Studies in Sufism
دراسات في التصوف
Yayıncı
دار الإمام المجدد للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
Türler
درَاساتٌ في التَصَوُّفْ
تأليف الأستاذ
إحسان إلهي ظهير
١٩٤١م - ١٩٨٧م
إدارة ترجمان السنة
لاهور. باكستان
Bilinmeyen sayfa
بين يدي الكتاب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له بيده الخير وهو على كل شيء قدير، له المر من قبل ومن بعد يفعل ما يشاء ويختار، وهو أعلم حيث يجعل من يشاء من عباده علم هدى وداعية فلاح، لا إله إلا هو الحكيم العليم.
وبعد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
لقد كان الأستاذ الكاتب المعروف الشيخ إحسان إلهي ظهير ﵀ رغب مني أن أكتب مقدمة لكتابه " دراسات في التصوف " الذي أراد له ﵀ أن يكون القسم الثاني من كشف التصوف والصوفية ولبيان القنطرة التي درج عليها هذا المنهج ومن أي مبدأ ظهر.
وليس بخاف أنه ﵀ قد أسهم بقلمه وخطابته في مجال مكافحة البدع والمبتدعة أيما إسهام، وكان لحماسه واندفاعه في دفاعه عن العقيدة أثره في بلاد الباكستان وغيرها بما لا يجهله أحد من المهتمين برصد نشاط أهل البدع في العشر السنوات الماضية، وقد ألح عليَ بعد سفره الذي لم ألقه بعده إلا على سرير الانتقال إلى الآخرة.
لقد كانت تربطني بالفقيد علاقة وطيدة ترسخت أصولها على مر الأيام، وكنت كثيرا ما ألح عليه بتوخي الحذر وأن لا يفرق نشاطه لئلا يكثر خصومه فيكيدوا له بكيد الشيطان إذ الشيطان للإنسان عدو مبين، وأعوانه في أنفاذ مقاصده وبث فساده ونشر غوايته أنشط من سواهم، ولكن طبعه ﵀ ونفسه المندفعة للحق فيما يظهر لي وحبه في فضح نوايا أهل البغي والفساد واطلاعه على مقاصدهم الخبيثة جعله لا يتأثر بعذل عاذل أو دعوة إلى أناة في كفاح الباطل.
1 / 9
لقد كنت أخشى عليه كيد أعدائه ومكرهم لاسيما بعد تطور وسائل الشر والفتك وتفنن صانعي التدمير بإحداث أفتك الوسائل وأمضاها، غير أن خوفي عليه ونصحي له بالحذر لم تمنع من إنفاذ الله قضاءه، وإنما هي حاجة في النفس قضيتها، وقضاء الله وقدره أسبق من ذلك.
كان ﵀ يظهر لي إحساسه بالمرارة من نشاط أهل التشيع في نشر مذهبهم وشدة تدليسهم على العامة وتجنبهم إثارة المشاعر في بداية أمرهم حتى إذا استحوذوا على النفوس بالخديعة تارة والإغراء تارة أخرى كشروا عن أنيابهم في وجه خصومهم وخرجوا على سجيتهم في عدائهم لمخالفيهم متسترين في بداية الأمر بثوب النفاق، لابسين بعد التمكن ثوب الفاتك الشرس، وكان ينعي على أهل الحق كسلهم في سبيل نشر حقهم والدعوة إليه والدفاع عنه، وكنت أحرص على تعزيته وتسليته بمطالعة سير الدعاة إلى الله وأن العاقبة للمتقين وأن الغفلة والإخلاد إلى الدعة قد لا تطول بإذن الله وإن عليه الصبر ومعالجة الأمور على أساس الواقع وما هو كائن.
لقد كان ﵀ يحدثني كل مرة عن لقاءاته في سفراته وتقبل الناس للحق وحاجتهم إلى تضحية في سبيل توعيتهم، فأبدى له أن ما يراه من استحسان وقبول من أدلة توفيقه وأسباب تسليه، وأحثه على الصبر والأخذ بالحكمة والرفق ﵀ رحمة واسعة.
لقد كان أمله أن تكون كلماتي عن كتابه هذا وبيان ما فيه من حق وما يحذر فيه عن زيغ حيث أحس شدة نفرتي من البدع وأهلها، وما درى ﵀ وما دريت أنا أن كتابتي ستكون بمثابة رثاء له وتألم للمصيبة بموته بأيدي أهل الغدر والحقد.
