Saadiya » و«كرسكاس
Crescas »، بل وذلك المذهب الذي جمع كل عناصر اللامعقولية والشعوذة وأضافها إلى التراث اليهودي، مذهب «القبالة».
35
هذه الآراء لا تستحق في رأينا مناقشة تفصيلية؛ لأننا نرجح أن اسپينوزا قد تعمد استخدام لغة هذه المذاهب أو ألفاظها، ولكن اتجاهه الحقيقي كان مختلفا عنها تماما، والعالم الذي كانت تدور فيه أفكاره كان عالما علميا تسوده المعقولية الدقيقة والضرورة الصارمة، بينما كان عالم هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيين هو عالم الغائية أو التصوف أو اللاهوت الذي يتأمل الكون من خلال صورة البشر. ويكفي أن يكون الموقف العام للطرفين على هذا القدر من التناقض لكي تكون محاولة التقريب ذاتها عميقة؛ إذ إن التأثر الحقيقي ليس هو التأثر بلفظ أو جملة أو قضية أو حتى بلغة كاملة، وإنما هو التأثر بالعناصر والاتجاهات الفكرية الرئيسية فحسب، وعلى أية حال فإن شارحا مثل «رخمان» يعود (في مقاله المتقلب الذي أشرنا إليه من قبل)، فيرد على نفسه مؤكدا وجود اختلافات أساسية بين اسپينوزا وبين مختلف المفكرين اليهود في نزعاتهم الروحية الصوفية وتغليبهم اللاهوت على الفلسفة وتأكيدهم لفكرة الإله (ص57) - وهي كلها فوارق أساسية كانت وحدها كفيلة بإنكار وجود أي تأثير.
ولنفرض جدلا أن اسپينوزا قد تأثر بلاهوتيي العصور الوسطى من اليهود؛ فهل يعد ذلك تأثرا منه بالتراث اليهودي، إن «ولفسون» و«روث» و«رخمان» يعترفون، هم أنفسهم، بأن لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود قد تأثروا بتيارات فلسفية غير يهودية، أهمها الفلسفة اليونانية التي أتتهم عن طريق الفلاسفة العرب، وعلى رأسهم ابن رشد، فكانت النتيجة هي قولهم بأفكار خارجة عن التراث اليهودي التقليدي، مثل فكرة قدم العالم (وبالتالي إنكار الخلق من لا شيء)، وإنكار المعجزات، والتفرقة بين العامة والخاصة من حيث إن الأولين يأخذون بحرفية الدين والأخيرين يؤمنون بالعقل. ويؤكد «رخمان» أن معظم المصادر السابقة كان يعد غير مشروع أو مغضوبا عليه في البيئة اليهودية التقليدية.
36
والمعنى الوحيد لذلك هو أن اسپينوزا إذا كان قد تأثر بهذه التيارات فهو لم يتأثر بها لأنها يهودية، بل لأنها خرجت - جزئيا - على اليهودية؛ فالعناصر التي يمكن أن يكون قد استمدها من تفكير هؤلاء الفلاسفة هي أقل العناصر صلة بالتراث اليهودي التقليدي، وهي العناصر التي ظهرت في تفكيرهم لا لأنهم من اليهود، بل «رغم» كونهم من اليهود. وهناك فارق هائل بين التأثر بتعاليم يهودية وبين التأثر بأشخاص يهود، فلا يمكن أن يقال اليوم عمن يتأثر باقتصاديات ماركس أو علم نفس فرويد أو فيزياء أينشتين، إنه متأثر باليهودية؛ لأن نظريات هؤلاء الثلاثة لا تنتمي إلى التراث اليهودي، وصفة اليهودية في شخصياتهم عارضة تماما بالنسبة إلى نظرياتهم.
أما مذهب القبالة الذي يقال: إن اسپينوزا قد تأثر به؛ فقد يرى البعض شبها بين صوفيته الشاملة وبين بعض قضايا اسپينوزا إذا ما فهمت فهما حرفيا، ولكن أي إدراك لموقف اسپينوزا العام، وأي تحليل دقيق لنفس النظريات التي يقال إنها مشابهة لهذا المذهب، يكشف عن اختلاف أساسي بين وجهتي النظر إلى حد يدهش معه المرء من مدى التواء تفكير أولئك الذين قربوا بين معقولية اسپينوزا وحتميته الدقيقة وبين شطحات «القبالة» وتخريفاتها. ويكفي في هذا حكم اسپينوزا نفسه، الذي قال، في نص من تلك النصوص الي يتجاهلها عادة معظم المتعصبين من الشراح اليهود: «لقد قرأت وعرفت بعض الكتابات التافهة لمذهبة القبالة، الذي يثير حمقه في نفسي دهشة لا تنقطع.»
37
وكما قلنا من قبل، فمجرد دراسة اسپينوزا لتعاليم لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود واستيعابه التام لها لا يدل في ذاته على شيء، بل إن كل الدلائل تدل على أنه أتى بنتيجة عكسية؛ أي إن التناقض والتهافت والافتقار التام إلى المعقولية في هذه التعاليم، هو الذي مهد له طريقه الخاص الذي سار فيه مستقلا تماما عنها. وأغلب الظن أن هذه التعاليم كانت - منذ اللحظة التي أعلن فيها ثورته على الطائفة اليهودية - تستفزه وتتحدى منطقه العقلي إلى الحد الذي جعله يضع لتفكيره غاية ولفلسفته هدفا هو انتقادها وهدم الأسس التي تجعل ظهورها، هي وأمثالها من المذاهب، ممكنا.
Bilinmeyen sayfa