بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَبِه نستعين
الْحَمد لله الْملك الْعَظِيم الأول الآخر الْقَدِيم باعث نبيه مُحَمَّد مبرهنا طَرِيق التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وداعيا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم فَبلغ ﷺ الرسَالَة على التَّعْمِيم ونهج لمن تبعه الدّين القويم فَوَجَبَ على الكافة تَصْدِيقه وَالْقِيَام بِوَاجِب الصَّلَاة عَلَيْهِ وَالتَّسْلِيم فَلهُ الْحَمد حمدا يخرج عَن دَرك الإحصاء ويرغم بِهِ أنف من جحد وَعصى وَصلى الله على نبيه الْمُصْطَفى صَلَاة أستأنس بهَا حِين وَحْشَة الْقُبُور وأتميز بهَا فِي الدَّاريْنِ عَن أهل الويل وَالثُّبُور وعَلى جَمِيع إخوانه من النبييين وَالْمُرْسلِينَ وَآل كل والصحب أَجْمَعِينَ
أما بعد لما كَانَ علم التَّارِيخ من الْعُلُوم المفيدة والقلائد الفريدة موصلا علم السّلف إِلَى من خلف مُمَيّزا لِذَوي الْهِدَايَة عَن أهل الصلف يُعِيد ذكر الْأَعْصَار بعد ذهابها وينبه على خطئها من صوابها ويجدد أَخْبَارهَا وآثارها ويميز أخيارها من أشرارها وحالها عَن أحارها فبه يَسْتَفِيد الآخر عقول الأول وَبِه يتَمَيَّز أهل الاسْتقَامَة عَن أهل الزلل ثمَّ يحمد بِهِ النَّاظر اللبيب قَصده وَبِه يعرف أَبَانَا آدم وَمن بعده وَإِن تَأَخّر عَنْهُم وَطَالَ عَهده ثمَّ لولاه لجهلت الْأَنْسَاب واندرست الأحساب وَلم تفرق بَين الجهلة وَذَوي الْأَلْبَاب وَلما عرف من الْمُتَقَدِّمين فضل فَاضل على مفضول وَلَا ميز بَين سَائل ومسؤول ولولاه حَقًا مَاتَت الدول وَلم يصل إِلَيْنَا من أَخْبَار الماضين غير الْأَقَل وَفِي ذكر أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين من الإفادة مَا شهد بِهِ نطق الْقُرْآن
1 / 59
وَفِي قَوْله تَعَالَى وكل نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك ثمَّ قد ذكر بعض أَئِمَّة التَّفْسِير فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَاجعَل لي لِسَان صدق فِي الآخرين﴾ أَن مَعْنَاهُ اجْعَل لي جاها وَحسن صيت فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة يبْقى أَثَره إِلَى يَوْم الدّين وَطَرِيق دوَام ذَلِك إِنَّمَا يكون من قبل التَّارِيخ
وَذكر بعض الْعلمَاء الْمُحَقِّقين أَن الله أنزل فِي التَّوْرَاة سفرا من أسفارها مُفردا متضمنا أَحْوَال الْأُمَم السالفة ومدد أعمارها وَبَيَان أنسابها فَلَمَّا كَانَ كَذَلِك وَثَبت فِي ذهني ذَلِك ووقفت على مَا أوردهُ أَعْيَان الْأَئِمَّة وعلماء الْأمة مِمَّا رَوَوْهُ عَن الْمُخْتَار وقدوة الْأَطْهَار من قَوْله ﷺ الْإِيمَان يمَان وَالْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية أوردهُ أَحْمد بن حَنْبَل فِي مُسْنده وَالْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه يَقُول أَتَاكُم أهل الْيمن أَلين قلوبا وأرق أَفْئِدَة الْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية
وَذكر مُسلم فِي صَحِيحه أَنه قَالَ ﷺ جَاءَ أهل الْيمن هم أرق أَفْئِدَة الْإِيمَان يمَان وَالْفِقْه يمَان وَالْحكمَة يَمَانِية
ذكر بعض الْعلمَاء أَن الْغَرَض بالْخبر الْمَذْكُور الثَّنَاء على أهل الْيمن لإسراعهم إِلَى الْإِيمَان وَحسن قبولهم لَهُ من غير حَاجَة إِلَى عَسْكَر وَلَا قتال
وَذكر ابْن أبي الصَّيف فِي كِتَابه الميمون المتضمن لبَعض فضل أهل الْيمن أَن القَاضِي أَبَا عبد الله الْحُسَيْن بن عَليّ الصَّيْمَرِيّ ذكر فِي أَخْبَار الإِمَام أَبى حنيفَة وفضائله بِسَنَد إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ أَتَاكُم أهل الْيمن هم أرق قلوبا وألين أَفْئِدَة يُرِيد أَقوام أَن يضعوهم ويأبى الله إِلَّا أَن يرفعهم
وَذكر الرَّازِيّ الْآتِي ذكره بكتابه عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه أدْرك من عشيرته من
1 / 60
لَقِي سطحيا وَخَبره أعقاب من لَقِي شقا أَنَّهُمَا سئلا عَن كثير من أَخْبَار الْيمن فأخبرا بأحداث تكون فِيهَا
مِنْهَا أَنَّهُمَا قَالَا بِالْيمن ثَمَانِي بقاع مِنْهَا أَربع مقدسات أَو قَالَا مرحومات وَأَرْبع محرومات أَو قَالَا مشئومات وَثَمَانِية كنوز فالبقاع المرحومات مرامعين وَبِه الْكَثِيب الْأَبْيَض وَهُوَ رِبَاط يخرج إِلَيْهِ النَّاس إِلَى عصرنا هَذَا والجند ومأرب وزبيد
وَالْبِقَاع المحرومات أَو المشئومات ختا الْجَبَل الْأَشْهب سيد جبال النَّار قطب الْيمن إِذا سكن سكنت الْيمن يكون فِيهِ زلازل وَفِي جوَار فوهته دارت سِتّ عشرَة وقْعَة وَتظهر فِيهِ النَّار والخراب وتعوي فِيهِ الذئاب ثمَّ تعمر فِيهِ الدّور وتشيد فِيهِ الْقُصُور ويؤهل فَيكون مصرا من أَمْصَار الْمَنْصُور ويسير بَين يَدَيْهِ رجل من أَهله كَأَن بِهِ رَاجِلا بَين يَدَيْهِ حافيا متذللا لَهُ مسارعا إِلَى طَاعَته نَافِذا فِي أمره وتذل بِهِ الْجبَال من السهول وَيكون أشهر مَا بِالْيمن
وَالثَّانيَِة من المحرومات أَزَال وَالثَّالِثَة تهَامَة وَالرَّابِعَة المعافر قَالَ وَقَالَ ابْن يَعْقُوب وَأما الَّذِي كنت أسمعهُ من شُيُوخ الصنعانيين وعلمائهم ان الملعونات نَجْرَان وصعده وأثافت وضهر ويكلا وَذكر عجائب كَثِيرَة لَيست من ملازم الْكتاب فَمن أرادها نظرها
1 / 61