ناولني ﵀ أو أرسل إلي كتابه هذا وهو صورة لمسودة الكتاب لم تمسه يد المراجعة ولم يعد عليه نظر التعقيب بالتفقد والتعديل، بل فيه التعليقات وشطب الكلمات وخفاء كثير من الصفحات بالنسبة للتصوير مما جعل قراءة كثير من مواضعه متعسرة أو متعذرة، ولكني على كل حال قرأت كثيرا منه وفهمت مقصده ﵀ من إعداده حيث رأى كثرة من انخدع بالتصوف رغم ما في طواياه من البلايا والرزايا
1 / 10
والعقائد الكفرية فأراد أن يجلي للناس بأسلوب عصري يعتمد على النقل لأدلة فضائح هذه المسالك من كتب دعاتها وأولياء زعامتها، وأبان بما نقل عن سفاهة أحلام القوم وطيش عقولهم، وأنا هنا لا أحب أن أتحدث عن الكتاب وما فيه من نقول يذوب القلب أسى لصدورها عمن ينتمي للإسلام فهذا شيء يتحدث عنه الكتاب نفسه، وأحب أن أعتذر عن إصلاح ما في الكتاب الذي قرأت أكثره لضيق وقتي ولأملي أن تكون مبيضة موجودة لدى ورثة الشيخ إحسان ﵀ لأن بين استلامي لصورة المسودة وقتله ﵀ بأيدي أهل الغدر والخيانة عدة أشهر، فعسى أن يكون قلمه قد عدل وبدل وأجال فيه فكره وبصيرته، فأقام الإعوجاج ووصل بين ما قد يكون موجودا من انفصال ولكني أقول أنه كتاب ينبغي أن يقرأ هو وسابقه لما فيهما من إيضاح ولما عرف عن الكاتب ﵀ من حرص على الاعتماد على كتب من يرد عليهم من المبتدعة أنفسهم كما فعل في كتاباته عن التشيع في سلسلة كتبه المعروفة النافعة وكما كتب عن القاديانية والبريولية وسواهم.
إن الفقيد ﵀ قد أضاف إلى المكتبة الإسلامية سلسلة ثمينة ينبغي أن يعتني بنشرها وما قد يوجد فيها من ملاحظات نادرة فهي مغمورة بما حوته من البحور الزاخرة من فيض بيان الحق، وكشف الباطل، وتعرية أهله أمام نظر متطلبي طريق الفلاح.
لا أحب الإطالة في أسلوب إنشائي أو كلام عن الفقيد وآثاره لأني أرجو أن يكون لدى محبيه وذويه ومحبي الدعوة إلى الحق ما يغني عن القول، وإنما كتبت ما كتبت وفاء ببعض حق الفقيد ﵀ وتحقيقا لشيء من رغبته أن يخلو بعض كتبه من كلمة لي تؤيد منحاه وتدعو إلى نصرة منهجه فوعدته بالاستجابة، وما كنت لأرضيه حيا وأتراجع عن ذلك بعد موته فقد رأيت حقا علي إجراء القلم بشيء من مراده، ولا يسعني وأنا أريد إيقاف شباة القلم أن أسأل الله أن يجعله من الشهداء عنده وأن يبارك في آثاره وأن ينفع بها وأن يصلح ذريته ويتولى حفظهم وأن يعطف عليهم قلوب من يستطيعون نفعهم وبث تراث والدهم، فالواجب على القادرين بجاههم أو مالهم أو
1 / 11
أقلامهم وأفكارهم أن ينصروا دين الله ويسعوا في أبعاد كل ما قد يشوه مظهره أو يصد عنه أو قد طمس ضياءه، وإذا كان أهل الحق أو كثير منهم قد أقعدهم حصول الدنيا والانجراف وراء بريقها واغترار الكثيرين بمظاهرها، فينبغي أن تكون للمسلم رجعة إلى الله وتأمل في مصيره واستحضار لسير المجاهدين ومواقفهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتركهم أموالهم وأهليهم من أجل دعوة الناس وإرشادهم وبيان الحق لهم رجاء المثوبة من الله واتقاء لعقابه عند الغفلة عن طاعته، والله المسئول أن يوقظ الضمائر وينبه الغافلين لحقهم ويشد عزائمهم وأن ينصر دينه وأن يذل أهل الزيغ والانحراف وان يرزق العلماء القيام بحق العلم وصيانته ونشره ليسير الناس على نور وهدى وأخيرا رحم الله إحسان إلهي ظهير وآنس وحشته وبارك في ذريته وأهل بيته، وأخلف الله على الأمة الإسلامية من يسعى جاهدا لبث الدعوة وفضح الباطل، وأكثر لنا من هذا الصنف المتذرع بالعلم والحكمة والصبر في سبيل قمع كل باطل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن إهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
صالح بن محمد اللحيدان
مجلس القضاء الأعلى
المملكة العربية السعودية
الطائف ٢١/ ١٠ / ١٤٠٧هـ
1 / 12
بسم الله ارحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله منزل القرآن وجاعله هدى للمتقين وموعظة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وشفاء ورحمة للمؤمنين.
