Sousthe Scientist
سوس العالمة
Yayıncı
مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر «بنميد» ٥ زنقة مستغانم - الدار البيضاء
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٤٠٤هـ - ١٩٨٤م
Yayın Yeri
المغرب
Türler
ـ[سوس العالمة]ـ
المؤلف: محمد المختار بن علي بن أحمد الإلغي السوسي (المتوفى: ١٣٨٣هـ)
الناشر: مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر «بنميد» ٥ زنقة مستغانم - الدار البيضاء، المغرب
الطبعة: الثانية، ١٤٠٤هـ - ١٩٨٤م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
محمد المختار السوسي (١٣١٨ - ١٣٨٣ هـ /١٩٠٠ - ١٩٦٣ م) (*) ولد محمد المختار السوسي بقرية دّوكادير إلغ (تحت الحصن) الواقعة على بعد ١٧٤ كلم جنوب مدينة أكادير لوالده رئيس الزاوية الدرقاوية الشيخ علي بن أحمد الإلغي ووالدته رقية بنت العلامة المؤلف المدرس محمد بن العربي الأدوزي، والأسرتان السعيدية الإلغية والأدوزية عريقتان في العلم والصلاح توالى فيهماالرجال الصالحون والعلماء والحفاظ. افتتح السوسي تعليمه على والدته فعلمته الكتابة والقراءة وحفظ عليها شيئا من القرآن ثم أتم حفظه على بعض مريدي والده بالزاوية الدرقاوية، ثم تنقل بين مدارس منطقة سوس كمدرسة إيغشَّان ومدرسة بونعمان ومدرسة تانكرت فدرس على كبار شيوخها خاصة الشاعر الأديب المجاهد الطاهر الإفراني فأخذ عنهم اللغة والفقه والفرائض والحساب والأصول، كما اهتم بالخصوص بالأدب بتشجيع ومتابعة من عبد الرحمان البوزكارني أحد كبار الطلبة إذ ذاك بمدرسة تانكرت فتأثر بعنايته بمطالعة كتب الأدب الأندلسي وحفظ أشعارها خاصة نفح الطيب للمقري، وفي هذه المرحلة صدرت عنه مقطعات شعرية ورسائل كانت باكورة إنتاجه الأدبي. اتجه السوسي سنة ١٣٣٨ بتوجيه من بعض أقربائه إلى مدينة مراكش لاستكمال معارفه فانكب على التحصيل بجامع ابن يوسف منقطعا عن المخالطة بتأثير نفحة صوفية، غير أن فكره شهد تغيرا جذريا فاستبدل الفكر السلفي المتفتح بسلوك أبناء الطرق ومريدي الزوايا وذلك لما حل الشيخ السلفي المصلح أبو شعيب الدكالي بمراكش حيث ألقى سلسلة دروس كان يدعو فيها إلى العودة إلى أصلي التشريع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والعناية بعلمي التفسير والحديث واقتفاء أثر السلف الصالح وكان لكل ذلك تأثير كبير في نفس السوسي وفكره فكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة من حياته أحس السوسي أن مراكش لن تستطيع إشباع نهمه للعلوم وتحقيق طموحه المعرفي فغادرها إلى فاس سنة ١٣٤٣ وانتسب لجامع القرويين، واندمج في البيئة الفاسية المتفتحة على العالم في ظل حركة ثقافية ووطنية حية نشأت بحماس طائفة من المفكرين الشباب في تلك المرحلة التي كان فيها الاستعمار الفرنسي متمكنا من الرقاب، قال عن تلك المرحلة: «في فاس استبدلت فكرا بفكر فتكون لي مبدأ عصري على آخر طراز، فقد ارتكز على العلم والدين، والسنة القويمة ... وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد» (الإلغيات ٢/ ٢٢٥) في ذلك الجو الثقافي الحي قضى السوسي أربع سنوات اقتنع خلالها بقيمة العلم والعمل ودورهما في تغيير حال المجتمع والوطن، وخطط مع زملائه لمستقبل بلادهم فأسسوا جمعيتين الأولى ثقافية معلنة سموها جمعية الحماسة وترأسها هو نفسه، والثانية سياسية سرية ترأسها علال الفاسي، وأول مشروع بدأت به النخبة الوطنية نشر الوعي الإسلامي من خلال التطوع للتدريس بالمدرسة الناصرية باعتبار ذلك خطوة في تحقيق التغيير المنشود غير أن نشاط المدرسة لفت إليها أنظار الاستعمار فأغلقها، وقد نتج عن ذلك اقتناع أعضاء الجمعيتين بنجاعة الأسلوب الذي سلكوه وضرورة الانتشار في المغرب للنهوض بجهاته المختلفة. غادر السوسي فاسا إلى الرباط التي أقام بها سنة ١٣٤٧ وحضر خلالها دروس علمائها السلفيين المجدين مثل المدني بن الحسني والشيخ الدكالي والشيخ محمد السائح كما اطلع على الأدب العربي القديم والحديث في نوادر مصادره وفي المجلات والمطبوعات المختلفة ورأى تنوع مذاهبه وإبداعات أدبائه وكانت له مسامرات ومناقشات مع الأديب محمد بن العباس القباج، ولم تكن معارف الرباط لتشبع نهم السوسي للعلوم فقرر السفر إلى مصر إلا أن قلة ذات يده منعته. رجع السوسي إلى مدينة مراكش فاستقر بزاوية والده بها في حي الرميلة قاصدا الاشتغال بالتعليم والتربية باعتبارهما السبيل القويم لمحاربة الجهل والتخلف ومحاربة الاستعمار ومناهجه التعليمية التي كانت تركز على تحقير عقيدة الأمة ومحو لغتها، فبدأ تدريس طائفة قليلة من الأطفال من أقاربه وجيران الزاوية التي تحول قسم منها إلى كتاب قرآني غير أنه سرعان ما طارت شهرته وتقاطر عليه الطلبة باختلاف مستوياتهم فنظم الدراسة وآوى الجميع مستعينا بموارد أعماله التجارية والفلاحية وبهبات المحسنين من أصدقائه، كما اعتنى بالمواد المهملة في المقررات الرسمية التي أرساها الاحتلال الفرنسي كاللغة العربية والقرآن والتاريخ المغربي والسيرة النبوية وفي النظام العتيق كالتفسير وعلوم الحديث والأدب. لم يكتف السوسي بعمله في مدرسة الرميلة بل أضاف إليه دروسا عامة يلقيها في المساجد ورئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان يقف فيها في وجه مصالح طاغية مراكش الباشا التهامي الكلاوي، وحركة دائبة لتأسيس مدارس حرة على غرار ما فعل في الرميلة حاثا زملاءه العلماء على السير على نهجه ففتحت بفضل ذلك عدة مدارس. وقد لفت عمل السوسي الدائب نظر الحكام الاستعماريين بمراكش فعملوا على محاربته بترغيبه في مناصب رسمية كالقضاء وترهيبه بالاستدعاءات المتكررة والاستفسارات والاستفزازات، ولما يئسوا من انصياعه قرروا نفيه، فأخرج على حين غرة من مراكش منفيا إلى مسقط رأسه سنة ١٣٥٥ حيث قضى تسع سنوات ذاق خلالها مرارة العزلة والغربة إذ منع من الاتصال بالأجانب بل بأبناء بلده فبقي بعيدا عن طلبته وأصدقائه من العلماء والأدباء منكسر القلب من ضياع جهده في تكوين طلبته وتخريجهم على النحو الذي يرضيه. غير أن السوسي لم يقض وقته في البكاء على ماضيه بل انتهز فرصة فراغه ليشتغل بما ينفع أمته، فصرف همته إلى جمع تاريخ منطقة سوس التي اشتهرت في التاريخ بكثرة العلماء ووفرة الأدباء وتمسك أهلها بالشرع الإسلامي، قال عن ذلك: «سودت في إلغ مسقط رأسي، حيث ألزمت العزلة عن الناس، أجزاء كثيرة تناهز خمسين جزءا في العلماء والأدباء والرؤساء والأخبار والنوادر، والهيئة الاجتماعية .. وكلها مقصورة على أداء الواجب عليّ، من أحياء تلك البادية التي سبق في الأزل أن كنت ابنا من أبنائها، ويعلم الله أنه لو قدر لي أن أكون ابن تافيلالت أو درعة أو الريف أو جبالة أو الأطلس أو دكالة، لرأيت الواجب عليّ أن أقوم بمثل هذا العمل نفسه، لتلك الناحية التي تنبت نبعتي فيها، لأنني من الذين يرون المغرب جزءا لا يتجزأ، بل أرى العالم العربي كله من ضفاف الأطلسي إلى ضفاف الرافدين وطنا واحدا، بل أرى جميع بلاد الإسلام كتلة متراصة من غرب شمال إفريقيا إلى إندونيسية، لا يدين بدين الإسلام الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة التي هي من بقايا الاستعمار الغربي في الشرق، بل لو شئت أن أقول - ويؤيدني ديني فيما أقول - إنني أرى الإنسانية جمعاء أسرة واحدة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس من آدم، وآدم من تراب ﴿يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾» لقد كان العمل العظيم السوسي في حوالي ثمانين جزءا ردا حاسما علميا على الظهير البربري الصادر في نسخته النهائية سنة ١٩٣٠ والرامي إلى الفصل بين العرب والأمازيغ، ليؤكد أن المغاربة على اختلاف ألسنتهم انصهروا في بوتقة واحدة هي الإسلام واللغة العربية، قال: «إنني رأيت منذ سنوات أن هذا الشعب محتاج إلى جهود من كل جهة جهود تأخذ بيد حاضره .. وجهود تأخذ بيد ماضيه من إحياء ما كان له من مجد، وما كان أثله من سؤدد، وما عرفه له التاريخ من حياة علمية، فإذا منعت من السير في تلقيح الأفكار في الحاضر بلساني، فلأنفذ وعدي بالاجتهاد في إحياء ماضيه بيراعي، وقد رأيت هذه الزاوية من المغرب مجهولة كثيرا حتى عند المغاربة أنفسهم، فضلا عن العالم كله، فقلت في نفسي: لأقم على حساب مستطاعي بإلقاء ضوء على تقلبات