صدع الدجنة في فصل البدعة عن السنة - ضمن «آثار المعلمي»
صدع الدجنة في فصل البدعة عن السنة - ضمن «آثار المعلمي»
Araştırmacı
عدنان بن صفا خان البخاري
Yayıncı
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٣٤ هـ
Türler
الرسالة الثالثة
صدع الدُّجنة في فصل البدعة عن السنة
6 / 123
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الهادي إلى سواء السراط، جاعل دينه عدلًا وسطًا بعيدًا عن التفريط والإفراط، منزل الكتاب تبيانًا لكل شيء من أمر الدين، باعث الرسل هداة مهديين، مبشرين ومنذرين.
وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وهاديًا إلى السبيل المبين؛ ليبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، ويفسِّر لهم ما أشكل عليهم، وجعل محبَّته اتِّباعه، وطاعته له طاعة. قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١]، وقال سبحانه: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: ٨٠].
وأكمل له الدِّين، وأتمَّ النعمة على المؤمنين، ورضي لهم الإسلام دينًا، إلى أن يرث الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين، فلا دين إلَّا ما ثبت عنه، ولا نور إلا ما اقتُبِس منه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، الذين أكمل لهم اليقين، وأقام بهم الدين، وحفظ بهم الكتاب والسنة، وأتمّ بهم على الخلق المِنَّة، فبلَّغوا الدين بأمانته، وبالغوا في حفظه وصيانته.
تكفَّل الله ﷿ بتوفيقهم لسبيله، وتثبيتهم على اتِّباع رسوله، وأَعْلَمَ رسولَه بما يكون منهم بعده، وكيف يتحرَّون اتِّباعه، ويحفظون عَهْدَه، فيجعل سنَّتهم من سنَّته، وإجماعهم من شريعته، فلم يزل الناس على ذلك حتى اشتهر الحق على التحقيق، وأمن السِّراط المستقيم أن يشتبه على طالبه
6 / 125
ببنيَّات الطريق، ثم حدثت أحداث، وخَلَف خُلُوف، وغلا غالون، وقصَّر آخرون، ووقف وُقُوفٌ.
وكثرت الخدع، وانتشرت البدع، وعُبِد الهوى، وبئس المعبود، واشتبه المحمود بالمذموم، والمذموم بالمحمود.
وكانت البليَّة العظمى والرَّزية الكبرى قِلَّة العلماء وتقاعدهم عن نصر الحق، ما بين خوَّار يخاف الناس أشدَّ من خوف الله، وجبّارٍ يرغب في الشُّهرة والسُّمعة والجاه، ومفتون بحبِّ الحُطام وخوف الفِطام، وآخر وآخر لا نطيل بذكرهم، ولا نبالغ الآن في هتك سترهم.
لا جرم اتخذ الناس رؤساء في الدِّين جهَّالًا، فلم يألوا أنفسهم وغيرهم خبالًا، فلا يكاد يُرى لهم رادع، ولا لأنوفهم جادع، بل ولا قادع.
إذا غابَ ملَّاحُ السَّفينةِ وارْتَمَتْ ... بها الرِّيح يومًا دبَّرَتْها الضَّفادِعُ (^١)
وخلا الجو للملحدين وأعداء الدين، فبالغوا في العَيْث والعَبَث، ودفنوا المحض، ونشروا الخبث، وكان ما كان، والله المستعان.
وبعد، فإني ــ ولله الحمد والمِنَّة ــ ممَّن أوتي نصيبًا من فهم الكتاب، ومعرفة السُّنة، وعلمتُ أنَّ لله ﷿ عليَّ حقًّا في النصيحة للدِّين والعباد، والدعاء إلى سبيل الرشاد، ولكنَّه يثبِّطني عن ذلك خَوَر العزيمة، والحرص على مصالح الدُّنيا الذَّميمة، وزعمي أنَّه إنَّما يصلح للنصيحة من خَلَت
_________
(^١) لم أقف على قائله. وقد أنشده الناصري في "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى" (٦/ ٦٧) دون نسبةٍ لقائلٍ، وعنده: "فارتمت" بدل "وارتمت"، و"هوجًا" بدل "يومًا".
