108
وفي حين أن الكازروني، مثل بقية الصوفيين الأوائل في إيران، يبدو أن تعاليمه تركز أكثر بعض الشيء على موضوع الحب بين البشر والله؛ فقد كان أيضا مهتما بالوعظ الأخلاقي على نحو كبير. بيد أنه فيما يخص أغراضنا الحالية، فإن أهمية الكازروني تكمن في أنه أسس شبكة مكونة مما لا يقل عن خمسة وستين مسكنا صوفيا عبر جنوب إيران. وفي حين يبدو أن مجموعة صغيرة من مريديه الأساسيين كانوا يسكنون على نحو دائم في هذه المساكن، فإن هذه المباني كان الهدف الأساسي منها أن تكون ملاجئ خيرية للمسافرين والفقراء. وعلى هذا النحو، يجب اعتبارها تطورا مميزا نسبيا عن نموذج الرباط الذي تطور في وقت أبكر في الغرب الإسلامي، وعن نموذج الخانقاه الذي تطور في خراسان في الوقت نفسه تقريبا؛ إذ إن الخانقاوات كانت في الأساس مساكن تربوية للصوفيين، كان يتعهد المقيمون فيها بالالتزام بمجموعة قواعد للإقامة بها، والتي كانت معقدة على نحو متزايد. لم يترك الكازروني مثل هذا النوع من نظام القواعد، إلا أن شبكة المساكن التي تركها تشير إلى تطور مهم في علاقة الصوفيين بالمجتمع الأوسع نطاقا؛ حيث نرى واحدة من أوائل عمليات المبادلة الكثيرة التي تفاوض من خلالها الصوفيون مع مجموعات اجتماعية مختلفة، من أجل تحقيق فائدة متبادلة. فنظرا لوقوع مساكن الكازروني على بعض من أهم طرق التجارة في الشرق الأوسط، كان كثير من ضيوفه المسافرين من التجار (وهذا يحاكي الوضع في إسبانيا)، وهؤلاء بدورهم قدموا نظير ضيافته لهم تبرعات جعلت التوسع الإضافي في شبكة المساكن ممكنا. وخلال فترة قصيرة، امتدت مساكن الكازروني من وسط إيران حتى مدن الموانئ في شرق الصين. ومع الكازروني، كان الصوفيون يجذبون لأول مرة استثمارا ماليا كبيرا لأنفسهم كصوفيين، ذلك الاستثمار الذي مول بدوره مزيدا من الدعاية لحركتهم. ونظرا للوعظ الأخلاقي المميز للكازروني ونشأته بين وعاظ مسلمين للزرادشتيين المحليين، فإنه يبدو من المعقول اعتبار شبكته نوعا من المساعدة الاجتماعية التي يقدم فيها الطعام مقابل ترديد بعض الأدعية. ومع تراجع الحاجز الثقافي، برزت هنا حركة دمج داخلي أخرى عمقت بدورها الالتزامات الإسلامية للسكان الريفيين والتجار العابرين في صحاري وجبال إيران.
كان أبو سعيد بن أبي الخير (المتوفى عام 1049) من الشخصيات الأخرى التي لا تقل أهمية، والتي ساهمت في هذه التطورات المؤسسية «المادية»، وهو شيخ خراساني أقام لبعض الوقت في نيسابور، لكنه قضى معظم حياته في مكان شبه ريفي في ميهنة، فيما يعرف الآن بتركمانستان.
109
وفي ذلك المكان أسس خانقاه، لكن على النقيض من خانقاوات الكازروني، كانت التربية الروحانية للنزلاء هي هدفها الأساسي؛ ولهذا الغرض أعد أبو سعيد قائمة من عشر قواعد يتوجب على مريديه النزلاء الالتزام بها. لم تكن هذه القواعد جديدة في حد ذاتها على الإطلاق - فقد تضمنت على سبيل المثال: الحفاظ على الطهارة، وأداء كل الصلوات المفروضة، وأداء صلوات إضافية ليلا، وتلاوة القرآن وأداء الذكر يوميا - لكن اجتماعها معا أشار إلى التحول إلى مؤسسة «التربية» الصوفية الأكثر رسمية التي شهدنا تطورها بالفعل. كان هذا التحول مهما؛ لأن قواعد التربية هذه مع أبي سعيد أصبحت مرتبطة أيضا بمؤسسة سكنية. ولم يكن أبو سعيد حالة فريد من نوعها في خراسان حتى في ذلك الوقت؛ ففي أقصى الجنوب في مدينة هراة الموجودة فيما يعرف اليوم بأفغانستان، حدد معاصره عبد الله الأنصاري (المتوفى عام 1089) مجموعة قواعد مشابهة باللهجة الفارسية المحلية، كان الهدف منها - على ما يبدو - أن تكون سهلة الحفظ على أتباعه.