هذه الزاوية، فكان ذلك شغلي الوحيد منذ وطئت هذه الأرض ..» (سوس العالمة ص: أ) ولم يكن السوسي مهتما بتفوق منطقة سوس أو مدفوعا بالعصبية الضيقة أو العنصرية المقيتة بل كان يعتبر أن الوجه الصحيح لكتابة تاريخ الإسلام هو البدء بتاريخ رجالاته وأسرهم ثم مجتمعاتهم المحدودة فأقطارهم فالأمة الإسلامية جمعاء وذلك اتساقا مع إيمانه العميق بضرورة وحتمية العودة إلى التراث للحفاظ على الهوية ومواجهة التحديات، قال: «نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود، ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه. فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم، وما ذلك إلا إيجاد مراجع التاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا.» (المعسول ١/د) في سنة ١٣٦٤ سمح للسوسي بالعودة إلى مراكش، فعاد إلى سابق عهده بها مستأنفا نشاطه التعليمي والتربوي بزاوية الرميلة باعثا مجالسه الأدبية ودروسه بالمساجد، وفي هذه المرحلة تقوى النشاط السياسي بمراكش تزعمه بعض طلبة السوسي القدماء ولم يكن الاستعمار غافلا عن ذلك فزادت ضغوطه، وحرر الوطنيون عريضة احتجاج ضد القمع مطالبين بالحرية وقعها السوسي، ولما رأى الجو مضطربا بمراكش انتقل إلى الدار البيضاء سنة ١٣٧٠ ليتابع بها عمله غير أنه ما لبث أن ألقي عليه القبض ونفي من جديد إلى الصحراء الشرقية مع طائفة من زعماء الحركة الوطنية والسياسيين الوطنيين حيث قضوا حوالي سنتين. وفي ذلك المعتقل راجع حفظ القرآن وتابع التأليف والكتابة ونظم دروسا في مختلف المواد العلمية والأدبية ومسامرات أدبية وجلسات إخبارية سجل أحداثها ومجرياته في كتابه «معتقل الصحراء». في سنة ١٣٧٤ انفرجت الأزمة السياسية وأطلق سراح المعتقلين ثم أعلن استقلال المغرب، فعاد السوسي إلى الرباط وعين وزيرا للأوقاف في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال ثم وزيرا في مجلس التاج وقاضيا شرعيا للقصور الملكية إلى وفاته سنة ١٣٨٣ عقب مضاعفات ناتجة عن إصابته في حادثة سير وفي هذه المرحلة صرف جهده وهمته إلى إخراج مؤلفاته وكأنما كان يسابق الأجل. كانت حياة السوسي مليئة بالانجازات العلمية والثقافية من أبرزها تأسيس جمعية علماء سوس التي أشرفت على بناء المعهد الإسلامي بمدينة تارودانت وعضوية اللجنة العلمية التي حررت مدونة الأحوال الشخصية المغربية كما أن مؤلفاته الكثيرة كانت - مع غيرها من مؤلفات معاصريه - تأسيسا للبحث العلمي الأكاديمي في مجال التاريخ والاجتماع والأدب والثقافة والفكر ومن أهم هذه المؤلفات: - «المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم في العلم والتصوف وأصدقائهم وكل من إليهم.» في نحو ٨٠٠٠ صفحة في ٢٠ جزءا صدرت تباعا عن ٣ مطابع ما بين سنة ١٩٦٠ و١٩٦٣ وهو موسوعة تراجم لنحو ٤٠٠٠ من العلماء والفقهاء والأدباء والرؤساء. - «خلال جزولة» في أربعة أجزاء وهو وصف لأربع رحلات علمية في المناطق السوسية مليئة بالفوائد العلمية والأدبية والتاريخية، مطبوع. - «الإلغيات» في ٣ أجزاء تضمن مذكراته خلال نفيه إلى مسقط رأسه، والكتاب حافل بالأدبيات شعرا ونثرا والمناقشات العلمية والأدبية والتاريخية والفوائد الاجتماعية، مطبوع. - «سوس العالمة» بمثابة مقدمة لموسوعة المعسول اشتمل نظرة عامة على العلم العربي وأعلامه ومؤسساته في منطقة سوس طبع مرتين. - «إيليغ قديما وحديثا» تاريخ إمارة أسستها أسرة شريفة في قلب جبال جزولة السوسية منذ القرن ١١ الهجري طبع مرتين بالمطبعة الملكية. - «معتقل الصحراء» يشمل مذكرات المعتقل الصحراوي إثر النفي الثاني وفيه نبذة من نشاط النخبة السياسية المغربية في المنفى طبع جزؤه الأول. - «رجالات العلم العربي في سوس» إحصاء للعلماء والأدباء السوسيين النابغين منذ القرن الخامس الهجري وحتى زمن التأليف وهم حوالي٢٠٠٠ وهو مطبوع. - «حول مائدة الغذاء» تقييد للروايات الشفوية لأحد رجالات البلاط السلطاني في أوائل القرن الرابع عشر الهجري في جزء واحد مطبوع. - «من أفواه الرجال» تسجيل للروايات الشفوية لمريدي الزاوية الدرقاوية عن الشيخ علي بن أحمد الدرقاوي في ١٠ أجزاء. - «مترعات الكؤوس في آثار طائفة من أدباء سوس» مخطوط في ثلاثة أجزاء تضمن تراجم مئة أديب سوسي نبغوا منذ القرن العاشر الهجري ألفه السوسي لسد الخلل الذي ظهر في كتاب النبوغ المغربي لعبد الله كنون حينما أهمل التعريف بأدباء سوس خاصة. - ترجمة الأربعين حديثا النووية إلى الأمازيغية السوسية، مخطوط. - ترجمة الأنوار السنية إلى الأمازيغية السوسية، مخطوط. - أمثال الشلحيين وحكمهم نظما ونثرا، تضمن حكم الأمازيغ السوسيين بلسانهم، مخطوط. - «بين الجمود والميع» بناء قصصي تضمن تحليل التيارات الفكرية بالمغرب في عهد الحماية وإبان الاستقلال من خلال أربعة إخوة أحدهما صوفي والآخر علماني الفكر والثالث نفعي يتبع هواه والرابع نموذج للإنسان المسلم السوي، نشرت في حلقات بمجلة دعوة الحق. - «من الحمراء إلى إلغ» وصف رحلة قام بها من مراكش إلى مسقط رأسه صحبة بعض تلامذته، رقنها وأعدها للطبع ابن اخيه المرحوم الأستاذ عبد الله درقاوي. - «قطائف اللطائف» نوادر وحكايات سوسية، مخطوطة. - «المجموعة الفقهية في الفتاوي السوسية» مجموعة من فتاوى الفقهاء السوسيين، مطبوعة بإعداد وتعليق ابن أخيه الأستاذ عبد الله درقاوي. - ٩٠ حلقة من برنامج وعظي باللسان الأمازيغي السوسي أذيعت من الإذاعة المركزية بالرباط في أوائل سنوات الستين. وإذا كان من إشارة ينبغي أن نختم بها هذه الوقفة السريعة على حياة السوسي فهي التعليق على بعض ما يذكر من أن حياته وإنجازاته قد لقيت اهتماما كافيا ودراسة حثيثة، فقد ركزت الدراسات على الجانبين التاريخي والأدبي ولما تهتم بعد بالجانب الشرعي الإسلامي ثم بالجانب الاجتماعي السوسيولوجي والجانب الأنثروبولوجي والجانب التربوي إضافة إلى بقاء جوانب كثيرة من أدبه بعيدة عن الدراسة خاصة الجانب السردي القصصي والرسائل والمذكرات، كما أن كثيرا من الدراسات التي احتضنتها الجامعة المغربية ومراكز التكوين والبحث عنه وعن فكره لما تطبع بعد كالدراسات المنجزة حول سيرته الذاتية ورحلاته وفكره التربوي، ناهيك عن الدراسات الجارية خارج المغرب في الدول الأوربية كفرنسا وألمانيا وفي أمريكا واليابان بجامعة هيروشيما وجامعة طوكيو .. _________ (*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: هذه الترجمة ليست في المطبوع
محمد المختار السوسي سوس العالمة
محمد المختار السوسي (١٣١٨ - ١٣٨٣ هـ /١٩٠٠ - ١٩٦٣ م) (*) ولد محمد المختار السوسي بقرية دّوكادير إلغ (تحت الحصن) الواقعة على بعد ١٧٤ كلم جنوب مدينة أكادير لوالده رئيس الزاوية الدرقاوية الشيخ علي بن أحمد الإلغي ووالدته رقية بنت العلامة المؤلف المدرس محمد بن العربي الأدوزي، والأسرتان السعيدية الإلغية والأدوزية عريقتان في العلم والصلاح توالى فيهماالرجال الصالحون والعلماء والحفاظ. افتتح السوسي تعليمه على والدته فعلمته الكتابة والقراءة وحفظ عليها شيئا من القرآن ثم أتم حفظه على بعض مريدي والده بالزاوية الدرقاوية، ثم تنقل بين مدارس منطقة سوس كمدرسة إيغشَّان ومدرسة بونعمان ومدرسة تانكرت فدرس على كبار شيوخها خاصة الشاعر الأديب المجاهد الطاهر الإفراني فأخذ عنهم اللغة والفقه والفرائض والحساب والأصول، كما اهتم بالخصوص بالأدب بتشجيع ومتابعة من عبد الرحمان البوزكارني أحد كبار الطلبة إذ ذاك بمدرسة تانكرت فتأثر بعنايته بمطالعة كتب الأدب الأندلسي وحفظ أشعارها خاصة نفح الطيب للمقري، وفي هذه المرحلة صدرت عنه مقطعات شعرية ورسائل كانت باكورة إنتاجه الأدبي. اتجه السوسي سنة ١٣٣٨ بتوجيه من بعض أقربائه إلى مدينة مراكش لاستكمال معارفه فانكب على التحصيل بجامع ابن يوسف منقطعا عن المخالطة بتأثير نفحة صوفية، غير أن فكره شهد تغيرا جذريا فاستبدل الفكر السلفي المتفتح بسلوك أبناء الطرق ومريدي الزوايا وذلك لما حل الشيخ السلفي المصلح أبو شعيب الدكالي بمراكش حيث ألقى سلسلة دروس كان يدعو فيها إلى العودة إلى أصلي التشريع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والعناية بعلمي التفسير والحديث واقتفاء أثر السلف الصالح وكان لكل ذلك تأثير كبير في نفس السوسي وفكره فكان ذلك إيذانا