وَكنت بِحَمْد الله امْرَءًا مِنْهُم مولدا ومنشأ وانضاف إِلَى ذَلِك مَا هُوَ مَعْلُوم من حب الوطن عِنْد الملا ومتعارف بَين الفضلا وَله يَقُول ابْن الرُّومِي شعرًا ... وَمَا الشوق للأوطان من أجل طيبها ... وَلَا شرف فِيهَا وَفضل مقَام
وَلكنه فِي النَّفس طبع لأَجله ... يُجَادِل فِي تفضيلها ويحامي
وَمن ثمَّ يهوى الطِّفْل فِي النَّفس أمه ... ويأبى سواهَا وَهِي ذَات وشام
وَمن غربَة يبكي الْجَنِين إِذا بدا ... وَقد كَانَ فِي ضيق وفرط ظلام ... فَأَحْبَبْت حِينَئِذٍ وضع كتاب أجمع فِيهِ غَالب علمائه وأذكر مَعَ ذكر كل مَا ثَبت من حَاله مولدا ونعتا ووفاة بعد أَن أضم إِلَى ذَلِك إِشَارَة من اعْتقد أَن إِشَارَته حكم وطاعته غنم فاعتمدت ذَلِك متقربا بِالْإِشَارَةِ وراجيا من الله الْإِعَانَة
ثمَّ عرض لي أَن مَتى عرض مَعَ ذكر أحد من الْعلمَاء ذكر أحد من الْأَعْيَان ذكرت من حَاله مَا لَاق ثمَّ أضفت إِلَى ذَلِك طرفا من أَخْبَار الْمُلُوك وَجَعَلته مُخْتَصرا أُرِيد بذلك جعل الْكتاب جَامعا لذكر الْفَرِيقَيْنِ ورؤساء الدَّاريْنِ
وبدأت بالعلماء لقَوْله تَعَالَى ﴿وَالْمَلَائِكَة وأولو الْعلم﴾ وَثَبت عَنهُ ﷺ أَنه قَالَ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وأحببت أَن أقدم نبذة من الْأَخْبَار دَالَّة على فضل الْعلمَاء والملوك
فَمن الدَّلِيل على فضل الْعلمَاء مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِسَنَدِهِ عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ من سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علما سلك الله ﷿ بِهِ طَرِيقا إِلَى الْجنَّة وَأَن الْمَلَائِكَة لتَضَع أَجْنِحَتهَا رضَا لطَالب الْعلم وَأَن الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض حَتَّى الْحيتَان فِي جَوف المَاء
ولفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على الْكَوَاكِب وَأَن الْعلمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن أَخذ بِهِ أَخذ بحظ وافر
قَالَ الْخطابِيّ فِي معالمه فِي معنى وضع الْمَلَائِكَة أَجْنِحَتهَا لأهل الْعلم ثَلَاثَة
1 / 62
أَقْوَال أَحدهَا التَّوَاضُع والخشوع تَعْظِيمًا لَهُ وتوقيرا لعلمه كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿واخفض لَهما جنَاح الذل من الرَّحْمَة﴾ وَقيل وضع الْجنَاح مَعْنَاهُ الْكَفّ عَن الطيران وَألْحق بالعالم جليسه لاستماع الذّكر مِنْهُ كَمَا جَاءَ فِي خبر آخر مَا من قوم يَجْلِسُونَ مجْلِس ذكر إِلَّا غشيتهم الرَّحْمَة وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَة
قيل لعطاء بن أبي رَبَاح مَا مجَالِس الذّكر فَقَالَ هِيَ الَّتِي تعرف بهَا كَيفَ تَأْكُل وَكَيف تشرب وَكَيف تنْكح وَكَيف تبيع وَكَيف تبْتَاع وَكَيف تقيم فَرَائض الله عَلَيْك وَسنَن نبيه وَمَتى جَوَازهَا ووجوبها أَلا ترى أَن الله تَعَالَى يَقُول ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾ إِذْ لَا يسْأَل الْجَاهِل عَن أمره الَّذِي لَا يُعلمهُ غير من يُعلمهُ فَنزلت هَذِه الْآيَة على أَن أهل الذّكر هم الْعلمَاء
وَالْقَوْل الثَّالِث أَن معنى فرش الْجنَاح ليحمل الطَّالِب عَلَيْهِ ليبلغه وطره وَيقرب عَلَيْهِ الْبعيد من مقْصده كَمَا شَاهد ذَلِك جمع من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين وَنقل لنا نقلا متواترا كَمَا سنذكر ذَلِك فِي ذكر الْحَافِظ العرشاني إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقَوله وَإِن الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي السَّمَاوَات وَمن فِي الأَرْض حَتَّى الْحيتَان فِي جَوف المَاء فَكَانَ اسْتِغْفَار أهل السَّمَاء لما لَهُم على ألسن الْعلمَاء من الذّكر بجميل الْأَفْعَال واعتقاد التَّفْضِيل لَهُم والتبجيل وتمييز مقربهم عَن غَيرهم وأمد الأَرْض لما لَهُم على ألسن الْعلمَاء من التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم وَالْمُسْتَحب وَالْمَكْرُوه فِي الْآدَمِيّين وَمن طَرِيق ذَلِك أمره لَهُم بِحُقُوق من ولوا أمره بِملك أَو اسْتِحْقَاق وَكَيف صفة ذَلِك وَأما الثَّوَاب لفَاعِله وَالْعِقَاب لتاركه ثمَّ تعريفهم للمستباح مِنْهَا أكولا وحمولا وحلوبا وركوبا وَمَا الَّذِي يجمع ذَلِك كَالْإِبِلِ وَمَا لَا يجمعه ثمَّ تعريفهم بِمَا يحل وَبِمَا لَا يحل وَكَيف بَيَان تَحْلِيله من تَحْرِيمه وَمن قبيل هَذِه الْحيتَان وَذكر الشَّارِع ذَلِك مُبَالغَة واستقصاء واستغراقا إِذْ هم المرشدون إِلَى الْمصلحَة فِي بَابهَا والموصون بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَأَن لَا تعَارض عَبَثا وَلذَلِك ألهمت محبتهم وَالِاسْتِغْفَار لَهُم كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على فضل الْعلم وَأَهله يطول ذكرهَا
1 / 63
وَيذكر الْعلمَاء عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الْعلم ثَلَاثَة أحرف الْعين من عليين وَاللَّام من اللطف وَالْمِيم من الْملك فَيبلغ بِصَاحِبِهِ أَعلَى الدَّرَجَات من العليين والزلفى بهَا إِلَى اللطف فِي الدَّاريْنِ وَالْملك فيهمَا
وَعَن بعض الْعلمَاء الْعلم نزهة الْقُلُوب وَالْأَدب تحفة الْأَلْبَاب وَأحسن مَا وعى الْمَرْء فِي عمره علم يلْبسهُ للزِّينَة فِي العاجل وينتج عَنهُ سَعَادَة الآجل
