مقدمة
...
شكر وتقدير
الحمد لله فاطر القلوب على حب الخير وإقرار الجميل والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الداعي إلى مكافأة صانع الجميل وبعد،
فقد منّ الله عليّ بالانتهاء من إعداد هذه الرسالة فأرى من الواجب عليّ أن أتقدم بخالص شكري وبالغ تقديري لفضيلة أستاذي الدكتور محمود أحمد ميرة المشرف على الرسالة، والذي لم يدّخر جهدًا في إبداء توجيهاته وملاحظاته السديدة، وتوفيره لي بعض المصادر ذات القيمة وقراءته لجزئيات الرسالة.
كما أقدّم خالص شكري وامتناني لفضيلة الشيخ الدكتور محمّد أمين المصري ﵀ والذي كان له كل الفضل في إعدادي للخوض في هذا العلم في السَّنة التحضيرية، وتشجيعي لاختيار هذا الموضوع، سائلًا المولى أن يتغمّده بواسع رحمته.
كما أقدّم شكري أيضًا لفضيلة الدكتور أكرم ضياء العمري وفضيلة الشيخ حماد الأنصاري لما بذلاه أيضًا من توجيهات قيّمة أيام الدراسة والتحضير.
وفي الختام أقدّم شكري لكل من قدّم لي عونًا أيًّا كان من الأساتذة الكرام والأصدقاء والزملاء وأخصّ بالذكر الأخ الكريم مصطفى عبد لجليل أمين مكتبة الدراسات العليا وجزا الله الجميع كل خير.
1 / 6
تقديم:
بقلم: الدكتور عبد الله بْن عبد الله الزائد نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
وبعد... فهذا كتاب (سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني في الجرح والتعديل) نقدمه لرواد علوم الحديث الشريف، وللباحثين المعتنين بالرجوع إلى المصادر الأولى في اقتباساتهم، والواردين الموارد الأصلية في استفاداتهم.
والكتاب أحد تلك الركائز القديمة في علم الجرح والتعديل لإمامٍ من أئمته الأوائل، هو الإمام أبو داود سليمان بْن الأشعث السجستاني (٢٠٢- ٢٧٥) أحد خاصة الإمام يحيى بن معين (١٥٨- ٢٣٣) والإمام أحمد بن حنبل (١٦٤-٢٤١) إمامي علم الجرح والتعديل في عصرهما، وأبرز من ورث علمهم رحمهم الله تعالى جميعًا.
وكثيرًا ما يتردد في ثنايا الكتب المطولة النقل عن أبي داود بواسطة تلميذه هذا: أبي عبيد مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ الآجري، أحد علماء القرن الرابع الهجري، فتتوق النفس إلى التعرّف على الآجري وكتابه الذي خزن في طواياه جانب النقد والجرح والتعديل عند الإمام أبي داود لأن هذا الإمام لم يشتهر إلاّ بكتابه (السنن) وهو كتاب ظاهره سرد المتون بأسانيدها دون أن تتجلى فيه شخصيته المتميّزة الناقدة.
فإلى هؤلاء نقدم جزءًا من هذا الكنز الدفين: كتاب (سؤالات الآجري) وهو القسم الخاص برجال أهل الكوفة ورواتها، لنضع لبنة في زاوية من صرح
1 / 7
السؤالات، وبرهن في تحقيقه على قوة وجلد ونفاذ في حلّ مشكلاته، جزاه الله خيرًا، ووفقه لمتابعة إخراج بقية الموجود من أجزاء الكتاب، وإخراج غيره من أمهات كتب السنة.
وإنا نتوجه إلى الله ﷿ بالحمد له والشكر على ما وفقنا إليه، ونسأله المزيد - ثم نتقدم بخالص الشكر إلى جلالة الملك خالد وسمو ولي عهده الأمير فهد، على رعايتهما هذه الجامعة الإسلامية، وتقديمهما يد العون لها، وعين الاهتمام بها، من حيث المادة والتطوير في مختلف مجالاتها النافعة للأمة الإسلامية. جزاهما الله كلّ خير.
والله تعالى هو المسؤول أن يكلل أعمالنا بالتوفيق والفلاح، وييسرنا لخدمة دينه بإخلاص ودوام عمل، إنه أكرم مسؤول - وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1 / 8
تمهيد:
لا أظن أن الباحث الكريم بحاجة إلى التنويه بفائدة كتب الرجال على اختلاف أنواعها. فهذه الكتب تعتبر مصدرا رئيسيًا يمكن الاعتماد عليه للوصول إلى حقيقة حال من ترجم لهم فيها، إضافة إلى ما تنفرد به تلك الكتب من مواد علمية جديدة.