ببدء مرحلة جديدة من حياته أحس السوسي أن مراكش لن تستطيع إشباع نهمه للعلوم وتحقيق طموحه المعرفي فغادرها إلى فاس سنة ١٣٤٣ وانتسب لجامع القرويين، واندمج في البيئة الفاسية المتفتحة على العالم في ظل حركة ثقافية ووطنية حية نشأت بحماس طائفة من المفكرين الشباب في تلك المرحلة التي كان فيها الاستعمار الفرنسي متمكنا من الرقاب، قال عن تلك المرحلة: «في فاس استبدلت فكرا بفكر فتكون لي مبدأ عصري على آخر طراز، فقد ارتكز على العلم والدين، والسنة القويمة ... وكنت أصاحب كل المفكرين إذ ذاك وكانوا نخبة في العفة والعلم والدين، ينظرون إلى بعيد» (الإلغيات ٢/ ٢٢٥) في ذلك الجو الثقافي الحي قضى السوسي أربع سنوات اقتنع خلالها بقيمة العلم والعمل ودورهما في تغيير حال المجتمع والوطن، وخطط مع زملائه لمستقبل بلادهم فأسسوا جمعيتين الأولى ثقافية معلنة سموها جمعية الحماسة وترأسها هو نفسه، والثانية سياسية سرية ترأسها علال الفاسي، وأول مشروع بدأت به النخبة الوطنية نشر الوعي الإسلامي من خلال التطوع للتدريس بالمدرسة الناصرية باعتبار ذلك خطوة في تحقيق التغيير المنشود غير أن نشاط المدرسة لفت إليها أنظار الاستعمار فأغلقها، وقد نتج عن ذلك اقتناع أعضاء الجمعيتين بنجاعة الأسلوب الذي سلكوه وضرورة الانتشار في المغرب للنهوض بجهاته المختلفة. غادر السوسي فاسا إلى الرباط التي أقام بها سنة ١٣٤٧ وحضر خلالها دروس علمائها السلفيين المجدين مثل المدني بن الحسني والشيخ الدكالي والشيخ محمد السائح كما اطلع على الأدب العربي القديم والحديث في نوادر مصادره وفي المجلات والمطبوعات المختلفة ورأى تنوع مذاهبه وإبداعات أدبائه وكانت له مسامرات ومناقشات مع الأديب محمد بن العباس القباج، ولم تكن معارف الرباط لتشبع نهم السوسي للعلوم فقرر السفر إلى مصر إلا أن قلة ذات يده منعته. رجع السوسي إلى مدينة مراكش فاستقر بزاوية والده بها في حي الرميلة قاصدا الاشتغال بالتعليم والتربية باعتبارهما السبيل القويم لمحاربة الجهل والتخلف ومحاربة الاستعمار ومناهجه التعليمية التي كانت تركز على تحقير عقيدة الأمة ومحو لغتها، فبدأ تدريس طائفة قليلة من الأطفال من أقاربه وجيران الزاوية التي تحول قسم منها إلى كتاب قرآني غير أنه سرعان ما طارت شهرته وتقاطر عليه الطلبة باختلاف مستوياتهم فنظم الدراسة وآوى الجميع مستعينا بموارد أعماله التجارية والفلاحية وبهبات المحسنين من أصدقائه، كما اعتنى بالمواد المهملة في المقررات الرسمية التي أرساها الاحتلال الفرنسي كاللغة العربية والقرآن والتاريخ المغربي والسيرة النبوية وفي النظام العتيق كالتفسير وعلوم الحديث والأدب. لم يكتف السوسي بعمله في مدرسة الرميلة بل أضاف إليه دروسا عامة يلقيها في المساجد ورئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان يقف فيها في وجه مصالح طاغية مراكش الباشا التهامي الكلاوي، وحركة دائبة لتأسيس مدارس حرة على غرار ما فعل في الرميلة حاثا زملاءه العلماء على السير على نهجه ففتحت بفضل ذلك عدة مدارس. وقد لفت عمل السوسي الدائب نظر الحكام الاستعماريين بمراكش فعملوا على محاربته بترغيبه في مناصب رسمية كالقضاء وترهيبه بالاستدعاءات المتكررة والاستفسارات والاستفزازات، ولما يئسوا من انصياعه قرروا نفيه، فأخرج على حين غرة من مراكش منفيا إلى مسقط رأسه سنة ١٣٥٥ حيث قضى تسع سنوات ذاق خلالها مرارة العزلة والغربة إذ منع من الاتصال بالأجانب بل بأبناء بلده فبقي بعيدا عن طلبته وأصدقائه من العلماء والأدباء منكسر القلب من ضياع جهده في تكوين طلبته وتخريجهم على النحو الذي يرضيه. غير أن السوسي لم يقض وقته في البكاء على ماضيه بل انتهز فرصة فراغه ليشتغل بما ينفع أمته، فصرف همته إلى جمع تاريخ منطقة سوس التي اشتهرت في التاريخ بكثرة العلماء ووفرة الأدباء وتمسك أهلها بالشرع الإسلامي، قال عن ذلك: «سودت في إلغ مسقط رأسي، حيث ألزمت العزلة عن الناس، أجزاء كثيرة تناهز خمسين جزءا في العلماء والأدباء والرؤساء والأخبار والنوادر، والهيئة الاجتماعية .. وكلها مقصورة على أداء الواجب عليّ، من أحياء تلك البادية التي سبق في الأزل أن كنت ابنا من أبنائها، ويعلم الله أنه لو قدر لي أن أكون ابن تافيلالت أو درعة أو الريف أو جبالة أو الأطلس أو دكالة، لرأيت الواجب عليّ أن أقوم بمثل هذا العمل نفسه، لتلك الناحية التي تنبت نبعتي فيها، لأنني من الذين يرون المغرب جزءا لا يتجزأ، بل أرى العالم العربي كله من ضفاف الأطلسي إلى ضفاف الرافدين وطنا واحدا، بل أرى جميع بلاد الإسلام كتلة متراصة من غرب شمال إفريقيا إلى إندونيسية، لا يدين بدين الإسلام الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة التي هي من بقايا الاستعمار الغربي في الشرق، بل لو شئت أن أقول - ويؤيدني ديني فيما أقول - إنني أرى الإنسانية جمعاء أسرة واحدة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس من آدم، وآدم من تراب ﴿يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾» لقد كان العمل العظيم السوسي في حوالي ثمانين جزءا ردا حاسما علميا على الظهير البربري الصادر في نسخته النهائية سنة ١٩٣٠ والرامي إلى الفصل بين العرب والأمازيغ، ليؤكد أن المغاربة على اختلاف ألسنتهم انصهروا في بوتقة واحدة هي الإسلام واللغة العربية، قال: «إنني رأيت منذ سنوات أن هذا الشعب محتاج إلى جهود من كل جهة جهود تأخذ بيد حاضره .. وجهود تأخذ بيد ماضيه من إحياء ما كان له من مجد، وما كان أثله من سؤدد، وما عرفه له التاريخ من حياة علمية، فإذا منعت من السير في تلقيح الأفكار في الحاضر بلساني، فلأنفذ وعدي بالاجتهاد في إحياء ماضيه بيراعي، وقد رأيت هذه الزاوية من المغرب مجهولة كثيرا حتى عند المغاربة أنفسهم، فضلا عن العالم كله، فقلت في نفسي: لأقم على حساب مستطاعي بإلقاء ضوء على تقلبات هذه الزاوية، فكان ذلك شغلي الوحيد منذ وطئت هذه الأرض ..» (سوس العالمة ص: أ) ولم يكن السوسي مهتما بتفوق منطقة سوس أو مدفوعا بالعصبية الضيقة أو العنصرية المقيتة بل كان يعتبر أن الوجه الصحيح لكتابة تاريخ الإسلام هو البدء بتاريخ رجالاته وأسرهم ثم مجتمعاتهم المحدودة فأقطارهم فالأمة الإسلامية جمعاء وذلك اتساقا مع إيمانه العميق بضرورة وحتمية العودة إلى التراث للحفاظ على الهوية ومواجهة التحديات، قال: «نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود، ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه. فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم، وما ذلك إلا إيجاد مراجع التاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا.» (المعسول ١/د) في سنة ١٣٦٤ سمح للسوسي بالعودة إلى مراكش، فعاد إلى سابق عهده بها مستأنفا نشاطه التعليمي والتربوي بزاوية الرميلة باعثا مجالسه الأدبية ودروسه بالمساجد، وفي هذه المرحلة تقوى النشاط السياسي بمراكش تزعمه بعض طلبة السوسي القدماء ولم يكن الاستعمار غافلا عن ذلك فزادت ضغوطه، وحرر الوطنيون عريضة احتجاج ضد القمع مطالبين بالحرية وقعها السوسي، ولما رأى الجو مضطربا بمراكش انتقل إلى الدار البيضاء سنة ١٣٧٠ ليتابع بها عمله غير أنه ما لبث أن ألقي عليه القبض ونفي من جديد إلى الصحراء الشرقية مع طائفة من زعماء الحركة الوطنية والسياسيين الوطنيين حيث قضوا حوالي سنتين. وفي ذلك المعتقل راجع حفظ القرآن وتابع التأليف والكتابة ونظم دروسا في مختلف المواد العلمية والأدبية ومسامرات أدبية وجلسات إخبارية سجل أحداثها ومجرياته في كتابه «معتقل الصحراء». في سنة ١٣٧٤ انفرجت الأزمة السياسية وأطلق سراح المعتقلين ثم أعلن استقلال المغرب، فعاد السوسي إلى الرباط وعين وزيرا للأوقاف في أول حكومة مغربية بعد الاستقلال ثم وزيرا في مجلس التاج وقاضيا شرعيا للقصور الملكية إلى وفاته سنة ١٣٨٣ عقب مضاعفات ناتجة عن إصابته في حادثة سير وفي هذه المرحلة صرف جهده وهمته إلى إخراج مؤلفاته وكأنما كان يسابق الأجل. كانت حياة السوسي مليئة بالانجازات العلمية والثقافية من أبرزها تأسيس جمعية علماء سوس التي أشرفت على بناء المعهد الإسلامي بمدينة تارودانت وعضوية اللجنة العلمية التي حررت مدونة الأحوال الشخصية المغربية كما أن مؤلفاته الكثيرة كانت - مع غيرها