6 / 126
صحيفته من الذنوب، ونَقَّى عِرْضَه عن العيوب، وخلصت نيَّته لإرضاء علَّام الغيوب، ولستُ هنالك ولا قريبًا من ذلك، ونفسي تعلِّلني بأنَّها ستصلح أو تقارب، وأنَّ الأحوال ربَّما تحول إلى ما يناسب، أو أنَّه سيقوم بهذا الفرض من يكون أوسع مني علمًا، وأقوى هِمَّة وعزمًا، فيبلغ فيه الغاية، وتحصل به الكفاية، والأيام تمرُّ، والأَجَل يدنو، والأمر لا يزداد إلَّا شِدَّة.
وقد تدبَّرتُ أنواع الفساد فوجدتُ عامَّتها نَشَأَت عن إماتة السُّنن، أو إقامة البدع، ووجدتُ أكثر المسلمين يبدو منهم الحرص على اتباع السُّنن واجتناب البدع، ولكن التبس عليهم الأمر، فزعموا في كثير من السنن أنَّه بدعة، وفي كثير من البدع أنَّه سُنة.
وكلَّما قام عالم فقال: هذا سنة، أو هذا بدعة عارَضَه عشرات، أو مئات من الرؤساء في الدِّين، الذين يزعم العامة أنَّهم علماء، فردُّوا يده في فِيهِ، وبالغوا في تضليله والطَّعن فيه، وأفتوا بوجوب قتله أو حبسه أو هجرانه، وشمَّروا للإضرار به وبأهله وإخوانه، وساعدهم ثلاثة من العلماء، عالم غالٍ، وعالم مفتون بالدنيا، وعالم قاصر في معرفة السنة وإن كان متبحِّرًا في غيرها.
فإذا سمع بذلك من بقي من أفراد العلماء الصادقين كان نصرهم لأخيهم أن يحرقوه باللَّوم والتَّعنيف، قائلين: قد كان يَسَعُك ما وسع غيرك من السكوت!
فرأيتُ من أهم الواجبات إيضاح الفرق بين السنة والبدعة، وتعيين الحدود الفاصلة بينهما، علمًا بأنَّه إذا يسَّر الله تعالى ذلك على طريق واضح زال الالتباس من حيث الجملة، وكذا من حيث التفصيل في حقِّ من تكون له معرفة صالحة بالكتاب والسنة.
6 / 127
وإذا زال الالتباس عن هؤلاء رُجِيَ أن يزول الالتباس عن غيرهم؛ إذ لا يبقى إلَّا دعاة الضَّلالة والعامة.
فأمَّا دعاة الضلالة فإنهم وإن زال الالتباس عنهم لا يخضعون للحق، ولا يرجعون إليه، ولا حرج في ذلك، فقد كان فريق من هؤلاء موجودين في حياة النبي ﵌.
وأمَّا العامة فإنَّما مَثَلُهم مَثَل قَلْعةٍ بابُها من حديد، وسائرها من حشيش، فإذا قام فيهم دعاةٌ حكماء صابرون مصابرون أوْشَكَ أن ينكسر الباب، فيتم الفتح. والتاريخ شاهدُ عدلٍ أنَّه لم يكد يقوم في العامة داعٍ بحق أو باطل إلَّا تنمَّروا عليه، وتسارعوا في إيذائه، ولكنَّه إذا كان ذا حكمة وصبر، أو دهاء ومكر، لم يكن بأسرع من أن يصطادهم واحدًا واحدًا، وجماعة جماعة، فلم يلبث أن يصبح معه طائفة قوية يمتنع بهم عمَّن خالفه، ويتمكَّن من إعلان دعوته. ولعلَّه إذا اتَّضح السبيل لأهل العلم أن لا يخلو بلد من واحد منهم أو أكثر، يكون له حظٌّ من الحكمة والصبر، فيهتدي به نفر من الناس، والحق إذا استجيب له بمنزلة المصباح إذا أُسْرِج فإنَّه يضيء ما حوله، ثم يُقْتَبَس منه لعدَّة مصابيح تضيء مثله. وهكذا.
وإذا رأيتَ من الهِلال نموَّهُ ... أيْقَنْتَ أنْ سيصير بدرًا كاملًا (^١)
هذا، وقد وقفتُ على عِدَّة مؤلفات في الزَّجر عن البِدَع، منها كتاب
_________
(^١) البيت لأبي تمَّام، وهو في "ديوانه":
إنَّ الهِلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّهُ ... أيقَنْتَ أن سيكون بدرًا كاملا
يُنظَر: "شرح الصُّولي" (٣/ ٣٣٤)، و"شرح الخطيب التبريزي" (٤/ ١١٥).