وانقضى ذكر مَا أسلفته من الْآثَار فِي فضل الْعلم وَأَهله
وَأُرِيد اتِّبَاع ذَلِك بِمثلِهِ فِي فضل الْمُلُوك وَهُوَ آثَار مِنْهَا قَوْله ﷺ السُّلْطَان ظلّ الله فِي أرضه يأوي إِلَيْهِ كل ملهوف
قَالَ الحريري فِي درة الغواص مَعْنَاهُ ظله السابغ على عباده المسبل على بِلَاده وَقَالَ بعض الْعلمَاء الدّين بِالْملكِ يقوى وَالْملك بِالدّينِ يبْقى وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ عُثْمَان بقوله أَن الله ليزع بالسلطان مَا لَا يَزع بِالْقُرْآنِ وَمن قبيل ذَلِك قَول ابْن الْمُبَارك الْجَمَاعَة حَبل الله فَاعْتَصمُوا مِنْهُ بعروته الوثقى ... الله يدْفع بالسلطان معضلة ... عَن ديننَا رَحْمَة مِنْهُ ودنيانا
لَوْلَا الشَّرِيعَة لم تأمن لنا سبل ... وَكَانَ أضعفنا نهبا لأقوانا ... ثمَّ قد ذكر الْعلمَاء لذَلِك أَعنِي فضل الْعلمَاء من الْمُلُوك آثارا يطول سردها ويسمج شرحها يعرفهَا الْعَارِف وَلَيْسَ غرضي بِوَضْع مَا وضعت من ذَلِك إِلَّا التَّنْبِيه والإذكار لِذَوي الْأَبْصَار ثمَّ تَعْرِيف النَّاظر أَن لَيْسَ غرضي بِذكر الْعلمَاء أخص الْمُحَقِّقين مِنْهُم والمتسمين من أهل الْفَهم فيهم إِذْ ذَاك ينْدر فِي كل جيل لَكِن مرادي غَالِبا ذكر الْفُقَهَاء وَمن رَأس مِنْهُم ودرس وبالصواب أفتى وَهدى إِذْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الْعلم مَدِينَة
1 / 64
لَهَا بَابَانِ أَحدهمَا للدراية وَالْآخر للرواية فغرضي أَن أذكر أهل الْبَابَيْنِ الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة لَا من حقق الْعلم وأكمل شُرُوطه وتميز أهل زَمَانه وأوانه بل كَمَا فعل ذَلِك من سبقني من المصنفين لذَلِك المطيلين مِنْهُم والمقصرين وَلَو أَرَادَ أحد حصر تصنيفه بِذكر من أكمل الْعلم معرفَة لعجز
فَإِن ذَلِك أَمر لَا يَنْتَهِي وَالله يَقُول ﴿وَفَوق كل ذِي علم عليم﴾
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ فَوق كل عَالم أعلم مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى الله مفيض مَا يَشَاء من علمه على من اخْتصَّ من خلقه وَمن ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَليّ كرم الله وَجهه أَنه قَالَ الْعلم أَكثر من أَن يحفظ فَخُذُوا عَن كل عَالم محاسنه
وَمَا رُوِيَ عَن جَعْفَر بن الْأَشَج أَنه قَالَ الْعلم كَالْمَالِ مَتى كَانَ بيد الْإِنْسَان مِنْهُ شَيْء سمي مُوسِرًا وَكَذَا من حوى شَيْئا من الْعلم سمي عَالما وَكَذَلِكَ يحوي الْإِنْسَان مَالا كثيرا فَلَا يُزَاد على اسْم الْيَسَار كَمَا أَن الْعَالم وَإِن كثر علمه لَا يُزَاد على الْعَالم لَكِن يتميزان بالأفضلية فَيُقَال أغْنى من فلَان كَمَا يُقَال أعلم مِنْهُ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنى أَشَارَ الْقَائِل بقوله ... من النَّاس من يدعى الإِمَام حَقِيقَة ... ويدعى كثير بِالْإِمَامِ مجَازًا
وَلَكِن مَتى يخفى الصَّباح إِذا بدا ... وَحل عَن اللَّيْل البهيم طرازا ... ثمَّ قد يَقُول جَاهِل أَو متجاهل مَا الْفَائِدَة الْحَاصِلَة فِي ذكر من أوردته وقص قصَص من توخيته فأجبت الأول بِالسَّلَامِ وَالْآخر أَن فِي ذَلِك فائدتين إِحْدَاهمَا مَا ذكرت أَولا من ذكر الْقُرْآن للأنبياء وأممهم والقرون الْمَاضِيَة وَمن تَبِعَهُمْ وَالْأُخْرَى أَن الْمُتَأَخر مَتى وقف على خبر من تقدمه من الْفُضَلَاء أَو سمع كَيفَ تشميرهم وإقبالهم على الْعلم وَطَلَبه تاقت نَفسه إِلَى الِاقْتِدَاء بهم والانسلاك فِي سلكهم وَالتَّحْقِيق
1 / 65
لتفضيلهم وتجميلهم وَإِلَى ذَلِك أَشَارَ إِمَام الطريقتين أَبُو الْقَاسِم الْجُنَيْد يَقُول الْأَرْوَاح جنود مجندة من جنود الله يخفى بهَا من قُلُوب العارفين ويصفو بهَا أسرار المريدين فقد يحث الصَّالح الجبان إِلَى المعركة فرسَان الطعان ويهيج الْحَادِي أشواق القوافل وَإِن كَانَ عَن معنى مَا يَأْتِي بِهِ غافل
وَذكر فِي صفة الصفوة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ أَنه قَالَ جَلَست يَوْمًا أحدث فِي حَلقَة فِيهَا سعيد بن السَّائِب الطَّائِفِي فَجعل يبكي حَتَّى رَحمته ثمَّ قلت مَا يبكيك فَقَالَ يَا سُفْيَان إِذا سَمِعت ذكر أهل الْخَيْر وَذكر فعالهم وجدت نَفسِي عَنْهُم بمعزل وَسُئِلَ الْجُنَيْد هَل على كَلَامه الأول دَلِيل قَالَ نعم قَول الله تَعَالَى وكلا نقص عَلَيْك من أنباء الرُّسُل مَا نثبت بِهِ فُؤَادك فَإِذا كَانَ تثبيت فُؤَاده ﷺ بأخبار الرُّسُل فَكيف بِمن عداهُ وَمَتى ذكرت الْفُقَهَاء وَالْأَئِمَّة المتبصرين أوردت مَعَ كل مَا صَحَّ لدي لَهُ من منقبة أَو نعت يحسن إِيرَاده وَإِن لم يكن أَهلا لذَلِك كَانَ إعراضي عَنهُ كَافِيا وَإِلَيْهِ يَقُول ... ولربما كَانَ السُّكُوت عَن الْجَواب جَوَابا
مَعَ أَن المؤرخين قد شحنوا كتبهمْ بِذكر الْعلمَاء وتاريخهم حَتَّى قَالَ المَسْعُودِيّ عَن جمَاعَة مِنْهُم ذكرتهم لنقلهم السّنَن وحاجة أهل الْعلم وَأَصْحَاب الْآثَار إِلَى تَحْقِيق أَحْوَالهم لأخذهم الْعلم عَنْهُم والاستعانة بهم فِي دينهم ودنياهم
1 / 66
