Sokrat: Cesaret Edip Soran Adam
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
Türler
وأروع هذه المنشآت الجميلة جميعا معبد أثينا، الذي أطلق عليه فيما بعد بيت العذراء أو البارثنون، وقد قامت من حوله مجموعة كبيرة من الأعمدة الرخامية، تتصف بتلك الاختلافات والمنحنيات السرية التي أمكن لسقراط وصحبه أن يروها ويشهدوا بصحتها، أما أكثر الناس فقد أحسوا بها وإن لم يروها، وفي القمة فوق الطنف كان من المزمع أن توضع ألواح منقوشة تصنع في مصنع فدياس، وسيظهر بريق لونها بعد الفراغ منها متباينا مع بياض الأعمدة، وكان في التصميم كذلك حزام من النقوش يمر داخل الصف الأول من الأعمدة، وقد أعدت الرسوم وشهدها سقراط، وفي التصميم أيضا عرض الحياة الجميلة للمدينة وهي تتجمع عند نقطة واحدة في موكب أثينا السنوي، وذلك على هذا الحائط الداخلي، ومن بين مواطني المدينة الفرسان وراكبو العربات والمشاة من الرجال والفتيات يحملن السلال، والكهنة وضباط المدينة بل والآلهة، وستأتي - فيما بعد - مجموعات كبرى من التماثيل الرخامية في أطراف السقف الهرمي الأمامي منها والخلفي، وسيبنى السقف بألواح من المرمر، ويزين داخله الأجوف بزخرفة كأنها خلايا النحل، وفي الداخل - كما كان يعلم كل إنسان - في الظل الرطب للمحراب الداخلي، أزمعت إقامة التمثال الجديد الذي صنعه فدياس للآلهة الواقية من العاج والذهب.
وبطريقة ما انتقلت أحلام بركليز وصحبه الذين كانوا يصممون البناء إلى الرجال الذين كانوا يؤدون العمل بأيديهم، وأعجب نحاتو الحجارة أيما إعجاب بالكمال الذي بلغوه في أدائهم لتفصيلات النقوش في جو مرتفع، وحتى الرقيق والأجانب من العمال الذين كانوا ينحتون وينقلون ويرفعون إلى جانب المواطنين الأحرار أصابتهم نشوة الفرح، وكان بركليز يسر كثيرا كلما مر كل يوم وشهد العمل كما شهد الملامح التي بدت على وجوه العمال.
وجاء إلى الأكروبول كذلك قوم آخرون غير بركليز، وأصبح المعبد مفخرة كل إنسان، ولا تكاد تجد مواطنا لا يأتي في وقت من الأوقات ليرى كيف كان يسير البناء، وحتى النساء أتين - النساء كريمات المولد اللائي قل ما كنت تشاهدهن في الأماكن العامة - يتخطرن بين العمال الذين يتصببون عرقا كي يلقاهن فدياس بحفاوة في مصنعه، وكثيرا ما دار اللغط حول هذه الزيارات، غير أن إحدى النساء الزائرات كانت مثار الحديث بين كل من كان فوق الجبل، تلك هي إسبسيا الأجنبية الشابة الحسناء التي جاءت من ملطية بآسيا الصغرى، والتي أشيع عن القائد بركليز - ذلك الرجل الصلب صاحب الذهن الصافي - أنه هام بها حبا، ولم تكن لإسبسيا مكانة البتة في أثينا، ولا يمكن - طبقا للقانون الذي وضعه بركليز نفسه ضد الزواج من الأجنبيات - أن يعترف بها شرعا زوجا له، ولا بد من صوت خاص من أعضاء الجمعية لكي يكون ابنهما مواطنا، ولبثت جماعة من أصدقاء سقراط مذعورة من حب بركليز لهذه الفتاة الأجنبية، ولكن سقراط مال إليها عندما لاقاها فيما بعد، فإن بركليز وجد امرأة تستطيع أن تفكر.
وكان لبركليز صديق آخر، زميل لا يكاد يفارقه، وهو أنكسجوراس العالم، وقد جاء كذلك من آسيا الصغرى عندما دعاه بركليز إلى أثينا، وقال عنه الناس: إنه رجل من العالم الآخر، أضاع ثروته في بلاده بينما كان يدرس السماء، وكان يكنى «بالعقل» في أثينا، وقاسى كثيرا من مضايقة الناس، ولم تتهيأ لسقراط الفرصة لكي يتحدث إلى أنكسجوراس، ولكنه أثار اهتمامه كلما رآه، وحاول أن يستنبط من أفكار الرجل ما استطاع، وحدثه الناس عنه كثيرا، وأكثر حديثهم هراء واضح، ولكنه عندما كان يصفي حديث الناس كان يظهر له أن وراءه كلاما معقولا يثير التفكير.
