فكشف الرجل عن فم لم يبق فيه ناب واحد وهو يهتف: يا ضغط زل، يا صحة عودي إلى سيد الناس ..
وقام السيد فاتجه نحوه فاعتدل بصر الشيخ إليه ولكنه تراجع في الوقت نفسه كالهارب، ثم جعل يدور حول نفسه مشيرا إلى الجهات الأربع وهو يصيح: «من هنا تفرج .. ومن هنا تفرج .. ومن هنا تفرج .. ومن هنا تفرج.» ثم إلى الطريق قائلا: ليس اليوم، غدا، أو بعد غد، قل الله أعلم .. ومشى في خطوات واسعة لا يناسب نشاطها مظهره البالي.
3
يوم الجمعة رجعت الفروع إلى الأصل وعمر البيت القديم بالأبناء والأحفاد؛ ذلك تقليد سعيد لم ينقطعوا عنه. ولم تعد أمينة «بطلة» يوم الجمعة كما كانت قديما؛ فأم حنفي تبوأت المركز الأول في المطبخ، ولم تكن أمينة تني عن تذكير القوم بأن أم حنفي تلميذتها؛ فإن غرامها بالثناء كان يتشجع على الإفصاح عن ذاته كلما شعرت بقلة استحقاقها له، إلى أن خديجة - رغم أنها في حكم الضيفة - لم تقصر في إهداء معونتها. وقبيل ذهاب السيد إلى الدكان التف به الضيوف، إبراهيم شوكت وابناه عبد المنعم وأحمد، وياسين وابناه رضوان وكريمة، يكتنفهم ذلك الخشوع الذي يجعل من ضحكهم ابتساما ومن حديثهم همسا. وكان السيد يجد في حضورهم سرورا يزداد تعلقا به كلما تقدم به العمر، فعتب على ياسين انقطاعه عن زيارته في الدكان اكتفاء بزيارة يوم الجمعة، ألا يريد هذا البغل أن يفهم أنه يتوق إلى رؤيته كل حين؟ وابنه رضوان جميل المحيا ذو العينين المكحولتين والبشرة الوردية الذي يعكس جماله ألوانا متنوعة تذكره مرة بياسين ومرة بهنية أم ياسين وثالثة بصديقه الحبيب محمد عفت فهذا أحب الأحفاد إلى قلبه، وكريمة أخته مصغر شابة في الثامنة من عمرها سوف تنضج نضجا عجيبا كما تشهد عيناها السوداوان - عينا زنوبة أمها - اللتان يبسم لهما خاطره ابتسامة ندية بالحياء والذكريات. أما عبد المنعم وأحمد فحسبه أن يرى في وجهيهما قدرا لا يستهان به من أنفه العظيم كما يرى عيني خديجة الصغيرتين، غير أنهما أجرأ من الآخرين في مخاطبته، وكلهم - هؤلاء الأحفاد - يشقون طريق دراستهم بنجاح يدعو إلى الفخار، لكنهم يبدون مشغولين بأنفسهم عن جدهم؛ فمن جهة يعزونه بأن حياته لم ولن تنقطع ومن ناحية أخرى يذكرونه بأن شخصه يتراجع رويدا عن مركز الاهتمام الذي كان يستأثر به، ولم يكن ذلك ليحزنه، فإن الإيغال بالعمر يجيء بالحكمة كما يجيء بالوهن والمرض. ولكن هيهات أن يمنع ذلك الذكريات من أن تتدفق، عندما كان مثل هؤلاء في مطلع العمر، وعندما كان العام 1890، وكان يتعلم قليلا ويلهو كثيرا ما بين مغاني الجمالية ومرتاد الأزبكية، وفي ركابه يجري محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، وكان أبوه يملأ الدكان نفسها، يزجر وحيده قليلا، ويرق له كثيرا، وكان العمر صفحة مطوية مكتظة بالآمال، ثم كانت هنية .. ولكن مهلا! لا ينبغي أن تستخفه الذكريات.
وقام ليصلي العصر فكان ذلك إيذانا بالانصراف، ثم ارتدى ملابسه ومضى إلى الدكان، وتجمعوا هم في مجلس القهوة حول مجمرة الجدة، في جو التلاقي والسمر. احتلت الكنبة الرئيسية أمينة وعائشة ونعيمة، أما الكنبة اليمنى فجلس عليها ياسين وزنوبة وكريمة، وعلى الكنبة اليسرى قعد إبراهيم شوكت وخديجة وكمال، على حين اتخذ رضوان وعبد المنعم وأحمد مجالسهم على كراسي توسطت الصالة تحت المصباح الكهربائي. وكان إبراهيم شوكت، كعادته التي لم يغيرها الزمن، ينوه بألوان الطعام التي أعجبته، غير أن تنويهه اقتصر في الأعوام الأخيرة على فضل الأستاذة على تلميذتها النجيبة. وكانت زنوبة تعيد ثناءه كالصدى فإنها لم تكن تهمل فرصة يمكن أن تتودد بها إلى أحد من أهل زوجها. والحق أنها مذ فتحت لها أبواب آل زوجها، وأتيحت لها مخالطتهم وهي تعمل بلباقة فائقة على توثيق علاقتها بهم، لأنها عدت ذلك اعترافا بمكانتها بعد أن انقضت أعوام وهي تعيش في عزلة كالمنبوذة.
