لاحظوا العائلات تجدوا أن أسماء المهن تخوض بيوتنا خوضا، قد يكون ذاك الحداد أو النجار أو النحاس أو الصائغ أو الشدياق عبقريا في عمله حتى نسبت عائلته إليه وحملت اسمه قرونا، بينما أحفاده لم يخلقوا لمهنته.
إن هذا التقليد يجعل الناس عاديين يعيشون من قلة الموت، لا يبتدعون ولا يخلقون، يسيرون على الطريق المعبدة كحصان العربة، فكم من رجل خلق ليكون من رجال الشريعة تراه يفلح وينكش ويقطع الحطب، ويحل محله من كان يجب أن يكون هناك! وكم من فتاة خلقت لتكون خادمة تجلس على كرسي التعليم! وكم من فتى خلق ليكون معلما تراه في مخزن يكيل الحبوب أو يذرع الخام والمقصور! وكم من فتيان يعملون بأيديهم في المصانع كان أولى لهم أن يتعلموا الرياضيات والعلوم ويحلوا محل الذين في الكليات والجامعات! وكم من سياسيين قعدوا في غير مقاعدهم، بينا نرى الجدير بمحلهم يعمل في مخزن ما! وكم من رجل خلق ليكون أمهر جراح نراه جزارا في يده الساطور! وكم من جراح هو جزار يقطع أعضاء بشرية!
كل هذا لأن الناس لا يحسنون توجيه بنيهم، أو لأن الأولاد خاملون لا يتطاولون إلى الأسمى. المواهب كالبراعم منها ما يتفتق باكرا، ومنها ما يبقى كامنا إلى حين ينتظر الساعة التي يهب فيها الهواء السخن، فعلينا أن نصبر ولا نيأس، علينا أن نسير في الطريق التي تنفتح أمامنا، وإذا اصطدمنا بعقبة علينا أن نذللها بالصبر والعمل المتواصل، فإننا لا بد أخيرا واصلون. إن المقاومة الطائشة لا تجدي، وفي كل مخلوق ميزان يستطيع أن يزن به قدرته. إذا كانت الحيوانات لا تقدم على ما لا تستطيع، فهل نكون نحن دونها تمييزا؟ هذا هو سبب الإخفاق في الأعمال، والسر كله هو في أن ننتقي ما يلائم غرائزنا، وألا نغتر بأنفسنا فنماشي التيار الذي فينا، إن الحوت الذي يجري في الغمار لا يخطو خطوة على الرمال، والقطار إذا حاد عن خطه فقد قوته وسرعته، فرب نابغة يعجز عن القيام بأبسط الأعمال ولكنه يستطيع أن يتفوق في العظائم!
فكرامويل بقي في مزرعته يعالج الخس والفجل والثمار حتى شارف الأربعين، وأخيرا انفتحت أمامه الطريق التي وجد ليقطعها.
وفولتير حاول أن يعد نفسه ليكون من رجال الحق والقانون ففشل هناك، وانصرف إلى الفلسفة والأدب فكان الأديب الفيلسوف الخالد.
وموليير المسرحي الفرنسي العظيم لم تجد عبقريته مرعى لها في المحاماة، فانصرف إلى الأدب وكان الرجل الذي أضحك زمانه في كل وقت ولم يضحك هو مرة.
وكانت الفنون الجميلة عنوان الفقر، ولا تعد إلا ألهية من لا عمل لهم، وكثيرا ما خاطب والد «ميكال أنج» ابنه بلسان القضيب ليحول دونه ودون حيطان البيت التي يرسم عليها شخوصه، ولكن الميل والعبقرية انتصرا أخيرا، وكان الخلود حظ هذا الولد الذي شقي صبيا حتى انتصر.
وإذا اختار أحدنا ما لا يلائمه، فإن الطبيعة لا يهدأ لها بال حتى تضعه في مركزه الخاص به، فما علينا إلا أن نسير ولا نقف لأننا واصلون لا محالة، علينا إذا كنا في غير مستقرنا أن نعمل بأمانة وإخلاص لنبلغ أخيرا المحطة المعدة لنا، فلنعمل الواجب بأمانة وإخلاص، وعملنا هذا يؤدي بنا إلى ما نرجو، أو إلى ما أعدته لنا الطبيعة منذ البدء، إن العبقرية كالماء الجاري تحت الأرض ينتظر الساعة التي يشق فيها طريقه إلى النور، فيروي وينمي ويخلق أثمارا وأزهارا.
أما وقد ذكرنا نفرا من نوابغ غيرنا فأين نحن من نوابغنا؟ فهذا أمين الريحاني أراده أبوه معاونا له في المتجر، وأراد هو أن يتعلم الحقوق والتمثيل فالتحق بجوقة وأخفق، وأخيرا سار في طريقه، وكان الأديب اللبناني الذي احتل مقاما عاليا بين أدباء الأرض.
وجبران هاجر كسواه ثم عاد إلى الشرق ليكون أديبا فأفلح، وكان الإمام المتبوع.
Bilinmeyen sayfa