وَأَرْجُو أَن الله قد عصمني عَن أَن أرتكب فِي كتابي هَذَا هَوَاء وأميز أحد مِمَّن ذكرته إتباع هَوَاء وأعده من جملَة الملاء وَلَيْسَ لذَلِك أَهلا بل أذكر الْفَقِيه بِمَا ثَبت لَهُ من تَارِيخ أبدأ فِي أول ذكره بميلاده وأختم ذَلِك بوفاته ثمَّ فِي أثْنَاء ذَلِك مَا صَحَّ لي من نعوت ثمَّ مَتى ولي أحد مِنْهُم قَضَاء وَسَار السِّيرَة المرضية قلت محن هَذَا بِالْقضَاءِ وَإِن لم أقل ولي الْقَضَاء سنة كَذَا من قبل فلَان
وَاعْلَم أَنِّي أخذت أَخْبَار الْمُتَقَدِّمين غَالِبا من أحد كتب ثَلَاثَة أكملها فِي ذكر الْعلمَاء وتواريخهم كتاب الْفَقِيه أبي حَفْص عمر بن عَليّ بن سَمُرَة إِذْ ذكر غَالب الْفُقَهَاء بِالْيمن مُنْذُ ظهر بِهِ الْإِسْلَام إِلَى بضع وَثَمَانِينَ وخمسمئة ثمَّ يُقَارِبه كتاب أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ أصلا والصنانعي بَلَدا وَهُوَ كتاب يُوجد كثيرا بأيدي النَّاس يَقُول فِي تَرْجَمَة كل نُسْخَة الْجُزْء الثَّالِث من تَارِيخ الرَّازِيّ ثمَّ يذكر فِي غَالب نُسْخَة مَا لَا يُوجد فِي النّسخ الْأُخْرَى وَبحث جمع كثير من أَعْيَان الْيمن عَن تَحْصِيل النُّسْخَة بكمالها فَلم يَجدوا غير الْجُزْء الْمَذْكُور وَبلغ فِيهِ إِلَى سِتِّينَ وأربعمئة تَقْرِيبًا وحقق فِيهِ جمَاعَة من أهل الْيمن غالبهم من صنعاء والجند وَأورد لَهُم من الْآثَار كثيرا وحقق من أَحْوَالهم
بِخِلَاف مَا ذكره ابْن سَمُرَة ثمَّ إِنِّي تتبعت كِتَابه فَرَأَيْت مَا يدل على كَمَال مُصَنفه ونزاهته عَمَّا ينْسب إِلَيْهِ أهل ناحيته من الاعتزال وَالْقَوْل بِخِلَاف مَا صَحَّ عِنْد أهل الطول فقد طالعت كِتَابه الْمَذْكُور مرَارًا ونقلت مِنْهُ إِلَى كتابي هَذَا أَخْبَارًا وأخبارا
ثمَّ يُقَارِبه تَارِيخ صنعاء لِابْنِ جرير الصَّنْعَانِيّ الزُّهْرِيّ واسْمه إِسْحَاق بن يحيى بن جرير ينتسب إِلَى الْأسود بن عَوْف أخي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَهُوَ كتاب لطيف الحجم بِهِ فَوَائِد جمة ثمَّ يُقَارِبه تَارِيخ عمَارَة الموسوم بالمفيد فِي أَخْبَار صنعاء وزبيد ثمَّ تَدْعُو الْحَاجة إِلَى ذكر أحد لَيْسَ من الْيمن فَأَخذه فِي الْغَالِب عَن
1 / 67
كتاب القَاضِي أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن خلكان الْمَعْرُوف بوفيات الْأَعْيَان إِذْ لم يذكر من الْيمن غيراليسير وَكَانَ قَاضِي قُضَاة الشَّام مُعظما عِنْد الْعَزِيز ثمَّ عزل فِي أَيَّام قلاوون الصَّالِحِي لحَدث كَانَ مِنْهُ وَكتابه على الِانْقِطَاع نَحْو ثَمَانِينَ سنه وستمئة ثمَّ من بضع ثَمَانِينَ وستمئة إِلَى وقتي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسبعمئة إِنَّمَا أخذت الْغَالِب عَن أهل بَيت مِمَّن أَدْرَكته أَو أدْركْت من أدْركهُ مَعَ أَنِّي لم أقصد فِي ذكر أحد رِيَاء وَلَا أطريته مِمَّا يسْتَحق من ثَنَاء وَالله عَليّ فِي ذَلِك من أكبر الشُّهَدَاء وَلم أحبر على جمع ذَلِك إِلَى رَجَاء حُصُول أجر من الله وثواب وَمن أهل الْإِسْلَام دُعَاء مستجاب أَو ثَنَاء مستطاب ثمَّ تبركا باقتداء أكَابِر من سلك من هَذَا المسلك وَذكروا فِي فضلاء زمانهم وَمن تقدمهم أَقْوَامًا يغلب على الظَّن أَن فِي من تَأَخّر جمَاعَة يفضلون عَلَيْهِم أَو على كثير مِنْهُم بِالْعلمِ وَرُبمَا تحقق ذَلِك فِي كثير ثمَّ قبولا لإشارة شَيْخي أبي الْحسن الأصبحي وَهُوَ الَّذِي ذكرت أَولا أَن إِشَارَته فِي حَقي حكم وطاعته غنم مَعَ تعويلي على أَن مطالع كتابي هَذَا يكون معي عِنْد تَحْقِيقه لزلل كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم﴾ وَليكن كَمَا قَالَ الأول ... ويغضي عَن الْأَشْيَاء يعلم كنهها ... إِلَى أَن يَقُول النَّاس لَيْسَ بعالم
وَمَا ذَاك من جهل بِهِ غير أَنه ... يجر على الزلات ذيل المكارم ... ثمَّ مَتى تحقق خللا فليصلحه بعد تحوط فَإِنِّي قد أخذت مَا أوردت من مظان جَيِّدَة ورحلت من الْجند فِي طلب ذَلِك إِلَى نواح بعيدَة ثمَّ يعرض مَعَ ذكر أحد من الْعلمَاء ذكر أحد من الْأَعْيَان فأورد من ذكره مَا يشفي النَّفس ويزيل اللّبْس على حسب الطَّاقَة وَمَعَ ذَلِك فالأغراض فِي ذَلِك تبلغ أغراضا مُخْتَلفَة فقد من يُرِيد تَارِيخ
1 / 68
الْعلمَاء وَقد يُرِيد الْمُلُوك وَقد يُرِيد الْأَعْيَان والميل إِلَى الِاخْتِصَار بِقدر الِاسْتِطَاعَة
ثمَّ استفتح ذَلِك بِحَمْد الله جَاعل لُحُوم الْعلمَاء مُحرمَة لأهل السَّفه والشقاء فأعوذ بِهِ من حسد الحاسدين وَاعْتِرَاض المعاندين ثمَّ الصَّلَاة على خير الْأَنْبِيَاء وَجَمِيع أخوانه مِنْهُم وَآل كل والصحب على الِاسْتِقْصَاء
وَرَأَيْت أَن أولى مَا استفتح بِهِ الْكتاب ذكره ﷺ إِذْ هُوَ الْموصل عَن الله الْعلم بِمَا أخبر فابتدأت حِينَئِذٍ بنسبه ثمَّ مولده ثمَّ مَا تحققته من أَحْوَاله بداية وَنِهَايَة على شَرط الإيجاز والاختصار فِيهِ ﷺ إِذْ بِهِ سلكنا الطَّرِيق وَحصل لكل مُسلم التَّوْفِيق ولولاه لم يكن فِي الْأمة عَالم اسْتحْسنَ وَلَا جرى ذكره فِي كتاب وَلَا بعده من الصَّوَاب
وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم كنيته بِولد لَهُ من خَدِيجَة ﵂ جَاءَهُ قبل الْإِسْلَام مُحَمَّد بن عبد الله
