فقال ساخرا: الخمر تغير الفصول كما تعلمين، لم تتعبين نفسك بالاستيقاظ؟
فنفخت قائلة: فعلك متعب وكلامك متعب!
بدا في جلبابه كالمنطاد، ومسح بيده على كرشه وهو يرنو إلى المرآة في ارتياح، وكانت عيناه السوداوان تشتعلان، ثم ضحك فجأة قائلا: لو رأيتني وأنا أتبادل التحية مع العساكر! أمسى عساكر آخر الليل أصدقائي الأعزاء!
فغمغمت وهي تتنهد: يا فرحتي!
8
كان منظر رضوان ياسين وهو يسير في الغورية بخطواته المتئدة مما يلفت الأنظار حقا. كان في السابعة عشرة من عمره، مكحول العينين، متوسط القامة مع ميل خفيف إلى الامتلاء، أنيق الملبس إلى حد التبرج، ينتسب ببشرته الوردية إلى آل عفت؛ فهو يشع بهاء ونورا، وتنم حركاته عن دلال من لا يخفى عليه جماله، وعندما مر بالسكرية اتجه رأسه إليها فيما يشبه الابتسام، وذكر لتوه عمته خديجة وابنيها عبد المنعم وأحمد، فوجد لذكرهما شعورا لا يخلو من فتور، والحق أنه لم يجد من نفسه مشجعا - ولو مرة - على أن يتخذ أحدا من أقربائه صديقا بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة. وسرعان ما اجتاز بوابة المتولي، ثم مال إلى الدرب الأحمر ، حتى بلغ به المسير باب بيت قديم فطرقه وانتظر، وفتح الباب عن وجه حلمي عزت، صديق صباه، وزميله اليوم بكلية الحقوق، ومنافسه - فيما بدا - في الجمال. وتهلل وجه حلمي لرؤياه، ثم تعانقا وتبادلا قبلة كعادتهما عند اللقاء. ومضيا معا يصعدان السلم، وفي أثناء ذلك جعل حلمي ينوه بربطة رقبة صديقه وتجاوب لونها مع قميصه وجوربه، وكان يضرب بهما المثل في الأناقة وحسن الذوق، فضلا عن أن اهتمامهما بالملابس والموضة لم يكن دون اهتمامهما بالسياسة أو دراسة القانون. وانتهيا إلى حجرة كبيرة عالية السقف، دل وجود الفراش والمكتب بها على أنها معدة للنوم والمذاكرة معا. والحق أنهما طالما سهرا بها يذاكران، ثم ناما جنبا إلى جنب على الفراش الكبير ذي الأعمدة السوداء والناموسية. ولم يكن بيات رضوان خارج البيت بالشيء الجديد؛ فقد اعتاد منذ صباه أن يدعى إلى أكثر من بيت لقضاء عدة أيام، كبيت جده محمد عفت بالجمالية، أو بيت أمه بالمنيرة التي لم تنجب غيره رغم زواجها من محمد حسن؛ ولذلك؛ ولميل أبيه الطبيعي إلى اللا مبالاة، وترحيب زنوبة الخفي بكل ما يبعده عن بيتها ولو إلى حين، لم يجد معارضة في البيات عند صديقه في مواسم المذاكرة، ثم صار الأمر بعد ذلك مألوفا فلم يكن أحد ليعيره أي اهتمام. وفي مثل هذا الجو من اللا مبالاة نشأ حلمي عزت. توفي أبوه - وكان مأمور قسم - منذ عشرة أعوام. وفي ذلك الوقت كانت أخواته الست قد تزوجن، فعاش وحده مع أمه العجوز. ووجدت المرأة صعوبة في بادئ الأمر في السيطرة عليه، ثم ما لبث أن صار هو المسيطر على البيت كله. وكانت المرأة تعيش على معاش زوجها الصغير، وإيجار الدور الأول من بيتها القديم، فلم تعرف الأسرة الحياة الرهيفة منذ وفاة الأب، ولكن حلمي لم يعجز عن مواصلة حياته المدرسية حتى التحق بكلية الحقوق، محافظا في أثناء ذلك كله على ما تتطلبه حياته من مظاهر الاحترام. وكان سرور حلمي بلقاء صديقه لا يعادله سرور، ولم تكن تطيب له أوقات العمل أو الراحة إلا به؛ لذلك بعث وجوده في نفسه نشاطا وحماسة، فأجلسه على الكنبة الملاصقة لباب المشربية وجلس إلى جانبه، وراح يفكر في اختيار موضوع - وما أكثر المواضيع لمحادثته، غير أن نظرة واجمة لاحت في عيني رضوان اعترضت تيار حماسه، فرنا إليه متسائلا، ثم خمن ما هنالك فتمتم: زرت والدتك؟ أراهن أنك قادم من هناك ..
أدرك رضوان أن صدق تخمين صاحبه يرجع إلى وجهه هو، فلاح الضجر في عينيه، وهز رأسه بالإيجاب دون أن يتكلم، فسأله حلمي: وكيف حالها؟ - عال ..
ثم وهو يتنهد: ولكن هذا المدعو محمد حسن! أنت لم تعرف معنى أن يكون لأمك زوج غير أبيك!
فقال حلمي مواسيا: كثيرا ما يقع هذا، لا عيب فيه، ثم إنه شيء قديم!
فهتف رضوان حانقا: لا لا لا، إنه دائما في البيت، لا يبرحه إلا إلى عمله في الوزارة، نفسي مرة أزورها فأجدها وحدها، ويطيب له أن يمثل دور الوالد والمرشد، سحقا له، وعند كل مناسبة يذكرني بأنه رئيس أبي في إدارة المحفوظات. ولا يتردد عن انتقاد مسلكه في عمله، ولكني من ناحيتي لا أسكت له ..
Bilinmeyen sayfa