6 / 128
"الاعتصام" للإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي، صاحب كتاب "الموافقات" في أصول الفقه، و"الباعث في ذمِّ البدع والحوادث" للإمام أبي شامة الشافعي، و"المدخل" لابن الحاج المالكي، ورسائل أخرى، وفصول في بعض الكتب.
وأعظم ذلك وأجلُّه: كتاب "الاعتصام"، إلَّا أنَّه كبير الحجم، تحرَّى مؤلِّفه ﵀ أن يطيل البحث في كل فرع، ويذكر الوجوه المحتملة، وكيف يرجح بعضها على بعض، مع تطبيق ذلك على القواعد الأصولية، وكثيرًا ما يذكر الأحاديث والآثار، ولا يسندها إلى الكتب المعروفة، ولا يبيِّن حالها من الصِّحة وغيرها، فيكاد لا يستفيد منه إلَّا كبار العلماء.
فأردتُ أن أجمع رسالة صغيرة أعتني فيها بتحقيق حقيقة البدعة المذمومة شرعًا، وأوضح ذلك بالحجج الصريحة، وأتحرَّى أن يكون البيان على وجه يفهمه أكثر طلبة العلم، ويشاركهم العامي الذكي في فهم كثير منه، ومِن الله سبحانه أستمد التوفيق والمعونة.
تعريف السُّنَّة:
السُّنة في اللُّغة: الطريقة، وأكثر ما تستعمل في الطريقة المعنوية، يقال: سنَّ فلانٌ سنةً، أي: وقع منه أمر يتْبَعُه فيه غيره، ومن هذا سنن النبي ﵌.
وكثيرًا ما تطلق السُّنَّة ويراد بها مجموع السيرة، أي: "كل ما جاء عنه ﵌ من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله"، كما في "فتح الباري" ج ١٣ ص ١٩١ (^١).
_________
(^١) "الفتح" (١٣/ ٢٤٥) السلفية.
6 / 129
ثم قد تُخصُّ بما عدا ما ثبت في القرآن، وعلى هذا يُقال: الكتاب والسنة.
وقد تعمّ ما ثَبَت في القرآن؛ لأنَّ القرآن ثابت عنه ﵌، ومن سنته العمل به، وعلى هذا يقال: "أهل السُّنة".
فأما قولنا: "هذا سنة، وهذا بدعة"، فالسُّنة فيه: خاصٌّ بكل أمر ثبت بكتاب الله تعالى أو سنة رسوله ﵌ أنَّه مطلوب على الفرض والوجوب، أو على أنَّه مندوب.
تعريف البدعة:
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث: "إنَّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهَدْي هدي محمد ﵌ وشر الأمور محدثاتها .. إلخ": "والمُحْدَثات بفتح الدال: جمع مُحْدَثة، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمَّى في عُرْف الشرع: بدعة. وما كان له أصل يدلُّ عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عُرْف الشرع مذمومة، بخلاف اللُّغة، فإنَّ كل شيء أُحْدِث على غير مثال يسمَّى: "بدعة"، سواء كان محمودًا أو مذمومًا. وكذا القول في المُحْدَثة، وفي الأمر المُحْدَث، الذي ورد في حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ... ". "فتح الباري" ج ١٣ ص ١٩٥ (^١).
وهذا الذي قاله في تفسير البدعة والمُحْدَثة هو المشهور بين العلماء. وحاصله: أنَّ البدعة والمُحْدَثة نُقلا عن معناهما اللُّغوي إلى معنى شرعي،
_________
(^١) "الفتح" (١٣/ ٢٥٣).
6 / 130
فإمِّا أن يكون النقل من الشارع، وإمَّا أن يكونا في كلام الشارع باقيين على المعنى اللُّغوي، ولكن قام الدليل على تخصيصهما، ثم شاع استعمالهما في المعنى الخاص.
وعلى هذا التعريف اعتراضات:
الاعتراض الأول: أنَّه يتناول المعاصي المُحْدَثة، التي يعترف أصحابها أنَّها معاصي.
ومن تأمَّل النصوص الواردة في ذمِّ البدع، والآثار التي فيها الحكم على بعض الأمور بأنَّها بدع تبيَّن له أنَّ الأمر لا يكون بدعة حتى يزعم صاحبه أنَّه من الدِّين، فلا يُقال لمسلم تَرَك الصلاة أو صوم رمضان لغير عذر معترفًا بفرضيَّتهما: مبتدع، وإن كان ذلك ممَّا أُحْدِث، وليس له أصل في الشرع؛ إذ لم يُنْقَل أنَّ ذلك وقع من أحد من المسلمين في عهد النبي ﵌.