وكان موت وليد لياسين السبب الحقيقي في زيارة أهله لبيته للتعزية، فصافحت يدها أيديهم لأول مرة مند زواجها، وتشجعت بذلك فزارت السكرية، ثم زارت بين القصرين عند اشتداد المرض على السيد، بل أقدمت على زيارته في حجرته. فتقابلا كشخصين جديدين لا تاريخ مشتركا بينهما. هكذا اندمجت زنوبة في آل أحمد حتى غدت تخاطب أمينة فتقول لها يا تيزة وتنادي خديجة فتقول لها يا أختي، وبدت دائما مثالا للاحتشام، وعلى خلاف نساء الأسرة أنفسهن تجنبت التبرج خارج بيتها، حتى بدت أكبر من سنها؛ إذ بادر الذبول إلى جمالها قبل الأوان، فلم تصدق خديجة أبدا أنها في السادسة والثلاثين، ولكنها استطاعت أن تفوز من الجميع بشهادة طيبة لها حتى قالت عنها أمينة يوما: «لا شك أن أصلها طيب، ربما أصلها البعيد، فليكن، ولكنها بنت حلال، هي الوحيدة التي عمرت مع ياسين!» وبدت خديجة في شحمها ولحمها أضخم من ياسين نفسه، ولم تكن تنكر أنها سعيدة بذلك، كما كانت سعيدة بعبد المنعم وأحمد وحياتها الزوجية الموفقة عامة، بيد أنها لم تكف يوما عن التشكي اتقاء العين. وقد تغيرت معاملتها لعائشة تغيرا كليا فلم تند عنها لها طوال ثمانية أعوام كلمة واحدة تنم عن سخرية أو خشونة ولو على سبيل الممازحة، بل حرصت الحرص كله على الترفق بها والتودد إليها وملاطفتها، خشوعا حيال تعاستها وخوفا من الأقدار التي قضت عليها بما قضت، وإشفاقا من أن تضع المرأة المحزونة حظيهما موضع المقارنة، وقد وقفت موقفا كريما يوم حتمت على إبراهيم شوكت أن ينزل عن حقه المشروع في ميراث أخيه المتوفى لنعيمة فآل الميراث كله لعائشة وكريمتها دون شريك. وأملت خديجة أن يذكر صنيعها في حينه ولكن عائشة استغرقها ذهول غيب عنها كرم أختها فلم يقعد ذلك بخديجة عن غمرها بالعطف والرحمة والتسامح كأنما انقلبت أما أخرى لها، ولم تكن تطمع في أكثر من رضائها ومودتها كي تطمئن على أسباب التوفيق التي هيأها لها الله. وأخرج إبراهيم شوكت علبة سجائره وقدمها لعائشة فتناولت سيجارة شاكرة، وتناول أخرى، وراحا يدخنان. كثيرا ما يكون إفراط عائشة في التدخين وتعاطي القهوة ملتقى ملاحظات وإن تكن تقابل منها عادة بهز الكتفين، أما أمها فتقنع بأن تقول في لهجة الدعاء: «ربنا يصبرها»، وأما ياسين فكان أجرأ الأهل في نصحها؛ كأنما قد أهله لذاك فقد وليده. غير أن عائشة لم تكن تعده مصابا مثلها وتضن عليه بمكانة مرموقة في دولة المبتلين؛ إذ إن ابنه مات وهو دون العام لا كعثمان أو محمد. والواقع أن حديث المصائب، كان يبدو كثيرا هوايتها المفضلة؛ كأنما كانت تعتز بدرجتها الممتازة في دنيا الشقاء. واستمع كمال إلى ما يدور من حديث عن المستقبل بين رضوان وعبد المنعم وأحمد فأرهف السمع باسما، وكان رضوان ياسين يقول: كلنا من القسم الأدبي، فليس أمامنا من كلية جديرة بالاختيار إلا الحقوق.
فأجابه عبد المنعم إبراهيم شوكت بصوته القوي المفعم بنبرات التوكيد، وكان يهز رأسه الضخم الذي جعله أقرب الشبان شبها إلى كمال: مفهوم .. مفهوم، ولكنه لا يريد أن يفهم؟
وأومأ عند عبارته الأخيرة إلى أخيه أحمد الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، فانتهز إبراهيم شوكت الفرصة وقال مشيرا إلى أحمد أيضا: ليدخل الآداب إذا شاء ولكن عليه أن يقنعني بقيمتها، أنا أفهم الحقوق ولكنني لا أفهم الآداب!
وغض كمال بصره فيما يشبه الأسى؛ إذ عاودته أصداء نقاش قديم عن الحقوق والمعلمين: إنه ما زال يتنفس في جو الآمال القديمة، بيد أن الحياة تجبهه بصدمات قاسية كل يوم، فوكيل النيابة مثلا لا يحتاج إلى تعريف؛ أما كاتب مقالات مجلة «الفكر»، فربما احتاج إلى تعريف أكثر من مقالاته الغامضة نفسها! ولم يدعه أحمد إبراهيم شوكت لحيرته فنظر إليه بعينيه الصغيرتين البارزتين وهو يقول: إني أترك الجواب لخالي كمال ..
وابتسم إبراهيم شوكت ابتسامة يداري بها حرجه، أما كمال فقال دون حماس: ادرس ما تشعر بأنه يوافق موهبتك.
Bilinmeyen sayfa