والصلاة والسلام على رسول الله مبشر الناس ومنذرهم، وداعيهم إلى الله بإذنه وسراج منير، إمام العالمين وأشرف المرسلين، الذي به ختمت النبوة وكمل به الدين، وآله وصحبه ومتبعيه إلى يوم الدين.
لقد وعدنا عندما كتبنا الكتاب الأول في هذا الموضوع، وهو (التصوف: المنشأ والمصادر) بأننا سنتبعه كتابا آخر في حجمه وضخامته، وها نحن نفي بالعهد، ونصدق الوعد، ونضع بين يدي القراء والباحثين كتابا آخر في موضوع التصوف أيضا مقرين معلنين بأنه لازال البحث جاريا، والتنقيب ماضيا في كتب الصوفية ورسائلهم، مصنفاتهم ومؤلفاتهم، ولم نستطع أن نمسك زمام القلم ونحول بينه وبين ما يسطر، مع حرصنا الشديد بأن لا يطول الكلام، وقلما سلم مكثار، ولكن الموضوع يتطلب المزيد ومع إصدار هذا الكتاب الثاني الذي ربما يزداد حجمه عن الكتاب الأول قليلا، نرى بأننا مطالبون بكتاب آخر، ولعلنا بذلك استطعنا إحاطة معظم جوانب هذه الطائفة وأفكارهم ومعتقداتهم وسلوكهم ومميزاتهم التي يمتازون عن الآخرين، أو يتميزون عما سواهم، ولكننا نعد القارئ بأن موعده لن يكون بعيدا، فإن أراد الله وشاء، ذلل الصعوبات، وسخر العقبات وغلبنا على النوازل والملمات، وأبعدنا عن المصائب والمكروبات - وهو كاشف الغم، فارج الهم، مجيب دعوات المضطرين - لن نأتي على آخر هذه السنة إلا ونكون قد وضعناه لطلبة العلم وقرائنا الأكارم، لأن الكتب موجودة، والنصوص والعبارات منها مأخوذة، وما بقي إلا وضعها في مكانها اللائق،
1 / 13
وتنظيمها وترتيبها، ثم جمعها وتأليفها، وسيكون ذلك الجزء مشتملا على أهم ما نريد أن يشتمل على طرق التصوف ومنشئيها، أعيانها وأكابرها، ولا يعني هذا بأن هذا الكتاب خال عن ذلك المبحث، لا ولا. ولكننا لم نبحث فيه إلا أهم الطرق وأشهرها بين الناس، وببعض الاختصار والاقتضاب بدون الإفاضة والإطناب، كما لم نرد ذكر المغالين المشهورين من المتصوفة وأفكارهم وعقائدهم، آرائهم وتعاليمهم - ولو أنهم كلهم غلاة ولكن غير المشهورين بالغلو - كالحلاج وابن سبعين ومحيي الدين ابن عربي وعمر بن الفارض وجلال الدين الرومي والسهروردي المقتول والقونوي والبقلي الشيرازي وغيرهم الكثيرين الكثيرين.
وكذلك بعض المواضيع التي لم نستطع التطرق إليها والإلمام بها في كتابينا هذين، ولها أهميتها في جلاء الفكر وتنوير الرأي وبيان الحكم، ونحاول قبل البدء في ذلك القسم من المبحث والكتاب، وأثناء هذه الفترة التي سنشتغل فيها حسب المخطط بفضل الله وتوفيقه في " المسيحية "، و" والبهرة والآغاخانية "، الجزء الثاني من كتابنا " الإسماعيلية " - نحاول أن نحصل على كتب ومصنفات الصوفية ووثائقهم ورسائلهم التي لم نحصل عليها بعد كي يجتمع للمعتنين بهذا الموضوع أكبر عدد ممكن من المراجع والمصادر فيه، وما ذلك على الله بعزيز.
وبعد فإن هذا هو الكتاب الثاني في موضوع التصوف يشتمل على أبواب ثمانية، لكل باب منه جزء مقسوم، ويبحث في أهم الجوانب الفكرية والعقائدية لهذه الطائفة من الناس.
