الجزء الأول
مقدمة الجزء الأول
1 - حروب التبع أسعد اليماني في الصين
2 - وصية كاهنة الجبل
3 - التبع حسان يفني قوم زرقاء اليمامة
4 - الهجوم الليلي والتخفي بأغصان الأشجار
5 - حصار الشام وفلسطين
6 - تحقق نبوءة زرقاء اليمامة
7 - خديعة التبع المتجبر
8 - العرس الدامي
9 - اغتيال الصحصاح ابن التبع حسان
10 - انتقام البسوس
11 - التبع ذو اليزن يحكم حمير
12 - البحث عن كتاب النيل ومنابعه
13 - ملك بعلبك يجمع مستشاريه
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني
14 - التعريب داخل أفريقيا
15 - مؤامرة ملك الحبشة لقتل ذو اليزن
16 - زواج ذو اليزن من قمرية
17 - جنون ملك الحبشة
18 - مراسم عرس التبع
19 - قمرية تأخذ مكان ذو اليزن
20 - ذو اليزن التبع المحتضر
21 - الحرب الضروس في القرن الأفريقي
22 - حروب النيل
23 - سيف أرعد يصرخ: ولدي جثة بلا رأس
24 - مهد التباعنة
25 - سيف بن ذي يزن تبع حمير المنتظر
26 - سيف يفك حصار مدينة أفراح
27 - موت قمرية
28 - الرحيل إلى مصر العدية
29 - سيف يتوغل في أصفهان
30 - اغتيال الملك سيف بأحراش الدلتا
الجزء الأول
مقدمة الجزء الأول
1 - حروب التبع أسعد اليماني في الصين
2 - وصية كاهنة الجبل
3 - التبع حسان يفني قوم زرقاء اليمامة
4 - الهجوم الليلي والتخفي بأغصان الأشجار
5 - حصار الشام وفلسطين
6 - تحقق نبوءة زرقاء اليمامة
7 - خديعة التبع المتجبر
8 - العرس الدامي
9 - اغتيال الصحصاح ابن التبع حسان
10 - انتقام البسوس
11 - التبع ذو اليزن يحكم حمير
12 - البحث عن كتاب النيل ومنابعه
13 - ملك بعلبك يجمع مستشاريه
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني
14 - التعريب داخل أفريقيا
15 - مؤامرة ملك الحبشة لقتل ذو اليزن
16 - زواج ذو اليزن من قمرية
17 - جنون ملك الحبشة
18 - مراسم عرس التبع
19 - قمرية تأخذ مكان ذو اليزن
20 - ذو اليزن التبع المحتضر
21 - الحرب الضروس في القرن الأفريقي
22 - حروب النيل
23 - سيف أرعد يصرخ: ولدي جثة بلا رأس
24 - مهد التباعنة
25 - سيف بن ذي يزن تبع حمير المنتظر
26 - سيف يفك حصار مدينة أفراح
27 - موت قمرية
28 - الرحيل إلى مصر العدية
29 - سيف يتوغل في أصفهان
30 - اغتيال الملك سيف بأحراش الدلتا
سيرة الملوك التباعنة
سيرة الملوك التباعنة
في ثلاثين فصلا
تأليف
شوقي عبد الحكيم
الجزء الأول
مقدمة الجزء الأول
الملوك التباعنة
خلال إقامتي في بريطانيا التي امتدت نحو ثماني سنوات، كنت أتردد خلالها على مكتبة المتحف البريطاني، عثرت على مخطوطة هذه السيرة الملحمية الكبرى «للملوك التباعنة» الذين ورد ذكرهم بالقرآن الكريم بضع مرات، ولا نعرف عنهم شيئا، إلى أن وقعت هذه السيرة بين يدي، فعكفت على دراستها، وتعرفت من خلالها على ذلك التاريخ الغابر لأقوام وكيانات وقبائل جنوب الجزيرة العربية في اليمن ودول الخليج وعدن وحضرموت وسبأ وذي نسور، لسير الملوك التباعنة الذين كانت لهم حضاراتهم الغابرة أو المندثرة، جابوا ربوع الشرق الأقصى وأواسط آسيا، ووصلت جحافلهم حتى تخوم الصين، وأوصلوا التعريب إلى مناحي القارة الآسيوية، متضمنة: شبه القارة الهندية وأفغانستان، والباكستان، وتركستان وأذربيجان وبلوخستان، وعشرات الكيانات الإسلامية التي تنتهي بما هو متعارف عليه بكلمة «ستان» داخل منظومة الاتحاد السوفييتي القديم، كما نجدهم في الشيشان وغيرها.
