لكن كان عرض يوجين المزعوم هذا هو الشيء الوحيد الذي اعتزم عدم مشاهدته؛ فقد استاء منه كثيرا وأصابه باضطراب بالغ. أعد إفطاره المكون كالمعتاد من شريحتين من الخبز المحمص البني والبيض المسلوق والشاي. لم يسمع يوجين، فافترض أنه خرج في وقت مبكر. وبينما كان يتناول طعامه تذكر الشعور الذي انتابه في الفناء الخلفي وهو يمسك الطائر ويفكر في السيدة المعتمرة قبعة من الشيفون وحقل الخردل ووالديه. كان يتذكر شيئا آخر، مما سبقه، ويمكنه الآن أن يقول إنه كان يتذكر حلمه حينذاك. عرف أنه لا بد أن نفس الحلم قد راوده مرة أخرى الليلة الماضية، وبدا له أنه ليس أمامه خيار سوى الجلوس ومحاولة معرفة أي جزء منه يمكن استدعاؤه إلى الذهن.
كان مبتدأ هذا الحلم، الذي ظل يراوده من حين لآخر منذ منتصف العمر، حادثة حقيقية وقعت عندما كان طفلا يعيش في المزرعة مع أخيه الأكبر والتر وشقيقته ماري التي ماتت بالدفتيريا وهي في الثامنة عشرة. في منتصف الليل سمع رنين الهاتف، ثلاث رنات طويلة. كان لكل عائلة على طول الطريق رقم خاص بها من عدد الرنات - كان عدد رناتهم التي لا يزال السيد لوهيد يتذكرها حتى الآن رنتين طويلتين واثنتين قصيرتين - ولكن الرنات الثلاث الطويلة كانت تمثل تنبيها عاما، إشارة لجميع من على الخط بالتقاط سماعات هواتفهم. كان والد السيد لوهيد يصيح في الهاتف، الذي كان في المطبخ الواقع تحت غرفة نوم الأولاد مباشرة. لم يكن مقتنعا قط بنظام الهاتف، وبدا وكأنه يعتمد على قوة صوته في نقل الأخبار والكلام مهما بعدت المسافة. مع صياحه استيقظ الجميع ونزلوا لرؤية والدهم ينتعل حذاءه الطويل ويلبس سترته - فقد كانوا في شهر مايو، في فصل الربيع، ولكن الجو كان باردا بالليل - ومع أن السيد لوهيد لا يستطيع تذكر ما قيل، فإنه يعلم أن والده قال لهم شيئا عن المكان الذي سيذهب إليه، وأن أخاه والتر طلب الإذن بالانضمام إليهم وحصل عليه، تماما كما طلب هو الإذن نفسه ولكنه قوبل بالرفض على أساس أنه صغير جدا ولا يمكنه مسايرتهم.
كانوا في طريقهم لمطاردة صبي مجنون، شاب في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره يعيش في الجهة المقابلة من البلدة. لا يستطيع السيد لوهيد تذكر المعلومات التي ذكرها له والده حول هذا الصبي بخلاف اسمه (فرانك ماكرتر). كان فرانك ماكرتر أصغر أبناء عائلة فقيرة ولكنها كبيرة العدد وكريمة المحتد تدين بالمذهب الكاثوليكي. وقد أبعد عن المنزل فترة من الزمن إثر سلسلة من النوبات المرضية ولكنه عاد معافى، وعاش هناك بهدوء متوليا رعاية والديه العجوزين، بعد مغادرة أشقائه وشقيقاته. لا يعتقد السيد لوهيد أن والده قد ذكر له في ذلك الحين أن سبب استدعاء كل الرجال لتعقب فرانك ماكرتر هو أنه، أي فرانك، في وقت مبكر من ذلك المساء، ربما قبل حلول الظلام (وقبل الحلب بالتأكيد؛ لأن خوار البقر المهتاج هو ما لفت انتباه جار يمر على الطريق)، قد قتل والده في الحظيرة، باستخدام مذراة ومجرفة، ثم قتل والدته في المطبخ مستخدما نفس المجرفة التي لا بد أنه قد جلبها من الحظيرة لهذا الغرض.