وقد بدأ المسلمون بالتصنيف في كتب الرجال في وقت مبكر، وأفردوا لكل نمط معين من الناس كتبًا خاصة بهم، فنجد منها تلك التي اهتم مصنفوها بذكر رواة الحديث النبوي الشريف، ونجد أخرى اقتصرت على ذكر المفسرين، وتلك في البلغاء واللغويين، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، بل تعداه إلى التصنيف في البخلاء والمغنين وما إلى ذلك.
والواقع أن البدء المبكر في هذا النمط من التصنيف ليدل على ما تمتع به المسلمون الأوائل من وعي ثقافي، ومستوى علمي رفيع، على أن المحدثين كانوا أول من طرق هذا الباب، فأخذوا بتقييد أسماء الصحابة والتابعين، وتبيين أحوالهم على اعتبار أنهم نقلة السنّة المطهرة، الأمر الذي دعا من جاء بعدهم ليحذو حذوهم، فوصفوا رواة الحديث من بعد، وهكذا.
وقد اتبع المصنفون في تواليفهم أساليب متعددة، فمنهم من صنف كتابه
1 / 10
علم الجرح والتعديل، الذي ما يزال الباحثون فيه يجدون أنفسهم واجمين أمام ثغرات كثيرة فيه، وما تزال هذه الثغرات تستنهض همم الباحثين وأهل التخصص والمراس، لإخراج الكتب الأولية الأصلية، والدواوين الزاخرة، وتقديمها للباحثين، لإرواء غلتهم وسد حاجاتهم. وذلك أن علم الجرح والتعديل من أهم علوم الإسلام، وأهميته بأهمية تخليص المصدر الثاني للإسلام - وهو السنَّة - من كل شائبة ودخيل.
وإن كتابنا هذا واحد من تلك الكتب الأصلية فيه - فهذه مزية أولى له.
وثانية مزاياه: أنه جاء على طريقة السؤال والجواب، وهي طريقة طريفة في تدوين العلم، سلكها كثير من علمائنا الأقدمين - وقد جمع المحقق في مقدمته للكتاب عددًا وفيرًا من أسمائها - ولم يطبع إلاّ اليسير النادر منها.
والمزية الثالثة: تتجلّى في المكانة العلمية للسائل، فتكون مسائله عن نقاط دقيقة، وقضايا علمية جديرة بالاهتمام والسؤال، وإذا ما عرضت له مشكلة في بحثه - وهو العالم المتمكن - وعجز عن حلها، أو أراد أن يتثبت من الحل الذي ارتآه - فزع إلى شيوخه، فسألهم، ودوّن ذلك عنهم١.
على أن كتب المسائل - أو السؤالات - تجمع فوائد يسمعها جامع الكتاب من شيخه الذي يدوّن له أجوبته، ولو لم يكن سأله عنها.
فهي - إذًا - معلمة فوائد، وديوان نوادر، يلتقطها العالم البصير من شيخه بسؤال يوجهه هو أو غيره إلى شيخه، أو أن يقول الشيخ فائدة عابرة دون سؤال سائل.
وإن الآجري أحد علماء هذا الفن المتمكنين فيه، كما يظهر لقارئ كتابه، وإن كانت المصادر المتداولة في التراجم لا تعطينا أخبارًا - بل ولا خبرًا - عنه، وهذا لا يضيره، وكم من أئمة علماء غمرهم التاريخ أو غمروا أنفسهم فلم
_________
١ وهذا يدل على ما كان عليه سلفنا ﵏ من الارتباط الوثيق بين التلاميذ وشيوخهم: تلقيًا، وطول صحبة وملازمة، ورجوعًا إليهم في المشكلات.
1 / 11
يعرفوا! مع أنهم تركوا آثارًا أشبه بالموسوعات، مثل التبريزي صاحب (مشكاة المصابيح) والخزرجي صاحب (خلاصة تذهيب تهذيب الكمال) . ومنهم من كانت آثارهم الحجر الأساس في العلم، فما من طالب علم إلاّ وقرأ كتابه أو حفظه، ومؤلفه مغمور أو غير معروف الاسم!! مثل (متن الآجرومية) في علم النحو، و(متن البناء والأساس) في علم الصرف.
والآجري من هؤلاء المغمورين إذ لم يتداول ذكره إلاّ بنسبته (الآجري) مقرونًا باسم شيخه الإمام أبي داود.
وإن اعتماد الأئمة الحفاظ على نقوله اعتمادًا كبيرًا يدل على رفيع رتبته عندهم، وقد قال شيخ حفاظ عصره أبو الحجاج المزي في مقدمة كتابه (تهذيب الكمال): (وما لم يذكر إسناده فيما بيننا وبين قائله: فما كان من ذلك بصيغة الجزم فهو ما لا نعلم بإسناده عن قائله المحكي ذلك عنه بأسًا) وتابعه على هذا المنهج والشرط الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) .