مُحَمَّد اسْم عَرَبِيّ يَسْتَعْمِلهُ الْعَرَب فِي الْمُسْتَغْرق للمحامد وَسمي بذلك لِأَن أمه رَأَتْ فِي الْمَنَام قَائِلا يَقُول لَهَا إِنَّك حملت بِسَيِّد هَذِه الْأمة يكون مُسْتَغْرقا لجَمِيع المحامد فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا وَأما أَبوهُ فَقيل كَانَ اسْمه عبد الدَّار وَقيل عبد قصي فَلَمَّا فدي من الذّبْح سَمَّاهُ أَبُو عبد الله وَهُوَ أحد الذبيحين الَّذِي جَاءَ فِي بعض الْأَخْبَار عَنهُ ﷺ أَنا ابْن الذبيحين عَنى أَبَاهُ وجده إِسْمَاعِيل وَهُوَ ابْن عبد الْمطلب وَيُقَال لَهُ شيبَة الْحَمد أَي شيبَة الثَّنَاء إِذْ ولد وبرأسه شيبَة ابْن هَاشم واسْمه عَمْرو وَسمي هاشما لِكَثْرَة مَا كَانَ يطعم قومه قَالَ ... عَمْرو الَّذِي هشم الثَّرِيد لِقَوْمِهِ ... وَرِجَال مَكَّة مسنتون عجاف ... وَهُوَ ابْن عبد منَاف واسْمه الْمُغيرَة بن قصي سمي قصيا لِأَن أمه تزوجت فِي غير أَهله فَخرجت بِهِ مَعهَا صَغِيرا فَلَمَّا كبر عَاد بَلَده فرأس بهَا وَجمع بيُوت قُرَيْش وَلذَلِك كَانَ يُسمى مجمع بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة وَهَذَا النَّضر هُوَ قُرَيْش فَمن كَانَ من وَلَده فَهُوَ قرشي وَسمي بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ ذَا غَلَبَة وقهر من القرش حَيَوَان فِي الْبَحْر لِأَن لَهُ قهرا على غَيره وَقيل لتجارته ويساره وتصغيره محبَّة وَسميت قُرَيْش الحمس أَيْضا قيل لتشددها فِي الدّين خَاصَّة وَقيل لتشددها فِيهِ وَفِي غَيره وَقيل من الحمسة وَهِي الْحُرْمَة فَكَانَ يُقَال لَهُم أهل
1 / 69
الحمسة أَي أهل الْحُرْمَة
وَقَالَ الْخطابِيّ سُئِلَ بعض الْعلمَاء لم كَانَت قُرَيْش أفضل الْعَرَب وَهِي قَبيلَة من مُضر فَقَالَ لِأَن دارها لم يزل منسكا لحج النَّاس وموسما لَهُم وموردا لقَضَاء نسكهم وَكَانُوا لَا يزالون يتأملون أَحْوَال الواردين ويراعونها يختارون أحسن مَا يشاهدونه ويتكلمون بِأَحْسَن مَا يسمعونه من لغتهم ويتخلقون بِأَحْسَن مَا يرَوْنَ من شمائلهم فبذلك وَهُوَ حسن الِاخْتِيَار الَّذِي هُوَ ثَمَرَة الْعقل صَارُوا أفضل الْعَرَب ثمَّ قَالَ لما بعث الله نبيه ﷺ مِنْهُم تمت لَهُم بِهِ الْفَضِيلَة وكملت بِهِ السِّيَادَة وَإِنَّمَا صَار دَارهم حرما لِأَن الله تَعَالَى لما قَالَ للسماوات وَالْأَرْض ﴿ائتيا طَوْعًا أَو كرها قَالَتَا أَتَيْنَا طائعين﴾ كَانَ الْمُجيب لَهُ بذلك من الأَرْض مَوضِع الْكَعْبَة وَمن السَّمَاء مَا قابله فَلذَلِك جعل فِيهِ الْبَيْت الْمَعْمُور وَهَذَا كَلَام دخيل والْحَدِيث شجون
نعود إِلَى بَقِيَّة النّسَب وكنانة هُوَ ابْن خُزَيْمَة بن مدركة واسْمه عَامر بن الْيَأْس بِفَتْح الْهمزَة ضد الرَّجَاء وَقيل بخفضها مُوَافقَة للنَّبِي ﷺ ابْن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان النّسَب إِلَى هُنَا لَا يمتري فِيهِ أحد وَمَا جَاوز ذَلِك من النسابين من قَالَ بِهِ وهم جمَاعَة ابتدأت مِنْهُم بِالْإِمَامِ السُّهيْلي لجلالة قدره وشهرة مَعْرفَته فَقَالَ عدنان بن مقوم بِفَتْح الْوَاو وخفضها بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نبت بن إِسْمَاعِيل الذَّبِيح الثَّانِي على رَأْي جمَاعَة كثيرين وَاخْتَارَ السُّهيْلي أَن الْعَرَب كلهَا من ولد إِسْمَاعِيل الذَّبِيح قَالَ إِذْ هم بَنو نبت وَبَنُو أَيمن ابْني إِسْمَاعِيل فالعدنانية بَنو نبت والقحطانية بَنو أَيمن
وَقيل قيدر بن نبت بن إِسْمَاعِيل وَلَوْلَا الْميل إِلَى الِاخْتِصَار لشرحت مَا شَرحه السُّهيْلي فِي هَذَا الْمَكَان وَإِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم وَمَعْنَاهُ أَب رَحِيم ولتحقق ذَلِك فِيهِ جعله وَامْرَأَته سارة كافلي أَطْفَال الْمُؤمنِينَ الَّذين يموتون صغَارًا ابْن تارخ وَهُوَ أزر بن ناحور بن ساروح بن راغوا بن فالخ وَقيل فالغ وَمَعْنَاهُ القسام لِأَنَّهُ قسم الأَرْض بَين أَهلهَا ابْن عَابِر وَقيل عبير بياء مثناة من تَحت بدل
1 / 70
الْألف بن سالخ وَمَعْنَاهُ الْوَكِيل بن أرفخشد وَمَعْنَاهُ مِصْبَاح مضيء ابْن سَام بن نوح واسْمه عبد الْغفار وَسُميَّة نوحًا لِكَثْرَة نواحه على نَفسه لتَقْصِيره فِي طاعه ربه وَهُوَ ابْن لامك بِفَتْح الْمِيم وَقيل بِكَسْرِهَا ابْن متوشلخ بالشين الْمُعْجَمَة وَقيل بِالْمُهْمَلَةِ وَاللَّام مَفْتُوحَة وَقيل بخفضها والخا مُعْجمَة وَتَفْسِيره مَاتَ الرَّسُول إِذْ مَاتَ أَبوهُ وَهُوَ فِي بطن أمه بن أَخْنُوخ وَقيل خنوخ بِحَذْف الْألف وخاءين معجمتين بَينهمَا نون مَضْمُومَة ثمَّ وَاو وَهُوَ إِدْرِيس النَّبِي ﷺ أول نَبِي خطّ بالقلم وَأعْطِي النُّبُوَّة بن يرد بن مهليل وَقيل مهلايل وَمَعْنَاهُ الممدوح وَفِي أَيَّامه ظَهرت عبَادَة الْأَصْنَام ابْن قينان بِأَلف بَين النونين وَقيل بحذفه وَمَعْنَاهُ المستوى ابْن نائش وَقيل أنوش وَمَعْنَاهُ الصَّادِق بن شِيث وَمَعْنَاهُ عَطِيَّة الله بن آدم سمي بِهِ لِأَنَّهُ خلق من أَدِيم الأَرْض وكنيته عبد المليك أَبُو الْبشر وَقيل أَبُو مُحَمَّد يعنون بِهِ نَبينَا ﷺ