ويمكن أن يُجاب بأنَّه إنَّما لم يصرِّح بإخراج المعاصي المُحْدَثة؛ لشهرة إخراجها، ولأنَّ المهم إنَّما هو تمييز البدعة المذمومة عما لا يُذَمُّ، والمعاصي مذمومة.
الاعتراض الثاني: أنَّه يتناول المباحات المُحْدَثة التي لم يدَّعِ أصحابها لها حكمًا غير الإباحة، كلبس الثياب التي لم تكن معروفة بين الصحابة في العهد النبوي، ويُجاب عن هذا بأنَّه خارجٌ بقوله: "ليس له أصل في الشرع"، وهذا ممَّا له أصل في الشرع، وهو أدلة الإباحة، كقوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩].
الاعتراض الثالث: أن يُقال: قوله: "ليس له أصل في الشرع" لا يخلو أن
6 / 131
يُراد بـ"الأصل": مُسْتَندٌ يُسنَد إليه الحادث وإن لم يصلح للاستناد، كاستناد الخوارج إلى قول الله ﷿: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [الأنعام: ٥٧]، واستناد غلاة المرجئة ــ القائلين بأنَّه لا يضر مع الإيمان عمل ــ إلى قول الله ﷿: ﴿لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الليل: ١٥ ــ ١٦]، ونحو ذلك.
أو يُراد به مُسْتَندٌ يصلح للاستناد.
لا يصحُّ الأول حتمًا، وإلَّا لم يكن على وجه الأرض بدعة؛ إذ ما من بدعة إلَّا وأصحابها يتشبَّثون بآية، أو حديث، أو قياس، أو دعوى إجماع.
ولا الثاني؛ لأنَّ المفروض أنَّ المُحْدَث لم يكن موجودًا في عهد النبي ﵌، فيكون قد تركه النبي ﵌، فتَرْكُه له حُجَّة بالغة على أنَّه ليس من الدين. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.
والجواب باختيار الثاني، وترك النبي ﵌ للشيء لا يستلزم أن لا يكون من الدِّين مطلقًا، بل أنْ لا يكون في الدين في مثل الحال التي تركه فيها ﵌.
فقد يكون الأمر من الدين بدلالة الكتاب والسنة، ولكنَّه موقوف على وجود أمر آخر لم يقع في عهد النبي ﵌، ثم وقع بعده، وذلك كركوب البواخر والقطار والسيَّارات والطيَّارات للحج، وكالقتال بالبنادق والمدافع في الجهاد.
فقد قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾
6 / 132
[آل عمران: ٩٧]، وركوب الطيّارة ــ مثلًا ــ سبيل. وقال سبحانه: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠] والبنادق والمدافع قوَّة.
وواضح أنَّ البواخر والقطار والسيَّارات والطيَّارات والبنادق والمدافع لا يمكن استعمالها قبل وجودها، فَترْكُ النبي ﵌ استعمالها إنَّما كان لعدم وجودها حينئذٍ، فلا يكون مثل هذا الترك حُجَّة يُرَدّ بها دلالة الآيتين المذكورتين وغيرهما، وقس على هذا.
قال ابن حجر المكي في "الفتاوى الحديثية" ص ٢٠٠: "وفسَّر بعضهم البدعة بما يعمُّ جميع ما قدَّمنا وغيره، فقال: هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب، سواء أَفُعِل في عهده ﵌، أو لم يفعل، كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (^١)، وقتال التُّرْك (^٢)، لمَّا كان مفعولًا بأمره لم يكن بدعة، وإن لم يُفْعَل في عهده، وكذا جمع القرآن في المصاحف (^٣)، والاجتماع على قيام شهر رمضان، وأمثال ذلك ممَّا ثبت
_________
(^١) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٣٠٣٥) ومسلم (١٦٣٧) وغيرهما، من حديث ابن عباس ﵄ عن النَّبي ﷺ قال: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .. " الحديث. وما أخرجه مسلم (١٧٦٧) وغيره، من حديث عمر ﷺ: أنَّه سمع رسول الله ﷺ يقول: "لأخرجنَّ اليهود والنَّصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلَّا مسلمًا".
