Sudan
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
Türler
نظام الحكم في السودان يقوم على أساس اتفاق 1899، وقد تطور بالحوادث التالية له، واطراد تفوق النفوذ الإنكليزي، وبإنشاء مجلس الحاكم العام سنة 1910 والقوانين والمنشورات الكثيرة التي صدرت منظمة لقضائه وماليته وإدارته وتعليمه وحفظ الأمن فيه، والحكم في السودان هو نوع من الحكم المطلق؛ لأنه لا يوجد برلمان أو مجالس شورية.
وقد قلنا إن سياسة الإنكليز في حكم البلاد الخاضعة لهم ترمي إلى إقامة حكومات وطنية في صورة من الصور، على أن تكون خاضعة لهم. وقد رأينا أن أهم ما يتجه إليه ولاة الأمور الإنكليز في السودان تحقيق فكرة الإدارة الوطنية، وهي تجربة حكم بعض بلاد السودان بنظار القبائل والأعيان، بأن يعطوا سلطة قضائية، وبذلك تقل نفقات الحكم ويخف العبء عن الحكومة المركزية في الخرطوم.
وقد أسهب السير هارولد ماكمايكل السكرتير الإداري السابق لحكومة السودان في شرح «هذه الإدارة الوطنية» في كتابه «السودان الإنكليزي المصري».
ومجلس الحاكم العام يشبه على نوع ما مجلس الوزراء، والحاكم العام مرءوس للمندوب السامي البريطاني في القاهرة، الذي يحمل لقب «المندوب السامي في مصر والسودان». وفي السودان محاكم مدنية وجنائية وشرعية وأهلية. (1) القضاء في السودان في الفتح المصري الأول
كان اختصاص القاضي الشرعي عند الفتح الأول للحكومة المصرية للسودان يشمل جميع القضايا من المعاملات وأحكام الدماء والديات والأحوال الشخصية، وكانت هذه الأحكام تستأنف إلى مجلس يسمى مجلس الأحكام بمصر ثم قصر اختصاص القاضي الشرعي على النظر في الأحوال الشخصية في مذهب الإمام أبي حنيفة، وأنشئ مجلس يسمى المجلس المحلي للنظر في الخصومات المتعلقة بالمعاملات، وكانت أحكام هذا المجلس تستأنف لدى مجلس يسمى مجلس استئناف السودان، ويتألف من رئيس وأعضاء هم قاضي عموم السودان ومفتيان أحدهما مالكي والثاني حنفي، وأعضاء من الأعيان. وقد كان من أعضائه في عهد غوردون باشا أبو بكر الجركوك وإدريس بيك النور.
وقرارات هذا المجلس غالبا تنتهي بها الخصومات غير أنه إذا لم يقبل أحد الخصمين حكمه فله أن يرفع تظلمه إلى مجلس الأحكام بمصر وحكمه أو قراره نهائي. وكانت أحكام الدماء لا تقرر إلا بعد تصديق من سعادة حكمدار عموم السودان، ومثلها قضايا المنازعات التي يخشى أن تؤدي إلى فتنة تخل بالأمن العام. وأنشئت محاكم شرعية عديدة في المراكز ومقار المديريات: في كل محكمة قاض. وأكثر هؤلاء القضاة من أهالي السودان، وبعضهم كان يختار من مصر، وسواء أكان القاضي مصريا أم سودانيا، فقد كان يختاره قاضي عموم السودان ويعينه سعادة حكمدار عموم السودان. كما كان لكل مديرية مفت. أما قاضي عموم السودان ومفتي مجلس استئناف السودان وشيخ العلماء فكانوا يعينون بأمر خديوي مصر.
وعند سقوط الخرطوم في قبضة محمد أحمد المهدي في 9 ربيع الثاني سنة 1302 و26 يناير سنة 1885 كان قاضي عموم السودان هو الشيخ محمد خوجلي حتيك من أهالي بري ضاحية من ضواحي الخرطوم، تلقى علومه في الأزهر الشريف، وقتله الدراويش في واقعة فتح الخرطوم. وكان مفتي مجلس استئناف السودان الشيخ شاكر الغزي، وقد قتله الدراويش أيضا في واقعة فتح الخرطوم. أما شيخ العلماء وقتئذ فكان الفكي الأمين الضرير من أهالي جزيرة توتي، وهي جزيرة مقابلة لمدينة الخرطوم، وقد مات في أوائل حكومة المهدية، ولقب بالضرير لأنه ولد أكمه. (2) القضاء في حكومة المهدي أو الدراويش
كان القضاء في هذه الدولة لبداوتها بعيدا عن النظام والضبط. فالدفتر الذي كانت تسجل فيه القرارات والأحكام في حكم المصريين للسودان أصبح لا يوجد إلا في بعض المحاكم، وأصبح القضاة في خارج أم درمان ينظرون القضايا بغير ضبط لأقوال الخصوم ولا دفاتر تسجل فيها الأحكام، بل يفصلون فيها شفويا وأحيانا يعطون للمحكوم لهم كتابا يدون به الحكم ليكون مستنده في الحق الذي حكم به، وكانت الأحكام تنفذ فور صدورها شفويا.
