وتصدى له عضو في اللجنة لم يعرفه من قبل، فتكلم بعنف عن واجبات الموظف نحو الشعب، ثم قال: الثورة صادقة العزم على تطهير الجهاز الحكومي من كافة أنواع الفساد، وأؤكد لك أن المستقبل لن يرى مصريا واحدا مهضوم الحق، ولا مصريا واحدا يؤثر بأي لون من ألوان الخير أو الامتياز لانتمائه إلى فرد أو أسرة أو هيئة.
ونصحه شيئا من أعماقه بألا يتعرض لمناقشة هذا العضو، فلاذ بالصمت، واستمر التحقيق حتى الرابعة مساء، ثم غادر اللجنة كعود جاف مقصف اخترمته دودة عاتية! واخترق إلى الدقي طرقات غرقت - كقارة أطلس - بجميع أبعادها وأحيائها وجمادها تحت أمواج ذاته الهائجة المتلاطمة، حتى لم يعد يرى أو يسمع أو يعي إلا القلق الشيطاني بأشواكه الحادة ومكره القاسي، وتساءلت الأم العجوز: لم لا تحدث في أمرك ابن عمك وهو منهم؟
لدغته وصيتها فانفجرت في عينيه نظرة جنونية من الغضب.
8
واستدعاه مراقب المستخدمين ليبلغه قرار إحالته إلى المعاش مع ضم سنتين إلى مدة خدمته، وهو نفس المراقب الذي كتب مذكرات ترقياته الاستثنائية التي توجت بترقيته إلى الدرجة الثانية ... ولعله ما زال يحتفظ بمشروع مذكرة لترقيته إلى الدرجة الأولى كانت قد أعدت لرفعها إلى مجلس الوزراء قبيل إلغاء المعاهدة بأسبوع واحد، ثم لم تحظ بفرصة لاعتمادها في غمار الأحداث التي أعقبت إلغاء المعاهدة، ولم يكن للرجل لون حزبي ولكنه لم يشك لحظة في كراهيته له لتساويه معه في الدرجة رغم فارق السن الشاسع بينهما، وتأثر المراقب بمأساة الموقف فانتهز خلو الحجرة من أي مستمع وقال له: لا يعلم إلا الله مدى حزني يا أستاذ عيسى!
فشكره وهو على يقين من مدى كذبه، فثمانية أعوام في معاشرة الموظفين كافية جدا ليجيد ترجمة مصطلحاتهم المحفوظة في المجاملات إلى معانيها الحقيقية. وها هو ملف خدمته مطروحا على مكتبه، وها هو اسمه مخطوطا على غلافه بالفارسي «عيسى إبراهيم الدباغ»، فرآه بعين الخيال وهو يلقى في الدفترخانة ليقبر هنالك إلى الأبد بكل ما يسجل في أوراقه من توقيعات تاريخية تشهد له بالامتياز وتبشره بأسعد مستقبل. وسأل عن مقدار معاشه فأجاب المراقب: اثنا عشر جنيها، ولكنك ستقبض مرتبك كاملا لمدة عامين.
وغادر الوزارة بعينين تحملقان في داخل رأسه. أيقن الآن أنه قضي عليه بأن يعاني التاريخ في إحدى لحظات عنفه، حين ينسى وهو يثب وثبة خطيرة مخلوقاته التي يحملها فوق ظهره، فلا يبالي أيها يبقى وأيها يختل توازنه فيهوي، ومشى طويلا في دفء الشمس دون هدف، وفي غفلة تامة عن الشوارع التي يخبط فيها. تذكر البوديجا قهوته المختارة، فمضى إليها. في مثل هذا الوقت من الظهيرة ليس ثمة أمل في أن يجد في مجلسه أحدا من أصدقائه فراح يحتسي الشاي وحيدا وصورته في إحدى المرايا المصقولة تؤانسه، رغم كآبة منظرها. ووجد الجماعة تلعب النرد وتتحمس حتى الجنون لما يجيء به الزهر، وجد فيها أصدق مثال للامبالاة التي تلقت بها الدنيا كارثته، فتحول عنها وعن الغارقين في دخان النارجيلة إلى صورته الكئيبة. لو نطقت هذه الصورة لوجدت حقا من يفهمني، خبرني ماذا فعلت، ولم لم تقرأ المستقبل إذ هو على بعد ساعات منك، على حين تؤكد أخبارا وقعت فوق سطح الأرض منذ ملايين السنين. وهذا الوجه ذو الرأس الكبير والهيئة المثلثة الذي مدحه أحد الشعراء فشبهه بدلتا النيل، وهذا الوجه الذي كان مرشحا للصفحات الأولى من الصحف، ما باله يندثر كالديناصور عملاق الأساطير البائدة! وكالشاي الذي تحتسيه المقتلع من أرضه الطيبة في سيلان ليستقر آخر الأمر في مجاري القاهرة. وإذا علوت بضعة آلاف من الأقدام في الفضاء فلن ترى فوق سطح الأرض حيا ولن تسمع صوتا، إذ يذوب كل شيء في حقارة رهيبة كونية، والماضي الضخم الذي ما زالت أنفاسه تتردد على وجهك تقطع القرائن بأنه سيتحلل وشيكا ويتعفن ولن تبقى منه إلا على رائحة كريهة.
وارتفع صوت يقول في عصبية: قلبي يحدثني بأنني سأجدك هنا.
وأقبل سمير عبد الباقي فجلس إلى جانبه بوجه شاحب ونظرة منكسرة كأنما تطالعه من وراء القضبان، وفرح عيسى به فرحة جعلته يشد على يده بقوة نابضة بالاستغاثة، وعاد سمير يؤكد: قلبي يحدثني بأنني سأجدك هنا!
فضحك عيسى ضحكة عالية اختلج لها جفنا صاحب القهوة وراء طاولته ثم قال: ولن تجدني منذ اليوم إلا هنا!
Bilinmeyen sayfa