وضحكوا عاليا والليل يجثم، ثم التفت إبراهيم خيرت إلى سمير عبد الباقي بنظرة تحثه على الخروج من صمته، فقال: أود أن يعيش كل مواطن متمتعا بالكرامة البشرية.
فقال إبراهيم خيرت: إذن فأنت من رأينا؟
فقال باختصار: كلمتي تحمل معنى أعمق! - إذن فأنت تعارض رأينا؟
فعاد يقول: كلمتي تحمل معنى أعمق!
وغاص عيسى في نفسه القلقة، يجب أن ينصره شطره المتكلم على شطره الصامت، وأن يحتقر المهاجمين بلا حياء؛ إعرابا عن احتقاره لشطره الصامت، ماذا أدى بنا إلى هذه الحال المحزنة حقا؟ وألا من سبيل إلى نسيان الهزائم الشخصية؟ إن المرض متفش في الوطن. ودوت صفارة الإنذار كأنها جدار انقض عليهم بغتة، واختفى النور من الدنيا، وشملت الطريق حركة فرار من الظلام، واقترح سمير أن يدخلوا القهوة، ولكن الفكرة لم تلق تشجيعا من أحد، وتذكر عيسى زوجته في وحدتها بالدقي مع أم شلبي، فأشفق عليها، وإذا بأصوات انفجارات بعيدة تتتابع بغزارة فبعثت الرعب في نفوسهم، وفي لحظة قصيرة أسرعوا إلى ركنهم الشتوي داخل المقهى، ثم توالى الضرب البعيد في نظام مخيف، واختلطت التخمينات عن الأماكن التي ينهال عليها؛ شبرا؟ مصر الجديدة؟ حلوان؟ - من أين لليهود بهذه القوة؟ - وأين طياراتنا؟!
ولم يتوقف الضرب مما قطع بقيام غارة حقيقية لعل البلاد لم تشهد مثلها طيلة أيام الحرب العالمية، فاضطربت الأعصاب أيما اضطراب، وجاء رجل من الخارج مهرولا وهو يقول بصوت سمعته القهوة المظلمة: طيارات بريطانية التي تقذف بالقنابل!
فهتفت عشرات الحناجر: غير معقول!
فأكد الخبر قائلا: سمعت هذا من محطة الشرق الأدنى.
وانفجرت التعليقات في شبه هلوسة، ثم سكت الضرب، ومضت دقائق توقع في صمت ورهبة، ثم انطلقت صفارة الأمان واستردوا أنفسهم من قبضة التوتر وتبادلوا في الضوء العائد نظرات ذابلة كأنها ترى بعد نعاس طويل. وفاضلوا بين البقاء والذهاب، ولكن صفارة الإنذار لم تمهلهم طويلا فعادت تعوي من جديد، وما لبثت الانفجارات أن تتابعت حتى همس إبراهيم خيرت: الظاهر أن النهاية أقرب مما نتصور.
فهمس سمير عبد الباقي: ادع الله ألا نكون ضمن النهاية!
Bilinmeyen sayfa