ومن هنا - وبلا جدال - كان التعريب أسبق من الإسلام، بل هو الذي مهد الطريق له ليواصل فتوحاته وانتشاره في المشرق والمغرب، وعلى رأس من لعبوا واضطلعوا بهذا الدور هم ملوك التبابعة أو «التباعنة» الذين كان يحلو للتبع منهم القول: «قد دعتني نفسي أن أنطح الصين.»
وبالفعل كان يعد الجيوش الزاحفة إلى تخوم الصين، ويواصل فتوحاته داخلها، وهو ما كشفت عنه الحفائر الأركيولوجية التي أثبتت، بما لا يترك مجالا للشك، وصول تلك الأقوام العربية المحاربة إلى تلك البلاد الموغلة في البعد، والتي خلفت آثارها وتراثها الحضاري والإثني في هذه البلاد، ويكفي القارئ معرفة أن من بين أولئك الملوك «التباعنة» «بلقيس ملكة سبأ» ومعاصرتها للملك الحكيم سليمان بن داود، وهذا في أحقاب لاحقة، كما يكفي معرفة أن حضارات بكاملها كانت موجودة ومتعارف عليها حفريا في ربوع الشام وفلسطين، وتعرف باسم «تدمر» وهو اسم إحدى الملكات اللائي ينتمين للملوك التباعنة، فهي ابنة حسان اليماني المتعارف عليه شعبيا باسم «ذو اليمنين» وهو ما كان يطلق عليه.
كما أن من بين أولئك الملكات المنتميات أيضا للملوك التباعنة الملكة المعروفة: «زانوبيا» التي قاومت الإمبراطورية الرومانية طويلا إلى أن وقعت في الأسر وسحبت كأسيرة هي وعرشها إلى روما في حوالي عام 200 قبل الميلاد.
أما آخر الملوك التباعنة فهو الملك «ذو اليزن» المعروف بسيرته الكبرى، وكذلك ابنه الملك «سيف بن ذي يزن»، وهذان الملكان بالذات لعبا الدور الأكبر في التعريب داخل القارة الأفريقية، بدءا بمصر والسودان، أو بالأصح بدءا بالقرن الأفريقي المتاخم لليمن وإثيوبيا والسودان ومصر، وبقية ربوع القارة الأفريقية بشكل عام، حتى إذا ما جاءت الفتوحات الإسلامية وجدت الأرض ممهدة لاستنبات وانتشار الإسلام في القارة الأفريقية أو جانبها الأعظم الذي لم يندحر إلا مع بداية رحلات الاستكشاف الأوروبية وما تبعها من رحلات تبشيرية، وتحول بعض هذه البلدان والأقوام الأفريقية إلى المسيحية.
1
كذلك ترد مأثورات التباعنة في قصة أوفابيولة «زرقاء اليمامة»؛ تلك الأميرة واسعة البصيرة، والتي حذرت قومها من غزو الملوك التباعنة، حين صعدت إلى أعلى أبراج المدينة وظلت تهيب بقومها صارخة:
يا جديس يا قوم، لقد مشت إليكم الأشجار وجاءتكم حمير.
يا جديس يا قوم، لقد مشت إليكم الأشجار وجاءتكم حمير.
وبالفعل أنهى أولئك الملوك التباعنة حضارات وأقواما أو كيانات سابقة، مثل قبائل: عاد وثمود وجديس وطسم والعماليق ورائش؛ أي حوالي اثنتي عشرة قبيلة وكيان فنيت بكاملها من الوجود في ذلك الوقت المبكر السابق للإسلام أو ما تعارفنا عليه بالجاهلية، وإن كانت تلك الجاهلية تزخر بالعديد من الأحداث والحضارات والفتوحات الموغلة في القدم، وفي العصبيات والتطاحن العرقي والقبلي، واعتبار الحروب والقتال، نوعا من الرياضيات القومية؛ اتساقا مع مقولة الأب السالف لهذه الأقوام الحميرية، وهو يعرب بن قحطان - أو يقطان - أبو العرب أول من تكلم العربية. - أيها الناس إن لم تقاتلوا الناس قاتلوكم، وإن لم تسبوهم سبوكم؛ فقاتلوهم قبل أن يقاتلوكم؛ فليس جمع خيرا من جمع، ولكن جد خير من جد. •••
وفي الجزء الثاني من هذا الكتاب، نتعرض لآخر الملوك التباعنة، وهما: الملك ذو اليزن وابنه الملك التبع سيف بن ذي يزن.