وقد أورد المزي وابن حجر كلاهما أقوال أبي داود في الجرح والتعديل بصيغة الجزم من طريق الآجري في أكثر من سبعمائة موضع - كما أحصاه محقق الكتاب - وهذا هو شرطهما، فلا أدل من ذلك على علو رتبته وكمال ثقته وهما الحافظان الناقدان.
ومن المعلوم إن أوسع كتب الجرح والتعديل تداولًا (تهذيب التهذيب) للحافظ ابن حجر، وأصله (تهذيب الكمال) للمزي الذي بدئ بطبعه من قريب، وهذان الكتابان الضخمان يجد فيهما القارئ كثرة النقول عن كتابنا هذا، كثرة تزيد على سبعمائة نقل، كما تقدم.
ومن هنا تتجلّى أهمية نشر الكتاب وإخراجه إلى الناس، باعتباره أصلًا ومرجعًا لكثير من الكتب المتداولة، ولا سيما إذا كان الكتاب المتداول غير محقق ولا مخرج إخراجًا دقيقًا، كما هو حال (تهذيب التهذيب) فيكون من الضروري الرجوع إلى مصادره التي يستقى منها للتثبت من صحّة النصّ.
1 / 12
ومن الأمثلة التي توضح هذه الأهمية - وسيجد القارئ غير هذا المثال - ما جاء في فقرة ٢٢: "سئل أبو داود عَن أَبِي الجَحَّافِ؟ فَقَالَ: قَالَ سُفْيَان: ثنا، وكان مرضيًا"، أي إن سفيان الثوري كان يحدث عن أبي الجحاف ويرضاه، فهذا توثيق له من الإمام الثوري.
وكذلك جاء النص عند الحافظ المزي، لكنه جاء محرفًا في (تهذيب التهذيب) ٣: ١٩٦- ١٩٧ إلى "وكان مرجئًا"، وهو تحريف يسير، يترتب عليه اختلاف كبير وقد تكون الفائدة في هذا الكتاب بوجود معلومات فيه عن راوٍ ما، لا توجد في غيره من الكتب الكبيرة المعنية بذكر تلك المعلومات، ففي فقرة ١٤٢ يقول الآجري: "سألتُ أبا دَاوُد عَن أَبِي سَلَمة الصَّائغ، حدّث عَنْهُ وكيع، فَقَالَ: مَا سمعت إلا خيرًا" فأفادنا أن وكيعًا يروي عن أبي سلمة الصائغ، في حين أن ابن أبي حاتم - كما علق المحقق - لم يذكر عمن روى، ومن روى عنه، وهو من المهتمين بذكر شيوخ الرجل وتلامذته.
وغير ذلك من الفوائد المنثورة في الكتاب، التي يقدر أهميتها المحتاج إليها، المتلقط لها بنافذ بصيرته.
وقد صنف الآجري الرواة الذين يذكر أخبارهم وأحوالهم على حسب بلدانهم، فيذكر المدنيين - مثلًا - ثم المكيين، وهكذا، جاء كتابه في عدة أجزاء.
وقد يسّر الله تعالى الوقوف على الجزء الثالث منها - وهو في رواة الكوفة والبصرة - وقام بأعباء تصحيح نصوصه وتحقيقها تحقيقًا علميًا دقيقًا، أحد طلاب شعبة السنّة من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، وهو الأستاذ السيّد محمد عليّ قاسم العمري - الأردني - وقدّم ذلك لنيل شهادة العالمية (الماجستير) .
فبذل في ذلك الجهد المشكور، وقدّم للكتاب مقدمة علمية رصينة فيها تعريف موجز بالإمام أبي داود، وجلى من أمره ما يتصل بموضوع الكتاب وهو النقد والجرح والتعديل، وعرف بجامع الكتاب أبي عبيد الآجري، وبكتب
1 / 13
على الطبقات، وكان ابن سعد من الأوائل الذين استخدموا هذا الأسلوب بعد أستاذه الواقدي فأبدع وأجاد، ونجد آخرين صنفوا كتبهم على النسب سواء كان ذلك إلى القبيلة، أو المدينة، أو الصنعة. على أن بعضهم قد عمد إلى استخدام أكثر من أسلوب كما هو الحال عند خليفة ين خياط، حيث صنف كتابه على الأنساب، ولكن ضمن الطبقة الواحدة.
وهناك مسلك آخر قد سلكه بعضهم، وهو التصنيف على المدن، فيذكرون في مصنفاتهم تراجم أهل بلد معين، سواء كانوا من أهلها أصلًا أو ممن دخلها من غير أهلها، ومن أشهر ما ألف في هذا تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ﵀.
والذي يعنينا من هذا كله هو ما ألّف في تراجم رواة الحديث النبوي الشريف، وقد اتبع مصنفوها أيضًا مناهج متعددة تبعًا للأغراض المقصودة منها، فمنها ما يهتم بحياة صاحب الترجمة وأخباره، فيذكر سنة مولده ووفاته ويطيل في أخباره والمشاهد التي شهدها، ومعتقده والمناصب التي شغلها إن كان من ذوي الشأن، وما قيل فيه من جرح أو تعديل، إلى غير ذلك من معلومات، وقد مال بعضهم إلى الاختصار على ذكر ما قاله الأئمة من جرح وتعديل بعبارات مقتضبة.
