وخرج عيسى إلى الطريق كشمعة لم يبق منها إلا عقب فتيلة، وسار عباس صديق وسمير عبد الباقي في طريق، ومضى هو بصحبة الشيخ عبد التواب في طريق آخر، وهب هواء مشبع بالطل في صمت خاشع ... وترددت أنفاس النوم السعيد في ظلمة لا ضوء فيها إلا ضوء النجوم وهلال آخر الشهر الصاعد. ومن بعيد رجع الأفق هدير البحر.
وتأوه الشيخ عبد التواب متثائبا وهو يهتف «الله»، ثم غمغم: ما أجمل هذه الساعة!
فضحك عيسى قائلا: وخاصة للرابحين!
فضحك الشيخ قائلا: لقد خرجت من السهرة لا علي ولا لي، عباس صديق هو نار الله الموقدة.
ثم بعد هنيهة صمت: أنت مقامر خطير يا عيسى!
فقال بنبرة ذات معنى: لقد خسرنا رغم الكاريه الذي كان في يدنا.
وأدرك ما يعنيه، فقال بحزن: هذا هو حال الدنيا، هل نستحق ما حاق بنا؟ فلنسلم بأن لنا أخطاءنا، ولكن من يخلو من الأخطاء؟ وكيف نسينا هذا الشعب المارق؟ كيف نسي الذين عاملوه معاملة الأم الرءوم لابنها الوحيد؟
وفاض الحزن بعيسى، وسلست إرادة كبريائه فاستجابت نفسه لرغبة طارئة في الاعتراف، فقال: كنا حزب المثل الأعلى، حزب التضحية والفداء، حزب النزاهة المطلقة، حزب «كلا ثم كلا» أمام كافة المغريات والتهديدات، كنا كذلك حتى قبيل 1936، فكيف أدركت روحنا الطاهرة الشيخوخة؟ كيف تدهورنا رويدا رويدا حتى فقدنا جميل مزايانا؟ وها نحن نقلب أيدينا في الظلام يملؤنا الشجن والشعور بالإثم، فواحسرتاه!
فقال الشيخ بإصرار: كنا خير الجميع حتى آخر لحظة.
فقال بقسوة موجهة في الحقيقة إلى ذاته: هذا حكم نسبي لا ترتضيه طبائع الأشياء، ولا تقتنع به الأمم المتوثبة للحياة، فواحسرتاه!
Bilinmeyen sayfa