فقد لعب الملك «ذو اليزن» وابنه الملك سيف الدور الهام في التعريب داخل ربوع القارة الأفريقية، وتذكر سيرتهما أن كلا منهما كان يبحث عن «كتاب النيل»، وهو ما يمكن أن يكون مرادفا للبحث عن منابع النيل؛ ذلك أنهما كانا متفوقين إلى أقصى حد في تلك الفترة الموغلة في القدم بالنسبة للسدود المائية والتحصينات الزراعية، ويكفي أن نعرف أن سد مأرب كان واحدا من بين ثمانية وثلاثين سدا منتشرة في ربوع اليمنين وبلدان الجنوب العربي، فقد كانت حضارة زراعية هائلة بما يسر لها من الحركة والتجوال والفتوحات، وخاصة وأن هذه البلدان أيضا هي التي كانت تشكل الجنوب العربي، وكانت بلدانا أو شعوبا ذات صفة بحرية نتيجة لوقوعها على بحر العرب أو الخليج العربي، واتصاله بالمحيط الهندي، من هنا كان يطلق عليهم «فينيقيو البحر الجنوبي».
2
فإذا ما كان هناك فينيقيو البحر الأبيض المتوسط في الشام وفلسطين، فأولئك كانوا فينيقيي البحر الجنوبي وكانوا كشعوب بحرية، تمكنوا من التوغل في ربوع آسيا الوسطى والشرق الأقصى حتى تخوم الصين ذاتها، والأكثر أهمية ما يذكره التاريخ - المندثر - لأولئك الملوك «التباعنة» أن سبعة فراعنة خرجوا منها وحكموا مصر.
3
ولعلني أسوق افتراضا بسيطا لا أعرف بالتحديد مداه، وهو أن باليمنين والجنوب العربي وعمان، توجد جبال نحاس هائلة، فهم يمتلكون إلى اليوم أكبر احتياطي نحاس في العالم كله، بمعنى أن العالم يمتلك جزئية صغيرة، ولكن الغالبية العظمى لاحتياطي النحاس في العالم ما زالت موجودة في اليمنين والجنوب العربي، بما ستكشف عنه الأبحاث المستقبلية، وهو ما كان يساعد على صناعة الأسلحة المستخدمة في ذلك الوقت من سيوف وخناجر ما تزال ماثلة إلى الآن.
4
خلاصة القول أن هؤلاء الملوك «التباعنة» هم أسلاف حضارة أكثر سبقا، وهي حضارة قحطان أو يقطان كما يذكر في العهد القديم، هي حضارة لا أغالي إذا ما قلت: إنها انتقلت مبكرا ربما منذ الألف الثاني قبل الميلاد إلى أمريكا الوسطى والجنوبية، وعرفت بنفس الاسم فيما بين المكسيك وبيرو، والملفت للنظر أن بها معظم الجسد الشعائري والعقائدي والفولكلوري أو التراثي - بعامة - للعرب، كما أن بها أهرامات يبدو أنها نقلت بكاملها من مصر، وربما هذا ما دعا أحد المستكشفين أو الرحالة النرويجيين منذ حوالي عشرين سنة إلى محاولة إثبات كيف انتقلت هذه الحضارة وبخاصة أهرامات مصر إلى أمريكا الجنوبية، وكان المقصود بها حضارة قحطان أو يقطان أسلاف الملوك «التباعنة».
أما بالنسبة لسيرتنا عن هؤلاء الملوك فتبدأ بإعداد الملك التبع «أسعد اليماني» لتسعة ملوك متحالفة تحت إمرته مثل أجاممنون في حرب طروادة متخذا قراره القائل: «قد دعتني نفس أن أنطح الصين.»