وهكذا تكاثرت الكتب المؤلفة في رجال الحديث، وتبعًا لذلك تشابهت الأسماء وأصبح من الصعب التمييز بين كثير منها، مما دفع بعضهم إلى تأليف كتب خاصة تهتم بضبط أسماء الرواة، وأخرى للتمييز بين الرواة بالقرائن إن كانوا من أهل بلدة واحدة، أو طبقة واحدة.
إن المتتبع لما أُلف في الحديث النبوي الشريف على اختلاف علومه ليجد أن هذا العلم قد حظي بعناية بالغة حققت الأهداف المنشودة منه. ولم يكن
1 / 14
التأليف في هذا الفن مجرد تحقيق رغبة علمية فحسب، بل لما لهذا العلم من مساس بأحكام هذا الدين الحنيف، وخدمة السنة أمر واجب على أتباعها ولا يكون ذلك إلاّ بالإحاطة بأحوال نقلتها، ولهذا فقد اتبع علماء الإسلام من المحدثين أساليب علمية دقيقة سبقوا غيرهم باستخدامها في مجال البحث والتدقيق.
سائلًا المولى جلّ وعلا أن يحفظ للإسلام مجده ولأهله العزة والسؤدد، وأن يجزي كل من أراد خدمة هذا الدين خير الجزاء، وهو نعم المولى ونعم النصير.
1 / 15
المقدّمة
أبو داود السجستاني ﵀:
نسبه:
هو الإمام الجليل إمام عصره سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران أبو داود السجستاني١ صاحب السنن.
مولده ووفاته:
ذكر الآجري٢ صاحب السؤالات أن أبا داود ولد سنة ٢٠٢هـ، وكانت وفاته في السادس عشر من شوال سنة ٢٧٥هـ بالبصرة٣. ويكون بذلك قد عاش في هذه الدنيا ٧٣ عامًا قضاها في خدمة العلم وأهله..
_________
١ سجستان بكسر السين المهملة والجيم وسكون السين الثانية وفتح التاء من فوقها وبعد الألف نون، نسبة إلى سجستان الإقليم المشهور. انظر: طبقات الحنابلة ١/١١٨، أخبار أصبهان ١/ ٣٣٤، تاريخ بغداد ٩/ ٥٥، تهذيب الكمال ٣/ ١٣٢، اللباب ٢/ ١٠٥، طبقات الشافعية للسبكي ٢/١٩٣، تذكرة الحفاظ ٢/٥٩١، سير أعلام النبلاء ٩/ ٤٥، البداية والنهاية ١١/٥٤، شذرات الذهب ٢/ ١٦٧، وفيات الأعيان ٢/ ١٣٨، تهذيب التهذيب ٤/ ١٦٩، طبقات الحفاظ للسيوطي ص ٢٦١.
٢ محمد بن علي بن عثمان يأتي الكلام عليه في فصل مستقل.
٣ تذكرة الحفاظ ٢/٥٩٣.
1 / 19
أهم شيوخه:
رحل أبو داود وطوف بالبلاد شرقًا وغربًا، وسمع خلقًا كثيرًا من كبار المحدثين في مختلف البلاد، ومن أشهرهم: الإمام أحمد بن حنبل وابن معين وهما اللذان أخذ عنهما علم الحديث١. كما روى عن ابن المديني، ومسلم بن إبراهيم الفراهيدي، وأبي الوليد الطيالسي، وقتيبة بن سعيد وغيرهم من الأئمة.
أهم تلاميذه:
روى عنه الأئمة، أمثال أبي عيسى الترمذي صاحب الجامع، وهو من أقرانه، وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي صاحب السنن، وابنه عبد الله بن أبي داود الحافظ، وأبي عوانة يعقوب بن إسحاق الاسفراييني. وأبي بشر محمد بن أحمد بن سعيد الدولابي، وأبي عمرو أحمد بن علي بن الحسن البصري، وأبي بكر محمد بن داسة، وزكريا الساجي، وأبي عبيد الآجري، وغيرهم.
توثيقه:
اتفق أهل العلم على توثيق أبي داود ﵀ وسأقتصر في هذا المقام على ذكر أقوال بعض أهل العلم فيه:
قال ابن حبان ﵀: "كان أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا ونسكًا وورعًا وإتقانًا، جمع وصنّف وذبّ عن السنن"٢..
وقال الهروي: "كان أحد حفاظ الإسلام، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع"٣..
_________
١ تهذيب الكمال ٣/١٣٣.
٢ طبقات الشافعية للسبكي ٢/٢٩٣.