110
بالرغم من ذلك، كان أبو سعيد شخصية مثيرة أكثر من الأنصاري أو الكازروني؛ فهو لم يكن رجلا ثريا فحسب (إذ إن هذا الأمر لم يكن فريدا في حد ذاته مقارنة بالخلفية الخراسانية التي تضم شخصيات مثل الترمذي)، بل كان رجلا لا يرى تعارضا بين التباهي بهذه الثروة مع الاستمرار كصوفي. وهو يرى أن «الفقر» الذي منحه الصوفيون السابقون أهمية كبيرة كان حالة داخلية ورمزية؛ ومن ثم فإن امتلاك الأصول المادية، بل والاستمتاع بها، ليسا عقبة أمام التقدم الروحاني. في هذا الصدد، يوضح أبو سعيد التناقضات الأخلاقية والمجابهات الاجتماعية التي كانت لا تزال تميز الإسلام كثيرا في خراسان في هذه الفترة.
في حين كان أبو سعيد سعيدا باقتراض مؤسسة الخانقاه من الكرامية، فإن استمتاعه بالحياة الطيبة كان مناقضا على نحو مباشر لتركيزهم الشديد على الفقر. وعلى الرغم من أنه بوضع مجموعة قواعد دينية لنزلاء الخانقاوات كان يعكس الامتثالية الظاهرية مع الاتجاه السني، التي رأيناها بين الصوفيين في نيسابور وفي بغداد، فإن اهتمامه بالعروض الموسيقية وحفلات العشاء الفاخرة أكسبه سمعة سيئة بين كثير من معاصريه. وعلى الرغم من أن بعضا من القصائد الماجنة عن الخمر وحب الغلمان والأغاني قد يكون منسوبا إليه زيفا، فإنه بلا شك أولى اهتماما كبيرا بممارسة «السماع»، التي تضمنت في هذا الصدد أغاني حب منشدة بمصاحبة الطبول والنايات، التي تجعل الجمهور يشعرون بنشوة يعبرون عنها بالرقص الجامح. ويمكننا أن نرى في هذه الممارسات دمجا مهما يحدث بين الكلمات وما تشير إليه، توسع من خلاله - مع انتقال الكلمات إلى مواقع اجتماعية جديدة - المدى الدلالي للمصطلحات الفنية القديمة المحترمة التي تطورت في العراق، ليشير إلى الممارسات التي من المحتمل أنها لم تخطر قط على بال المستخدمين الأصليين لهذه الكلمات؛ ومن ثم، يكسب تلك الممارسات الاحترام. على سبيل المثال: على الرغم من مناقشة كلمة ومفهوم السماع في بغداد منذ وقت طويل، فإن الممارسات الفعلية التي شهدنا تطورها حول أمثال أبي سعيد في خراسان القرن الحادي عشر، لم تكن على الأرجح مقترضة من صوفية العراق على الإطلاق، بل كانت مقترضة من الهوايات العلمانية للطبقة الأرستقراطية الريفية في خراسان، الذين كان يشبههم أبو سعيد كثيرا في أسلوب الحياة والمكانة.
111
إن هذه العملية الخاصة بإضفاء بنية فوقية لغوية ومفاهيمية على الهياكل الاجتماعية الأكثر عمقا للحياة في بيئات مختلفة؛ ساعدت الصوفية في ترسيخ نفسها في المجتمعات الجديدة التي انتشرت فيها منذ القرن العاشر، في خراسان أولا، ولاحقا في الهند والأناضول وغيرهما من الأماكن.
Bilinmeyen sayfa