وهكذا واصل الزحف كملك الملوك - أجاممنون - إلى تخوم الشرق الأقصى والصين، إلا أنه وقع فريسة لخيانة أحد ملوك الصين، الذي أوعز إليه بالمساعدة وتعرف الطرقات والمسالك، بينما كان يضمر له خيانة كبرى أوقعت به وبجيوشه في الكثير من المآزق والخسائر حتى إنه فقد أربعة من أبنائه في تلك الغزوة، اعتاد كل مساء أن يحضر رءوسهم على صينية من الذهب الخالص مغطاة بالرماد ويظل يبكيهم نادبا قبل أن يأوي إلى فراشه.
وعندما تعرف على خيانة الملك الصيني استقدمه وقطع لسانه من دابره، ثم وضعه في قفص ضخم من الذهب الخالص وأجلسه مقربا من مجلس حكمه كما كان يتعامل معه من قبل في كل اجتماع من اجتماعاته، حتى مجالس حربه ليصبح بلا فائدة تذكر، فلا يتكلم أو ينطق وجعل منه عبرة للخيانة على هذا النحو، إلى أن قرر مجلس حربه العودة بالملك التبع أسعد اليماني والانسحاب من مجاهل الصين والرجوع إلى اليمن والجنوب العربي.
وقبل أن توافي المنية ذلك التبع المتجبر أسعد استقدم ابنه التبع الذي سيخلفه على عرش حمير وعلى التباعنة، وهو «حسان اليماني» الذي عرف في الوجدان الشعبي من المحيط إلى الخليج بذي اليمنين، قائلا له: لا تضجعوني فيضطجع ملككم، بل ادفنوني واقفا ليظل ملككم شامخا.
وهكذا دفن ذلك التبع السلف أسعد واقفا في أعماق الصخر.
وعادت الجموع إلى عدن وسبأ وذي النسور وحضرموت بعد أن وزعت الغنائم التي أشرفت عليها الكاهنة الأم الكبرى أو قائدة الجيوش التي كان لها ثلث المشورة، كما هو متفق عليه بالنسبة للكاهنات المحاربات كأثينا في حرب طروادة، والجازية في حروب الهلالية، وهي «البسوس».
وحين مات استدعت البسوس حسان بن أسعد ليكمل مشوار التبع والده ، بضرورة الالتزام بوصيته وهي الذهاب إلى كاهنة «جبل ضهر» وتنفيذ كل ما تشير عليه من مشورة؛ قائلة: في كل ما تشير عليك به كاهنة جبل ضهر اسمع لقولها. حتى إذا ما ذهب إلى كاهنة جبل ضهر بادرته قائلة: لقد تأخرت كثيرا، فقال: عن ماذا؟ قالت: عن حكم حمير، فمن مغارة جبل ضهر هذه خرج سبعة فراعين عظام حكموا مصر، وأجلسته على كرسي من الذهب الوهاج مغطى بالحيات والعقارب؛ قائلة له آمرة: اجلس، فجلس، وأشارت عليه بقتل أول من يصادفه حين خروجه من باب مغارتها خارجا، وكان أول من صادفه هو أخوه الوحيد المدعو «عمرو ذو الأزعار» إلا أنه تردد في قتله وأصابته حمى حاوطته إلى أيام، وما إن فاق منها حتى احتضن أخاه عمرو ووضع خنجره في جنبه وقتله.
وهكذا حكم ذلك التبع حسان اليماني ولقبه ذو اليمنين حمير وتوابعها، واتخذ وزيرا له اشتهر بالحكمة والعدل يدعى «يثرب» فقربه منه إلى أن استقدمه ذات مساء وأنشد قائلا:
يقول التبع اليمني المسمى
بحسان فما للقول زورا
ملكت الأرض غصبا واقتدارا
وصرت على ملوك الأرض سورا
وطاعتني الممالك والقبائل
وفرسان المعامع والنسورا
لقد أخبرت عن بطل عنيد
شديد البأس جبارا جسورا
وقالوا إنه يدعى ربيعة
أمير قد حوى مدنا ودورا
تولى الأرض في طول وعرض
فكم أخرب وكم شيد قصورا
فقصدي اليوم أغزوه بجيشي
وأترك أرضه قفرا وبورا
أسير بهم إلى تلك الأراضي
وأملك للقلاع وللقصورا
ويبقى الحكم لي برا وبحرا
ويصفو خاطري بعد الكدورا
وهكذا أمر ذلك التبع حسان بدق الطبول النحاسية العملاقة المعروفة لدى «تباعنة» اليمن «بالرجروج» وهو أعظم الطبول، كان يدقه عشر من العبيد الفحول، وهو من صنعة ملوك التباعنة العظام، وهكذا سار بالجيش إلى أن افتتح الشام وفلسطين.