٣ تهذيب التهذيب ٤/ ١٧٢.
1 / 20
وقال النووي: "اتفق العلماء على الثناء على أبي داود، ووصفه بالعلم الوافر والإتقان والورع والدين والفهم الثاقب في الحديث وغيره"١.
مكانته العلمية، وثناء أهل العلم عليه:
عاش أبو داود ﵀ في بيئة علمية مكنته من ارتقاء أرفع مراتب المعرفة، وخاصة في علم الحديث النبوي الشريف، إلى جانب ما بذله من جهد شاق خلال رحلاته المتتالية وتتلمذه على من طارت شهرتهم في الآفاق، فكان من نتيجة هذه العوامل مجتمعة أن أصبح ﵀ عَلمًا من أعلام الإسلام. وهذه طائفة من أقوال الأئمة والحفاظ فيه:
قال أبو بكر الصاغاني: "ألين لأبي داود الحديث كما ألين لداود ﵇ الحديد"٢. وقال أبو عبد الله بن مندة: "الذين أخرجوا وميزوا الثابت من المعلول والخطأ من الصواب أربعة: البخاري ومسلم، وبعدهما أبو داود والنسائي"٣.
وقال أبو عبد الله الحاكم: "إمام أهل الدنيا في عصره بلا مدافعة"٤.
وقال أبو بكر الخلال: "الإمام المقدم في زمانه لم يسبق إلى معرفته بتخريج العلوم وبصره بمواضعه، رجل ورع مقدم"٥.
وقال موسى بن هارون: "خلق أبو داود في الدنيا للحديث وفي الآخرة للجنة"٦.
_________
١ تهذيب الأسماء واللغات ٢/ ٢٢٥.
٢ طبقات الشافعية للسبكي ٢/٢٩٣.
٣ تهذيب التهذيب ٤/ ١٧٢.
٤ تذكرة الحفاظ ٢/٥٩٢.
٥ طبقات الشافعية ٢/٢٩٥.
٦ طبقات الشافعية للسبكي ٢/ ٢٩٥.
1 / 21
وكان إبراهيم الأصبهاني، وأبو بكر بن صدقة يذكرونه بما لا يذكرون أحدا في زمانه بمثله١.
عقيدته:
عاش ﵀ في فترة زمنية ظهر فيها العديد من الاتجاهات الفكرية، فكان في الكوفة المذهب الشيعي، وكانت بالبصرة موطن القدرية، والشام موطن الناصبة، إلى جانب بعض الطوائف الأخرى كالخوارج والجبرية والمرجئة والجهمية، والقائلين بالاعتزال.
وقد كان التخاصم فيما بين تلك المذاهب من أهم العوامل في تنشيطها وسرعة انتشارها. وهكذا ابتلي بها الكثيرون من الساسة فضلًا عن عوام الناس، بل أن مذهب الاعتزال تربع على مقعد السلطة أيام المأمون، حتى صار يحكم بمبادئه، ويحارب ويذل من خالفه، ومسألة القول بخلق القرآن من أبرز الدلائل على ذلك.
وبحكم ترحال أبي داود المستمر في البلاد فقد باشر ﵀ بنفسه أهل تلك الطوائف على اختلاف اتجاهاتهم، فعرف ما تنطوي عليه عقائدهم الفاسدة، الأمر الذي باعد بينه وبينهم، فسلك سبيلًا غير سبيلهم، سبيل الاستقامة والسلامة، ولا ريب أن تأثره بشيخه الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنّة والجماعة كان عاملًا هامًا في ثباته على مسلكه القويم، الذي ارتضاه السف الصالح لأنفسهم، فضلًا عن ذلك النوع من العلم الذي تخصص فيه ﵀ وفيه ما يعصم الإنسان من الوقوع في المهالك.
وهكذا فقد عصمه الله تعالى، فكان إمامًا من أكابر أهل السنّة والداعين إليها، وكثيرًا ما نراه يحطّ من قدر أولئك المنحرفين باتباعهم مذاهب لا تقوم بها حجة شرعية وفي هذا الكتاب المحقق الكثير من الأدلة على ما نقول.
_________
١ تاريخ بغداد ٤/ ٥٧.
1 / 22
رحلاته:
لما كانت السنّة النبوية ذات مكانة هامة في التشريع الإسلامي فقد بذل العلماء ما في وسعهم لخدمتها، فرحلوا المسافات البعيدة من أجل تقييد الحديث وجمعه والوقوف على أحوال رواته، وشعارهم في ذلك قوله ﷺ: "مَنْ سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة"١.
وقد اعتبر كثير من العلماء الرحلة أمرًا ضروريًا للمشتغل بالحديث. قال ابن معين ﵀: "أربعة لا يؤنس منهم رشدًا... وذكر رجلًا يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث"٢. وكذلك كان أحمد ﵀ ممن يرى ضرورة الارتحال في طلب العلم٣. وهو مذهب جملة من العلماء كابن الصلاح٤.
