أعلم أن الشوق هو الداعي إلى حالة المكاشفة والشوق هو التمني للقاء المعشوق ولقاء المعشوق لا يحصل إلا بالمكاشفة والمكاشفة أما أن تكون عيانا أو قلبية وهو تجلى المعشوق بحالة يحملها قلب العاشق لكن العيان هو أفضل بل بشرط جامع بين القلب والعين كحالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانه كاشفه ليلة إسرائه بالتجلي القلبي والنظري لصحة الروايتين عن عائشة وعلى وابن عباس . وأعلم إن حقيقة المكاشفة هي عين النظر إلى المحبوب ولكن يتفاوت على قدر درجات المحبين وليس نظر الخلق كله واحدا فأدنى درجاتهم النظر القلبي أما النظر البصري فهو غر قوم عرض غير دائم وأعظم المنزلتين هو الجمع بين النظر والقلب . فإذا رفعت ستور الغفلة والهواء تجلى المحبوب فتلاشى المحب حتى يخرج من الستور البشرية والحجاب الجسماني فيرى الحجاب ويسمع الخطاب : ( و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) فعند ذلك يمتد له خطاب من الهواء في جميع ما يحدث في الكائنات فيصير عيسوى الحال : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فيصير الملائكة ومؤمنو الجن بحكمه وطاعته وينخرق بينه وبين الله ووزنة يعلم بها خلاصة صفاء أسرار الكائنات ولكن بشرط خير العلم والعمل بصدق من غير تجربة . فإذا هبت نسمات اللطف برفع حجاب الغفلة . انقلبت له الكائنات على ما يريد إذ الإرادتان امتزجتا : واحدة كما سبق في أحوال الصوفية من قولهم : إذا أبصرتنا أبصرته . . . و إذا أبصرته أبصرتنا فيصير الناسوت معنى لطيفا يحدث له من الغيب قوة يقبل بها جميع الواردات عليه فمنه ثمار الكرامات والتحدث بالأمور الغيبيات يعرفه الباحث من جنسه وسائر الطير له منكر فتتجوهر النفس بزوال الأعراض الفاسدة عنها فتصير قدسية لا يخفى عليها الأمور الغيبية فإن قلت هذا نوع مشاركة عزت على الأنبياء فكيف ينالها الأولياء . فأعلم أن اصل الغيب هو من الله القديم فمنته عليهم إطلاعهم على شيء من علوم الغيب : أما سمعته يقول : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من أرتضى من رسول ) وقوله من رسول وهو ستر على الحلال لئلا يحسب أجلاف العامة إنها مشاركة غيبية وهذا غير بعيد إذ خزائن الملوك يطلع عليها المملوك والأمور المستورة من المعشوق فقد يشاهدها العاشق الصادق قياسا بالصورة الحسناء يشاهدها مالكها وهي مستورة عن الغير : وتلك الأمثال نضر بها للناس وما يعقلها إلا العالمون . وقد سمعت الجنيد يقول كل أحد حلاج لكن ليس كل أحد خراج . وقال أبو يزيد البسطامي من وصل درجة التمكين فهو طبيب يقعد على سرير أسرار الخلق فيطلع بإذن مالكه على خواطر أسرار الملوك مثل اطلاع مملوكك المحبوب عليك في حالاتك : أليس فاطمة السلماسية كانت تخرج وقد أذن مؤذن الظهر من سلماس فتصلي الظهر جماعة في بسطام فإن قلت خذا غير ممكن فإنها حالة لم تنخرق للأنبياء فكيف لغيرهم . الجواب إنك تحكم على الله أو على نفسك . فإن كان على نفسك فأنت أخبر . وأن كان على الله فأنت أصغر . فمن عجز عن عدد عروقه وعظامه ولا يحصر عدد أدوار عمامته على هامته فكيف يدخل بين الله وبين غلامه ثم ما علمت ما أعطى الله للأنبياء . فإن علمت بعض علومهم من طريق النقل فالمعجز يكذب العقل ويحكم عليه . فبواطن أسرارك لا يطلع عليها ولدك ولا جارك فكيف مليكك وجبارك . وقد قال لك : فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من أرتض من رسول . وأنت غير واصل إلى كشف ستور الوصول فإذا بلغت المنى والسؤال تعرف ما بين الله والرسول . وقد قلنا لك سابقا : جاهد ولا تجاهد فالمجاهدة تزيل غبار الشكوك مع المشاهدة وأنت معصب العين بعصابة حطام الدنيا وهمتك ضعيفة خسيسة فأين خنافسة الكنيف من المقام الشريف . وحسن الظن وهو الإكسير العظيم الذي به يقلب كل جهل علما . فمن تمسك به فقد استراح فهذا نوع المحبة والشوق والمكاشفة على وجه الاختصار .
فصل في الزواجر والوعظيات
Sayfa 93