فقالت ووجهها يتهلل بشرا: نعم، صحت يا رب، وكان النور يملأ الدنيا ..
وراحوا جميعا يفكرون في الأمر ويراقبون الحال في قلق بالغ. أما عائشة فكانت تقف الساعات بموقفها من السطح مترقبة النور أن يومض مرة أخرى، حتى قال كمال لنفسه «ترى أهي النهاية التي يهون إلى جانبها الموت؟» ولكن من حسن الحظ - حظ الجميع - أنها تناست الأمر مع الأيام ولم تعد تذكره، ثم لم تزل توغل في دنيا خاصة خلقتها لنفسها، وعاشت فيها وحدها، وحدها سواء أكانت منفردة في حجرتها أو جالسة بينهم، إلا ساعات متباعدة تثوب فيها إليهم كالعائدة من سفر. ثم لا تلبث أن تواصل الرحيل - والتصقت بها عادة جديدة هي محادثة نفسها، خاصة حين انفرادها، وشد ما أثارت بذلك القلق، غير أنها كانت تخاطب أمواتا وهي مدركة لحال موتهم، ولم تتخيل أوهاما أو أشباحا، وفي ذلك كان عزاء المحيطين بها ..
32
ما أقسى البرد هذا الشتاء! يذكر بشتاء قديم ظل الناس يؤرخون به جيلا، شتاء أي عام يا ترى؟ رباه أين الذاكرة التي تعي ذلك، أين؟ غير أن القلب العجوز يحن إليه في مجهوله؛ فهو جزء من الماضي الذي تهيج ذكراه الدموع في مكامنها، الماضي الذي كان يستيقظ فيه مبكرا فيستحم تحت الدش غير مبال برد الشتاء، ثم يملأ بطنه وينطلق إلى دنيا الناس، دنيا الحركة والحرية التي لا يعرف اليوم عنها شيئا اللهم إلا ما يجود به الرواة وكأنهم يحدثون عن عالم في أقصى الأرض. كانت له الحرية والقدرة على أن يجلس على الكنبة في الحجرة أو على الكرسي في المشربية، وكان مع ذلك يضيق بسجن البيت، وكان يذهب حين الحاجة إلى الحمام أو يغير ملابسه بنفسه ومع ذلك لعن قعدة البيت، وكان له يوم في الأسبوع يستطيع أن يغادر البيت متوكئا على عصاه أو راكبا عربة فيزور الحسين أو بيت أحد الأصدقاء ومع ذلك فطالما دعا الله أن ينقذه من محبس البيت. أما اليوم فلم يسعه أن يغادر الفراش، ولم تعد حدود عالمه تجاوز أطراف هذه الحشية، حتى الحمام يجيء إليه ولا يذهب هو إليه، قذارة لم تكن في الحسبان، حتى استقر الامتعاض على شفتيه، وأسكنت المرارة في لعابه، على هذه الحشية يرقد نهارا وينام ليلا ويتناول طعامه ويقضي حاجته، وهو من كان يضرب بأناقته المثل ويسير الشذا الطيب بين يديه، وفي هذا البيت الذي استكان عمره لإرادته المطلقة غدا ينظر فلا يلقى إلا نظرات الرثاء أو يرجو فيعاتب كالأطفال، وذهب الأحباب في فترات متقاربة من الزمن كأنهم كانوا على ميعاد، ذهبوا وتركوه وحيدا، عليك رحمة الله يا محمد عفت، كان آخر العهد به سهرة من ليالي رمضان في السلاملك المطل على الحديقة، ثم ودعه ومضى وضحكته العالية توصله إلى الباب، وما كاد يأوي إلى حجرته حتى طرق الباب طارق وهرع إليه رضوان وهو يقول: «مات جدي يا جدي»، يا سبحان الله .. متى؟ .. وكيف؟ .. ألم يضاحكنا منذ دقائق؟ ولكنه سقط على وجهه وهو في طريقه إلى مخدعه، هكذا انطوى حبيب العمر. وعلي عبد الرحيم الذي احتضر ثلاثة أيام كاملة، في سعال حاد متقطع حتى فزعنا إلى الله أن يحسن خاتمته ويريحه من الألم، واختفى من دنياي أليف الروح علي عبد الرحيم. وقد ودع هذين الحبيبين أما إبراهيم الفار فلم يودعه، كان اشتداد المرض قد أقعده في فراشه ومنعه عن عيادته فنعاه إليه خادمه، وحتى الجنازة لم يشيعها فشيعها عنه ياسين وكمال، فإلى رحمة الله يا ألطف الناس طرا. ومن قبل هؤلاء مات حميدو والحمزاوي وعشرات من المعارف والأصحاب، تركوه وحيدا كأنه لم يعرف من الناس أحدا، لا زائر له ولا عائد، وجنازته لن يشيعها صديق. حتى الصلاة حيل بينه وبينها، وهل يتمتع بالطهر إلا ساعات عقب استحمام لا يجود به أولياء الأمر إلا مرة كل أشهر؟ فحرم من الصلاة وهو أشد ما يكون حاجة إلى مناجاة الرحمن في هذه الوحدة الموحشة. هكذا تمضي الأيام. الراديو يتكلم وهو يسمع، وأمينة تذهب وتجيء، وشد ما ركبها الوهن، غير أنها لم تعتد الشكوى، إنها ممرضته وأخوف ما يخاف أن تحتاج غدا إلى من يمرضها، وهي كل ما بقي له، أما ياسين وكمال فيمكثان عنده ساعة ثم يذهبان، ود لو لم يفارقاه، ولكنها أمنية لا يستطيع أن يعلنها ولن يستطيعا أن يحققاها، أمينة وحدها التي لا تمله، وإذا ذهبت لزيارة الحسين فلكي تدعو له، والعالم بعد ذلك فراغ. وإن يوم زيارة خديجة له اليوم يستحق الانتظار، تجيء وفي صحبتها إبراهيم شوكت وعبد المنعم وأحمد، فتمتلئ الحجرة بالأحياء وتتبدد وحشتها، وقليلا ما يتكلم هو أما هم فيتكلمون كثيرا، ومرة خاطبهم إبراهيم قائلا: «أريحوا السيد من ثرثرتكم.» فقال له معاتبا: «دعهم يتكلموا .. أريد أن أسمعهم!» ودعا لابنته بالصحة وطول العمر ودعا لزوجها وابنيها، وكان يعلم بأنها تود لو تسهر على راحته بنفسها، وكان يطالع في عينيها حنانا ما وراءه حنان. ويوما سأل ياسين في شوق واستطلاع باسما: أين تمضي سهراتك؟
فقال في حياء: اليوم الإنجليز في كل مكان كأيام زمان.
أيام زمان! أيام القوة والبأس، والضحك الذي تهتز له الجدران، وسهرات الغورية والجمالية، والناس الذين لم يبق منهم إلا أسماء، زبيدة وجليلة وهنية، ترى ألا تذكر أمك يا ياسين؟
وها هي زنوبة وكريمة يجلسان إلى جانب والدها، ودواما ستطلب الرحمة والغفران. - من بقي من معارفنا القدامى في وزارتك يا ياسين؟ - أحيلوا جميعا إلى المعاش، ولم أعد أدري عنهم شيئا!
ولا هم يدرون عنا شيئا، أصدقاء القلب ماتوا فما لنا نسأل عن المعارف، ولكن ما أجمل كريمة! فاقت أمها في زمانها، ومع ذلك لم تعد الرابعة عشرة، ونعيمة ألم تكن آية في الجمال! - ياسين إن استطعت أن تقنع عائشة بزيارتكم فافعل. انتشلوها من وحدتها فإني أخاف عليها منها ..
فقالت زنوبة: طالما دعوتها لزيارة قصر الشوق ولكنها .. كان الله في عونها! ..
ولاحت في عيني الرجل نظرة قاتمة. ثم إذا به يسأل ياسين: ألا تصادف في طريقك الشيخ متولي عبد الصمد؟
Bilinmeyen sayfa