قَالَ السُّهيْلي وَذكر الطَّبَرِيّ بَين عَابِر وشالخ أَبَا سَمَّاهُ قينان وَأَن الله لم يذكرهُ فِي التَّوْرَاة لِأَنَّهُ كَانَ ساحرا وانقضى ذكر مَا أردناه من النّسَب وَلم يبْق غير ذكر الْأَحْوَال والنعوت بِأَلْفَاظ موجزة فولد يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول وَقيل غير ذَلِك وَكَانَ بعد هَلَاك أَصْحَاب الْفِيل بِخَمْسِينَ لَيْلَة ولد ﷺ مختونا مَسْرُورا فأعجب جده عبد الْمطلب ذَلِك وَقَالَ ليَكُون لِابْني هَذَا شَأْن عَظِيم وَاخْتلف هَل كَانَ أَبوهُ إِذْ ذَاك بَاقِيا أم لَا فَقيل لَا وَقيل نعم عَاشَ شَهْرَيْن بعد وِلَادَته ﷺ وَقيل سنة وَأجْمع المؤرخون أَنه لم يبلغ الثَّلَاث إِلَّا وَقد عدم وَكَانَت أمه تَقول أتيت حِين حملت بِهِ فَقيل لي إِنَّك حملت بِسَيِّد هَذِه الْأمة فَمَتَى وَقع على الأَرْض فَقولِي أُعِيذهُ بِالْوَاحِدِ من شَرّ كل حَاسِد ثمَّ سميه مُحَمَّدًا قَالَت فوَاللَّه مَا رَأَيْت حملا قطّ كَانَ أخف وأيسر ولادَة مِنْهُ
وَلَقَد وَقع وَاضِعا يَدَيْهِ على الأَرْض رَافعا رَأسه إِلَى السَّمَاء فَظهر بميلاده ﷺ من العلامات والبشارات مَا يفوق الْعد كَثْرَة وتبادرت الْكُهَّان إِلَى مَكَّة وَاتَّفَقُوا مَعَ عُلَمَاء الْيَهُود على إعدامه فَأَعْجَزَهُمْ الله ثمَّ أول مُرْضِعَة أَرْضَعَتْه ﷺ أمة ثويبة مولاة لِعَمِّهِ أبي لَهب وَكَانَت قد أرضعت قبله عَمه حَمْزَة ثمَّ أم أَيمن الحبشية
1 / 71
وَهِي أم أُسَامَة بن زيد وَكَانَت مولاة لِأَبِيهِ عبد الْمطلب أعْتقهَا ﷺ وَزوجهَا زيد بن حَارِثَة ثمَّ حليمة وَقيل إِن حليمة أَرْضَعَتْه قبل أم أَيمن ثمَّ لما صَار ابْن سِتّ سِنِين ذهبت بِهِ أمه إِلَى يثرب تزيره أخوال جده عبد الْمطلب من بني النجار ثمَّ لما صَارَت بالأبواء عَائِدَة توفيت هُنَالك وَقد زارها النَّبِي ﷺ عَام الْفَتْح هُنَالك وَالْخَبَر مَذْكُور فِي الْمُهَذّب وَغَيره
فَلَمَّا بلغ الْخَبَر جده عبد الْمطلب أَمر أم أَيمن الْمُرضعَة لَهُ أَن تذْهب من مَكَّة فِي طلبه فَخرجت وَجَاءَت بِهِ فَكَانَ يبره ويكرمه حَتَّى أَن كَانَ أَعْمَامه ليحسدونه على ذَلِك فَيَقُول لَيَكُونن لَهُ شَأْن عَظِيم
فَلَمَّا صَار ابْن ثَمَانِي سِنِين توفّي جده وَقد أوصى بِهِ إِلَى عَمه أبي طَالب لكَونه شَقِيق أَبِيه عبد الله
ثمَّ خرج بِهِ عَمه وَهُوَ ابْن تسع نَحْو الشَّام فَمروا ببحيرى الراهب وَهُوَ بباءين موحدتين مخفوضة ثمَّ مَفْتُوحَة ثمَّ حاء مُهْملَة بعْدهَا يَاء مثناة من تَحت سَاكِنة ثمَّ رَاء ضَبطنَا ذَلِك على سَمَاعنَا وَسمعت جمَاعَة يصحفونه فأضافهم وَلم يكن قبل ذَلِك يضيفهم وَأوصى أَبَا طَالب بحفظه وحذره عَلَيْهِ من الْيَهُود فَدخل ذَلِك فِي نفس أبي طَالب حَتَّى أَنه لم يكد يكمل سَفَره وَعَاد بِهِ مسرعا إِلَى مَكَّة وَلم يزل بهَا حَتَّى بلغ خمْسا وَعشْرين سنة فَتزَوج خَدِيجَة بنت خويلد من أَبِيهَا وَقيل من عَمها وَأصْدقهَا عشْرين بكرَة فَولدت قبل الْإِسْلَام الْقَاسِم وَبِه كَانَ يكنى وَزَيْنَب ورقية وَأم كُلْثُوم ورقية الْكُبْرَى وَبعد الْإِسْلَام عبد الله والطاهر وَالطّيب وَفَاطِمَة فَهَلَك البنون صغَارًا وَأدْركت الْبَنَات الْإِسْلَام فَحسن فِيهِنَّ وَلم يَأْتِ لَهُ من غَيرهَا ولد غير إِبْرَاهِيم فَإِنَّهُ من جَارِيَة تسمى مَارِيَة بنت شَمْعُون أهداها لَهُ ﷺ الْمُقَوْقس واسْمه جريج بن مينا كَذَا ذكره
1 / 72
السُّهيْلي وَلم يَعش إِبْرَاهِيم غير سنة وَعشرَة أشهر وَثَمَانِية أَيَّام
ثمَّ نرْجِع إِلَى ذكر أَحْوَاله ﷺ وَلما بلغ خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة من عمره بنت قُرَيْش الْكَعْبَة وحكمته أَن يرفع الرُّكْن إِلَى مَوْضِعه فَلَمَّا كملت لَهُ أَرْبَعُونَ سنة ابتدئ بِالْوَحْي مناما لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة وَقيل لعشر خلون من ربيع الأول وَاسْتمرّ الْوَحْي مناما سِتَّة أشهر وَلما كَانَ فِي رَمَضَان أَتَاهُ جِبْرِيل بِالْوَحْي يقظة وَلذَلِك قَالَ ﷺ الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة وَأَرَادَ أَن أَعْوَام نبوته إِذا قسمت على سِتَّة أشهر كَانَت سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا إِذْ هِيَ على الصَّحِيح ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة فَلَمَّا أَتَاهُ جِبْرِيل يقظة أخبر بذلك خَدِيجَة فآمنت وصدقت وَهِي أول النِّسَاء إسلاما وَكَانَت امْرَأَة صدق وصاحبة حق وَكَانَ إِذا جاءها مُكَذبا صدقته أَو مؤذى هونت عَلَيْهِ وَأسلم أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب وَزيد بن حَارِثَة هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أول من آمن من هَذِه الْأمة بِاتِّفَاق مَعَ اخْتِلَاف فِي السَّابِق مِنْهُم وَوجه بعض الْعلمَاء لذَلِك بِأَن خَدِيجَة أول النِّسَاء إسلاما وَأَبُو بكر أول الرِّجَال وَعلي أول الفتيان وَزيد أول الموَالِي وَلما أسلم أَبُو بكر خبر بِإِسْلَامِهِ ودعا إِلَيْهِ فَأسلم بِإِسْلَامِهِ سِتَّة نفر خَمْسَة من الْعشْرَة وهم عُثْمَان وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن وَسعد وَطَلْحَة وَالسَّادِس خباب بن الْأَرَت وَأقَام ﷺ وَأَصْحَابه مخفون الْإِسْلَام مترددون فِي إِظْهَاره ثَلَاث سِنِين حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر﴾ الْآيَة فنابذ ﷺ قومه وجانبهم فعادوه وَقَامَ بنصرته عَمه أَبُو طَالب وذب عَنهُ وَجعل الْمُشْركُونَ يُؤْذونَ أَصْحَابه ويعذبون من قدرُوا عَلَيْهِ مِنْهُم ويفتنونه عَن دينه
