ثم - وهو يضحك - وقد دغدغت الخمر رأسه: ثم إن «المحروس» نفسه خارج الحكم الآن! - آه! والوفد سيعمر هذه المرة فيما يبدو ..
وإذا بالمحامي يقول بلهجة خطابية: لو سارت الأمور سيرا طبيعيا في مصر لحكم الوفد إلى الأبد ..
فقال ياسين ضاحكا: هذا القول له وجاهته لولا خروج ابني على الوفد! - ولا تنسوا حادث القصاصين! إذا مات الملك فقل على أعداء الوفد السلام! - الملك بسلام! - الأمير محمد علي يعد بذلة التشريفة! وهو منسجم مع الوفد طول عمره .. - الجالس على العرش - أيا كان اسمه - هو عدو للوفد بحكم مركزه؛ كالويسكي والحلوى لا يتفقان!
فقال ياسين وهو يضحك نشوة: لعل الحق معكم؛ فأكبر منك بيوم يعرف أكثر منك بسنة، وأنتم منكم من بلغ أرذل العمر ومنكم من يوشك أن يدركه! - اسم الله عليك يا ابن السبعة والأربعين! - على أي حال فأنا أصغركم سنا ..
ثم فرقع بأصابعه وهو يتمايل نشوة وخيلاء، واستطرد: ولكن العمر الحقيقي لا يقاس بالسنين، ولكن بالنشوة ينبغي أن يقاس، والخمر قد انحطت نوعا ومذاقا في أيام الحرب ولكن نشوتها هي هي، وعند الاستيقاظ صباحا يدق رأسك الصداع فتفتح عينيك بكماشة ثم تتجشأ كحولا، غير أني أقول لكم إنه في سبيل النشوة يهون أي شيء، ورب أخ يتساءل: والصحة؟ أجل لم تعد الصحة كما كانت، وابن السبعة والأربعين غير مثيله في الزمن الأول؛ مما يدل على أن كل شيء قد غلا ثمنه في الحرب إلا العمر فلا ثمن له، في الزمن الأول كان الرجل يتزوج في الستين من عمره أما في زماننا الغادر فابن الأربعين يسأل أهل العلم عن الوصفات المقوية، والعريس في شهر العسل قد يوحل في شبر ماء! - الزمن الأول! أهل الدنيا جميعا يسألون عنه!
فعاد ياسين يقول وقد أخذت أنغام السكر ترن في أوتار صوته: الزمن الأول، اللهم ارحم أبي، شد ما ضربني ليمنعني من الاشتراك الدموي في الثورة! ولكن الذي لا ترهبه قنابل الإنجليز لا يرهبه الزجر! وفي قهوة أحمد عبده كنا نجتمع لتدبير المظاهرات وقذف القنابل .. - هذه الأسطوانة من جديد! خبرني يا ياسين أفندي أكان وزنك أيام الجهاد كوزنك اليوم؟ - وأثقل، غير أني كنت حين الجد كالنحلة، وفي يوم المعركة الكبرى سرت على رأس المظاهرة أنا وأخي أول شهداء الحركة الوطنية، فسمعت أزيز الرصاص وهو يمرق لصق أذني ويستقر في أخي، يا للذكرى! لو امتد به العمر للحق بركب الوزراء المجاهدين! - ولكن العمر امتد بك أنت! - نعم، ولكن ما كان بوسعي أن أكون وزيرا بالابتدائية، ثم إننا في جهادنا توقعنا الموت لا المناصب، غير أنه لا بد أن يموت أناس ويتبوأ المناصب آخرون، وفي جنازة أخي مشى سعد زغلول فقدمني إليه زعيم الطلبة، هذه ذكرى عظيمة أخرى! - ولكن كيف وجدت - رغم جهادك - متسعا للعربدة والعشق! - اسمعوا يا هوه! وهؤلاء الجنود الذين يضاجعون النساء في الطرق أليسوا هم الذين ردوا رومل على أعقابه؟! فالجهاد لا يكره الفرفشة، والخمر لو علمتم روح من الفروسية، والمجاهد والسكران أخوان يا أولي الألباب! - وسعد زغلول ألم يقل لك شيئا في جنازة أخيك؟
فأجاب عنه المحامي قائلا: قال له: ليتك كنت الشهيد أنت!
