Sudan
السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية (الجزء الثاني)
Türler
قبل أن أبارح الوجه القبلي عائدا إلى مصر يهمني أن أكرر عظيم اهتمامي ووافر انعطافي نحو الجيش المصري الذي تفقدته في الحدود. ويهمني كذلك أن أثبت عظيم الامتنان الذي قد عبرت لك عنه من قبل بشأن حسن نظامه وترتيبه، ويروقني أن أهنئ الضباط، سواء المصريين والإنكليز الذين يقودونه، وأن أشاهد الخدم التي أداها الضباط الإنكليز في جيشي، وأرجوك يا سردار أن تبلغ هذا للضباط والجنود.
عباس حلمي
وبهذا قد أجيب الطلب الأول من المطالب الثلاثة. أما الطلب الثاني المتعلق بعزل المرحوم ماهر باشا فقد عدل بنقله من وظيفته إلى محافظ عموم القنال مع حفظ مرتبه الذي كان يتقاضاه في وكالة الحربية. وقد رفض الطلب الثالث، وهو إمرة جيش الاحتلال على الجيش المصري، رفضا باتا. (4) قضية التلغرافات
منذ زمان بعيد تشهد مصر قضايا سياسية هامة، يتتبعها الرأي العام في شوق واهتمام. من هذه القضايا قضية اشتهرت باسم «قضية التلغرافات»، والأصل فيها أنه كانت الحملة المصرية على السودان بقيادة السردار كتشنر باشا، وكان الاهتمام بأنباء الحملة عظيما. وكانت جريدة «المؤيد» معدودة يومئذ الجريدة الوطنية الحرة الجريئة، التي تحارب الاحتلال الإنكليزي وتقود المعارضة، وكان صاحبها ورئيس تحريرها المغفور له السيد علي يوسف - شابا أزهريا عصاميا طامحا يلتهب وطنية وجرأة - يكتب مقالات، عبروا عنها بأنها «تفعل في النفوس فعل السحر وتسري فيها مسرى الكهرباء». ويجب أن نعرف حالة الرأي العام المصري يومئذ، فقد كان غير راض عن سفر الحملة واشتراك الجنود الإنكليزية فيها لاستعادة السودان على الصورة التي أعيد بها ووضعت خطتها يومئذ. وكان هم «المؤيد» أن ينشر أنباء الحملة على السودان، بينما كانت تعد أنباؤها من المسائل السرية التي لا يكاشف بها الجمهور إلا بمقدار. وكان الجمهور متلهفا على أخبارها، وكان بين الموظفين من تدفعه وطنيته إلى نقل الأخبار الرسمية إلى «المؤيد» مساعدة له على مهمته الصحفية الوطنية، وكان مخبرو «مندوبو» المؤيد ممنوعين من دخول وزارة الحربية ومن مرافقة الحملة، بينما سمح لجرائد أخرى بمرافقة مندوبيها للحملة.
وقد حدث في يوم 26 يولية سنة 1896 أن ورد من السردار كتشنر باشا تلغراف على مكتب تلغراف الأزبكية إلى ناظر «وزير» الحربية، وأن موظفا بالمكتب اسمه «توفيق كيرلس أفندي»، اتهم بنقل نسخة من هذا التلغراف، وكان بالفرنسية، وكان عدد كلماته 566. وقد وجه هذا الاتهام إليه بعد أن وصلت النسخة إلى جريدة المؤيد، وكان من محرريها يومئذ حضرة الأستاذ محمد مسعود الكاتب المعروف والصحفي القديم، وكان يتولى ترجمة التلغرافات. فسلم إليه صاحب المؤيد هذا التلغراف فترجمه ونشره في جريدة «المؤيد» بعددها الصادر بتاريخ 28 يولية سنة 1896. وفي يوم 29 يولية سنة 1896، اطلع وزير الحربية على الترجمة المنشورة في «المؤيد» للتلغراف المذكور. فدهش أيما دهشة، وكانت قراءته للجريدة عند تأهبه للخروج من منزله إلى مكتبه بالحربية، فلما وصل إليه بحث عن التلغراف في الوزارة فأحضر إليه. فعلم أن التلغراف لم يسرق، ثم تأكد أنه لم تصل إليه يد إنسان آخر بعد وصوله إلى الحربية، ثم عهد إلى ملحم شكور بك من موظفي الحربية بإماطة اللثام عن كيفية وصول هذا التلغراف إلى جريدة «المؤيد»، فتوجه شكور بك إلى مكتب تلغراف الأزبكية لمعرفة الحقيقة، ولكنه لم يصل إلى نتيجة. وحفظت القضية.
السيد علي يوسف «باشا» مؤسس جريدة المؤيد وسيد السادات الوفاتية المتوفى في 25 أكتوبر سنة 1913.
وكان بين «المؤيد» وجريدة «المقطم» حرب قلمية، وكان «المؤيد» يتهم «المقطم» بأنه مؤيد للاحتلال الإنكليزي وخادم له، وبعد أن حفظ التحقيق، كتب «المقطم» مقالات يدعو فيها الحكومة إلى محاكمة صاحب «المؤيد» متهما إياه بأنه قد اشترك في إفشاء سرية التلغراف بنشره، ففتح باب التحقيق مرة ثانية.
واتهمت النيابة العمومية كيرلس أفندي والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد بأن المتهم الأول قد أفشى تلغرافا سريا ورد على مكتب تلغراف الأزبكية في يوم 26 يولية سنة 1896 من سردار الحملة المصرية بالسودان، إلى ناظر الحربية. وأن المتهم الثاني قد اشترك في إفشاء سرية هذا التلغراف بأن نشره في العدد الصادر من جريدة المؤيد بتاريخ 29 يولية سنة 1896 في حين أنه لم يطلع عليه أحد غير عمال التلغراف وناظر الحربية.
وطلبت محاكمتهما بالمادة 145 من قانون العقوبات. وعد صاحب المؤيد مشتركا مع المتهم الأصلي بمقتضى الفقرة الثانية من مادة «68» من القانون المذكور، وأحالتهم إلى جلسة الجنح بمحكمة عابدين الجزئية الأهلية التي انعقدت في يوم الأربعاء 4 نوفمبر سنة 1896.
ومما يذكر في صدد هذه القضية المشهورة أن التلغراف كان يحتوي على 566 كلمة، وأن شهودها بلغ عددهم 27 شاهدا بينهم ناظر الحربية وملحم شكور بك والمسيو ولد ملاحظ مكتب تلغراف الأزبكية وغيرهم من كبار الموظفين وصغارهم، وكان بينهم الصحفي الجريء المرحوم نجيب هاشم «مخبرا» بجريدة المؤيد، والدكتور فارس نمر وإسكندر شنودة، وإسكندر تادرس ونجيب راضي.
Bilinmeyen sayfa