ولإدراك أبي داود لهذه الحقيقة فقد شرع منذ الصغر في رحلاته، فرحل إلى بغداد، وصادف ذلك وفاة عفان بن مسلم فقال: شهدت جنازته وصليت عليه٥. وكان ذلك سنة ٢٢٠هـ، وعليه فإن عمره كان حينئذ ثمانية عشر عامًا. وقد دخل بغداد غير مرة وكان آخرها سنة ٢٧٢هـ، وقدم الكوفة سنة ٢٢١هـ، ورحل إلى البصرة وسكنها، وفيها كانت وفاته. ولم يقتصر ﵀ في رحلاته على مراكز العلم في العراق، بل رحل إلى مصر والشام، وفيها كتب عن إسحاق بن إبراهيم الفراديسي، وإلى خراسان والحجاز والري٦، وغير ذلك من بلدان العالم الإسلامي. وقد أطلق عليه الحافظ ابن كثير ﵀ لقب الرحّال حيث قال: "أحد أئمة الحديث الرحّالين إلى الآفاق في طلبه"٧.
_________
١ أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب العلم، ١/ ٢٧.
٢ الرحلة في طلب العلم ص١٧.
٣ مقدمة علوم ابن الصلاح، ص٣٦٩.
٤ المصدر السابق.
٥ تاريخ بغداد ١٢/ ٢٧٧.
٦ تهذيب الكمال ٣/ ١٣٣.
٧ البداية والنهاية ١١/ ٥٥.
1 / 23
وقد ترتب على هذا الجهد المبذول أن صار أحد أئمة الدنيا فقهًا وعلمًا وفارسًا من فرسان الحديث النبوي الشريف.
أشهر مصنفاته:
تقدم أن أبا داود ﵀ حظي بمكانة علمية عالية شهد له بها الجهابذة، حيث قضى حياته في طلب العلم وتحصيله، وما أن ترك الدنيا حتى خلف للمسلمين ثروة من مصنفاته التي تعد من أنفس كتب التراث الإسلامي ومن أهمها:
كتاب السنن: وقد جمع فيه الأحاديث المتعلقة بالأحكام والأمور الفقهية، ورتبه على أبواب الفقه، وعدتها ثمانمائة وأربعة آلاف حديث، وذكر شرطه فيه فقال: "ذكرت فيه الصحيح، وما يشبهه، وما يقاربه، وما كان في كتابي هذا من حديث فيه وهن شديد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح"١.
وقد لاقى كتاب السنن إعجابًا بالغًا عند أهل العلم، بل كان ينافس الصحيحين منافسة قوية أول أمره، قال فيه الخطابي: "إنه لم يصنف في علم الدين مثله، وهو أحسن وصفًا وأكثر فقهًا من الصحيحين"٢.
وقال ابن قيم الجوزية ﵀: "كتاب السنن لأبي داود من الإسلام بالموقع الذي خصه الله به بحيث صار حكمًا بين أهل الإسلام، وفصلًا في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام، ورتبها أحسن ترتيب ونظمها أحسن نظام مع انتقائها أحسن انتقاء، وإطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء"٣.
وقد اعتنى العلماء به عناية بالغة فشرحوه شروحًا متعددة٤..
_________
١ انظر: رسالة أبي داود لأهل مكة.
٢ فتح المغيث ١/ ٨٤.
٣ توضيح الأفكار ١/ ٦٠.
٤ طبع أكثر من مرة.
1 / 24
كتاب المراسيل: وهو أحد أجزاء السنن الثمانية عشرة، وقد أفرده العلماء بجزء مستقل، ذكر فيه أبو داود ما يروى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ من المراسيل، منها ما لا يصح ومنها، ما يسند عند غيره وهو متصل صحيح١.
كتاب مسائل أبي داود للإمام أحمد في الرواة٢: وقد رتبه على البلدان٣.
كتاب مسائل أبي داود للإمام أحمد في الفقه٤.
كتاب السؤالات، الذي بين أيدينا من جمع تلميذه الآجري.
كتاب البعث والنشور٥.
كتاب تسمية الإخوة الذين روي عنهم الحديث٦.
الناسخ والمنسوخ٧.
مسند مالك٨.
دلائل النبوة٩.
كتاب أصحاب الشعبي١٠.
كتاب الرد على أهل القدر١١.
وله مصنفات أخرى تدل على غزارة علمه في مختلف العلوم.
_________
١ نموذج من الأعمال الخيرية، ص٦١١، وكتاب المراسيل أيضًا مطبوع.
٢ تاريخ التراث العربي ٣/ ١٨٩.
٣ مخطوط في دار الكتب الظاهرية بدمشق، ضمن مجموع رقم ٤٦.
٤ مطبوع في بيروت تقديم محمد رشيد رضا.