من مؤلفات معاصريه - تأسيسا للبحث العلمي الأكاديمي في مجال التاريخ والاجتماع والأدب والثقافة والفكر ومن أهم هذه المؤلفات: - «المعسول في الإلغيين وأساتذتهم وتلامذتهم في العلم والتصوف وأصدقائهم وكل من إليهم.» في نحو ٨٠٠٠ صفحة في ٢٠ جزءا صدرت تباعا عن ٣ مطابع ما بين سنة ١٩٦٠ و١٩٦٣ وهو موسوعة تراجم لنحو ٤٠٠٠ من العلماء والفقهاء والأدباء والرؤساء. - «خلال جزولة» في أربعة أجزاء وهو وصف لأربع رحلات علمية في المناطق السوسية مليئة بالفوائد العلمية والأدبية والتاريخية، مطبوع. - «الإلغيات» في ٣ أجزاء تضمن مذكراته خلال نفيه إلى مسقط رأسه، والكتاب حافل بالأدبيات شعرا ونثرا والمناقشات العلمية والأدبية والتاريخية والفوائد الاجتماعية، مطبوع. - «سوس العالمة» بمثابة مقدمة لموسوعة المعسول اشتمل نظرة عامة على العلم العربي وأعلامه ومؤسساته في منطقة سوس طبع مرتين. - «إيليغ قديما وحديثا» تاريخ إمارة أسستها أسرة شريفة في قلب جبال جزولة السوسية منذ القرن ١١ الهجري طبع مرتين بالمطبعة الملكية. - «معتقل الصحراء» يشمل مذكرات المعتقل الصحراوي إثر النفي الثاني وفيه نبذة من نشاط النخبة السياسية المغربية في المنفى طبع جزؤه الأول. - «رجالات العلم العربي في سوس» إحصاء للعلماء والأدباء السوسيين النابغين منذ القرن الخامس الهجري وحتى زمن التأليف وهم حوالي٢٠٠٠ وهو مطبوع. - «حول مائدة الغذاء» تقييد للروايات الشفوية لأحد رجالات البلاط السلطاني في أوائل القرن الرابع عشر الهجري في جزء واحد مطبوع. - «من أفواه الرجال» تسجيل للروايات الشفوية لمريدي الزاوية الدرقاوية عن الشيخ علي بن أحمد الدرقاوي في ١٠ أجزاء. - «مترعات الكؤوس في آثار طائفة من أدباء سوس» مخطوط في ثلاثة أجزاء تضمن تراجم مئة أديب سوسي نبغوا منذ القرن العاشر الهجري ألفه السوسي لسد الخلل الذي ظهر في كتاب النبوغ المغربي لعبد الله كنون حينما أهمل التعريف بأدباء سوس خاصة. - ترجمة الأربعين حديثا النووية إلى الأمازيغية السوسية، مخطوط. - ترجمة الأنوار السنية إلى الأمازيغية السوسية، مخطوط. - أمثال الشلحيين وحكمهم نظما ونثرا، تضمن حكم الأمازيغ السوسيين بلسانهم، مخطوط. - «بين الجمود والميع» بناء قصصي تضمن تحليل التيارات الفكرية بالمغرب في عهد الحماية وإبان الاستقلال من خلال أربعة إخوة أحدهما صوفي والآخر علماني الفكر والثالث نفعي يتبع هواه والرابع نموذج للإنسان المسلم السوي، نشرت في حلقات بمجلة دعوة الحق. - «من الحمراء إلى إلغ» وصف رحلة قام بها من مراكش إلى مسقط رأسه صحبة بعض تلامذته، رقنها وأعدها للطبع ابن اخيه المرحوم الأستاذ عبد الله درقاوي. - «قطائف اللطائف» نوادر وحكايات سوسية، مخطوطة. - «المجموعة الفقهية في الفتاوي السوسية» مجموعة من فتاوى الفقهاء السوسيين، مطبوعة بإعداد وتعليق ابن أخيه الأستاذ عبد الله درقاوي. - ٩٠ حلقة من برنامج وعظي باللسان الأمازيغي السوسي أذيعت من الإذاعة المركزية بالرباط في أوائل سنوات الستين. وإذا كان من إشارة ينبغي أن نختم بها هذه الوقفة السريعة على حياة السوسي فهي التعليق على بعض ما يذكر من أن حياته وإنجازاته قد لقيت اهتماما كافيا ودراسة حثيثة، فقد ركزت الدراسات على الجانبين التاريخي والأدبي ولما تهتم بعد بالجانب الشرعي الإسلامي ثم بالجانب الاجتماعي السوسيولوجي والجانب الأنثروبولوجي والجانب التربوي إضافة إلى بقاء جوانب كثيرة من أدبه بعيدة عن الدراسة خاصة الجانب السردي القصصي والرسائل والمذكرات، كما أن كثيرا من الدراسات التي احتضنتها الجامعة المغربية ومراكز التكوين والبحث عنه وعن فكره لما تطبع بعد كالدراسات المنجزة حول سيرته الذاتية ورحلاته وفكره التربوي، ناهيك عن الدراسات الجارية خارج المغرب في الدول الأوربية كفرنسا وألمانيا وفي أمريكا واليابان بجامعة هيروشيما وجامعة طوكيو .. _________ (*) قال مُعِدّ الكتاب للشاملة: هذه الترجمة ليست في المطبوع
محمد المختار السوسي سوس العالمة
Bilinmeyen sayfa
صورة المؤلف
الحق حق وفيه ... أحيا وألقى الحماما
فما أعش فمحق ... وإن أمت فسلاما
وما أبالي إذا ما ... حسنت ربي الختاما
من قطعة قالَها الْمُؤلِّف فِي شَرْخ شَبَابه
1 / 3
الإهداء
كان سبب ابتدائي لِمباحث هذا الكتاب أستاذي الجليل علامة الشرفاء، وإمام الكرماء، ابن زيدان، يوم زار سوسا وكتب رحلته السوسية في كراسة، فناولنيها على أن أذيل عليها، وأستتم كل ما يتعلق بالعلوم العربية في كل أدوار التاريخ بسوس، فلم أزل أتوسع في الموضوع حتى صار الموضوع إلى ما يراه القارئ. أفليس من الواجب المتأكد أن يكون الكتاب باسم أستاذنا الجليل ابن زيدان الذي ترك فراغا لَم يُحاول أحد أن يَملأه ولا طمع فيه متطاول؟ والاعتراف من التلميذ لتأثير أستاذه من أدنى واجبات الأساتذة على التلامذة.
إذا أفادك إنسان بفائدة ... من العلوم فأدْمِنْ شكره أبدا
وقل فلان جزاه الله صالِحة ... أفادنيها وخل الكبر والحسدا
م خ س
1 / 5
ـ أـ
كلمة
في المغرب حواضر وبواد، وتاريخه العلمي العام لا يمكن أن يتكون تكونا تامّا إلا من التواريخ الخاصة لكل حاضرة من تلك الحواضر، ولكل بادية من هذه البوادي، فإذا كان بعض الحواضر فازت بما يلقى على تاريخها العلمي بعض ضوء ينير الطريق للسالكين، فإن تلك البوادي المترامية لا تزال إلى الآن داجية الآفاق في أنظار المتطلعين الباحثين، فهذه تافيلالت ودرعة والريف وجبالة والأطلس الكبير وتادلة ودكالة وأمثالها، قد كان لَها كلها ماض مَجيد في ميادين المعارف العربية، فهل يُمكن أن يَجد الباحث اليوم ما يفتح أمامه صفحاتها حتى يُدرك ما كان فيها طوال قرون كثيرة من النشاط والإكباب والرحلة في سبيل الثقافة، فكم سجلماسي ودرعي وريفي وجبالي وأطلسي وتادلي ودكالي وشاوي يمر باسمه المطالع أثناء الكتب، وكم مدارس، وزوايا علمية إرشادية في هذه البوادي لا تزال آثارها إلى الآن ماثلة للعيون، أو لا تزال الأحاديث عنها يُدَوِّي طنينها في النوادي، فأين ما يبين كنه أعمالها، وتضحية أصحابها، وما قاساه أساتذتها وأشياخها في تثقيف الشعب، وتنوير ذهنه، وتوجيهه التوجيه الإسلامي بنشر القرآن والحديث وعلوم القرآن والحديث، من اللغة والفقه وسيرة السلف الصالِح؟ أفيمكن أن يتكون التاريخ العام للمغرب تامّا غدا إذا لَم يقم أبناء اليوم -والعهد لا يزال قريبا- ولَمَّا تغمرنا أمواج هذه الحضارة الغربية الجارفة التي تُحاول منذ الآن حتى إفساد ماضينا بِما يكتبه عنا بعض المغرضين من أهلها -بِجمع كل ما يمكن جمعه، وتنسيق ما لا يزال مبعثرا بين الآثار، ومنتشرا أثناء المسامرات، فإنه لو قام من كل ناحية
1 / 7
ـ ب ـ
رجال باحثون ببذل الجهود؛ لتكونت بما سيهيئونه من التاريخ الْخاص لكل ناحية مراجع عظيمة، سيتكئ عليها الذين سيتصدرون للتاريخ العام المستوعب في العلم العربي المغربي غدا، بله الحوادث والأطوار المتقلبة، وما هذا الغد ببعيد، وتباشير فجره تلوح الآن في الأفق.
قد يَخطر في بال بعض الناس القصيري النظر: أن السجلماسي أو الدكالي -مثلا- إذا تصدى كل واحد منهما لِمثل هذا البحث في ناحيته، أن ذلك من العنصرية الممقوتة التي لا يزال المستعمرون أمس يضربون في كل فرصة على وترها لِجعل المغرب أشلاء ممزعة، مع أن هذا العلم ليس من العنصرية في شيء، فهل إذا توفر الطبيب للتخصص في بَحث ما حول عضو من أعضاء الذات، نلمزه بالعنصرية إزاء الأعضاء الأخرى؟ وهل إذا قام رب أسرة بكل ما تَحتاج إليه أسرته بالإنفاق عليها وحدها، وبالدفاع عن حقوقها، وتَحديد أملاكها الْخاصة، يلمز أيضا بالعنصرية؟ أو هل الذين كتبوا عن فاس ومراكش وأسفي وطنجة وتيطاون والعدوتين، وخصصوا كل مدينة على حدة، يلمزون بالعنصرية؟ إن هذا لَخطل في الرأي، وخطأ في تقدير الأعمال، وسد للأبواب دون العاملين في ميدان خاص، وتثبيط لأعمال المجتهدين.
إن لليوم غدا، وإن في الميدان لأفراسا مطلقة، وإن أبواب العمل مفتوحة على مصاريعها أمام كل من يريد أن يعمل في أي ميدان من الميادين. وقد زالت الأعذار بالاستقلال، وأمكن لكل ذي عزيمة أن يعمل، فهل للكسالى أن ينتفضوا فيدخلوا في غمار العاملين، عوض أن يَملئوا الْجواء بالنقد الزائف، والأعذار الواهية، فعند الممات تظهر التركات، وإنَّما الأعمال بالنيات، ومن أبطأ به عمله؛ فلا يلومن إلا نفسه.