(^٢) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٢٩٢٧) ومسلم (٢٩١٢) وغيرهما، من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك .. " الحديث.
(^٣) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٤٦٧٩) وغيره، من حديث زيد بن ثابت في قصَّته مع أبي بكر وعمر ﵃ في جمع القرآن.
6 / 133
وجوبه أو استحبابه بدليل شرعي، وقول عمر ﵁ في التراويح: "نِعْمَت البدعة هي" (^١) أراد البدعة اللُّغوية، وهو ما فُعِل على غير مثال، كما قال تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٩]، وليست بدعة شرعًا، فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال ﵌.
ومن قسَّمها من العلماء إلى حسنٍ وغير حسنٍ فإنَّما قسَّم البدعة اللُّغوية، ومن قال: "كل بدعة ضلالة" فمعناه البدعة الشرعية، أَلَا ترى أنَّ الصحابة ﵃ والتابعين لهم بإحسان أنكروا فرضية غير الصلوات الخمس، كالعيدين، وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقيب السَّعي بين الصفا والمروة قياسًا على الطواف، وكذا ما تركه ﵌ مع قيام المقتضي، فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة.
وخرج بقولنا: "مع قيام المقتضي في حياته تركه" إخراجُ اليهود من جزيرة العرب، وجمعُ المصحف، وما تركه لوجود المانع كالاجتماع للتراويح؛ فإنَّ المقتضي التام يدخل فيه عدم المانع".
أقول: وهذا التفسير أحسن من التفسير السابق، وإن كان المآل واحدًا.
ولك أن تقول في تعريف البدعة: "هي كل أمر أُلصق بالدين ولم يكن من هَدْي النبي ﵌، لا بالفعل ولا بالقُوَّة" (^٢)، فقولك: "ولا بالقُوَّة" يخرج
_________
(^١) أخرجه البخاري (٢٠١٠) وغيره، من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاري.
ولفظ البخاري: "نِعْمَ البدعة هذه"، وقوله: "نِعْمَت" بالتاء هو إحدى روايات البخاري، كما في "الفتح" (٤/ ٢٥٣).
(^٢) يعني: بالقدرة على فعله؛ لأنَّ المقصود بالقُوَّة: الاستعداد والإمكان الذي في الشيء لأنْ يوجد بالفعل. يُنظَر: "المعجم الفلسفي" لجميل صليبا (٢/ ٢٠٢).
6 / 134
به كل ما لم يقع في العهد النبوي لعدم المقتضي أو لوجود مانع؛ إذ قد قام الدليل على أنَّه لو وُجِد المقتضي أو زال المانع لَمَا تركه النبي ﵌، فهو من هديه بالقوة.
ولك أن تستغني بقولك: "كل أمر أُلصق بالدين، ولم يكن من هدي النبي ﵌ "؛ فإنَّ هَدْيه هو سُنَّته، والدليل الدَّال على أمرٍ أنَّه من الدِّين وأنَّه إنَّما تركه ﵌ لعدم مقتضيه، أو لوجود مانع عنه في حياته= لا بد أن يكون ذلك الدليل من أقسام السُّنَّة.
وأبلغ من هذا كلِّه أن يُقال: إنَّ كلمتي "البدعة" و"المُحْدَثة" الواردتين في الأحاديث باقيتان على معناهما اللغوي، ولكن ليس المراد بهما صورة الفعل، وإنَّما المراد الحكم المزعوم له وجوبًا، أو ندبًا، أو غيرهما من الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية.
فمَن زعم أنَّ التَّختُّم بالعقيق واجب، أو مندوب، أو حرام، أو مكروه، فقد ابتدع؛ لأنَّ هذا الحكم الذي زَعَمَه مُحْدَث.
وهكذا من زعم أنَّ شرب قليل الخمر مباح لِمَن وَثِق من نفسه أنَّ قليله لا يجرُّه إلى كثيره فقد ابتدع؛ لأنَّ هذا الحكم ــ وهو الإباحة ــ في تلك الحال مُحْدَث.
وكذا من زعم أنَّ الغِنَى شرط لصحة النكاح، أو سبب تام لوجوبه، أو مانع من وجوب صوم رمضان، أو أنَّ صوم مَن شَرِب الدَّواء عمدًا صحيح، أو أنَّ صوم من تعطَّر عمدًا باطل.