٥ كشف الظنون ٢/ ١٤٠٢)
٦ مخطوط في دار الكتب القاهرية ضمن مجموع رقم ١٢٩.
٧ تهذيب التهذيب ٤/ ١٧٠.
٨ المصدر السابق.
1 / 25
أبو داود إمام في الجرح والتعديل:
إن علم الجرح والتعديل من أصعب علوم الحديث، فلا يقدم على الخوض فيه إلاّ من اتصف بسعة الاطلاع في الأخبار المروية ورواتها، عارفًا بأحوال أولئك الرواة ومقاصدهم، وطرق مروياتهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل أو الانحراف عند بعضهم، إضافة إلى معلومات حديثية أخرى، كمعرفة سنة ولادة الراوي، ووفاته وممن سمع ومن أخذ عنه، وكيف كانت كتبه هل هي صحيحة أولا، إلى غير ذلك مما لا بد منه في هذا الميدان.
والناقد لا بد وأن يكون أيضًا ذا فهم حاد ويقظة، واعيًا لكل ما ينطق به في هذا المجال، لا يستفزه غضب ولا يستميله هوى، ولا يتجاوز في حكمه على أحد فيصدر حكمه بأمانة علمية.
وهذه المرتبة من العلم صعبة المرتقى وشائك سبيلها، لا ينالها إلاّ من سهل الله سبيل الوصول إليها، فلم يبلغها إلاّ الأفذاذ ممن بزوا أقرانهم، فكم من عالم لا يعوّل على ما يقوله في هذا الفن. قال ابن المديني ﵀: "أبو نعيم وعفان - يعني الفضل بن دكين، وعفان بن مسلم - لا أَقْبَلُ كَلامَهُمَا فِي الرِّجَالِ هَؤُلاءِ لا يَدْعُونَ أَحَدًا إِلا وقعوا فيه"١. وأبو نعيم وعفان من كبار المحدثين، وممن نالوا شهرة بالغة، ولكنهم مع ذلك لا يلتفت إلى تجريحهم أو تعديلهم في
_________
١ تهذيب التهذيب ٧/ ٢٣٢.
1 / 26
الرواة على أن عبارة ابن المديني تفيد أنهما ممن أكثر في النقد، لكنا لا نجد مما قالوه في كتب هذا الفن إلاّ القليل النادر مع كثرتها، إذ أغفلت ما صدر عنهم.
وقد نبغ في هذا الفن أناس يدين لهم به كل منصف أمين لما قدموه من خدمة بالغة الأهمية لا يستطيع غيرهم أن يسديها، فاستسهلوا من أجل ذلك الصعب بدافع ديني نبيل وفطري سليم، وكان من بين هؤلاء إمامنا الجليل أبو داود السجستاني ﵀ وقد نوّه الأئمة بفضل هؤلاء النقاد وأشادوا بجهدهم الكريم في مقدمات كتبهم التي ألفوها في هذا الميدان كابن أبي حاتم وابن عدي، والذهبي وغيرهم، وكم كان بودي أن أعثر على ذكر لأبي داود فيمن ذكر ليكون ذلك عونًا لي في بحثي هذا، ولكني لم أر من ذكره كناقد فيمن ذكر من ذوي الشأن، ولا أقول هذا اعتراضًا عليهم، فالقوم لم يلزموا أنفسهم بذكر سائر النقاد، ولكن قد يظن بعضهم أن عدم ذكر من هم مثل أبي داود في تعداد أولئك إنما هو للتقليل من شأنهم، أو لأنهم لم يبلغوا مرتبة في هذا الفن يستحق من أجلها أن يذكروا في مصاف النقّاد الكبار. الواقع غير ذلك، فإنني أستطيع الجزم بأن أبا داود من كبار النقاد ومن الذين شاركوا في إنشاء أسس هذا الفن، وليس من حقي أن أغمط كلًا من السخاوي والسبكي - رحمهما الله - حقه. ففي ذكرهما لطبقات النقّاد ذكرا أبا داود في الطبقة التي تلي طبقة الإمام أحمد١. وتجدر الإشارة إلى أنني لم أعثر على أي بحث مستقل حول أبي داود في النقد فيما اطلعت عليه.
وأكبر الشواهد على إمامته وأكثرها وضوحًا هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن إذ يحتوي على الآلاف ممن تكلم فيهم أبو داود بجرح أو تعديل، أو غير ذلك سواء كان من اجتهاده، أو آثرًا عن شيوخه، بالإضافة إلى معلومات حديثية أخرى. ولم يختصر ﵀ على نقد رواة أهل مصر معين، كلا، بل تكلم في رواة الحديث من سائر البلاد الإسلامية، وفي هذا الكتاب رواة الحديث من بغداد والكوفة، والبصرة ودمشق، والثغور وأيلة والجزيرة، وبلاد أخرى كثيرة، ولكم
_________
١ الإعلان بالتوبيخ ١٦٥، طبقات الشافعية للسبكي ١/٣١٦.