وكما هو معروف تتشابك - أو تتزاوج - هذه السيرة المندثرة على طول البلدان العربية، التي لم أعثر لها على أثر خلال سنوات جمعي للمأثورات الشفهية والسير على مدى أربعين عاما، مع سير أخرى إلا في مخطوطة مكتبة المتحف البريطاني تتشابك مع سيرة أخرى تؤرخ لحرب البسوس القبائلية الشهيرة، التي امتدت 41 عاما على طول ربوع لبنان والشام وفلسطين.
أما الجزء الثاني من هذه السيرة فيتضمن تاريخ آخر التباعنة، وهو الملك ذو اليزن وابنه الملك سيف.
شوقي عبد الحكيم
القاهرة، يوليو 1996
الفصل الأول
حروب التبع أسعد اليماني في الصين
حين استشرى السقم والمرض بالملك - التبع - أسعد اليماني، الجد السالف للملك سيف بن ذي يزن، وهو يغزو بجيوشه المتحالفة الجرارة تخوم الصين آثر أمراؤه وقادة فيالقه الاجتماع والتشاور في ذلك المصاب الفادح الذي نزل بملكهم التبع أسعد، ومضى يمتص منه رحيق حياته يوما بعد يوم، حتى إنه لم يعد يقوى على القيادة والمنازلة واتخاذ القرار، ومواصلة الزحف المتلاحق لافتتاح المدن على طول غرب آسيا وأواسطها مرورا ببلاد الهند والسند وأذربيجان والتركستان، إلى أن وصلت جيوشه العربية إلى أعلى تخوم الصين.
وكان لا يكف لحظة عن معتقده الدفين الراسخ المتوارث عن جده الأعلى قحطان. - أيها الرجال، إنكم إن لم تحاربوا الناس حاربوكم، وإن لم تغزوهم غزوكم، لا مكان لمغلوب على ظهر هذه الأرض وما عليها من بشر ودواب.
الآن لم يعد الملك التبع يقوى على مجرد الكلام، بل لقد ثقل لسانه وبردت أطرافه، ولم يعد يشير إلى نبض الحياة فيه، سوى حدقتي عينيه الجاحظتين اللتين تتحركان في ريبة واستطلاع لكل ما يحيط به، وهو راقد على فراشه، حتى لوجهي ولديه «عمرو وحسان».
وإن حدث ونطق لسانه سوءا تعبيرا عن غله وحقده الدفين، نطق باسم ذلك الملك الصيني الذي اتخذه دليلا، يقوده وجنوده داخل مجاهل بلاد الصين، فكان أن غرر به الدليل الحليف إلى أن أفقده طريقه وهدفه وأضاعه داخل تلك البلاد المترامية، بوهادها وجبالها الشاهقة وأنهارها وصحاريها الجرداء. - ذلك الدليل الآسيوي الخسيس.
ورغم أن التبع حسان، أدرك بنفسه في نهاية المطاف خيانة حليفه، فأوقع به انتقامه على مرأى من قومه وقبائله وزوجاته وجواريه وأبنائه، وذلك بأن استقدمه ذات ليلة وواجهه بادعائه وخداعه، وما انتهى إليه أمر الجيش العربي.
وحين أسقط في يد ذلك الملك الدليل المتآمر، وحاول معاودة الدفاع عن نفسه، استل التبع حسان من فوره خنجره من وسطه وتقدم منه على مرأى من الجميع، واستخرج لسانه من فمه وقطعه عن آخره بخنجره المشرع. - الآن أريحك من هذا اللسان الكاذب.
