك أيها الضمير، فقم وعذبني. هذا يومك أيها العدل، فهيا واقتص مني، اقتص من الظالم، اقتص من القاتل!
أيان ملت أرى الدماء الجارية، وأسمع الزفرات المتصاعدة، الأشباح تحيط بي من كل جانب، الأموات يطالبونني بدمائهم، واللعنات تتساقط علي من كل صوب.
تبوأت العرش فكان سقوطه عن يدي، ووليت الحكم، فكان الجور دأبي، وعرضت لي السعادة فإذا بي ألطخ وشاحها بالدماء البريئة، فيا ويلي من غضب السماء بعد غضب الأرض!
روحان بريئان قضيت عليهما ظلما وغدرا، فعفوك يا سماء، لا شك أنهما في حماك الآن يمطران علي اللعنة. لقد فرقت بينهما في الحياة، فجمعهما الخلود بعد الموت.
ماذا أرى؟ شبحان بثياب بيضاء ...! (يظهر شبحا ابن حامد ودريدة على مرتفع، ويد كل على كتف الآخر، ويسمع عزف وترانيم.)
هذا ابن حامد، وهذه دريدة تواكبهما الملائكة ... (يركع ضاما يديه)
رحماكما، رحماكما! (تغيب الرؤيا، وتسمع جلبة من الخارج).
ما هذه الجلبة؟ أرى جنودا إسبانيين. لقد دخلوا غرناطة؛ فيا خيبة آمالي! (يجرد سيفه ويحاول الخروج فيدخل قائد إسباني وجنديان شاهرين السيوف.)
المشهد الثاني عشر (أبو عبد الله - قائد إسباني - جنديان)
القائد :
لقد قضي الأمر؛ فسلمنا حسامك يا أبا عبد الله، فأنت أسيرنا.
أبو عبد الله :
إن سيف سلطان غرناطة لا يسلم (يكسر حسامه) .
سلام على نجمي المنطفي
سلام على أملي المخفق
سلام على قومي المسلمين
على من قضى وعلى من بقي
سلام عليك أغرناطة
فهذا اللقاء ولن نلتقي
صوت من الخارج :
ابك يا أبا عبد الله كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال.
1
الصوت والصدى
أحدثت وفاة فوزي المعلوف وهو لم يكمل الثلاثين من عمره سنة 1930 هزة شاملة في لبنان والعالم العربي، لا سيما وأن عبقريته الشعرية ونتاجه الأدبي الرائع كانا قد استأثرا بإعجاب الأوساط الفكرية والثقافية، ليس في شرقنا العربي فقط، بل في مختلف أنحاء العالم، فهو الأديب اللبناني والعربي الوحيد باستثناء جبران خليل جبران، الذي ترجمت آثاره إلى اللغات الحية، وحازت تقدير كبار الأدباء والمستشرقين في مطلع القرن العشرين .
وقد عبر أعلام ومفكرون يحسبون بالمئات في أمم الأرض قاطبة عن أعمق مشاعر الألم والحزن لدى وقوع الفاجعة المريرة، والخسارة الكبرى بفقد شهيد النبوغ الشعري المتجدد «شاعر الطيارة»، الذي اقتحم بروائع خياله، وصخب عاطفته أبعد الآفاق، وسبق أهل زمانه إلى ذلك اللون المبتكر من التصوير الفني، والتألق الوجداني، من خلال حدث عالمي هو الطيران. واعتبرت قصيدته الملحمية «على بساط الريح» بمثابة نبوءة عما بلغه ذلك الإنجاز الخارق في بداية القرن الماضي على صعيد غزو الفضاء، حيث وصل بالإنسان إلى القمر والكواكب بعد أقل من مائة سنة.
ولا بد من التنويه بأن معظم ما نشر وكتب حول فوزي تناوبت صحافة العرب والعالم على إبرازه بعيد وفاته، وصدرت كتب وأطروحات جامعية متعددة في مختلف العقود الماضية منوهة بتفوق الشاعر الكبير، وأثره الخالد في الشعر العالمي الحديث، فلم يبق ثمة مجال إلى مزيد.