فالباب الأول: " التطرف من لوازم التصوف " يشتمل على تعاليم الصوفية، التي لم تبن إلا على المغالاة والتطرف، وليست من الدين الوسط الذي قيل فيه على لسان من جاء به " إن الدين يسر " و" يسروا ولا تعسروا ".
وإن الله أنزله لهداية البشر وتهذيب النفوس لا لتعذيبها وحملها على ما لا تطيق ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾ (١).
_________
(١) سورة البقرة الآية ٢٨٦.
1 / 14
ولكن القوم قبلوا الأمور وجعلوها معكوسة، فبالغوا في الإنذار، وتطرفوا في التعسير، ولقد بينا كل هذا في هذا الباب مستندين إلى كتب القوم ورسائلهم، نصوصهم وعباراتهم حسب دأبنا المعهود.
والباب الثاني: فيه زيادة على ما في الباب الأول حيث ذكرنا فيه أمورا خالف القوم فيها نصوص الكتاب والسنة، النصوص الصريحة والواضحة الجلية، والتي لا تحتمل التأويل، وبينا كيف جاوز القوم حدود الشرع، وتركوا العمل به مع ادعائهم الزهد والتقوى، مع الزهد والتقوى يمنع المتلبسين بهما الابتعاد عن الشريعة قيد شبر.
والباب الثالث: وضعنا فيه النقاط على الحروف بأن التصوف ليس إلا مؤامرة ضد الإسلام ودستوره ومنهاجه، حيكت بمهارة، وأحكم نسيجها بالدهاء والمكر.
والباب الرابع: بحثنا فيه عن البدع والمحدثات التي لزمت طريق القوم، وبها عرفوا وميزوا عن الآخرين، فصارت كالشعار لهم واللباس الذي يتزينون به في المجالس والمحافل.
الباب الخامس: " طرق التصوف وأعيانها " فلقد ذكرنا فيه أهم الطرق الصوفية والمشهورة بين العرب، وهي " الشاذلية " و" الرفاعية " و" والقادرية " و" التيجانية " و" النقشبندية "، وأقتصرنا على هذه الخمسة مع وجود الأخرى الكثيرة، ذخرا لكتابنا القادم، وبما أنها ليست بتلك الشهرة والانتشار والقبول بين الناس، ولو أن بعضا منها مشهورة في جهة ومغمورة في جهة أخرى، مثل الجشتية والسهروردية فإن أكثر المتصوفة في شبه القارة الهندية الباكستانية ومنسلكون في إحداهما، خلاف الأخرى فإنها ليست بتلك الشهرة في هذه البلاد، ولعلنا في ترجمتنا هذا الكتاب هاتين السلسلتين إلى اللغة الأردية نضيف إلى هذا الكتاب هاتين السلسلتين.
وسيجد القارئ متعة في هذا الباب ما لايجد في غير هذا الكتاب وهو يقرأ هذه السلاسل والطرق.
والباب السادس: يتضمن مجموعة من المصطلحات الصوفية التي شاع استعمالها وكثر في الكلام الصوفي، وقد ضممنا إلى هذا الباب وهو آخر هذا الكتاب مباحث لم
1 / 15
نستطيع إدراجها في الأبواب السبعة لعدم مناسبتها وعلاقتها المباشرة لتلك الأبواب رغبة منا بأن لا يحس القارئ بالنقص والخلل في هذا الخصوص وهو يبحث عن التصوف، فحرصا منا على ذلك أدرجنا في هذا الباب تحت عنوان " مصطلحات الصوفية " ومثال ذلك قضية وحدة الشهود، ووحدة الوجود، وكذلك مسألة وحدة الأديان، فإننا لم نستطع ذكرها - مع أهميتها - في أحد الأبواب الستة المذكورة لعدم وجود المناسبة والداعي إليها، فذكرناها ههنا.
فهذه هي الأبواب الستة لهذا الكتاب، ولو ضمت إلى الأبواب الثلاثة من الكتاب الأول لكفت القارئ والباحث فهم التصوف ومعرفة المتصوفة، ولا يعني ذلك أن هذا الكتاب متوقف الاستفادة منه على الكتاب الأول، فإن الأمر ليس كذلك لأنه كتاب مستقل، وليس كالجزء الأول منه، وكذلك هذا الكتاب، ولكن يحسن للقارئ أن يقتني هذا وذاك لأننا ذكرنا فذ هذا أشياء لم نذكرها في كتابنا الأول وكذلك العكس.
فإن هذا الكتاب يشتمل على تعاليم الصوفية وعقائدهم، أفكارهم ومعتقداتهم، مميزاتهم وخصائصهم، بدعهم ومستحدثاتهم، طرقهم وأحوالهم زعمائهم، وغيرها من الأمور.