أقِلُّوا عليهم لا أبَا لأِبِيكُمُ ... من اللوم أوْ سُدُّوا الْمكانَ الذي سَدُّوا
هذا وإنني -أنا ذلك السوسي المولع بالتاريخ منذ نشأته- لأبذل كل ما في إمكاني للكتابة عن بادية سوس، منذ نفيت إليها في مُختتم: (١٣٥٥هـ)، إلى أن أفرج عني الإفراج التام في مُختتم (١٣٦٤هـ). توفرت
1 / 8
ـ ج ـ
على ذلك، وجمعت فيه جهودي ومَن لَم يتوفر على شيء ويَجمع فيه جهوده؛ فقلما يعطيه حقه من البحث، فقد سودت في (إِلْغ) مسقط رأسي، حيث ألزمت العزلة عن الناس، أجزاء كثيرة تناهز خمسين جزءا في العلماء والأدباء والرؤساء والأخبار والنوادر، والهيئة الاجتماعية، وما هذا الكتاب (سوس العالِمة) إلا واحدا من تلك الأجزاء، وكلها مقصورة على أداء الواجب عليَّ، من إحياء تلك البادية التي سبق في الأزل أن كنت ابنا من أبنائها، ويعلم الله أنه لو قدر لي أن أكون ابن تافيلالت أو درعة أو الريف أو جبالة أو الأطلس أو تادلة أو دكالة؛ لرأيتُ الواجب عليَّ أن أقوم بِمثل هذا العمل نفسه لتلك الناحية التي تَنْبُت نبعتي فيها؛ لأنني من الذين يرون المغرب جزءا لا يتجزأ، بل أرى العالم العربي كله، من ضفاف الأطلسي إلى ضفاف الرافدين وطنا واحدا، بل أرى جَميع بلاد الإسلام كتلة متراصة من غرب شمال أفريقيا إلى أندونيسية، لا يدين بدين الإسلام الحق من يراها بعين الوطنية الضيقة التي هي من بقايا الاستعمال الغربي في الشرق، بل لو شئت أن أقول -ويؤيدني ديني فيما أقول-: إنني أرى الإنسانية جَمعاء أسرة واحدة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس من آدم، وآدم من تراب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
إيه فهذه سوس وجدت من هذا السوسي من يبذل جهوده حول إحياء تاريخ بعض رجالاتها، فليت شعري هل تَجد البوادي الأخرى، بل وبعض الحواضر التي لَم يكتب عنها بعد أي شيء من تثور فيه الحمية المحمودة -وفي ذلك فليتنافس الْمُتنافسون- فيفتح لنا الأبواب التي نراها موصدة؟ إننا أيها الفيلالي والدرعي والريفي والجبالي والأطلسي والتادلي والدكالي لَمنتظرون أم يذهب هذا النداء كصرخة الوادي بين ثنايا الصدى؟
وبعد: فإن تاريخنا لَم يكتب بعد كما ينبغي، حتى في الْحَواضر التي كتب عنها كثيرون قديما وحديثا، فهذه مراكش التي كتب عن رجالاتها الزائرين والساكنين شيخنا سيدي عباس، لَم تفز بعد بِمن
1 / 9
ـ د ـ
يكتب عن نواح شتى من أدوارها التي تقلبت فيها، وقد كنت أجمع كتابا في ذلك سميته: (مراكش في عصرها الذهبي) مشيت فيه خطوات، ومقصودي إظهار مراكش كما هي سياسيّا وعلميّا وأدبيّا واجتماعيّا في عصر المرابطين والموحدين، وبينما أنا مُكبٌّ على جَمع المواد -وما أكثرها- بِمناسبة استيفاء مراكش إذ ذاك سنة (١٣٥٤هـ) تسعمائة سنة، إذا بالنفي مُختتم (١٣٥٥) نادى مناديه، فتركت على رغمي الكتابة حول مراكش الذهبية التي هي العاصمة العظيمة للمغرب ردحا من الزمان إلى الكتابة حول تلكم القبائل التي تكانف هذه القرية الساذجة المغمورة (إلغ) (١)، (ولو خيرت لاخترت)، فقدر لبني هذه القرية ومُجاوريهم ولأساتذتهم ولتلاميذهم ولأصدقائهم كتاب (المعسول) الذي يصل الآن -وقد كاد يتم تَخريجه- عشرين جزءا، حوول فيه أن يكتب بإسهاب كل ما أمكن عن السوسيين بأدنى مناسبة، ثم ليس ذلك كله بالتاريخ المطلوب عن سوس، وإنَّما المقصود جَمع المواد لمن سيكتبون وينظمون غدا، وهذا هو الواجب الآن علينا. وأما أن ندعي أننا حقيقة نكتب التاريخ كما ينبغي، فإن ذلك إفك صراح، أولا ترى أن لك من عرف فاسا، وما أدراك ما فاس، واستحضر ما كتب حولَها من القرن الرابع إلى الآن كتابة ناقصة مُجحفة، وقد أدرك الدوز العظيم الذي مثلته فاس لا في المغرب ولا في شمال إفريقية وإزاء الأندلس فحسب، بل وفي العالم الإسلامي أجمع - يوقن أن تاريخها لَم يكتب بعد كما يَجب أن يُكتب - فكثيرا ما أقول: لو تصدى باحث أو باحثون لكتابة تاريخ فاس من نواحيها كلها؛ لفتحوا صفحة عربية ذهبية وهاجة طافحة، وربما تنسي كل ما كتب عن بغداد ودمشق والقاهرة. فهذا (تاريخ تطوان) لأخينا الأستاذ محمد داود المستوفي ثماني مُجلدات- وهو التاريخ الوحيد المستوفي لكل جوانب التاريخ المطلوب عن إحدى مدننا- قد كتب عن مدينة ربما كان جانب خاص من جوانب فاس أطفح وأعظم من جَميع جوانب تطوان في كل أدوار حياتها، ولكن حسن التنسيق من المؤلف، والإكباب على جَمع النظائر، وحسن الترتيب، ومُحاولة الاستيعاب، قد كست الكتاب حلة
_________
(١) إلغ بكسر فسكون.
1 / 10
ـ هـ ـ
براقة أخاذة بإبصار المطالعين، ومن لنا بِمثله عن فاس الْمَاجدة العظيمة التي هي فاسنا كلنا لا فاس سكانَها وحدهم؛ لأن فاس فاس العلم والفكر والحضارة، لا فاس شيء آخر، وإن تاريخ المغرب الثقافي العام ليكاد كله يكون كجوانب الرحى حول قطب فاس، فهأنذا أعلن عن سوس هذه التي أولعت بها، أن أول عالِم سوسي عرفته سوس فيما نعلمه هو وجَّاك، وهل هو إلا تلميذ أبي عمران الفاسي، وأنا هذا الذي أحسن مني بهذه الهمة، هل كنت إلا تلميذ علماء آخرين، وأجلهم وأكثرهم تأثيرا في حياتي الفكرية العلماء الفاسيون، وليت شعري كيف أكون لو لَم أقض في فاس أربع سنوات قلبت حياتي وتفكيري ظهرا لبطن، ثم لَم أفارقها إلا وأنا مَجنون بالمعارف جنون قيس بن الملوح بليلاه، حتى نسيت بها كل شيء.
فهكذا فاس، فهذ الأستاذة أمس واليوم، وكل أنْحَاء المغرب تلاميذ لَها، ولعل القارئ عرف ما ذكره المراكشي الصميم صاحب (المعجب) عن فاس في وقت ازدهار مراكش في عصرها الذهبي من الإشادة بِها، وتلك مزية كتبت لفاس من الأزل، فكانت أحق بِها وأهلها، أفيجمل بِمدينة مثل هذه تطفح بالشخصيات النادرة من العباقرة ما بين لغوي وأديب وطبيب وفيلسوف ومشرع ومُصلح وسياسي وصوفي، زيادة عما مضى فيها من الحوادث التي كانت هي الحاسمة في كل أدوار الحوادث في المغرب كله، أن تبقى بلا تاريخ مفصل منظم، مع أن ذلك في دائرة الإمكان؟
وبعد فليسمع صوت هذا السوسي كل جوابن المغرب من أعظم حاضرة إلى أصغر بادية، فلعل من يصيخون يندفعون إلى الميدان، فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها، ويعرف برجالها، ويستقصي عاداتها، فيكون ذلك أدعى إلى وضع الأسس العامة أمام من سيبحثون في المغرب العام غدا على منضدة التاريخ المغربي العام.
ثم أقول لإخواننا السوسيين من الشباب: لا تظنوا أنني في كل ما سودته مما كتبته في مُختلف تلك الأجزاء الخمسين مِما خصص بالرجال أو بالحوادث أو بالرحلات أديت به حتى عشر المعشار من الواجب عن
1 / 11
ـ وـ
سوسهم، فإنني ما عدوت أن جَمعت ما تيسر جَمعا بسيطا كيفما اتفق، بقلم متعثر، وأسلوب لا يزال يتتبع خطا أساليب القرون الوسطى؛ إلا أنني لا أنكر أنني حاولت فتح الباب فبذلت جهدي، وأفرغت وسعي، فكم غلط لا بد أن يقع لي، وكم من تَحريف أو تصحيف اسم لا جرم واقع فيه، فعليهم أن يقوموا ليستتموا وليصححوا الأغلاط، فهل من مُجيب؟
وبعد؛ فإليك أيها القارئ الكتاب الأول من تلك المجموعة التي تضم زهاء خَمسين جزءا تَحت أسْماء مُختلفة، فادع الله أن يُيسر موالاة نشر تلك الكتب كلها بفضله، وكرمه، على أنها لا تنشر إلا بتنشيطك وإقبالك عليها.
وقد كان ينبغي لِهذا الْجزء أن يَخرج إلى الوجود مُنذ جَمع سنة (١٣٥٨هـ)، ولكن تأخر خروجه فكان في تأخره فوائد؛ منها: تنقيحه والزيادة فيه بِحسب الإمكان، وههوذا الآن وفق ما تيسر، لا على حسب ما ينبغي من التحرير.
فما كان فيه من فائدة جديدة في عالَم التاريخ المغربي ففضل من الله على مغربي لا يطول إخوانه بزيادة علم أو فضل، وما كان فيه من تقصير -وهو لا بد كائن- فإن التقصير من لوازم البشر.
وأي عمل من أعمال البشر يسلم؟! فالله الموفق والستير للعيوب.
الرباط ١٣٧٩
مُحمد المختار السوسي
لطف الله به
1 / 12
بسم الله الرَّحْمَن الرحيم
وصلى الله على سيدنا مُحمد وآله وصحبه
أحق ما يفتتح به كل من له إلْمَام بلمعة من المعارف، أن يَحمد الله على ما أولاه إيَّاه، وأن يُصلي على رجل العالَم القرشي الْهَاشمي الذي حرر الأفكار، وشحذ العقول، وهتك الأوهام، ونفى الخرافات، فهيأ الأفكار لاقتناص المعارف كما هي من غير أن تشوبَها شائبة من إلاهيات اليونان، وأساطير الكلدان، وأوهام البطالسة والرومان، وخرافات الهند وإيران، كما يَحق أن يترضى عن أولئك الرجال الذين تربوا بذلك الرجل العظيم في وسط تلك البادية القاحلة، فسادوا من تربوا في مدارس الإسكندرية ورومة وبيزانطة والمدائن وجُنْدَيْسَابُور، فكانوا خير علماء بعد أن كان تضرب بِهم في الجهالة الأمثال، ويسير بأحاديثهم المحققة أو المأفوكة الركبان، كما أصبحوا مقاديم قلبوا الكرة الأرضية ببسالتهم النادرة، بعد أن كانوا عند سواهم كالرعاديد، بل صاروا أشباه الملائكة نزاهة وعلو همَّة، وزهدوا فيما يَملكون، فضلا عما لا يَملكون، فظهروا بمظهر عجيب، ومبادئ تنسف الأوهام، بعد أن كانوا ما شاء الله أغوال الصحراء التي تتخبط القوافل، أو تنتهب فيما بينها حرَبا (١) وفتكا، إذا لَم تَجد من تنتهب ماله، أو تفتك به، كما يقول أحدهم:
وأحيانا على بكر أخانا ... إذا ما لَم نَجد إلا أخانا
فلم تَمض إلا سنوات عليهم مع معلمهم العظيم، والنبي الذي بذ كل الأنبياء، حتى تقمصوا روحا وثابة سارية، هي بالكهرباء أشبه منها
_________
(١) الحرَب بالتحريك: النهب.