تلك هي الحقائق التي احتواها الحلم، بحسب ما يتذكر، دون أن يكشف عنها النقاب. في حال اليقظة كانت ذاكرته تختزن كل هذه المعلومات عن جريمة القتل والقتيلين، مع أنه لا يعرف متى ولا كيف أعطيت له. أما في الحلم فلم يتسن له قط أن يفهم بوضوح السبب الداعي إلى حالة الاستنفار والضجة المثارة، كل ما عرفه أن عليه إيجاد حذائه الطويل والإسراع مع والده وشقيقه (إذا أسرع في الحلم، فلن يغادروا دون اصطحابه معهم). لم يعرف إلى أين هو ذاهب، وما كان له أن يعرف حتى يمضي في صحبتهما فترة من الزمن بحيث يكتشفون شيئا هناك. ربما كان تعاقب الحلم في البداية سهلا ومبهجا، ولكنه غالبا ما يتباطأ شيئا فشيئا بسبب قوى خفية محيرة ومشتتة، ومن ثم يجد السيد لوهيد نفسه وحيدا يقوم بأشياء على غرار تركيب وصفة طبية في صيدليته أو تناول العشاء مع زوجته. ثم مع شعور عميق بالندم وبعد فوات الأوان، مرورا بالجيران الذين يوجهون له اللوم والتقريع دون أن يقدموا له يد المساعدة، ودائما في طقس ضبابي لا يفصح عن الكثير، يحاول العودة إلى حيث يجب أن يكون. لم يكمل الحلم حتى النهاية قط، أو لعله أكمله، ولكنه لا يتذكر، هذا هو الاحتمال الأكبر. في أول مرة رأى فيها الحلم كان أبواه وشقيقته ميتين، أما شقيقه فكان لا يزال على قيد الحياة، في وينيبيج، وقد فكر في مراسلته، يسأله عن فرانك ماكرتر وما إذا كانوا قد عثروا عليه في تلك الليلة أم لا. كانت هناك فجوة في ذاكرته عند تلك النقطة. لكنه لم يراسله قط، أو عندما راسله، لم يسأله هذا السؤال؛ لأنه نسي، وإذا تذكر، فربما شعر بأنه من الحماقة أن يسأله سؤالا كهذا على أي حال، ثم توفي شقيقه.
دائما ما يترك هذا الحلم هما ثقيلا على ذهنه، وقد افترض أن ذلك إنما يرجع إلى أنه لا يزال يحمل، لجزء من اليوم، ذكرى أناس ميتين، أبيه وأمه وأخيه وأخته، الذين لا يستطيع تذكر وجوههم بوضوح وهو في حال الاستيقاظ. كيف يصف تماسك وتعقيد وواقعية هذه الذكريات، إن كان لديه من يصفها له؟ بدا له أنه لا بد أن هناك مكانا تنتقل فيه بحرية مطلقة دون قيد خارج عقله؛ كان من الصعب عليه أن يصدق أنه هو من ابتدعها. إنها تجربة مألوفة. تذكر أمه وهي جالسة إلى مائدة الإفطار قائلة في صوت مفعم بالدهشة أقرب إلى الشكوى: «لقد حلمت بجدتك! أوه، لقد كانت هي!»
ثمة شيء آخر دفع إلى التفكير فيه دفعا؛ وهو الفرق بين ذلك العهد والعصر الحالي. لقد كان فرقا شاسعا، ليس بمقدور أحد الانتقال من عهد كهذا إلى عهد آخر، وكيف فعلها هو؟ كيف يمكن لرجل أن يعرف والد السيد لوهيد وأمه ويعرف الآن ريكس وكالا؟ خطر له - وهو ليس بالخاطر الجديد - أن ثمة ما يقال على كل حال بشأن التعامل مع الأمور بالطريقة التي يبدو أن معظم من هم في سنه يتعاملون بها. ربما كان من المعقول أن يكف عن الملاحظة، ليصدق بأن هذا العالم لا يزال هو نفس العالم الذي كانوا يعيشون فيه، مع بعض الانحرافات المروعة وإن كان يمكن علاجها، وعدم محاولة فهم كيف تغير تنظيم العالم بأكمله بهذا الشكل.