1 / 27
أود أن يخرج هذا الكتاب بكامل أجزائه والتي أتصور أن تبلغ ثمانية كبار بما في ذلك المفقود.
وقد تكلم أبو داود ﵀ في الرواة بلسان الناقد البصير، ولم أر في كلامه ما يدعو إلى الاستغراب، فلم يكن لينفرد بما لا يتابع عليه في أحكامه إضافة إلى ما يدعم به رأيه من أدلة إذا اقتضت الضرورة.
وأبو داود ﵀ خاض غمار هذا الفن بعلمه واجتهاده، فلم يكن متبعًا، بل كان له رأيه المستقل، وقد قرأت كتاب السؤالات بأجزائه الثلاثة الموجودة، وتتبعت ما قاله باجتهاده وما نقله عن شيوخه، وأذكر هنا أن نسبة أقواله في هذا الجزء المحقق تزيد على ٩٠% من مجموع الآراء التي قيلت فيما احتواه من رجال. وقد يخالف رأي شيخه فها هو يوثق العوام بن حمزة، ورد على شيخه ابن معين، إذ ضعّفه بقوله: "مَا نعرف لَهُ حَدِيثًا منكرًا"١. وقال في نوح بن قيس: "ثقة"، بلغني أن يحيى ضعّفه. وقد أنكر على عفان بن مسلم إذ يروي عَن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن إِبْرَاهِيم صاحب العلاء، وقال: هو عندي منكر الحديث٢. ومثل هذا كثير. وهذه النماذج لا تدع مجالًا للشك في أن أبا داود من أهل الخبرة والاستقراء، والتثبت في النقد شديد الاحتياط في قبول الروايات.
نقل العقيلي في ترجمة يعقوب بن كاسب عن زكريا بن يحيى الحلواني٣ قال: "رأيت أبا داود السجستاني قد جعل حديث يعقوب بن كاسب في وقايات٤ على ظهور كتبه، فسألته عنه فقال: رأينا في سنده أحاديث أنكرناها فطالبناه بالأصول فدافعنا، ثم أخرجها بعد فوجدنا الأحاديث في الأصول مغيرة بخط طري، كانت مراسيل فأسندها وزاد فيها"٥.
_________
١ انظر: نص رقم ٣٥٥.
٢ انظر: نص رقم ٣٨٤.
٣ بضم الحاء المهملة واللام.
٤ أغفلة توضع على ظهور الكتب.
٥ ضعفاء العقيلي ٣/ ٤٥١.
1 / 28
إن البراعة النقدية التي تمتع بها أبو داود كما ترى يعجز الكثير من النقّاد عن بلوغها، وإنه لنقد علمي سليم، يقوم على نقد الكتابة والمخطوطات، وتقدير عمرها بالنظر في جديد الخط وقديمه، وقد علّق فضيلة الشيخ محمد الصباغ على هذا بقوله: إنه مجال سبق إليه أبو داود، ويحسب بعض الباحثين أنه جديد وأن الأقدمين لم يعرفوه١.
وقد شهد الأئمة لأبي داود بإمامة عصره في الحفظ والإتقان، ومعرفة علل الحديث، والتبصر بأحوال الرواة، وها هو يسئل عن الأئمة الكبار، سأله الآجري قائلًا: "أيهما أعلم بالرجال يحيى أو علي؟ فقال: يحيى أعلم الرجال وليس عند علي من خبر أهل الشام شيء"٢.
وحسب أبي داود اعتماد من جاء بعده على أقواله في هذا الفن إلى يومنا هذا، وأما ما قيل من أن أبا داود أكثر عناية بالمتون من الأسانيد فهذا لا يتعارض مع ما قلناه، وهذا في السنن إذ ضمنه من الأحاديث ذات الأحكام الفقهية ما لا يوجد في غيره من الكتب الستة، حتى قيل في سننه: "إنها أكثر فقهًا من الصحيحين"٣. على أن من يتتبع سننه يرى أنه يعقب على كثير من الأحاديث ببيان حال رواتها، وعما إذا كان هذا الحديث فردًا غريبًا أو غير ذلك من أمور نقدية، فكان ﵀ عالمًا بالمتون والأسانيد، ومن يطلع على ما ألفه في أحوال الرواة يظهر له الأمر جليًا، وقول ابن المديني يشهد لواقع أبي داود حيث قال: معرفة الرجال نصف العلم ومعرفة فقه الحديث نصف العلم٤.
_________
١ مجلة البحوث الإسلامية ١/١/ ٢٥٨.
٢ تاريخ بغداد ١٤/ ١٨١.
٣ قاله الخطابي، انظر: فتح المغيث ١/ ٨٤.
٤ تذهيب تهذيب الكمال. ورقة ٣/ أ.
1 / 29