حيث إن الكتاب الأول يخص بذكر منشأ التصوف ومصادره مع ذكر المعتقدات التي تربطه بالمذاهب والأديان القديمة منها والحديثة من المذاهب والحديثة من المذاهب الهندية والفارسية والأفلاطونية الحديثة والمسيحية والغنوصية إلى دين التشيع والشيعة.
فالكتابان بينهما عموم وخصوص من وجه يجتمعان في قضية التصوف والمتصوفة، ويفترقان من حيث المبحث والموضوع.
أما بعد فإننا نريد أن نذكر الباحث والقارئ أننا لم نسلك في هذا الكتاب إلا مسلكنا القديم.
أولا: أنا لا نلوم الخصم إلا على ما يقوله ويتفوه به.
ثانيا: ولا ننقل من كتاب ومؤلف غير معتمد وموثوق لدى القوم أنفسهم، بل
1 / 16
نثبت الحجة ونقيم البرهان مستندين إلى كتب القوم ونصوصهم وعباراتهم، فلا ننقل شيئا من كتب المخالفين والمناوئين اللهم إلا للإستشهاد وللاستدلال، وربما يعسر علينا وجود شيء في كتب من نكتب عنه ونرد عليه، فنجده في كتب المخالفين والمعادين نقلا عن أولئك ولكننا لا نعتمد عليه قبل أن نتحقق من وجوده عندهم وثبوته لديهم وإلا فقد أعرضنا الجانب عن إيراده ونقله مهما كانت أهميته وحيثية.
ثالثا: سلكنا في كتبنا كلها أصعب المسالك وأشقها حيث لا نكتفي بإيراد رواية واحدة ولا روايتين لإلزام الخصم كي لا يحكم عليها بالشذوذ والندرة، بل نسرد روايات كثيرة ونوردها واحدة تلو الأخرى، ونضعها في جميع الجوانب كي لا يجد منها مخرجا ويستسلم إما بالاعتراف والإقرار أو التبرئ والاستنكار.
رابعا: لا نجعل المحك والمعيار لمعرفة الصدق عن الكذب، والحق عن الباطل، وتمييز الطيب من الخبيث، والجيد من الرديء إلا الكتاب والسنة، فالقرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وق أتفق المسلمون على عدم وقوع أي تحريف وتغيير فيه وأن يأتيه خلل أو نقص فهو محفوظ بحفظ الله ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (١).
والسنة سنة رسول الله المعصوم بعصمة الله والمحفوظ بحفظ الله والناطق بوحي الله والمضمون له في كلام الله ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴿٣﴾ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴿٤﴾ (٢).
فكل قول يخالف قول الله، وكل عمل يخالف عمل رسول الله فهو متروك مردود لا يعبأ به ولا يلتفت إليه، صدر عن كبير أو صغير، تقي أو شقي، لأن المؤمنين ليسوا ملزمين بإتباع أحد الرجال وآرائهم بل إنهم أمروا بإتباع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وهذا لا يحتاج إلى بيان فإنه واضح جلي، وقد ذكرنا الآيات والأحاديث في هذا المعنى في صميم الكتاب في مختلف المواضيع. فكل قول يوافق
_________
(١) سورة الحجر آية٩.
(٢) سورة النجم آية ٤.
1 / 17
الكتاب والسنة فهو قول حق وصدق وصواب مهما كان مصدره ومنشؤه، صميم مهما كان مصدره ومنشؤه، وكل قول وعمل يعارضه الكتاب أو السنة فهو قول باطل وعمل غير مقبول، من أي مصدر وأينما نشأ.
فالشرع عبارة عن القرآن والسنة وهو الأصل، وعليه يعرض جميع الآراء والأفعال والعقائد والمعتقدات، ويحكم عليها بالصحة والسقم والحق والبطلان، ولا يلتفت إلى شيء غيره.
خامسا: لم ننقل عن كبار الصوفية وأعيانهم، زعمائهم وقادتهم إلا ما نقله المتصوفة عنهم في كتبهم سواء كانت نسبة هذا القول وذلك العمل إلى ذلك الشخص صحيحة أم غير صحيحة لأن العهدة على الناقل والراوي ولو أننا لا نظن بأن من ينسب إليه المتصوفة تلك الأقوال والأعمال المخالفة المعارضة لصريح الكتاب والسنة والعقل كذلك يكون صحيحا نسبتها إليه حيث أننا نحسن الظن فيهم ونبرؤهم مما ينسب إليهم ويتهمون بها كمثل رابعة العدوية والجنيد البغدادي وعبد القادر الجيلاني وغيرهم من الأعيان، فقد ذكروا عنهم أشياء ونقلوا عنهم أقوالا ورووا عنهم أعمالا يأبى القلب قبولها عن أمثالهم ولكن مالنا وللقلب فإننا ننقل ما ننقل عن كتب المتصوفة الموثوقة المعتمدة لديهم، ومؤلفها أيضا من الأعيان والأكابر، لا الأجانب والأصاغر، وزيادة على ذلك لا نكتفي برواية وجدت فيها، بل ونجد لها شواهد ومتابعات، وهذا ما في وسعنا.