ولم يكتف بهذا، بل إن التبع اليمني سجنه داخل محفة أو قفص من الفولاذ للحكم وأمر حرسه وحجابه بوضع القفص إلى جانب قاعة عرشه، وهو بداخله حي يرزق يرقب ويعي ما يحدث من اجتماعات وخطط - كما كان في السابق - دون أن ينطق بكلمة ... بحرف.
ومن هنا اكتفى الملك أسعد بمراقبة تعبيرات وجهه وهو يسمع ويرى مسار الخطط الغازية لبلاده، دون أن يقوى على النطق والحركة، بعدها ساءت حالة الملك وحل به السقم هو بدوره، من صديقه الصيني، الحميم الذي أولاه كل ثقته، ولم يحصد منه سوى الخيانة والمرارة والضياع في مجاهل هذه البلاد سنوات طويلة. - أهكذا يصنع بالصديق!
فكثيرا ما كان التبع أسعد يمضي يشاركه طعامه وشرابه وحدهما داخل قاعة عرشه، كما كانا سابقا، وقبل افتضاح أمره، طارحا عليه كل ما يعن له من أمور حقيقية؛ سائلا: ما رأي صديقي؟
متلقيا إيماءاته من داخل سجنه وأصفاده متلمسا بنفسه صحة أقواله أو إيماءاته مدركا خسيسها من أصيلها، وله طبعا القرار الأخير.
فحتى الخرائط ومسار المعارك ومعالم الطرق والمسالك والبلدان، كان يدفع بها إليه، طالبا مشورته وإشارته. - لعلني أصبحت أعرفك أكثر فأكثر عن طريق اكفهرارك قبل لسانك أيها الصديق الوفي الأخرس.
ويبدو أن كل ذلك، لم يكف غليل التبع أسعد، وهو الذي أخلص له، منذ أن جاءه مخلوعا ذليلا ينزف كمدا مما فعله به ملوك الصين، فكان أن احتضنه ورد إليه ملكه وكامل سلطاته وممتلكاته وبلاده، وقربه منه السنوات الطوال قبل أهله وعشيرته ومستشاريه ورءوس القبائل: بل وحتى ولديه عمرو وحسان.
إلى أن تكشف له وجهه؛ وجه الصديق الذي قاده إلى متاهات الصين، كمثل غريق، تودي به رياح السموم الهوجاء إلى الغوص في رمالها، هو وجنوده وقادة فيالقه بل وأربعة أمراء من أبنائه، فلذات كبده. - أهكذا يصنع بالصديق؟
حتى إذا ما استفاق التبع المتجبر الغافل لما حل به، واستدار مستطلعا وجه الصديق الحليف الدليل، كان قد أضاع أخلص رجاله وجيشه وأولاده الأربعة.
وهكذا حطت عليه الهموم الثقال، فكان يأمر حجابه بإحضار رءوس أبنائه الأربعة على أربعة أوعية على شكل صوان مصاغة من الذهب الإبريز ومغطاة بالرماد الذي تعتليه الرءوس باكيا متحسرا على مرأى من الصديق: وا ندماه!
وهكذا تهاوى التبع أسعد نهبا لأحزانه الدفينة، حتى إنه - وعلى حد قول المقربين منه، ومنهم ما تبقى من ذريته، عمرو وحسان - لم يعد يقوى على إتيان الفعل ومعرفته. - أين نحن؟
ومن هنا جاء اجتماع الأمراء التسعة الذين كانوا تحت إمرته، مطالبين بضرورة عمل شيء للخروج من ذلك المنزلق القاري الذي لا قبل لهم به، ولو استدعى الأمر ضرورة الانسحاب والعودة إلى ربوع اليمن، ما دام الملك - الغافل - أصبح لا يعي مجرد موقع جيشه من بحار بلاد الصين المتلاطمة، وما دامت الخسائر أصبحت تلاحقهم من كل حدب وصوب، «بل وتنشق الأرض عليهم انشقاقا كل مطلع فجر وغروب.»
حتى إذا ما استقر رأي الأغلبية على ضرورة الانسحاب والعودة إلى جزيرة العرب وربوعها شمالا وجنوبا، لم يجد ولداه - عمرو وحسان - بدا من تأييد قرار العودة، ودون حاجة لأوامر التبع السقيم المريض.