كان الحلم قد جعله على اتصال بعالم جعل العالم الذي يعيش فيه الآن مجرد نسخة عفوية؛ من حيث الملمس، إن جاز لنا القول، وفي الحدة، وفي التكوين. لا شك أن حواسه بالطبع قد أصيبت بالضعف، بيد أن هموم الحياة وأهميتها قد تلاشت بطريقة أو أخرى. أضحت المناسبات تقام الآن على مساحات صغيرة وهي كلها لها نفس القدر من الأهمية أو لا أهمية لها. وخلال ركوبه الحافلة عبر شوارع المدينة أو حتى خلال الريف لم يكن السيد لوهيد يندهش كثيرا لدى رؤيته أي شيء؛ كمسجد، مثلا، أو دب أبيض. أيا كان ما يبدو أمام عينيك، فسوف يتبين لك أنه شيء آخر. فالفتيات في السوبر ماركت يرتدين تنانير مكسوة بالعشب لبيع الأناناس، كما رأى عاملا في محطة الغاز، يمسح الزجاج الأمامي للسيارات، يرتدي على رأسه قبعة حمقاء بها أجراس. وتأخذ الدهشة تقل وتقل.
في بعض الأحيان في التسجيلات التي كانوا يشغلونها في الطابق السفلي كان يتناهى إلى سمعه مقطوعة موسيقية عذبة مألوفة وغير مزعجة. وكان يعلم ما سيحدث، حيث السخرية منها والتلوي حولها بحركات جنونية خالية من أي نوع من التقدير. كما كانت هناك نكات مماثلة في كل مكان، ولا بد أن الناس وجدوها مرضية. •••
خرج رصيف روس بوينت من الخدمة منذ فترة طويلة؛ إذ انهار الرصيف واختفى كلية بفعل موجات المد والجزر حتى ابتلعه المحيط عن آخره. أقبل السيد لوهيد من عند منعطف كورنيش البحر - كان لزاما عليه أن يأتي على كل حال؛ إذ ضاق صدره لدرجة تجعله غير قادر على البقاء بعيدا - وهو يتوقع ألا يرى أحدا هناك ويكتشف أن الأمر كله كان من بنات خياله هو، أو أنه مجرد خدعة متقنة حاكها الآخرون وانطلت عليه، وهذا هو الاحتمال الأكبر. ولكن سرعان ما تبين له أن الأمر ليس كذلك مطلقا ؛ فقد احتشد الناس، ولم يجد درجات للجلوس عليها، كانت هناك درجات شاغرة على بعد ربع ميل إلى الخلف وعلى مسافة قريبة إلى الأمام بعد روس بوينت، بيد أن السيد لوهيد سار إلى جنوب الضفة، متعلقا بأجمات الوزال، دون التفكير في خطر كسر العظام حتى وقت لاحق. ثم أسرع على طول الشاطئ.
أول من رآهم من الناس كانوا يجرون بطول الرصيف ويقفزون من واحدة من قطع الخرسانة المتهدمة إلى أخرى؛ ريكس وكالا وروفر وعدد من أصدقائهم الذين يتعذر عليه تمييزهم. كانت كالا ملفوفة في ما بدا وكأنه - وقد كان فعلا - غطاء فراش قديم من الشانيل، وكان نصف خصلاته الوردية والبنية باليا. أخذوا يتواثبون حفاة الأقدام ويقفزون في الماء. كان هناك صبي على الشاطئ يعزف على الفلوت، أو آلة مثل الفلوت، نفس الآلة التي كانت لدى يوجين. كان يعزف بشكل جيد، على الرغم من رتابة عزفه. كانت الأختان العجوزان هناك، الأخت العمياء وعصاها البيضاء التي ترفعها حين تتحدث، وتشير بها إلى الماء؛ حيث تذكرك بموسى قبالة البحر الأحمر. كانت الأخرى تتحدث إليها شارحة لها. أما السيد كليفورد والسيد موري وعدد قليل آخر من الرجال كبار السن المتصفين بالرزانة والحصافة فقد أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، وجلسوا بمكان ليس بقريب للغاية. ربما كان إجمالي عددهم يبلغ نحو ستة وثلاثين شخصا كلهم تجاوزوا الستين أو تحت الثلاثين. كان يوجين يجلس بعيدا على الرصيف، وحده. رأى السيد لوهيد أنه ربما من الأفضل أن لو ارتدى يوجين لباسا خاصا لهذه المناسبة، رداء من قماش متين، أو مئزرا، إذا كان بمقدوره العثور على شيء كهذا، لكنه كان يرتدي سرواله الجينز المعتاد وقميصا أبيض.
Bilinmeyen sayfa