ولا بد لنا أن نتكلم ههنا بكلمة ولو للتاريخ بأننا ما وجدنا قوما يكثرون الكذب على أئمتهم ومشائخهم مثل الصوفية والشيعة، فما أكثر ما نسبوه إليهم وهو منه براء والله أعلم.
فالقصد من هذا كله أننا لم نتكلم على أحد إلا ما نقل عنه في كتب القوم أنفسهم، وليس علينا إلا عهدة النقل فإننا ملزمون بإثبات المنقول في كتب القوم ووأما ثبوته عمن ينقلونه فهذا ليس من شأننا لأن الإسناد من خصائص حديث رسول الله ﷺ، وبذلك سلمه الله وحفظه من كذب الكذابين وزور المبطلين المنتحلين، ونريد من قراء هذا الكتاب بالأخص أن لا ينسوا هذه النكتة الحساسة فإنها هامة ومهمة.
ونرجو الله سبحانه وتبارك وتعالى أن ينفع الناس بهذا الكتاب ويجعل له قبولا
1 / 18
ورواجا مثل ما من علينا في الكتب الأخرى السابقة عليه، وأن يغفر لنا خطايانا المقصودة منها وغير المقصودة، ويجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم فإنه ما دعانا إلى كتابة هذا الكتاب والكتب الأخرى عن الفرق الباطلة المنحرفة إلا رغبتنا الصادقة بأن يسلك المؤمنون سبيل رسول الله ﷺ، الخالية من شوائب الشرك وأدران الوثنية والبدع والزيغ والضلال ويتجنب عن السبل الملتوية والمعوجة التي لا تصل ولا توصل إلى الله ونعيمه ومرضاته في الدنيا والآخرة، وإلا ما لنا ولهذه المواضيع التي لا تشكل إلا خطرا، ولا تثير إلا شغبا من أصحاب تلك الفرق وأولئك الطوائف، وخاصة في هذا الزمان الذي قل فيه المخلصون المناصرون لكتاب رب العالمين وسنة أشرف المرسلين، وكثر فيه النفاق والمداهنة والمداراة باسم السياسة والمصلحة، وحبب فيه المتملق والتشدخ اللهم إلا من رحم الرب، وما أقلهم، وإن الجنة حفت بالمكاره، كما أن النار حفت بالشهوات والملذات، فعلى الله توكلنا وهو عمدتنا وملجؤنا ومأوانا ومفزعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على رسوله خير الخلائق أجمعين وعلى صحبة ومن تمسك بسنته وأهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إحسان إلهي ظهير
ابتسام كاتيج شادمان لاهور
باكستان ٩ - جمادى الأولى - ١٤٠٧هـ
١٠ - يناير - ١٩٨٧م
1 / 19
الباب الأول
التطّرف مِن لَوازم التصَوُّف
لقد ذكرنا فيما سبق في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (١) أن التطرف من لوازم التصوف وخصائصه، وأنه أمر زائد على الزهد المشروع المجب إليه، ولا يوجد صوفي لا يبالغ في التجوع والتعري وترك الحلال، ويفرط في التقشف والتعنت وتعذيب النفس وتكليفها ما لا يطاق، وجلب الأذى، والتجاوز في أوامر الله ونواهيه، والتقدم بين يدي الله ورسوله حتى يصل إلى اجتناب ما أمر الله به وتحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله وإتيان ما منع الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وأوردنا بعض الأمثلة هناك مناسبة للمقام تاركين التفصيل لهذا الكتاب، ونريد أن نذكر الباحث والقارئ قبل دخولنا في صميم الموضوع أن المشروع ما شرعه الله ورسوله، والمستحب ما استحبه الله ونبيه وصفيه خير الخلائق أجمعين، وكل أمر لم يأمر به الله ولم ينفعه رسول الله ﷺ مهما حسن منظره، وعظم شأنه، وحبب إلى النفوس فهو مقبوح مردود في دين الذي جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه، وشرك بالله وكفر به وبكتابه وبرسوله حيث إنه عبارة بعدم كمال الدين وتمام النعمة وختم نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليه بأن الله ﷿ قال في كتابه المحكم مخاطبا أصحاب رسول الله ﷺ في حياة نبيه وصفيه وفي أيامه الأخيرة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (٢).