لذلك نكتفي وقد تم إنجاز هذا الكتاب الذي يحتوي معظم آثاره، بأن يكون مسك الختام الأبيات الرائعة التي رثاه بها الأخطل الصغير الشاعر بشارة الخوري، وهي خير تعبير عن شخصية فوزي، وسمو روحه، وأثره الشعري الذي أخرج العبقرية العربية من القوقعة، والانكفاء إلى الآفاق الإنسانية الواسعة.
الشباب الذاوي
عجبوا أن يموت في ريق العم
ر ويطوي كالبرق سفر حياته
أهو العمر ما نعد له الأي
ام أم بالشهي من ثمراته؟
غاية السابق الجواد من الدن
يا بلوغ البعيد من غاياته •••
أيلام الورد الجني إذا ج
ف رحيق الجمال في وجناته؟!
وإذا كان عمره بعض يوم
وتمشى الذبول في ورقاته
غاية الورد أن يضمخ هذاال
جو بالمستحب من نفحاته
ما عليه إن جاز غايته القص
وى وعد الزمان من ساعاته •••
أفذنب الهزار إن هامت الأق
فاص بالساحرات من آياته؟!
توقظ الروض من كراه وتجلو
بسمات الضحى على زهراته
غاية الطائر المغرد من دن
ياه أنشودة على هضباته
ما عليه إذا تعجل في الشد
و وروى الخلود من نغماته •••
عطل السبق بعد «فوزي» وجف ال
عطر من بعد طرسه ودواته
وتعرى روض البيان من السج
ع وجاس الخريف في جنباته
الأخطل الصغير
بشارة الخوري
تمثال فوزي
أقيم لفوزي المعلوف نصب تذكاري من البرونز في ساحة المنشية بمسقط رأسه زحلة، ومنح وسام الاستحقاق اللبناني المذهب بعد الوفاة. وقد أزيح الستار عن التمثال في 12 أيلول (سبتمبر) سنة 1937، في احتفال رسمي وشعبي كبير شاركت فيه الشخصيات والمؤسسات الثقافية والأدبية من سوريا والعراق ومصر وفلسطين وسائر البلاد العربية، وممثلو الدول الأجنبية والسلطة الفرنسية المنتدبة.
وقد ألقى شقيقه الشاعر المهجري شفيق عيسى المعلوف الأبيات الآتية التي استأثرت بإعجاب الحضور، وقوبلت بعواصف من التصفيق، وهي إلى اليوم مروية على كل شفة ولسان لروعة معانيها الشعرية المبتكرة، قال شفيق:
فوزي، وما لي في الخطوب يدان
ما هكذا الأخوان يلتقيان
قربت صدري للعناق فلم أقع
إلا على قطع من الصوان
هشت لك الأزمان قبل ولادها
فاخلع زمانا واتشح بزمان
لله نصبك فهو أخلد بردة
في الأرض ينسجها الخلود الفاني
نصب خفضت له الجفون كأنما
نصبت حجارته على أجفاني
يا حي الضريح!
وثمة أبيات رائعة أخرى استوحاها الشاعر رياض المعلوف من ضريح شقيقه فوزي في سان باولو، فوقف عند القبر الذي حفر عليه تمثال إلهة الشعر وهي تكلل رأس أخيه بالغار، وقال في منتهى الحسرة واللوعة:
لولاك لم أهو اليراع وكنت تلهمني وتوحي
فمشيت إثرك في الطريق وكان روحك ملء روحي
أكفتك هذي الحفرة السوداء يا نسر الطموح؟
من بعد ما حلقت في جو السماوات الفسيح
واها لأمي حزنها حزن البتول على المسيح
كدرت في عيني الوجود فمات من كدري طموحي
وفررت من موتى الحياة إليك يا حي الضريح!
رياض المعلوف
Bilinmeyen sayfa