وَلما بلغُوا ثَمَانِينَ رجلا وَرَأى رَسُول الله ﷺ مَا هم فِيهِ من أذية الْمُشْركين أَمرهم بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَة فَهَاجَرَ مِنْهُم اثْنَان وَثَمَانُونَ رجلا اخْتلف هَل كَانَ عمار بن يَاسر فيهم ثمَّ بعد ذَلِك أسلم حَمْزَة وَعمر بن الْخطاب فَامْتنعَ بهما من بَقِي بِمَكَّة من الْمُسلمين ثمَّ فِي سنة سِتّ كتبت الصَّحِيفَة على بني هَاشم وَمن دخل مَعَهم من بني الْمطلب وَخرج مِنْهُم أَبُو لَهب ثمَّ سلط الله عَلَيْهَا الأرضة فأتلفتها ثمَّ فِي سنة عشر توفيت خَدِيجَة بنت خويلد وعمرها سِتّ وَخَمْسُونَ سنة برمضان ثمَّ أَبُو طَالب بعْدهَا بِثَلَاث وَهُوَ ابْن سِتّ وَثَمَانِينَ وَقيل تسعين فكثرت أذية الْمُشْركين لرَسُول الله ﷺ وَلم يجد من يصد عَنهُ كَأبي طَالب وَلَا يهون عَلَيْهِ ويسكنه كخديجة ﵂
1 / 73
فَخرج فِي سنة إِحْدَى عشرَة من النُّبُوَّة إِلَى الطَّائِف يلْتَمس النَّصْر من ثَقِيف فَلم يلق بهم خيرا فَعَاد مَكَّة وَبَات بوادي نَخْلَة ثمَّ قَامَ أثْنَاء اللَّيْل يُصَلِّي جهارا بِالْقُرْآنِ فَمر بِهِ النَّفر الَّذِي قصّ الله خبرهم فِي سُورَة ﴿قل أُوحِي﴾
قَالَ الرَّازِيّ وَكَانُوا من قَرْيَة بِالْيمن تعرف بنصيبين وَفِي رَجَب من سنة اثْنَتَيْ عشرَة كَانَ الأسرى فِيهِ هدى من هدى وطرد من طرد
وَكَانَ يعرض نَفسه فِي المواسم وَيَقُول من يؤويني من ينصرني حَتَّى أبلغ كَلَام رَبِّي فَإِن قُريْشًا منعتني من تبليغه
ثمَّ هَاجر أَبُو بكر إِلَى الْيمن فَدخل صنعاء فلقي بهَا ابْن الدغنة وَهُوَ يَوْمئِذٍ سيد القارة فَقَالَ أَيْن تُرِيدُ يَا أَبَا بكر قَالَ أخرجني قومِي فَأُرِيد أسيح فِي الأَرْض وأعبد رَبِّي فَقَالَ لَهُ إِن مثلك لَا يخرج وَلَا يخرج بِفَتْح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَضم الرَّاء فِي الأولى وبضم الْيَاء وَفتح الرَّاء مَا لم يسم فَاعله فِي الثَّانِيَة لِأَنَّك تكسب الْمَعْدُوم وَتصل الرَّحِم وَتحمل الْكل وتقري الضَّيْف وَتعين على النوائب فَارْجِع واعبد رَبك ببلدك وَأَنا جَار لَك فَعَاد وَأقَام معززا مكرما ثمَّ تقدم سِتَّة نفر من الْأَنْصَار يُرِيدُونَ حلف قُرَيْش على قَومهمْ فَبلغ النَّبِي ﷺ قدومهم فوصلهم وَعرض عَلَيْهِم الْإِسْلَام وتلا الْقُرْآن فأسلموا وسألوه أَن يبْعَث مَعَهم معلما فَبعث مُصعب بن عُمَيْر بن هَاشم بن عبد منَاف فَكَانَ أول من قدم الْمَدِينَة من الْمُسلمين من مَكَّة ويعد أول الْمُهَاجِرين ثمَّ إِنَّه جَاءَ الْمَوْسِم وَقد فَشَا الْإِسْلَام فيهم وَأسلم جمَاعَة فلقي النَّبِي ﷺ بِالْعقبَةِ مِنْهُم
1 / 74
اثْنَي عشر رجلا فأسلموا وَبَايَعُوهُ بيعَة النِّسَاء وعادوا فَيُقَال إِنَّمَا رَاح مُصعب مَعَ هَؤُلَاءِ وَالله أعلم وَلما قدم مُصعب صَار يجمعهُمْ على الصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن فَأسلم على يَده خلق كثير مِنْهُم أسيد بن حضير وَسعد بن معَاذ وَفَشَا الْإِسْلَام بِيَثْرِب
وَلما كَانَ الْمَوْسِم سنة اثْنَتَيْ عشرَة حج مِنْهُم جمع كثير وواجهوا النَّبِي ﷺ فِي الْعقبَة فِي أواسط أَيَّام التَّشْرِيق وهم إِذْ ذَاك ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ فَبَايعُوهُ مبايعة الْحَرْب ثمَّ لما عَادوا أَمر النَّبِي ﷺ من بَقِي مَعَه بِمَكَّة من أَصْحَابه بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهِم فَهَاجرُوا وَلم يبْق بِمَكَّة غير أبي بكر وَعلي فَإِن الله حماهما بِمَا حمى بِهِ رَسُول الله ﷺ ثمَّ هَاجر النَّبِي ﷺ وَمَعَهُ أَبُو بكر وعامر بن فهَيْرَة مَوْلَاهُ بِالْفَاءِ وَابْن أريقط دليلهما فَقدما قبَاء ظهيرة يَوْم الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من ربيع الأول من ثَلَاث عشرَة من النُّبُوَّة وَمن ذَلِك جعل التَّارِيخ بسنته عمر فِي خِلَافَته وَكَانَ التَّارِيخ قبله بِمَوْت الْفِيل وهلاك أَصْحَابه ثمَّ قبله بِمَوْت قصي بن كلاب وَلما ولي عمر الْخلَافَة أَمر النَّاس بالتاريخ من الْهِجْرَة فَكَانَت من أوامره الْمُبَارَكَة
ولبث النَّبِي ﷺ بقباء ثَلَاثَة أَيَّام وَخرج فِي الرَّابِع يَوْم الْجُمُعَة إِلَى الْمَدِينَة بعد أَن أسس مَسْجِد قبَاء وَقدم عَلَيْهِ فِيهَا عبد الله بن سَلام وَأسلم وَحسن إِسْلَامه وَهُوَ أحد بني قينقاع بِضَم النُّون وَفتحهَا مَعَ فتح الْقَاف وَسُكُون الْيَاء الْمُثَنَّاة من تَحت وَفتح الْقَاف بعد النُّون الْمُخْتَلف فِيهَا ثمَّ ألف ثمَّ عين مُهْملَة وأدركته ﷺ الْجُمُعَة فِي بني سَالم بن عَوْف فصلى مَعَهم وَذَلِكَ بالموضع الَّذِي اتخذ مَسْجِدا بوادي رانونا ثمَّ ركب نَاقَته حَتَّى أَتَى دَار بني النجار
1 / 75
أخوال جده فبركت نَاقَته بِموضع بِالْقربِ من بَيت أبي أَيُّوب فَترك رَحْله فِي بَيته بَيْنَمَا بنى مَسْجِدا حَيْثُ بَركت نَاقَته ثمَّ بنيت مساكنه وَدخل بعائشة وأرئي عبد الله بن زيد مَعَ جمَاعَة الْأَذَان وَهَذَا نِسْبَة حَاله من ميلاده إِلَى سنته الَّتِي هَاجر فِيهَا وَبَقِيَّة أَحْوَاله فِي الْمَدِينَة مَعْرُوفَة متحققة يُؤْخَذ كثيرا نقلا وسطرا وَلما كَانَ فِي سنة تسع حج حجَّته الْمَشْهُورَة بِحجَّة الْوَدَاع وَحجَّة الْبَلَاغ لم يشْهد لَهُ غَيرهَا بعد الْهِجْرَة وَلَا يعلم كم حج قبلهَا
ثمَّ فِي مستهل ربيع الأول من سنة عشر بعث ﷺ جَيْشًا إِلَى الشَّام وَأمر عَلَيْهِم أُسَامَة بن زيد فَأخذُوا بالتجهيز وَمرض ﷺ مَرضه الَّذِي توفّي فِيهِ والجيش إِذْ ذَاك لم يخرج
