ولكن السؤال الأكبر في هذا الصدد هو: هل كان اسپينوزا يستهدف هذه المقاصد والغايات التي أعلنها بحق؟ إن التفسير الذي يتبادر إلى الأذهان هو أنه كان مفكرا سيء الحظ، لقيت كتاباته من الآخرين استجابة مناقضة لما كان يرمي إليه، ولكن هناك تفسيرا، أو على الأصح احتمالا، أعمق من ذلك، هو: ألا يجوز أن اسپينوزا كان بارعا إلى حد أنه كتب بأسلوب وبصورة يحقق بها نتائج لا تخطر على الإطلاق ببال القارئ لأول وهلة، بحيث تتخذ كتاباته مظهرا بعيدا كل البعد عن المعاني العميقة التي يمكن أن تستخلص منها؟ ألا يجوز أنه كان يريد فعلا أن تفسر كتاباته على نحو مخالف لما توحي به لأول وهلة؟
هذا هو الاحتمال الخطير، الذي سنبحثه في هذا الكتاب بالتفصيل، ونقدم من الأدلة ما يثبت أنه، إن لم يكن هو الاحتمال الصحيح، فإنه على الأقل هو الأرجح. •••
مثل هذه الغاية التي نستهدفها في هذا البحث، وأعني بها محاولة كشف المعاني الخفية في كتابات اسپينوزا، تقتضي منهجا في البحث لا يتقيد بالشكل الظاهر للألفاظ والتعبيرات، بل لا يتقيد بالأفكار والآراء التي تعمد اسپينوزا أن تفهم لأول وهلة من كتاباته.
وهنا ينبغي أن نضع تقابلا أساسيا بين طريقتنا في بحث اسپينوزا، وبين طريقة نعدها أنموذجا لما نرمي نحن في هذا البحث إلى تجنبه؛ وأعني بها طريقة الأستاذ «ولفسون
Wolfson » في كتابه «فلسفة اسپينوزا». هذا الكتاب الضخم، الحافل بالشواهد على غزارة علم صحابه وسعة اطلاعه وجلده وصبره في البحث، إلى حد لا يملك المرء معه إلا أن يشعر بالتواضع الشديد؛ يمثل جزء كبير منه، في رأينا، مجهودا فكريا ضائعا أو طاقة ضخمة جبارة تنفق في سبيل هدف عقيم.
ففي هذا الكتاب يأتي المؤلف بقائمة طويلة من المفكرين يفترض أن اسپينوزا قد تأثر بهم - بعضهم كان تأثيره فيه مباشرا، والبعض الآخر تأثر به اسپينوزا في فقرات أو قضايا منفردة من كتاب الأخلاق. وهكذا نجد فصول كتاب «ولفسون» حافلة بالمقارنات البارعة بين اسپينوزا وبين الفلاسفة الوسيطيين والمحدثين، ويثبت المؤلف علمه الغزير حين يكشف عن التوازي الدقيق بين قضايا كتاب الأخلاق، كل على حدة، وبين كتابات هؤلاء الفلاسفة.
ولكن، ما قيمة كل هذا الجهد المضني آخر الأمر؟ إن كل ما أثبته «ولفسون» هو أن اسپينوزا قد تأثر في «شكل» كتاباته باتجاهات فكرية سابقة. وهذا صحيح، بل إننا لنذهب إلى أن اسپينوزا قد «تعمد» هذا التأثر؛ أي إنه تعمد أن تبدو تعبيراته في شكلها الظاهر مماثلة لتعبيرات الفلاسفة التقليديين، ولكنه كان ينتهي من هذه التعبيرات المتشابهة إلى نتائج مضادة تماما لأفكار هؤلاء الفلاسفة؛ ذلك لأنه أراد أن يحارب الاتجاهات السابقة بنفس سلاحها، وأن يستخدم نفس حججها أو اصطلاحاتها، لكي يثبت أن التحليل السليم لهذه الحجج أو الاصطلاحات يؤدي إلى نتائج تخالف تماما نتائجهم؛ فالتأثر في هذه الحالة «لحظة مؤقتة» في المنهج، وخطة مرسومة متعمدة، وهو يتخذ دلالة تختلف تماما عن دلالة التأثر المألوف لدى الفلاسفة بالاتجاهات الفكرية السابقة عليهم، بل إن مجرد اعتقاد الشراح بأن هذا التشابه في الشكل، وفي المصطلح، هو «تأثر» بالمعنى المألوف، هو في الحق اعتقاد ساذج يدل على أن المغزى الحقيقي لخطة اسپينوزا ومنهجه في التفلسف قد فاتهم.
وإذن، فالجهد الهائل الذي بذله أستاذ مثل «ولفسون» هو في رأينا جهد معظمه عقيم؛ إذ يركز كله على التشابه الشكلي السطحي بين اسپينوزا وبين غيره من السابقين عليه، مع أن هذا التشابه لا قيمة له إذا كان المضمون ذاته، والنتيجة النهائية للتفلسف، والأهداف التي يرمي الفكر إلى تحقيقها، مختلفة عن هذه الاتجاهات السابقة اختلاف السماء عن الأرض! ومن العجيب أن ولفسون ذاته يدرك هذا الاختلاف في المحتوى، كما تشهد كتابات أخرى له عديدة عن اسپينوزا، غير أن إدراكه هذا لم يثنه عن بذل هذا الجهد المضني لغرض هو في ذاته عقيم أو ثانوي الأهمية على أحسن الفروض.
ولنضرب مثلا واحدا للجهد الضائع في هذا الكتاب؛ ففي أثناء عرض اسپينوزا لإحدى نظرياته، يقول: «إنني لم أعتد الجدل حول الأسماء أو الألفاظ»؛ وهنا يتناول ولفسون هذه العبارة وحدها، وبصورتها المفردة هذه، ويرهق نفسه في البحث عن عبارات موازية لدى الفلاسفة العرب واليهود في العصور الوسطى، ويكشف بالفعل في ذلك عن علم غزير واطلاع واسع،
7
Bilinmeyen sayfa