6
مثال ذلك، أن هبوط سعر سلعة ما يمكن أن يعد خيرا من وجهة نظر الشاري، وشرا من وجهة نظر البائع، أما من وجهة نظر الشخص الذي لن يشتري هذه السلعة ولن يبيعها ولا صلة له بها، فليس لهذا الحادث معنى أو قيمة في ذاته، فإذا تساءلنا بعد ذلك عن دلالة الحادث - أعني هبوط سعر هذه السلعة - كما هو في ذاته، لكان الجواب هو أن الحادث في ذاته لا ينطوي على قيمة أو دلالة أخلاقية، بل إنه يتخذ هذه الدلالة من وجهة نظرنا نحن، ونتيجة لمقارنتنا إياه بحوادث أخرى في سياق حياتنا.
وعلى هذا النحو يستغل اسپينوزا فكرته هذه في حل المشكلة القديمة العهد: مشكلة وجود الشر في العالم، والتوفيق بين وجود الشر وبين الفاعلية الإلهية. ونستطيع أن نقول إن طريقة اسپينوزا الخاصة في حل هذه المشكلة هي مثل من أوضح أمثلة منهجه الخاص؛ أعني منهج «المعادلات»، الذي عالج فيه مشاكل تقليدية بعبارات تبدو في ظاهرها تقليدية بدورها، ولكن دلالتها الحقيقية جديدة كل الجدة، وتمثل خروجا أساسيا على التراث.
فهناك وجهان للحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة الشر من حيث علاقتها بالفاعلية الإلهية: (أ)
في الوجه الأول يؤكد اسپينوزا أن الشر «عدم
privation » لا صلة له بماهية الأشياء، وهو يشرح هذا العدم - في الرسالة رقم 21 - بأنه «كيان عقلي
être de raison ، وطريقة في التفكير عندما نقوم بإجراء مقارنة». ثم يضرب اسپينوزا مثلا بالشخص الذي نقول عنه إنه أعمى؛ لأننا نقيسه بغيره من المبصرين. أما من وجهة النظر الإلهية فلا يمكن أن يعد كذلك؛ فالحجر مثلا لا يقال عنه إنه أعمى: «إذ إن هذا الرجل لا يملك ولا يمكن أن يملك شيئا سوى ما منحه إياه العقل الإلهي والإرادة الإلهية. كما أن الله ليس سبب عدم إبصار هذا الرجل، مثلما أنه ليس سبب عدم إبصار الحجر، وإنما الأمر هنا يتعلق بسلب بحت.»
ويزيد اسپينوزا فكرته إيضاحا في الرسالة رقم 23 حين يقول : «من مبادئ تفكيري أن الله هو العلة المطلقة والحقيقية لكل ما يمكن أن تعزى إليه ماهية، دون استثناء. فإذا كان في وسعك إثبات أن الشر والخطأ والجرائم ... إلخ، تعبر عن ماهية، فسوف أسلم معك دون جدال بأن الله علة الشر والخطأ والجرائم ... إلخ. ولكني أظن أنني قد أثبت أن ما يضفي على الشر والخطأ والجريمة طابعها الخاص ليس شيئا معبرا عن ماهية على الإطلاق؛ ومن ثم فلا يجوز القول إن الله علتها؛ فقتل نيرون لأمه، الذي ندينه من أجله، لم يكن جريمة من حيث الطابع الإيجابي للعمل الذي قام به؛ فقد كان فعل «أورست
Oreste » مماثلا من الوجهة الظاهرية؛ إذ قتل أمه عمدا، دون أن يحق عليه مثل هذا اللوم. ففيم تنحصر جريمة نيرون إذن؟ إنها لا تنحصر إلا في أنه قد أثبت بهذا القتل عقوقه وقسوته وعصيانه. وهذه كلها صفات لا تعبر عن أية ماهية، وبالتالي فليس الله سببها، وإن يكن هو سبب فعل نيرون ونيته.»
وهنا يظهر التقسيم المعروف للعلل إلى فاعلة وغائية؛ فالعلل الفاعلة هي وحدها الحقيقية، وهي لا تنطوي في ذاتها على قيمة ما، وإنما هي تحدث أفعالا إيجابية فحسب. أما العلل الغائية فهي التي تضفي على الأفعال قيمتها من وجهة النظر البشرية، ولكن ليس لها خارج وجهة النظر هذه أي كيان؛ فهي ليست حقيقية إذا نظرنا إلى الأمور من منظور الأزلية والضرورة المتحكمة في الطبيعة. ومن الممكن أن يصطبغ الفعل الواحد - كما قلنا - بشتى أنواع القيم والغايات، دون أن يكون لهذه أدنى تأثير في ماهية الفعل نفسه من حيث هو ناتج عن علة فاعلة، وهكذا يقسم اسپينوزا وجهات النظر الممكنة إلى الأشياء تقسيما ثنائيا إلى: وجهة النظر الإلهية، التي لا تتعلق إلا بالماهيات الحقيقية والعلل الفاعلة، ووجهة النظر البشرية، التي تضيف إلى الماهيات السابقة غايات وقيما مستمدة من مقارنتنا للأشياء بعضها ببعض تبعا لأغراضنا الخاصة. وليس للشر وجود إلا من وجهة النظر الثانية فحسب؛ وعلى ذلك فلا يمكن أن يقال عنه إنه ناتج عن الفاعلية الإلهية . (ب)
Bilinmeyen sayfa