قَالَ الرَّازِيّ المؤرخ بِإِسْنَاد أوردهُ عَنهُ ﷺ إِنَّه قَالَ نصرت بِالرُّعْبِ وَأعْطيت جَوَامِع الْكَلَام وخيرت بَين الْبَقَاء وَأبْصر مَا يفتح الله على أمتِي وَبَين التَّعْجِيل فاخترت التَّعْجِيل وَنزل عقب ذَلِك سُورَة الضُّحَى وَإِذا جَاءَ نصر الله بكمالهما
وَتُوفِّي ﷺ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الأول على تَمام عشر من الْهِجْرَة لَيْسَ لَهُ فِي رَأسه عشرُون شَعْرَة بَيْضَاء إِذا مَشى تقلع كَأَنَّمَا ينحط من صبب أَي يمشي بِقُوَّة والصبب الحدور ثمَّ بَايع بعض النَّاس وَقيل كلهم فِي ذَلِك الْيَوْم لأبي بكر وَلم يتَأَخَّر أحد عَن الْيَوْم الثَّانِي
وَكَانَ لَهُ يَوْم توفّي تسع نسْوَة عَائِشَة وَحَفْصَة وَأم حَبِيبَة وَأم سَلمَة وَسَوْدَة وَزَيْنَب ومَيْمُونَة وَجُوَيْرِية وَصفِيَّة بنت حييّ
وَجُمْلَة من تزوج بِهن ثَلَاث عشرَة أولهنَّ خَدِيجَة ثمَّ الْمَذْكُورَات والحادية عشرَة زَيْنَب بنت خُزَيْمَة مَاتَت فِي حَيَاته وَكَانَت تسمى أم الْمَسَاكِين لشفقتها عَلَيْهِم وَعقد بِاثْنَتَيْنِ وَلم يدْخل بهما
وَقد ذكر فِي سَبَب ذَلِك وَهل كن أَكثر من ثَلَاث عشرَة أم لَا فِيهِ خلاف يطول شَرحه وغالب أصدقهن أربعمئة
1 / 76
دِرْهَم إِلَّا خَدِيجَة وَأم زَيْنَب أصدق خَدِيجَة مَا ذَكرْنَاهُ عِنْد عقدهَا وَأم زَيْنَب وَهِي الواهبة نَفسهَا عِنْد بعض المؤرخين وَقيل هِيَ غَيرهَا أصدقهَا فراشا حشْوَة لِيف وَقَدحًا وصفحة ومجشة وَهِي الرَّحَى وانقضى ذكر مَا استحسنته من أَحْوَاله
وَأحب تعقيبه بِطرف من شمائله ﷺ وَكَانَ دَائِم الْبشر حسن الْخلق لين الْجَانِب لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غليظ وَلَا صخاب وَلَا فحاش وَلَا غياب وَلَا مزاح يتغافل عَمَّا لَا يَشْتَهِي قد ترك نَفسه من ثَلَاث المراء والإكثار وَمَا لَا يعنيه
وَترك النَّاس من ثَلَاث لَا يذم أحدا وَلَا يغيبه وَلَا يطْلب عَوْرَته
وَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِمَا يَرْجُو ثَوَابه
وَكَانَ إِذا تكلم أطرق جُلَسَاؤُهُ وَإِذا سكت تكلمُوا لَا يتنازعون عِنْده يضْحك مِمَّا يَضْحَكُونَ ويتعجب مِمَّا يتعجبون مِنْهُ
يصبر على الْغَرِيب فِي مَنْطِقه ومساءلته جمع لَهُ الْعلم والحلم وَالصَّبْر
أَخذ بِأَرْبَع الْحق ليقتدى بِهِ وَترك الْقَبِيح لينهى عَنهُ واجتهاد الرَّأْي فِيمَا يصلح أمته وَالْقِيَام بِمَا يجمع لَهُ خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَكَانَ يَبْتَدِئ من لقِيه بِالسَّلَامِ وَيعود أَصْحَابه كَمَا يعودونه ويشيعهم كَمَا يشيعونه ويعتنقهم كَمَا يعتنقونه وَيقبل وُجُوههم كَمَا يقبلُونَ وَجهه ويفديهم بِأَبِيهِ وَأمه كَمَا يفدونه وَرُبمَا زار عمَّة وَخَالَة إفضالا مِنْهُ عَلَيْهِمَا فِي كل شَيْء وَيسْعَى إِلَى كل مكرمَة وَكَانَ يتفقد أَصْحَابه وَيسْأل عَن غائبهم
فَإِن كَانَ مَرِيضا عَاده ودعا لَهُ
وَمن مَاتَ اسْترْجع فِي حَقه وترحم عَلَيْهِ ودعا لَهُ
وَمن تخوف مِنْهُ قَالَ لَعَلَّ أَبَا فلَان أَخذ علينا فِي شَيْء أَو رأى منا تقصيرا انْطَلقُوا بِنَا إِلَيْهِ
ثمَّ يَأْتِيهِ منزله ويستطيب قلبه
وَمَتى دَعَاهُ مُسلم
1 / 77
قَالَ لبيْك حرا كَانَ أَو عبدا صَغِيرا أَو كَبِيرا ذكر كَانَ أَو أُنْثَى
وَإِن دَعَاهُ مُشْرك قَالَ لَهُ مَا تشَاء نعْمَة الله كَمَا قَالَ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين﴾
قيل لَهُ وَهُوَ نَازل على قوم يُرِيد حربهم وَقد أجهدوه هلا لعنتهم فَقَالَ إِنَّمَا بعثت رَحْمَة للْعَالمين
لم أبْعث لعانا
وَنَحْو ذَلِك مَا رُوِيَ عَن خباب بن الْأَرَت أَنه قَالَ لما اشْتَدَّ بِنَا أَذَى الْمُشْركين بِمَكَّة وَكَانَ كثير منا بَين مفتون وَبَين معذب ومؤذي أتيت رَسُول الله ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّد إزَاره فِي ظلّ الْكَعْبَة فشكوت عَلَيْهِ مَا نَحن فِيهِ وَقلت يَا رَسُول الله أَلا تَدْعُو الله لنا فَقعدَ وَهُوَ محمر الْوَجْه وَقَالَ إِن من كَانَ قبلكُمْ يمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد حَتَّى يذهب مَا دون عِظَامه من لحم وَعصب ليرْجع عَن دينه فَلَا يرجع وَيُوضَع الْمِنْشَار على مفرق رَأسه فينشق نِصْفَيْنِ مَا يصرفهُ ذَلِك عَن دينه وليتمن الله هَذَا الْأَمر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء إِلَى حضر موت لَا يخَاف إِلَّا الله تَعَالَى أَو الذِّئْب على غنمه
أورد هَذَا الْخَبَر الرَّازِيّ فِي تَارِيخه فِي بَاب مَا ذكر بِهِ النَّبِي ﷺ صنعاء
وَكَانَت غَزَوَاته ﷺ سبعا وَعشْرين غَزْوَة حصل الْقِتَال فِي تسع مِنْهُنَّ بدر وَأحد وَالْخَنْدَق وَقُرَيْظَة والمصطلق وخيبر وَالْفَتْح وحنين والطائف
وسراياه ﷺ اثْنَان وَثَلَاثُونَ سَرِيَّة وَقيل تسع وَثَلَاثُونَ
وَلما اتّفق الْمُسلمُونَ على خلَافَة أبي بكر وبيعته كَانَ أول شَيْء اشْتغل بِهِ النَّاس تجهيز رَسُول الله ﷺ فغسلوه بِقَمِيصِهِ يصبون عَلَيْهِ المَاء ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَيْن يدْفن فَقَالَ الصّديق إِنِّي سَمِعت رَسُول الله يَقُول مَا قبض نَبِي إِلَّا دفن حَيْثُ قبض ثمَّ استدعى أَبَا طَلْحَة رجل من أهل الْمَدِينَة وطوى لَهُ الْفراش الَّذِي توفّي عَلَيْهِ رَسُول
1 / 78