وضحكوا، وكانوا في هذه الحال يضحكون أولا ثم يتساءلون عن السبب، وضحك معهم ياسين في أريحية صافية ثم واصل حديثه قائلا: لم يقل هذا، كان رحمه الله مؤدبا لا كحضرتك، وكان ابن حظ أيضا؛ ولذلك كان واسع الآفاق، فكان سياسيا ومجاهدا وأديبا وفيلسوفا وقانونيا، وكانت كلمة منه تحيي وتميت! - الله يرحمه. - ويرحم الجميع، كل ميت يستحق الرحمة، بحسبه أنه فقد الحياة، حتى المومس وحتى القواد، وحتى الأم التي كانت تبعث بابنها إلى رفيقها ليعود إليها به .. - وهل يمكن أن توجد هذه الأم؟ - كل ما تتصور وما لا تتصور يوجد في الحياة! - ألم تجد إلا ابنها؟ - ومن أرعى للأم من الابن؟! ثم إنكم جميعا أبناء المضاجعة! - الشرعية! - هذه شكليات أما الحقيقة فواحدة، وقد عرفت مومسات بائسات كان فراشهن يخلو من ضجيع أسبوعا أو أكثر، دلوني على أم من أمهاتكم قضت مثل هذه الفترة بعيدا عن قرينها؟ - لا أعرف شعبا كالشعب المصري ولعا بالخوض في أعراض الأمهات! - نحن شعب قليل الأدب!
فقال ياسين ضاحكا: إن الزمن أدبنا أكثر مما ينبغي، والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده؛ ولذلك فنحن غير مؤدبين! ولكن تغلب علينا الطيبة رغم ذلك، فالتوبة عادة ختامنا! - ها أنا من ذوي المعاشات ولكنني لم أتب بعد! - التوبة لا تخضع لكادر الموظفين. ثم إنك لا تفعل شيئا ضارا، إنك تسكر ساعات كل ليلة وليس في ذلك من بأس، وسوف يمنعك من السكر يوما المرض أو الطبيب وكلاهما شيء واحد، ونحن بطبعنا ضعفاء، ولولا ذلك ما ألفنا الخمر ولا صبرنا على الحياة الزوجية، ونزداد بمرور الأيام ضعفا ولكن رغائبنا لا تقف عند حد، هيهات، فنتعذب ثم نسكر مرة أخرى. ويشيب شعرنا فيفضح منا المستور وإذا بصفيق يعترض سبيلك في الطريق وهو يقول: «عيب أن تطارد امرأة وشعرك شايب!» يا سبحان الله! ما لك أنت إذا كنت شابا أم شيخا، أتبع امرأة أم أتبع حمارة! حتى تخال حينا أن الناس متآمرون مع زوجك عليك، وهنالك إلى ذلك كله الدلال بتقله والعسكري بهراوته، حتى الخادمة تتيه دلالا في سوق الخضار، وهكذا تجد نفسك في عالم مشاكس لا صديق لك فيه إلا الكأس، ثم يجيء دور المرتزقة من الأطباء فيقولون لك بكل بساطة: «لا تشرب!» - ومع ذلك أتنكر أننا نحب الدنيا بكل قلوبنا؟ - بكل قلوبنا! والشر نفسه لا يخلو من خير، حتى الإنجليز لا يخلون من خير. لقد عرفتهم يوما عن كثب، وكان لي منهم أصدقاء على عهد الثورة!
فهتف المحامي: ولكنك كنت تجاهدهم .. أنسيت؟! - نعم .. نعم، لكل حال ما يناسبها، وفي مرة ظنوني جاسوسا لولا أن سارع إلي زعيم الطلبة في اللحظة المناسبة فدل القوم على حقيقتي فهتفوا لي، وكان ذلك في جامع الحسين! - يعيش ياسين .. يعيش ياسين! ولكن ماذا كنت تفعل في جامع الحسين؟! - أجب، هذه نقطة هامة جدا ..!
Bilinmeyen sayfa