هذا مثال واضح للأفكار العلمية الخالصة التي يعرضها اسپينوزا بلغة المدرسين؛ فالسؤال: هل كان الله يستطيع أن يفعل غير ما فعل؟ ليس إلا تعبيرا - من خلال لغة العصور الوسطى - عن السؤال: هل تسود الضرورة أو العرضية في الطبيعة؟ ولا جدال في أن اسپينوزا ينتهي إلى الدفاع عن سيادة الضرورة بكل ما يملك من تحمس، ولكنه يصوغ هذا الدفاع، أيضا، في لغة مدرسية، فيقول إن الله لم يكن يشرف بفعل أي شيء غير ما فعل. وبهذه الألفاظ الظاهرة البراءة يعبر اسپينوزا عن المبدأ الاسپينوزي الذي يرتكز عليه العلم، وهو أن كل شيء يسير تبعا لنظام أو قانون لا تغيير فيه، ويسد الطريق، في الوقت ذاته، على فكرة المشيئة الإلهية الاعتباطية بكل ما لها من نتائج لاهوتية متعددة.
وفي كتاب «الأخلاق» يتحدث اسپينوزا بمزيد من التفصيل عن مبدأ سيادة الضرورة في الكون، فيصف هذا المبدأ أولا بأنه ينتمي إلى طبيعة العقل البشري، أو أنه هو الطريقة التي ينبغي أن ينظر بها العقل البشري (إذا أحسن استخدامه بالطبع) إلى الأشياء، قائلا: «ليس من طبيعة العقل أن ينظر إلى الأشياء على أنها عرضية، وإنما على أنها ضرورية.»
43
ولنلاحظ أن النتيجة الثانية لهذه القضية تقول: «إن من طبيعة العقل أن ينظر إلى الأشياء من منظور الأزلية
sub quodam aeternitatis specie » وبذلك يكون نظر العقل إلى الأشياء من منظور الأزلية مرتبطا بتحكم الضرورة، وتنفى عن فكرة «الأزلية» في هذا الصدد كل ارتباطاتها الدينية، وتصبح تعبيرا عن ذلك الوجه الدائم للأشياء، الذي تكتسبه لمجرد كونها خاضعة لقانون ضروري يستبعد كل عنصر عرضي فيها. ويلخص اسپينوزا موقفه في قضية نستطيع أن نسميها «قضية الضرورة المطلقة» فيقول: «لا شيء في الكون عرضي، بل كل شيء يتحدد وجوده، ويسلك، على نحو معين وفقا لضرورة الطبيعة الإلهية.»
44
ولنذكر هنا، في صدد العبارة الأخيرة، ربطه بين «الطبيعة الإلهية» وبين «الضرورة»، وتأكيده، الذي أشرنا إليه من قبل، أن الضرورة تسري على الأفعال الإلهية ذاتها، وبذلك يكون المعنى الحقيقي للعبارة هو في واقع الأمر «وفقا للضرورة الكونية» أو «وفقا لقوانين الطبيعة».
أما الأشياء الفردية فيقول عنها: إن «كل شيء فردي، متناه، متحدد في وجوده، لا يوجد أو يتحدد فعله إلا بعلة أخرى هي بدورها متناهية وذات وجود متحدد. وهذه بدورها تتحدد بشيء متناه متحدد. وهكذا إلى ما لا نهاية.»
45
ومعنى ذلك أنه لا توجد قوى خارجية تتحكم في الأشياء الموجودة في هذا العالم، وأن ظواهر الطبيعة ينبغي أن تفسر بقواها الخاصة فقط، وأن من الواجب البحث عن علة طبيعية فقط - لا أي نوع آخر من العلل - لكل ما في الكون.
Bilinmeyen sayfa