1 / 13
بأرواح الناس، فحين واروا معلمهم ﷺ -فداه أبي وأمي- أصبحوا أشد ما كانوا رباطة جأش، فلم يفت ذلك في أعضادهم، ولا وجد الشقاق متسربا إليهم، فلم تكن إلا عشية وضحاها، حتى وردت خيولهم دجلة فجيحون في الشرق، كما وردت نَهر بردى ثم النيل ثم وادي سبو في الغرب، ثم تسلقت جيوشهم جبال القوقاز والحملايا وتخوم ما وراء كاشغار، على حين أن فرقة أخرى منهم تتسلق جبال البرينات، وقد تخطت سهول الأندلس حتى كادت ترد مياه السين، كما تسلقت قبل ذلك جبال درن إلى ماسة حتى دخلت قوائمها في البحر المحيط، وهي تقول: هل من مزيد؟
شرقت كتائب معلمي العالَم -لا غزاته- وغربت، وشذبت بعدلها من قوانين الإنسانية وهذبت، ومهدت بِمساواتها بين أبناء آدم ما مهدت، حتى انقادت الأمم فدخلت في دين الله أفواجا، فترد من لغة ذلك الدين العدل صافيا عذبا زلالا، وتلقي من لغاتِها وراء أجاجا، فأقبلت على تلك اللغة تتحلى بها في المجامع، وتشمخ بإتقانِها في المحافل، هذا ورئيس من رؤساء تلك الكتائب في ناحية من دمشق يتوضأ، والبشارات تتوالى عليه، كأنما الدهر يقول له: ما غلبتني أنت وأصحابك إلا بما تستمدونه من هذا الوضوء، ثم في تلك الوقفات التي تفقونَها مستقبلين تدعون، وكل دعاء أحدكم: رب زدني علما - هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ - ومن كان مبدأه العلم والعمل، ونفع الإنسانية جَمعاء؛ فأحر به أن يسود العالَم كله بِمبادئه السامية.
كان الأذان شعار أولئك المعلمين، فأينما وصلته أرجلهم، ولامسته أيديهم؛ جللته ألسنتهم بكلمة الله العليا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكانت صخرة قرية: أنَامّْزْ وَّاسِيفْ من سملالة بِجبال جزولة -حيث الأطلس الصغير- أول ما تشرف هناك بتلك الكلمة بادئ بدء في جبال جزولة (٢) فلو كان أسلاف هذه الأمة ممن تنسيهم الآثار الأعيان، ويتأخرون عن المقاصد بالوقوف مع الأنصاب؛ لكانت هذه الصخرة مكللة بالياقوت والجوهر، ومُجللة بالسندس والحرير، ولكن أنى يكون مِمَّن
_________
(١) الوليد بن عبد الملك الأموي الذي كان يتوضأ يومًا، وقبل أن يتم وضوءه توارد عليه خبر فتحين عظيمين شرقًا وغربًا.
(٢) البعقلي في كراسة وذكر أن ذلك متواتر، والكتاب مخطوط، وقبر ذلك المؤذن لا يزال معروفًا إزاء تلك الصخرة.
1 / 14
عرفوا تلك الكلمة العليا حق المعرفة، من يلتفتون إلى الأحجار، وإن كانت ذات تاريخ مثل هذه الصخرة، بعد ما خاطب الفاروق الحجر الأسود بِما خاطبه به يوم استلمه: «إنك لا تنفع ولا تضر»، وبعد أن استأصل الشجرة التي كانت تَحتها بيعة الرضوان، فاستأصل بذلك ما عسى أن يكون باقيا في نفوس من لَم ينسوا بعد (ذات أنواط).
أتم العصامي إدريس (١٧٢هـ) ما كان قبل مؤسسا (٦٢هـ) ثم في (٨٧هـ) بأيدي عقبة وابن نصير، فبث التعاليم، ونشر بِحسب الإمكان العلم العربي، فاستقبل به المغرب عهدا جديدا، لَم تقدر يد الشَّمَّاخ (١)، ولا حيلة البرمكي، أن تزعزعا أركانه، فإن الذين تلقوا شابا، لَم يسلخ إلا نَحو خَمسة وعشرين ربيعا، وليس معه إلا عبد واحد ثم رفعوه على العرش برضى منهم، ثم ناولوه الصولَجان، ثم وقفوا بين يديه مصطفين ينتظرون أوامره، لينفذوها في أنفسهم وفي أموالِهم، أولئك قوم ما أقدموا على ما أقدموا عليه، حتى عرفوا ما يصنعون، وقد خالطت التعاليم الجديدة بشاشة نفوسهم، وملأت أعمال قلوبِهم، فرموا العصبية الجنسية ظهريا، فاستقبلوا المنفعة المجسمة من أعمال أبناء تِهامة ونَجد بكلتا اليدين، فيرون أتم الشرف في أن يكونوا مرءوسين لأحد أولئك الأبناء، رغما عن كل الدسائس والمكر والخديعة التي تنالَهم بواسطة ابن الأغلب، القاضي بمكره على أميرهم ثم على مولاه الأمين، فلم يصعب عليهم أن ينتظروا وراء أميرهم المرموس نسمة أخرى مباركة من نسله، يسير بِها ذلك العهد الجديد سيره الطبيعي إلى المدى الذي هو لا بد مدركه، وإن كره البغداديون.
تأسست عاصمة الدين والعلم والحضارة (فاس الخالدة) (١٩٢هـ) فصارت منبع العلم، وميزان الدين، ومقياس الشعور، والحضارة في المغرب فكانت تأخذ من القيروان ثم من قرطبة من تأخذ، ثم تمد إلى القرى والقبائل الجبلية والصحراوية، من روحها وحضارتها وعلمها الجم ما ينمو مع الأيام، فلَم يَمض إلا زمن ليس بالكثير، بِحسب بيئة ذلك العصر، حتى رأينا المغرب يكتسي حلة عربية، وقد تأصلت فيه العلوم العربية، وتأسست لَها معاهد. وقد كانت (سبتة) تضاهي فاسا
_________
(١) اسم الذي سم إدريس بن عبد الله برأي يحيا البرمكي وزير هارون الرشيد.
(٢) في كتاب (المرْقى في أخبار سيدي محمد الشرقي) أن في تادلة زوايا علمية في القرن الرابع، والكتاب مخطوط.
1 / 15
في هذه المهمة بل تفوقها أحيانا، كما كانت (سجلماسة) و(أغمات) و(سلا) و(طنجة) و(تادلة)، تسير أيضا في ذلك المنهج، على اختلاف سير بعضها عن بعض، فتؤدي تلك المهمة العظيمة التي بها تَحيا الشعوب، وتمجد الأقطار، ومتى أراد الله إحياء قطر هيأ له بِحكمته الأسباب «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ».
هل في سوس علم واسع من قبل القرن التاسع؟
كانت سوس من الأطراف التي تشع نَحوها هذه الحواضر بِما فيها، وقد كان الإسلام أطل عليها من أيام عقبة (٦٢هـ)، ثم رسخ فيها أيام ابن نصير (٨٧هـ) وهو الذي رأينا أحد أولاده في (أغمات) يسير دفة ما وراءها، فإذ ذاك تَخطاها الإسلام إلى الصحراء، فكان هناك راسخا، وقد رأينا عهد الإمام إدريس (١٧٥هـ) من وفدوا عليه من هناك راسخي الإسلام، مغتبطين به من أسلاف الدولة اللمتونية، الذين تأسست منهم في القرنين الثالث والرابع دولة ساذجة في الصحراء، فهكذا كانت سوس دائما في مقدمة أطراف المغرب، وهي وإن كانت ذنبه؛ فقد يكون الذنب من بعض ذوات الريش أحسن ما فيها؛ إذن لا بد أن يكون في سوس (١) من قادة الدين من علمائه من يقودون الشعب المتدين بِهذا الدين الجديد. ولا بد أن تصل تلك الناحية شعلة من الأضواء التي أرسلها عمر بن عبد العزيز إلى أفريقية سنة (١٠٠هـ) ليبثوا الدين في صدور الأفريقيين المتستظلين كلهم براية الإسلام، وما تثبت دين الإسلام إلا ببث لغته، وما استجد إذ ذاك من علوم الدين، ثم رأينا (سجلماسة) في القرنين الثالث والرابع مع (أغمات)، مزدهرتين بالعلوم، أو تقربان إلى الازدهار، وما بين سوس وبين هاتين المدينتين إلا ما بين الجيران الذين يكونون سواسية في المنافع والأفكار، ويظهر أنه ربما كانت سوس الشرقية منقسمة سياسيا بين أغمات وسجلماسة، بعد ضعف الأدارسة، الذين كانت سوس من أيالتهم. فهناك عبد الله بن إدريس باني تامدولت ومُجدد أيكلي كما رأينا البورغواطيين قد امتدوا حينا إلى تلك الجهة حتى قيل أنهم وصلوا ماسة،
_________
(١) نعني بسوس في كل أعمالنا التاريخية في هذا الكتاب وغيره ما يقع من سفوح درن الجنوبية إلى حدود الصحراء من وادي نول وقبائله من تكنة والركائبات وما إليهما إلى حدود طاطة وسكتانة.
1 / 16
وكما كان هنالك في تارودانت بعض أحفاد (١) الأدارسة، رافعا لواء النحلة التي سميت فيما بعد: «البجلية» على حين أن جبال جزولة تُخالفها، وتتشبث بِما عند أهل السنة (٢) أو ليس من المتبادر أن يكون بين هذه الفرق علماء دينيون، يقودون الأفكار، ويلقحونَها بالأدلة لكل فريق، ولا يكون ذلك إلا بتعاطي العلوم الموجودة إذ ذاك وأن بعض تعاط، وهؤلاء الجزوليون هُم من يظهر لنا أنَّهم أسلاف العلامة وجاج (٤٤٥) (٣) وبعضهم يقول إنه من إخوان السملاليين وأسلاف عبد الله بن ياسين «التامانارتي» الجزولي (٤٥١هـ)، فقد رأينا الأول ألقى جرانه في (أَجْلُو) من ضواحي (تزنيت) بعد ما تَخرج من (القيروان) وما كان ليسكن هناك، ويرفع رايته، ويقر به القرار -إن صحَّ أنه غريب عن هذه الديار- لو لَم يَجد من يعينه، ويتدعم به بنيانه من أهل البلاد، وهل يعين أهل العلم إلا أهل العلم؟ أو من كانوا عرفوه وعرفوا ما ينتج وراءه، كما رأينا الثاني ابن ياسين بعد ما مكث في (قرطبة) سبع سنوات، قد اختمرت في نفسه فكرة، ثم لَم يكد يسمع هيعة في الصحراء حتى كان أول طائر إليها، فكان من عمله ما كان. ثم كان كل عمله راميا إلى تشييد العلم، وتقديم الفقهاء في كل شيء، ثم لَم ينس الفقهاء من جزولة عندما كانت الغنائم تدخل يده.