وقال: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (٣).
وقال: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (٤).
_________
(١) انظر مقدمة الكتاب ص ٩ ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان.
(٢) سورة المائدة الآية ٣.
(٣) سورة الحشر الآية ٧.
(٤) سورة الأحزاب الآية ٤٠.
1 / 20
وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (١).
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (٢).
وقال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٣).
وقال: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ (٤).
وقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ (٥).
وقال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (٦).
وقال: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (٧).
وقال: ﴿إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ (٨).
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (٩).
وقال: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (١٠).
وأمر نبيه ﷺ أن يقول: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا
_________
(١) سورة سبأ الآية ٢٨.
(٢) سورة الحجرات الآية ١.
(٣) سورة آل عمران الآية ٣١.
(٤) سورة الأنفال الآية ٢٠.
(٥) سورة الشورى الآية ٢١.
(٦) سورة آل عمران الآية ١٩.
(٧) سورة آل عمران الآية ٨٥.
(٨) سورة النور الآية ٥٤.
(٩) سورة محمد الآية ٣٣.
(١٠) سورة الأحزاب الآية ٢١.
1 / 21
يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (١).
وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٢).
وقال: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (٣).
هذا وقد قال ﵊:
(تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله) (٤).
وقال ﵊: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) (٥).
وقال: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) (٦).
وقال: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام) (٧).
وقال ﷺ: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قيل: ومن أبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) (٨).
هذا ولقد روى عن أنس بن مالك ﵁ قال:
جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة النبي ﷺ فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله ﷺ، إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا.
_________
(١) سورة الأحقاف الآية ٩.
(٢) سورة النور الآية ٦٣.
(٣) سورة الأنعام الآية ٣٨.
(٤) رواه في الموطأ وله شاهد في الحكم.
(٥) رواه في شرح السنة وقال النووي: " هذا حديث صحيح ".
(٦) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
(٧) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
(٨) رواه البخاري.
1 / 22
وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدا ولا أفطر.
وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.
فجاء النبي ﷺ إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) (١)
وقال النبي ﷺ: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله أني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية) (٢).
وقال الداودي شارحا هذا الحديث:
" إن التنزه عما رخص فيه النبي ﷺ من أعظم الذنوب لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله وهذا إلحاد ".
وعلق عليه ابن حجر بقوله: " لا شك في إلحاد من أعتقد ذلك " (٣).
وروى عن العرباض بن سارية ﵁ أنه قال:
(وعظنا رسول الله ﷺ موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصينا.
قال:
(أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد.
وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها النواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) (٤).
وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال:
(ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما
_________
(١) متفق عليه.
(٢) متفق عليه.
(٣) أنظر فتح الباري لأبن حجر.
(٤) رواه أبو داود والترمذي.
1 / 23
لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (١).
وعنه ﵁ أيضا أنه قال:
خط لنا رسول الله ﷺ خطا ثم قال: (هذا سبيل الله).
ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال: (هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، وقرأ ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه﴾ الآية (٢).
ومثل ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك ﵁ أن رسول الله ﷺ كان يقول:
(لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) (٣).
وأخيرا ما ثبت في الصحيح الثابت عن رسول الله ﷺ أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (٤).
فالدين والشريعة عبارة عن كتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، وما لم يرد ذكره فيهما فليس له من الأمر من شيء، فإن أسلاف هذه الأمة وعلى رأسهم أصحاب رسول الله ﷺ فهموا الدين هكذا، ولم يكونوا يحيدون عنهما قيد شبر، وكل ما لم يثبت ولم يرد ذكره في كتاب ربهم وسنة نبيهم عدوه زيادة على الشرع وحدثا في الدين وبدعة مرفوضة وعملا مردودا، صغيرا كان أم كبيرا.
وعلى ذلك قال صاحب رسول الله ﷺ عبد الله بن مسعود لمن رآهم يسبحون بالحصا:
" على الله تحصون؟ لقد سبقتم أصحاب رسول الله ﷺ علما، وقد
_________
(١) رواه مسلم.
(٢) رواه أحمد والنسائي والدارمي وحسنه الألباني.
(٣) رواه أبو داوود.
(٤) متفق عليه.
1 / 24
أحدثتم بدعة ظلما " (١).