فإن قلتَ: لكن السَّلف كثيرًا ما يطلقون على الأفعال أنفسها أنَّها "بدع"،
6 / 135
كإخراج المنبر يوم العيد، وتقديم خطبة العيد على الصلاة (^١)، وأطلق بعض الصحابة البدعة على الاضطجاع بعد سُنَّة الفجر (^٢)، وعلى القنوت في الفجر (^٣)، وعلى صلاة الضحى (^٤).
_________
(^١) يشير إلى ما أخرجه البخاري (٩٥٦)، ومسلم (٨٨٩) وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ في قصَّته مع مروان بن الحكم، حين قدَّم خطبة العيد على الصلاة وخطب على منبرٍ صنعه كثير بن الصَّلت.
(^٢) يشير إلى ما ساقه عبد الرزاق (٣/ ٤٢ - ٤٣)، وابن أبي شيبة (٤/ ٣٨٧ - ٣٨٩)، والبيهقي في "الكبرى" (٣/ ٤٦)، من آثار عدَّةٍ، عن جمع من الصَّحابة والتابعين ﵃ في تبديع الاضطجاع بعد راتبة الفجر أو كراهة ذلك أو النهي عنه.
(^٣) يشير إلى ما أخرجه الترمذي (٤٠٢)، والنسائي في "الكبرى" (١٠٨٠)، وابن ماجه (١٢٤١)، وأحمد (٣/ ٤٧٢)، (٦/ ٣٩٤)، وغيرهم، من حديث أبي مالك الأشجعي قال: قلتُ لأبي، يا أبت إنَّك قد صلَّيت خلف رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بُنَيَّ مُحْدَثٌ".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصحَّحه الألباني في "الإرواء" (٤٣٥).
وقد ساق عبد الرزَّاق (٣/ ١٠٥ - ١٠٨، ١١١)، وابن أبي شيبة (٥/ ٢١ - ٢٩)، والبيهقي في "الكبرى" (٢/ ٢١٣ - ٢١٤) جملة آثارٍ عن جمع من الصحابة والتابعين ﵃ في تركهم القنوت في الفجر أوالقول بعدم مشروعيَّته.
(^٤) يشير إلى ما أخرجه البخاري (١٧٧٥)، ومسلم (١٢٥٥)، وغيرهما، من حديث مجاهد قال: دخلتُ أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر ﵄ جالسٌ إلى حجرة عائشة، وإذا ناسٌ يصلُّون في المسجد صلاة الضُّحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال: "بدعةٌ".
وقد ساق الحافظ ابن حجر في "الفتح" (٣/ ٥٢) عدَّة آثار بأسانيد صحَّحها عن ابن عمر ﵁ تسميته لها بالبدعة والمُحْدَثة، ثم قال ﵀: "وفي الجملة: ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضُحى؛ لأنَّ نفيه محمولٌ على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصةٌ .. قال عياض وغيره: إنَّما أنكر ابن عمر ملازمتها، وإظهارها في المساجد، وصلاتها جماعة، لا أنَّها مخالفة للسُّنَّة .. ".
وينظر أيضًا: مصنَّف عبد الرزَّاق (٣/ ٧٨ - ٨١)، ومصنَّف ابن أبي شيبة (٥/ ٢٥٣ - ٢٥٧).
6 / 136
قلتُ: لِقائلٍ أن يقول: إنَّ ذلك كله تجوُّز سهَّلَه ما بين الأفعال وأحكامها من التلازم، فإنَّ من أخرج المنبر يوم العيد، وقدَّم الخطبة على الصلاة يدلُّ فعلُه ذلك على أنَّه يزعم أنَّه جائز، أو مندوب، فهذا الحكم المزعوم هو البدعة في الحقيقة، والفعل قرينة عليه.
وأمَّا بقية الأمور المذكورة فلا إشكال فيها؛ لأنَّ من أطلق على الاضطجاع بعد سُنَّة الفجر أنَّه بدعة إنَّما أطلقه لمَّا رأى قومًا يتحرَّونه زاعمين أنَّه سُنَّة، وأوضح من ذلك حال القنوت، وصلاة الضحى، فإنَّ من يقنت إنَّما يقنت زاعمًا أنَّ القنوت سُنَّة، وكذا من يصلِّي الضُّحى.
والذي ينبغي أن يعتمد في تعريف البدعة هو التعريف الثالث، أي: "أمر أُلْصِق بالدِّين، ولم يكن من هدي النبي ﵌، لا بالفعل ولا بالقوَّة".
6 / 137