تأسيس مدرسة أكْلُو
تأسست مدرسة (أچـلو) في أول القرن الخامس، وموقعها في ضواحي تزنيت، وهي أول مدرسة عرفها التاريخ إلى الآن في بادية المغرب، وكانت تُسمى: الرباط. ويُسمى سكانها: مرابطين، وإن كان ما يعرفه التاريخ اليوم من الأولية، لا يدل على أنها هي الأولى في الواقع، فإن هناك بصيصا يتراءى منه أن حركة علمية موجودة مع مدرسة (وچَّاچ) هذه، وربما كانت قبلها، ولا حركة علمية بلا مدرسة، وكانت المساجد من قديم هي عين المدارس إن كانت فيها الدراسة، وقد قرأنا بين أخبار عبد الله بن ياسين: أنه
_________
(١) ص ١٤٠ ج (٤) من الملل والنحل لابن حزم، وسماه أحمد بن إدريس وقد كان معروفًا أن تلك النحلة رسخت هناك في أول الرابع بمساعي علي بن عبد الله البَجَلي.
(٢) الرسالة المرغيتية في الوِهْدَاويين، وهي مخطوطة.
(٣) ما بين القوسين للوفاة.
1 / 17
كان يُسَرِّب من غنائمه في الصحراء إلى الفقهاء في هذه الجهات، ولعل هناك عددا يوجدون مع شيخه وَجَّاچ (١).
انطوت القرون الخامس فالسادس فالسابع فالثامن عن سوس، ولَم نر عنها ما يَدل على حَركة علمية واسعة تذكر عن سوس، ولولا أفراد سياسيون كابن تومرت، وصوفيون مذكورون في السادس فالسابع فالثامن؛ لَخيّم على سوس ما خيم عليها في الثالث والرابع، من ديجور (٢) كثيف في نظر التاريخ، وصوفية ذلك العصر صوفية علمية غالبا، قلما يبرز واحد منهم ويذكر إلا إذا كان معه علم قليل أو كثير.
إن هناك بعض أفراد من أحفاد وأجَّاج وسيدي وَسَّايْ وأسلاف الأغرابوئيين يذكر بعضهم (٣) في السادس، أيُمكن أن لا يكونوا علماء، مع أن ذلك إرث جدودهم، وأبناء العلماء لا يبرزون ثانيا إلا بالعلم، ما داموا يظهرون مثل ذلك المظهر؟ أيكون أبو يَحيى الجَرْسِيفي (٦٨٥هـ) وعمه سعيد بن النعمان (٦٥٠هـ) وهما جليلان علما -خصوصا أولهما- وحدهما في السابع؟ مع ما تتموج به الأسْمار من انتشار العلم كثيرا في دائرتهما، حتى ليقال: إن هناك مدفنا لكذا وكذا (٤) من البنات يَحفظن المدونة، فضلًا عن الرجال، وهناك أيضا ما يُقال من أن سيدي وسَّاي أو أبناءه والركراكي هم من أوائل من زاولوا شرح المدونة في سوس. أيمكن أن تؤسس مدرسة أَزَارِيف في آيت حامد في الثامن (٥) من غير أن نَحكم بأن هناك حركة علمية واسعة؟
إن هذه أسئلة يصعب على من لَم يقع على مواد جديدة مِمَّا لَم يشتهر الآن أن يُجيب عنها جوابا مقنعا، فالأدلة العقلية قد تقضي كماترى بأن بعض الشيء من اتساع الحركة العلمية كائن ولا بد. ولكن تعوزها الأدلة النقلية، فمن عرف كيف (أغمات) قبل تأسيس (مراكش) وبعده؟ وكيف (مراكش) بعد ما تأسست؟ وكيف (حاحة) من السادس عهد أبي سعيد
_________
(١) جزء ١ - ١٠١ من الاستقصاء طبعة مصر، وهناك نص بأنه كان يسرب من الغنائم إلى طلبة المصامدة ومقصوده كما يظهر أهل بلده جزولة.
(٢) هذا الديجو ريكاد يكسو كل أطراف المغرب في هذين القرنين حتى حواضره إذ ذاك لا سوس وحدها.
(٣) يقال أن عمرو بن هارون الشهير في أواخر السادس من أحفاد وجاج ويظهر أنه أمي من حكايته المشهورة مع المزوزي الحاحي التي في (الرحلة العبدرية) وقد وقفنا على نسبه الصحيح بخط ابن العربي الأدوزي، فهو علوي قرشي غير أنه ليس بوَجَّاچي ولذلك لا يورد علينا هنا.
(٤) (الجرسيفيون)، مخطوط.
(٥) شاع ذلك ثم وجدته بخط بعض المعتنين.
1 / 18
الحاحي المزازي صاحب (منازل العلم)، ومن السابع عهد العبدري صاحب (الرحلة)، وكيف سجلماسة من القرن الثاني فالثالث، فهلم جرَّا؟ وعرف مع ذلك كيف اعتنى اللمتونيون والموحديون بالعلوم وبنشرها في المغرب؟ وعرف أن مراكز هاتين الدولتين (١) لا بد أن تكون بسوس. وعرف أيضا أن أغمات ومراكش وحاحة وما إلى سجلماسة مغدى السوسيين ومراحهم، يكاد يَجزم بأن كل ما كانت طلائعه في القرن الخامس بسوس، أيَّام وجَّاج، مما يظهر أنه متسع الساحة، لَم تنطفئ جذوته، ولا جزر مده فيما يلي، وما الجزولي صاحب الكراسة (٦١٦هـ) ولا أبو يَحيى الـچـرسيفي المفسر الْمُحدث الكبير خريج الأندلس، ولا عمه سعيد بن النعمان، ولا ابن عمه الجزولي الجرسيفي نزيل فاس صاحب الشروح المتعددة على الرسالة (٧٤١هـ) وأمثالهم كالذين يكاتبهم ابن البناء ويُجاذبهم علم التوقيت فذكرهم في بعض كتبه، إلا أفراد أمْكن لَهم أن يظهروا في التاريخ لدواع خاصة، على حين أن آخرين من معاصريهم غمروا، ولَم يتأت لَهم من مثل تلك الدواعي ما يعرفهم به التاريخ، وإلا فلا يمكن أن يزخر المغرب كله بدوه وحضره بالعلوم العربية أيام الموحدين، ثم تبقى جزولة في نومها العميق، وجهلها الدامس، وهي التي نراها سباقة إلى كل غاية، ومادة يَمينا عرابية إلى كل راية.
هل ضياع أخبار تلك القرون هو سبب عدم إدراكنا مَجد سوس العلمي؟
طالما رجعنا البصر كرتين، وأكثرنا الإمعان في عدم شهرة تلك القرون بالعلم العربي السوسي كما اشتهرت به بعد ذلك، فتراءى لنا ما ربما نَميل إلى ترجيحه أحيانا، من أن السبب الوحيد هو ما ابتلي به السوسيون إلى اليوم، من عدم الاعتناء برجالِهم، والتفريط دائما لا ينتج إلا الْجهل المظلم، وهذا العيب لا يزال فيهم ماثلا إلى الآن، كأنه مُمتزج بدمائهم، مستحوذٌ على ألبابِهم، فلولا دواع خاصة لبعض الناس؛ لَما رأينا أيضا من القرن التاسع إلى الآن إلا مثل ما نراه فيما قبل، مِمَّا بين القرنين الخامس والثامن، فلولا (التشوف) للزيات؛ لَما ظفرنا ببعض صوفية سوسيين، ولولا مُؤرخون آخرون غير سوسيين؛ لَما ظفرنا بآخرين من فطاحل علماء سوس إذ ذاك، نزلوا
_________
(١) من مراكز اللمتونيين المشهورة إلى الآن: مركز السوق بتَانْكرْت في أفران ومركز فَمِ أكادير بتامانارْت ومركز آخر في (تَاغَاجِّيجْيت، وكان وادي نون مضرب سكتهم
1 / 19
القيروان ومراكش وفاسا وغيرها، وبآخرين: منهم من كان عالِما وسطا، ومنهم من نَحسبه كذلك، ومنهم من لا نظنه إلا عابدا صوفيّا لا غير، كما أنه لولا دواع أخرى لأناس آخرين؛ لَمَا رأينا من التاسع إلى الآن شيئا، فكان الشكر الجزيل للدواعي الخاصة التي تعتني بوجهة يحفزها إليها حافز، إمَّا التاريخ العام الذي يترامى إلى نواح شتى، فلم نَحسب أنه جال قط في دماغ سوسيين إلى الآن.
النهضة العلمية السوسية بعد الثامن وأسبابها
رأينا فيما تقدم كيف كانت حالة سوس العلمية منذ اعتنقت الإسلام إلى الثامن، ولَم تكن بِحالة مبهجة، إمَّا لكونِها كذلك في الواقع، وإمَّا لأن سجوفا من الجهل الكثيف بالتفريط أسدلت دونَها، غير أن حالة تلك القرون إن لَم تكن سارة مبهجة؛ فقد جاء التاسع بفاتِحة خير، وطلع بفجر منير، وسفر عن وجه يقطر بشاشة وبشرا، حقّا كان القرن التاسع قرنا مَجيدا في سوس، ففيه ابتدأت النهضة العلمية العجيبة التي رأينا آثارها في التدريس والتأليف، وكثرة تداول الفنون، وقد تشاركت سملالة وبعقيلة ورسموكة، وآيت حامد وأقا، والجَرسيفيون، والهشتوكيون، والوادنونيون، والطاطائيون، والسكتانيون، والراسلواديون وغيرهم فيها، ثم جاء القرن العاشر، فطلع بِحركة علمية أدبية أوسع مِمَّا قبلها، تشده كل مطلع، فقد خرج العلماء إلى الميدان الحيوي، والمعترك السياسي، فشاركوا في الأمور العامة، واستحوذوا على قيادة الشعب، فكانوا سبب توطد الدولة السعدية، ثم جازتْهم هي أيضا بدورها، فكان منهم أفراد بين الكتاب والشعراء الملازمين للعرش، والسفراء ورؤساء الشرطة، وقواد الجند، والحرس الملكي الخاص (١) فزخرت سوس علما بالدراسة والتأليف، والبعثات تتوالى إلى فاس ومراكش، وإلى الأزهر، فكانت تئوب في ذلك العهد بتحقيقات اليسيتني، والونشريسي، وابن غازي، ونظرائهم، حتى كان كل ما يدرس في القرويين يكاد يدرس في سوس، قولة لا تنفج فيها وإنّها لَحقيقة ناصعة يقر بها كل مطلع (وما يوم حليمة بسر).
_________
(١) من مجموعة لدوكاستري أنه لا يتولى في الحرس الخاص في عهد السعديين إلا الجزوليون.
