فابتسم كمال، وكان يرهف السمع في قلق متزايد متوقعا بين لحظة وأخرى أن ينطلق مدفع فيصك الآذان، وأجاب: كلا .. (ثم كالمتسائل): لعله الخوف من الألم؟ - أم ثمة أمل غامض في الحياة ما زال يضطرب في أعماقك؟
لماذا لم ينتحر؟ ولم يبدو ظاهر حياته كأنما يمتلئ حماسا وإيمانا؟ طالما نازعته النفس إلى النقيضين: وكر الشهوات والتصوف، ولكنه لم يكن ليطيق حياة خالصة للدعة والشهوات، ومن ناحية أخرى كان ثمة شيء في أعماقه ينفر من فكرة السلبية والهروب، ولعله - هذا الشيء - الذي حال بينه وبين الانتحار، وفي ذات الوقت فإن استمساكه بحبل الحياة المضطرب في يديه مناقض لصميم شكه القاتل، والخلاصة في كلمتين: حيرة وعذاب!
وفجأة انطلقت المدافع كالمطر، لا تتيح للصدر متنفسا، وزاغت الأبصار، وضلت الألسن، ولكن الضرب لم يستمر أكثر من دقيقتين بالحساب الزمني وتوقع الناس عودة بغيضة إلى الدوي المرعب، واستبد الفزع بالنفوس، غير أن الصمت ساد وعمق، وتساءل إسماعيل لطيف: إني أتخيل حال زوجي الآن، ترى متى تنتهي الغارة؟
فتساءل رياض قلدس: متى تنتهي الحرب؟
وما لبث أن انطلقت صفارة الأمان فند عن المخبأ تنهد عميق.
وقال كمال: ليست إلا مداعبة إيطالية!
وغادروا المخبأ في الظلام كالخفافيش، ولفظت الأبواب أشباحا وراء أشباح، ثم تساقط الضوء الباهت متتابعا من النوافذ، وملأت الضجة الأركان .. - يبدو أن الحياة - في هذه اللحظة السريعة المعتمة - ذكرت كل غافل بمدى قيمتها الذي لا يقاس به شيء في الوجود ..
31
اتخذ البيت القديم مع الزمن صورة جديدة تنذر بالانحلال والتدهور. انفرط نظامه وتقوض مجلسه، وكان النظام والمجلس روحه الأصيل. ففي نصف النهار الأول يغيب كمال في المدرسة، وتمضي أمينة إلى جولتها الروحية ما بين الحسين والسيدة، وتنزل أم حنفي إلى حجرة الفرن، ويتمدد السيد على الكنبة في حجرته أو يجلس على كرسي في المشربية، وتهيم عائشة على وجهها ما بين السطح وحجرتها، ويظل الراديو في الصالة يهتف وحده، وعند الأصيل تجتمع أمينة وأم حنفي في الصالة، وتلبث عائشة في حجرتها، أو تمكث معهما بعض الوقت ثم تذهب، أما السيد فلا يغادر حجرته، وكمال إن عاد من الخارج مبكرا فلكي يقبع في الدور الأعلى في مكتبه. وكان اعتكاف السيد أول الأمر محزنا، ثم صار عادة عنده وعند الآخرين، وكان حزن عائشة مفجعا ثم صار عادة عندها وعند الآخرين، وما زالت أمينة أول من يستيقظ، فتوقظ بدورها أم حنفي، ثم تتوضأ وتصلي: وتنهض أم حنفي - وكانت نسبيا خير الجميع صحة - فتقصد حجرة الفرن، وتفتح عائشة عينين ثقيلتين فتقوم لتحسو أقداح القهوة تباعا وتحرق السجائر الواحدة تلو الأخرى حتى إذا دعيت للفطور تناولت لقمات. وقد اضمحلت أيما اضمحلال، وانقلبت هيكلا عظميا كسي جلدا باهتا، وأخذ شعرها في السقوط حتى اضطرت إلى اللجوء إلى الطبيب قبل أن يدركها الصلع، وتكالبت عليها العلل حتى أشار عليها الطبيب بالتخلص من أسنانها، فلم يبق من شخصها القديم إلا الاسم. ولم تكن أقلعت عن عادة النظر في المرآة، لا لتأخذ زينة. ولكن بحكم العادة من ناحية، وللإمعان في الحزن من ناحية أخرى. وربما بدت أحيانا وكأنها أذعنت للمقادير في استسلام لطيف، فتطيل من جلستها مع أمها، وتشارك في الحديث الدائر، وربما افترت شفتاها الذابلتان عن ابتسامة، أو تزور والدها لتسأل عن صحته، أو تتمشى في حديقة السطح وترمي بالحب إلى الدجاج، هناك تقول أمها برجاء: كم أسعدت قلبي يا عائشة، ليتني أراك دائما على هذه الحال. على حين تجفف أم حنفي عينيها قائلة: فلنذهب إلى حجرة الفرن لنصنع شيئا جميلا!
ولكن عند منتصف الليل استيقظت أمها على صوت بكاء آت من حجرتها، فهرعت إليها محاذرة أن توقظ الرجل النائم، فوجدتها جالسة في الظلام تنتحب، ولما شعرت بدنو أمها تعلقت بها هاتفة: لو تركت لي ما كان في بطنها! ظلا منها! يداي فارغتان، والدنيا لا شيء فيها ..
Bilinmeyen sayfa