وروى أن عبد الله بن مسعود بلغة أن الناس يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا معلوما ويهللون ويكبرون.
قال: فلبس برنسا ثم أنطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه ثم قال ك (أنا أبو عبد الرحمن) ثم قال:
(لقد فضلتم أصحاب محمد ﷺ علما، أو لقد جئتم ببدعة ظلما).
قال: فقال عمر بن عتبة: نستغفر الله ثلاث مرات، ثم قال رجل من بني تميم: والله ما فضلنا أصحاب محمد علما ولا جئنا ببدعة ظلما ولكنا ربنا، فقال: (بلى والذي نفس ابن مسعود بيده، لقد فضلتم أصحاب محمد علما أو جئتم ببدعة ظلما، والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقا بعيدا، ولئن حرتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا) (٢)
وعن أنس بن مالك ﵁ أنه قال:
(كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف) (٣).
وعنه نقل يعلى بن أميه أنه قال:
" طفت مع عمر بن الخطاب، فلما كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر أخذت بيده ليستلم، فقال: أما طفت مع رسول الله ﷺ؟
قلت: بلى ... قال: فهل رأيته يستلمه؟
قلت: لا، قال: فأبعد عنه، فإن لك في رسول الله ﷺ أسوة حسنة " (٤).
وقال ابن مسعود ﵁:
(الإقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة) (٥).
_________
(١) انظر " البدع والنهي عنها " لمحمد بن وضاح القرطبي الأندلسي المتوفي ٢٨٦هـ، ص ١١/ ط دار الرائد العربي ببيروت.
(٢) المصدر السابق ص ٩.
(٣) رواه البخاري.
(٤) رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(٥) رواه الحاكم في المستدرك.
1 / 25
وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان ﵁ أنه قال:
" كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله ﷺ فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا طريق من كان قبلكم " (١).
ولقد نقل عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى أنه قال: " من أبتدع بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا ﷺ خان الرسالة لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا " (٢).
وكان يردد أيضا:
وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع (٣)
وذكر الشاطبي عن ابن رواح عن الحسن أنه قال:
" صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا، صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدًا " (٤).
ومثل ذلك روى عن هشام بن حسان أنه قال:
" لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا " (٥).
وأخيرا نذكر ما ذكره الشاطبي في اعتصامه تعريفا للبدعة، فيقول: " البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله ﷾ ".
ثم فصل قوله " تضاهي الشرعية " يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.
_________
(١) رواه أبو داود.
(٢) سنن الدارمي ج ١ ص ٦٠.
(٣) الإعتصام للشاطبي ج ١ ص ٨٥.
(٤) أيضا ج ٢ ص ٨٢.
(٥) أيضا ص ٨٤.
1 / 26
منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد، صاحيا لا يستظل، والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار في المأكل والملبس على صنف من غير علة.
ومنها إلتزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي ﷺ عيدا، وما أشبه ذلك.
ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة، لأنها من باب الأفعال العادية (١).
أما بعد فبعد هذا التمهيد والتوطئة المختصرة وذكر قول الله ﷿ حيث خاطب أهل الكتاب: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ (٢).
نقول: أن أمور التصوف وأعمال المتصوفة كلها مبنية على مخالفة تلك الأسس والقواعد، وليس فيها إتباع ولا اعتدال بل كلها ابتداع وغلو وتطرف ورهبانية ابتدعوها، ما كتبها الله عليهم، ولا أوجبها رسول الله ﷺ، ولا عمل بها أصحابه ورفاقه، تلامذته الراشدون ومبلغوا تعاليمه إلى العالمين، الذين اقتفوا آثاره،واهتدوا بهديه، واتبعوا سننه، وحملوا رايته، وجاهدوا في الله حق جهاده، ولم يكن واحد منهم معطلا نفسه، منزويا في الأربطة والتكايا، منعزلا في الخانقاوات والزوايا، متعطلا عن العمل، تاركا للجمعة والجماعة، مخترعا الطرق المخصوصة للوصول إلى الله، ومتخذا التعنت والتطرف تقربا وتزلفا إليه، ولم يكن يعد التجوع والتعري سببا للنجاة، ولا التسول والاستجداء وسيلة للنجاح، وكانوا تجارا زراعيا صناعا ورعاء للإبل والماشية، يكسبون الحلال ويرزقون به أولادهم، أهلهم وذويهم، ويطعمون الطعام على
_________
(١) الاعتصام للشاطبي ج١ ص ٣٩.
(٢) سورة النساء الآية ١٧١.
1 / 27