فلن يكون لنا من رد على هذه الآراء - التي تصدر في أغلب الأحيان عن شراح من المؤمنين باليهودية - سوى أنها تزييف للأسس الأولى التي قام عليها تفكير اسپينوزا، وذلك لاعتبارات عقيدية متعصبة لا شأن لها بالعلم على الإطلاق. فليست المادية التي يقصدها اسپينوزا هي مادية الشجرة أو الجبل، وأبعد الأمور عن ذهنه أن يفترض وجود إله ثم يضفي عليه صورة مادية جزئية، بل إن فلسفته كلها ليست إلا محاولة لتخليص الأذهان من هذا التفكير البدائي الساذج، والاستعاضة عنه بنظرة إلى العالم متمشية تماما مع روح العلم. فإذا سلم المرء بهذه المقدمات، فمن المحال أن يجمع بين فكرة مادية الله وبين أية نظرة أخرى تقليدية إلى فكرة الله، ولا بد له أن ينتهي إلى تلك النتيجة الضرورية، وهي أن المقصود هنا شيء مغاير تماما لكل ما كان معروفا عن فكرة «الله»، حتى رغم وجود اللفظ؛ أعني شيئا لا ينطبق عليه إلا لفظ مثل «مجموع الطبيعة» - هذا إذا كان لدى المرء أقل حرص على أن ينقذ اسپينوزا من التناقض الذي يوقعه فيه المفسرون عمدا، ورغما عن كل آرائه الصريحة، لكي يرضوا نزعات معينة في نفوسهم على حساب التحليل الموضوعي النزيه. (2-3) حذف أوصاف تتعارض مع فكرة الطبيعة
والفئة الثالثة من الأوصاف التي عزاها اسپينوزا إلى فكرة الله هي أوصاف تعزى عادة إلى هذه الفكرة، في المفهوم التقليدي لها، ولكن اسپينوزا يستبعدها وينتقدها. وليس من قبيل المصادفة أن هذه الأوصاف التي استبعدت كلها لا تصلح للانطباق على فكرة الطبيعة. فلهذا الاستبعاد دلالة لا شك فيها، هي أن اسپينوزا حيثما كان يجد تعارضا بين المفهوم التقليدي لفكرة الله وبين فكرة الطبيعة، كان يعدل هذا المفهوم بحيث يزول كل تعارض. والتعليل الوحيد لذلك هو، بطبيعة الحال، حرصه على تأكيد الهوية التامة بين الفكرتين. (1) «العرضية وحرية الإرادة»: كانت فكرة حرية الإرادة، بمعنى التحرر التام للمشيئة من جميع القيود والقوانين، من الأوصاف المألوفة التي كان اللاهوتيون يعزونها دائما إلى فكرة الله. وقد انتقد اسپينوزا هذا القول بحرية الإرادة - مفهومة بهذا المعنى - وانتفد معها فكرة العرضية التي ترتبط بها وتنتج عنها، وأكد فكرة الضرورة التي تسري على جميع المجالات، حتى المجال الإلهي، ثم أثبت بعد ذلك أن هذا هو الفهم الوحيد المتسق لفكرة الله، وأن كل فهم مبني على الآراء التي انتقدها متناقض مع نفسه حتما.
ولو شئنا الدقة اللفظية لقلنا إن اسپينوزا يعترف بالحرية الإلهية، ولكن هذه الحرية عنده لا تعني القدرة على الفعل وعدم الفعل، وإنما هي الحرية المعبرة عن الطبيعة الإلهية الضرورية،
28
فهو ينكر الفكرة القائلة إن الله يستطيع ألا يفعل ما يفعل، وهي الفكرة التي تكون الفهم الشائع للحرية الإلهية، ويؤكد أن المشيئة، إذا ما فهمت بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون من صفات الفعل الإلهي،
29
فالحرية الإلهية كما يفهمها هي أن الله يفعل حسب قوانينه الخاصة، ولا يوجد ما هو خارج عنه ليرغمه، وبالتالي فليس ثمة قوة تدفعه إلى تغيير مسلكه، أو على الأصح، تغيير القوانين التي تسير لعيها طبيعته، وبهذا المعنى الحتمي لفكرة الحرية؛ أي بمعنى الفعل حسب القوانين الذاتية دون إرغام خارجي، يكون الله وحده هو العلة الحرة،
30
إذ إن كل ما عداه يتأثر بعوامل خارجية، بينما هذا التأثر لا يسري عليه. والخلاصة أن الحرية الإلهية ترتبط بفكرة الصرورة أوثق الارتباط؛ فهي حرية «الطبيعة»؛ أي الحرية الناجمة عن اتباع القوانين الذاتية، ولكنها تنفصل تماما عن فكرة الإرادة أو المشيئة الخارجة على كل قانون؛ إذ إن مثل هذا الخروج ، إذا فهم على حقيقته، لا يكون حرية في الواقع، وإنما يكون خضوعا لعوامل خارجية هي التي تحض على مخالفة القوانين الأصلية، ومثل هذا الخضوع بعيد كل البعد عن الطبيعة الإلهية.
ويؤكد اسپينوزا أن القول بأن الله متسق دائما مع نفسه، وأنه ظل يمارس دائما نفس النوع من النشاط طوال الأزل، فيه مزيد من الإعلام للقدرة الإلهية، وإن فكرة الأزلية ذاتها لتحتم القول بضرورة الفعل الإلهي، [فالخصوم ذاتهم يعترفون] بأن جميع الأوامر الإلهية قد صدق الله عليها ذاته منذ الأزل ... ولكن ليس في الأزل معان مثل متى، أو قبل، أو بعد؛ وعلى ذلك فإن الكمال الإلهي وحده يستتبع ألا يأمر الله أبدا، أو يكون قد أمر، بأي شيء سوى ما هو موجود، وأن الله لم يوجد قبل أوامره، ولا يمكن أن يوجد دونها.»
Bilinmeyen sayfa