وقد اتسعت سلطة القاضي في هذه الدولة فأصبح يفصل في القضايا التي تعرض عليه أيا كان موضوعها، إلا أن القضاء نفسه قد انحط بعد وفاة المهدي ولم يراع في الأحكام الحق والعدل والمطابقة للحكم الشرعي بل أصبحت إشارة أو كلمة تصدر من خليفة المهدي في أم درمان أو من الأمراء المرافقين للقضاة في خارجها واجبة الاتباع لا يصدر الحكم على خلافها، وإلا فإن القاضي لا يأمن على نفسه فضلا عن البقاء في منصبه. وفيما عدا ذلك كانت الأحكام يراعى فيها مذهب الإمام مالك أو ما نص عليه في منشور من منشورات المهدي.
ولقد غير المهدي لقب أكبر قاض في الدولة. فبعد أن كان يسمى بقاضي عموم السودان لقبه بقاضي الإسلام، وأسند هذا المنصب إلى الشيخ أحمد ولد جبارة من علماء الأزهر، وكان قد صحبه من جزيرة أبا إلى قدير، وجعل المهدي دونه قضاة ونوابا كثيرين، وهو أول من سمي بقاضي الإسلام. ولما قتل في واقعة الأبيض تولى القضاء بعده ولد حلاب أحد فقهاء النيل الأبيض ومات في حصار الأبيض فخلفه القاضي أحمد علي من فقهاء بني هلبه، فلم يكن شأنه في زمن المهدي كبيرا؛ لأن المهدي أقام النواب للفصل في القضايا الشرعية والأمناء للفصل في القضايا السياسية. فلما مات المهدي وخلفه في الحكم عبد الله التعايشي عزل الأمناء ثم النواب وجعل المحكمة واحدة برئاسة القاضي أحمد، وكان من أعظم المقربين عنده لاتباعه هواه ثم نكبه في آخر الأمر فجرده من جميع أمواله وزجه في السجن حتى مات جوعا سنة 1894، وبعده تولى قضاء الإسلام سليمان الحجاز من تجار بربر المتفقهين، فلم يمكث فيه إلا مدة قصيرة ثم خلفه الشيخ الحسين ولد الزهراء، وهو من قرية تدعى أم عظام في ضواحي المسلمية ومن متخرجي الأزهر المتفوقين ومن الشعراء النابغين، وكان قبل أن يتولى القضاء من عداد العلماء الذين عهد إليهم الخليفة بتدريس علم الميراث في مسجد أم درمان، ولما تولى القضاء وقف عند حد الشرع وقضى بعدة مسائل على خلاف ما أراد التعايشي فاغتاظ منه وحبسه وكبله بالحديد، ومنع عنه الطعام والماء إلى أن مات صبرا سنة 1895، وخلفه في منصب قاضي الإسلام أم بدى البقاري ثم الشيخ النذير خالد، فبقي إلى فتح أم درمان سنة 1898، وكان مدرسا في المعهد العلمي، وتوفي سنة 1930. وكانت دار المحكمة الشرعية في أم درمان في هذه الدولة قريبا من منزل الخليفة المجاور للمسجد الجامع في مكان يسمى الككر تجتمع فيها القضاة ورئيسهم قاضي الإسلام، وكل منهم ينظر فيما يقدم إليه من القضايا، ويستشير أصحابه فيما يحكم به إذا خفي عليه وجه الحكم، وكان لا يصدر الحكم في القضايا الكبرى إلا بعد أن يعرض على قاضي الإسلام ثم على الخليفة. وكان القضاء يتبع الإمارات، فكل أمير لناحية من النواحي البعيدة عن أم درمان كان يعين معه قاض لهذه الناحية يعتمد على الأمير في أحكامه، ولقد كثرت الرشوة في قضاة هذه الدولة إلا من عصمه الله. وأعظم قضاة هذه الدولة هو الشيخ محمد البدوي قاضي إمارة الجعليين الذي لم يطق تدخل الأمير الزاكي أبو فرار في أحكامه فخاصمه إلى الخليفة، وكان ذلك سببا في اعتزاله القضاء، وكان الشيخ محمد البدري المذكور من أكابر العلماء علما ودينا وورعا، تلقى علومه في الأزهر الشريف، وهو أول من تولى مشيخة العلماء في الدولة الحالية إلى أن توفي سنة 1911. ولنختم هذا الكلام بصورة حكم من أحكام ذلك العهد، وسببه أن الخليفة محمد شريف حامد خليفة الكرار، أي الخليفة الرابع، غضب من الخليفة التعايشي، وامتنع عن صلاة الجمعة معه لقتله بعض أقاربه. فأمر الخليفة القضاة أن يقضوا فيه بما يكون زاجرا له وعبرة لغيره، وقد وقع على هذا الحكم ستة وأربعون رجلا من أكابر دولة التعايشي وأهل شوراه، منهم قاضي الإسلام أحمد علي، وهذا نص الحكم:
Bilinmeyen sayfa