1 / 20
ثُمَّ جَاء القرن الْحَادي عشر (١) بزبدة علمية عالية فطاحل العلماء، عادت فتاويهم قوية غير ضعيفة، ولو عاش عبد الله بن عمر المضغري؛ لرجع عن وصفه أهل سوس بضعف الفتاوي، وقد رد عليه أهل هذا العصر (٢) بالْحَال والْمَقال، وناهيك بشيخ الْجَماعة: عيسى السكتاني، وعبد الله بن يعقوب السملالي، وعلي بن أحمد الرسموكي وسعيد الهوزالي، ومحمد بن سعيد المرغيتي الأخصاصي، ومحمد بن مُحمد التامانارتي، مفتين أقوياء الفتاوي، إلى فتاويهم يصار عند الاختلاف (٣).
ثُمَّ جاءت دويلة (إيليغ) فأخذت بضبع العلم والأدب اقتداء (بالبديع) (٤)، فأسندت المناصب القضائية في كل قبيلة إلى مستحقيها، وتستقدم إليها من تتزين (٥) بِهم مَحافلها، وتعمر بِها مَجالس التدريس في مساجدها، فاتَّخذهم موضع الشورى، وأرباب المسامرة (٦)، وقد تتبعت خطوات (البديع)، أو فاقتها في احترام العلم وأهله؛ بسبب البساطة التي كان لَها منها ما لَم يعهد مثله في (البديع) نحو العلماء، وللبساطة في هذا المقام ما ليس للألمعية الداعية إلى أن يفعل كل شيء سياسة، لا تدينا ولا تقربا إلى الله بذلك عن إخلاص.
وكما أشادت بالعلماء أشادت بالأدباء، فرأينا الشعراء الجزوليين يشيدون بِمجد إيليغ (واللُّهَى تفتح اللَّهى) وما كان العلماء والأدباء في حلبة إلا خلدوها، وقادوها إلى الفوز المبين، وجَميل الذكر الخالد، وقد حفظ التاريخ من أقوالِهم (٧) قطعا وقصائد ومن تآليفهم (٨) المتنوعات في الفنون ما يدل على ما لذلك الوسط من بلاغة في القول، وتَمكن في العلوم، وسمو في الفهوم، حتى قال قائل في مدح أمير (إيليغ) من قصيدة:
رِدِ المَساجدَ والمدارسَ كَالرِّيَا ... ضِ وَقَدْ غَدَتْ مِنْ قَبْلِهِ كَالْبَلْقَعِ (٩)
فصدق من إيليغ ما كان أحد الشعراء ذكره من قصيدة ألقاها يوم بيعة بُودْمِيعَةَ:
_________
(١) يجب أن يعرف أن التقلص المعروف في العلوم عن ذلك العهد حتى ليقال لولا فلان وفلان لاندرس العلم، لم يكن حكمه منسحبًا على سوس لأننا نرى عيانًا فيه ببركة إيليغ علومًا زاخرة ومدارس مزدهرة، وفي الكتب التي تلي هذا ما يدل على ذلك.
(٢) ذكر صاحب (الفوائد) ذلك وقال أن الحال قد تبدل، وهذا الكتاب مخطوط.
(٣) كما صير إلى فتوى السكتاني عند الاختلاف حول كنيسة إيليغ، انظر الاستقصاء ج ٣ - ١٨٢.
(٤) البديع قصر السعديين بمراكش.
(٥) يوجد هذا في قصيدة لأحمد التَّاغاتينني الرسموكي (إيليغ قديمًا وحديثًا) كتاب للمؤلف.
(٦) رسالة لِلجِشْتِيمي نشرناها أيضًا في كتاب (إيليغ قديمًا وحديثًا).
(٧) سيرى القارئ بعض ذلك عن قريب، والباقي في (المعسول) و(إيليغ قديمًا وحديثًا).
(٨) سيظهر ذلك عند ذكر بعض المؤلفات السوسية قريبًا.
(٩) من قصيدة كبيرة لمحمد بن الحسن المانوزي (المعسول) في (القسم الثالث).
1 / 21
فالمغرب الأقصى جَميعا ناظر ... يوما تَجول عليه منك يَمين
فيرى العدالة كيف كانت والْهُدى ... والعز بالإسلام كيف يكون
والعلم كيف يكون نشر ضيائه ... في الناس حتى يعلم الْمسكين (١)
ثُمَّ جاءت الدولة العلوية السعيدة، فكانت سعد السعود على السوسيين، فقد تكاثرت المدارس، وزخرت بالطلبة، حتى أن معظم المدارس السوسية لا نراها أسست إلا في هذا العهد، فقد لاقى العلماء السوسيون في كل مناسبة ممن تسنموا العرش العلوي تنشيطا واحتراما زائدا، والبدوي الْحُر الأنوف قد يقوم التنشيط الأدبي عنده مقاما لا يُدركه التنشيط المادي، فتمشوا في ظلها الوريف، كما كانوا يتمشون في الدولتين قبلها، فكانت لَهم أولا جولة نظنها متسعة مع ابن محرز أميرهم العلوي ما شاء الله، ثم رأينا آخرين يتصلون بالمولى إسماعيل فيلاقونه بقواف طنانة، ثم كان اعتناء مُحمد العالِم بكل علماء جزولة الذين فتح لَهم الباب على مصراعيه، ويستقدمهم لِمجلسه الْخَاص، ثُم يُجيزهم بِجوائز كثيرة، مع تَحرير قراهم من الكلف المخزنية -مظهرا من تلك المظاهر الشتى التي دامت للعلماء السوسيين تَحت كنف هذه الدولة السعيدة، ولَم يكن اعتناء محمد العالِم مُختصا بالعلماء أرباب الفنون فقط، بل كانت له لفتة -لعلها أكبر من أختها- إلى الأدب وأهله، حتى أنه لَمَّا صادف في الأدب السوسي ما أعجبه؛ قال كلمته الخالدة: «إني لَم أفرح بقيادة سوس، كما فرحت بوجود مثل هؤلاء الأدباء فيه». وقد شاء السعد أن تبقى نفحة تاريخية تدل على هذا الاعتناء العظيم بالعلم والأدب في عهد مُحمد العالِم، فحفظ لنا كتابا نعرف منه ما لم يكن لنا قط في حسبان، ولو شاء الله أن يطول ذيل هذا العهد السوسي في القرن الثاني عشر؛ لأبقى هذا الأمير العالم الأديب، حتى ينتعش الأدب، ويسترد قوته التي فقدها منذ ثل عرش (إيليغ)، وحتى يزداد العلم به رقيّا، ولكن العين التي لَم تُغادر ابن المعتز العالِم الأديب، ووزيره العالِم الأديب، وقاضيه العالِم الأديب، أبت أن تغادر مُحمدا العالِم الأديب للأدب الجزولي، حتى يرتفع به شأوه كرة أخرى إلى أعلى عليين، فيلحق أيضا فن الأدب بالفنون الأخرى التي لا تزال تزدهر إذ ذاك، ولكن إن ذهب مُحمد العالِم وعصره؛ فقد بقيت شهادته شهادة
_________
(١) عن أخرى لمحمد (امْحتَاوْلُو) الإِيسِي، ونعجب من مثل هذه الغنة هنا وهناك، ولكن من عرف كيف يتقرب الملوك المؤسسون إلى الأمم بما تريده، لا يعجب كثيرًا، فهذا المولى الرشيد قد رجع إلى هذا التقرب بتعظيم العلم وأهله، حين بويع فزخر التاريخ بأخباره في ذلك. وتمام القصيدة في (إيليغ قديمًا وحديثًا).
1 / 22
خزيْمة للأدب الجزولي الذي أدركه، ولعلم العربية والنحو في تلك الجهة، وكفى بها شهادة (١).
ثُمَّ لَم يزل ملوك الدولة العلوية، يقدمون في سوس دائما علماءها قبل رؤسائها منذ هذا العهد، وعلماء سوس لا ينالون ذلك إلا عن جدارة؛ لأنَّهم يصبحون أحيانا حراس الوحدة المغربية في هذا الجانب، وسياجا متينا دون الثوار الذين يثبون في كل فرصة وجدوها، ألَمْ يأتك حديث الثائر (بوحلاس) فإنه لولا علماء جزولة؛ لأوشك أن يفوز بِمرامه، ولكن العالِمَين الأستاذ علي بن إبراهيم الأدوزي، والأستاذ مُحمد بن احمد التاساكاتي، قاوماه مقاومة عنيفة بكل ما أوتيا من جاه وصولة علمية، ومركز أدبي، فاستفزا مشاعر الناس حتى جندلاه (٢).
ويذكر أن المولى سليمان الذي وقع هذا الحادث في مُفتتح إمارته، كان اتصل بالتاساكاتي حتى جازاه خيرا عن ذبه عن أمته، وكذلك قرأنا رسالة من المولى سليمان إلى العلامة عبد الله بن عمر التناني يأمره أن يقف بِجاهه عند القبائل حتى لا تتعدى على (تارودانت)، ثم لَمَّا جاش المغرب سنة: (١٢٧٦) بالقضية التطوانية، قام علماء جزولة الأساتذة الْحَسن بن أحمد التِّيمكدشْتِى، والْحَاج أحْمَد الجشتيمي، وأحْمَد بن إبراهيم السملالي، والْحسين الأزاريفي، والعربي الأدوزي، ومُحمد بن علي اليعقوبي، ومُحمد بن صالِح التادرارتي البعمراني وأمثالهم، ينادون في الناس ليلبوا دعوة السلطان، لينفروا خفافا وثقالا للذود عن الكيان، وقد أطلعنا على الرسائل التي وجهها المولى مُحمد بن عبد الرحمن إلى هؤلاء العلماء يسميهم بأسمائِهم، وفي مثل ذلك ما فيه من الْجَانبين؛ من جانب العلماء الذين يقومون بالواجب، ويصدقون الناس نصيحة للأمير وللأمة جَمعاء، ومن جانب العرش الذي يقدرهم قدرهم، ويعرف لَهم المكانة التي يشغلونها عن جدارة، وكيف لا يَخلص العلماء للعرش العلوي، مع أنهم لَم يروا منه قط إلا الإحسان بالجميل، والاعتراف بالجميل من شيم الأبرار وهذا المولى عبد الرحمن لَم يكد أبو العباس التيمكدشتي يمثل بين يديه مسوقا في صفة الاعتقال، بيد القائد بومهدي، حتى تلقاه متبركا به، مستمطرا لدعواته، ثُمَّ
_________
(١) على أن العلم الذي يقصد إذ ذاك، ويشاد به، هو العلم الديني. وهو الأصل الأصيل في مجد أدوار المسلمين، والكتاب الذي حفظ لنا ما حول محمد العالم، هو: (النفحات) والكتاب مخطوط مبتور.
(٢) (نزهة الجلاس، في أخبار أبي أحْلاَس) لمحمد بن أحمد الأدوزي المتوفي ١٢٢١هـ والكتاب مخطوط.
1 / 23