وقد حفز أنكسجوراس على التفكير حجر ضخم أسود هبط من السماء عند مكان يسمى نهر الماعز منذ سنوات عدة مضت، وقد رأى بعينيه الحجر ولمسه فألفاه مختلفا كل الاختلاف عن الصخور المحيطة به، وإذا كان قد هبط من السماء، فمن الواضح أنه لا بد أن تكون بها حجارة، ولم تقذف به الآلهة كما تروي القصص القديمة، وفكر أنكسجوراس طويلا في الأمر بعد ذلك، وخرج أخيرا بالنظرية التي أخذ يتحدث عنها كل امرئ في أثينا، ولم يأبهوا كثيرا لقوله بأن الأرض دائرة مسطحة، تسبح في الهواء كورقة الشجر فوق الماء، تدور حولها النجوم، فإن كثيرا غيره من العلماء قد اعتقد ذلك من قبل، ولو أن الأثينيين لم يكن من بينهم عالم حي حقا يعيش في أثينا ويؤمن بهذا القول، وإنما كان فيما قاله أنكسجوراس عن الشمس والقمر شيء يشين كرامة الآلهة خاصة.
قال أنكسجوراس: إن الشمس ليست بإله، وإنما هي كتلة متوهجة من المعدن، أكبر من بلبونيز كلها، وهي شبه الجزيرة التي يقطنها الإسبرطيون وستة شعوب أخرى غيرهم، وكأن هذا لم يكفه فتعرض للقمر وقال: إنه من التراب، وليس له ضوء خاص، وإنما هو يعكس ضوء الشمس، وبالقمر تلال ووديان وربما كان مسكونا، وعندما يقع في دورته بيننا وبين الشمس، تبدو الشمس مظلمة في رابعة النهار، وعندما تحجب الأرض ضوء الشمس عن القمر، يظلم كذلك القمر.
كل هذا أثار حديث الناس في أثينا، وجرى الحديث في شدة ولم يكن دائما حديثا وديا، واهتم الناس فجأة أشد الاهتمام بما عسى أن يكون لكل هذا الحديث عن الحجارة والمعدن الذي ابيض من الحرارة من أثر على الدين، وهم أولئك الذين لم يبد منهم من قبل أي اهتمام بالآلهة (اللهم إلا أن يقدموا إليها الضحايا المألوفة بطبيعة الحال)، ولحظ سقراط أن بعضا من مؤيدي الآلهة المتحمسين كانوا كذلك أعداء سياسيين لبركليز، وكان خصوم بركليز يسمون أنفسهم «السادة»، أما بركليز نفسه (الذي انحدر من أعلى الأسر في أثينا، وإن كان يعضد لديمقراطية الناشئة) فكان يحلو له أن يطلق عليهم «القلة»، وسواء كانوا سادة أو غير سادة فقد اتضح لسقراط أنهم كانوا يجرون أنكسجوراس ونظرياته العلمية إلى نزاع سياسي، أما ديوبيثس الكاهن العجوز المتعصب، الذي كان يكسب العيش عن طريق تفسير أسرار السموات وعجائبها، فله شأن آخر، وليس من شك في أنه كان يهتم في إخلاص بقداسة السموات ولو لأسباب عملية فحسب، أما ديون ابن عم ديوبيثس، الذي كان يعمل إلى جوار سقراط في بهو الأعمدة، فقد اعتاد أن يقول صراحة: إن المدينة لا يمكن أن تأمل في الظفر برضا الآلهة حتى يقتل أنكسجوراس.
وألف سقراط الحديث الخشن من مواطنيه، ومن الجائز أن يؤدي حديثهم إلى القيام بعمل ما؛ لأن الشعب هو الحكومة ولكنه قلما كان يؤدي إلى ذلك في تلك الأيام؛ ولذا فقد ذهل ذات مساء حينما جاءه ديون يقرع بابه ويحمل إليه نبأ جديا.
قال ديون في رزانة تامة وقد ولج الحجرة التي كان يجلس فيها سفرونسكس وسقراط وقلة من أصحابهم: «يجب على كل أثيني مخلص لبلاده أن يبتهج؛ لأنه يشهد هذا اليوم، فقد عاد إلى أثينا رضا الآلهة، فقد أدين الملحد!»
ولم يكن سقراط بحاجة إلى أن يسأل من هو ذلك «الملحد»، وإن كان هو نفسه لم يجد مبررا يدعو هذا العالم المشرد الذهن لكي لا يعتقد في الآلهة كما يعتقد فيهم سواه، واستطاع هو والآخرون - بشق الأنفس - أن يعرفوا من ديون ماذا كان يجري تماما، والأمر في عبارة واضحة هو هذا: لقد اتفق ديوبيثس وصحبه المتعصبون مع «السادة» الذين كانوا يمقتون بركليز، وظفروا بوعود التأييد من كثير من أصحاب الأصوات المحافظين في المدينة، وكان المزارعون - الذين كان ينتظر أن يفدوا إلى أثينا في الغد في جموع حاشدة - ينفرون من أي حديث خطر عن الدين، فقد كانوا يعتمدون على الآلهة في محصولهم، ومن المؤكد أنهم سيصوتون مع جانب الحق.
Bilinmeyen sayfa