فالأكثر حكمة في مثل هذا القرار، هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مغانم تلك الحروب القارية التي طال أمدها في ربوع آسيا الوسطى والأناضول حتى مداخل الصين، والعودة بها إلى اليمن وجزيرة العرب.
كما أن الأكثر أهمية هو تقبل الأمر الواقع باحتضار «التبع المتجبر» لدفن جثمانه واقفا أو منتصبا حسب وصيته بين رفات أجداده التباعنة، كما أشار في وصيته. - لا تضجعوني فيضطجع ملككم، بل ادفنوني واقفا ليظل ملككم شامخا.
ومن هنا أعدت المراكب تمهيدا لرحلة العودة إلى ربوع جزيرة العرب وموانئها البحرية، فسيقت وحملت الغنائم والأسلاب، وحمل التبع الراقد بعرشه ورءوس أبنائه القتلى وأسراه، وسجينه الملك الآسيوي مقطوع اللسان إلى ظهر السفن دون إعلامه «بقرار العودة والاندحار المفاجئ.»
وأقلعت السفن عائدة باتجاه المحيط الهندي وبحر العرب، يسبقها الرسل إلى ربوع الجزيرة العربية وكياناتها شمالا وجنوبا، إلى حضرموت وعدن وسبأ والحجاز وذي نسور.
فأقيمت الأفراح والزينات لاستقبال الرجال من المحاربين وعلى رأسهم التبع اليمني الغازي أسعد وولداه عمرو وحسان.
وهكذا أفلح الجميع في إخفاء تحركات الجيش المنسحب العائد عن التبع القائد رأس التحالف القبائلي العربي، إلى أن حطت السفن رحالها على شواطئ بحر العرب، وخرجت الجموع المنتظرة من زوجات وأمهات وأبناء وعجائز لاستقبال الرجال العائدين، حينئذ أدرك التبع الراقد ما حدث.
فما كان منه إلا أن حل وثاق صديقه وأسيره الملك الآسيوي مقطوع اللسان وأكرم وفادته هو وأهل بيته. - أنت الآن ضيفي، أيها الصديق.
وما إن انتهت مراسم توزيع الغنائم وأسلاب الحرب الطويلة المضنية على رءوس القبائل والعشائر والكيانات المشاركة التي أشرفت عليها الأميرة «البسوس» أخت التبع المريض، حتى تفاقمت حالة الملك الصحية.
حتى إذا ما أدرك هو بدوره - أي التبع - مدى اقتراب منيته، استدعى ابنه الأكبر حسان، ومضى يتطلع في وجهه طويلا مسرا إليه في ضعف بوصيته الأخيرة قائلا: اذهب إلى جبل «ضهر» بالقرب من صنعاء وأطرق باب سيدة الجبل بكهف «بنور»، وأبلغها باقتراب منيتي وموتي.
تنهد التبع طويلا في إعياء، وهو يجاهد في إطلاع ابنه الأكبر حسان اليماني على وصيته الأخيرة، وكان قد اصطفاه ليخلفه على عرش التباعنة - ملوك اليمن العظام - من بعده: لا تخبر أحدا بما تسمعه أذناك مني، قبل أن تجتمع بسيدة جبل ضهر.
أشار مهددا بطرف إصبعه: وفي كل ما تقوله لك، اسمع لقولها.
بدا وجه الملك التبع الوالد أسعد، لابنه حسان واهنا متحسرا كئيبا تحت أنوار الشموع والقناديل.
ظهر له كمن يندب حاله وانقضاء أجله وهو يتمتم لنفسه: كل شيء احتلنا عليه، إلا الموت غلبنا.
وحين حاول حسان الاقتراب أكثر لإراحة رأس أبيه، اعترضه الأب مشيرا عليه بلهجة التأكيد: اسمع لقولها.
وهو يعني بذلك سيدة جبل «ضهر».
أومأ حسان لوالده منسحبا، مستديرا باتجاه باب القاعة، لتقع عيناه على شقيقه الأصغر «عمرو» الذي بدا مأخوذا مكفهرا من هول احتضار الوالد التبع.
توقف حسان في مواجهته كمن يستطلع تعبيرات وجهه قائلا لنفسه: «أتراه كان يسمع متلصصا ما جرى بيني وبين أبينا.»
وحين حاول عمرو الإفلات من نظراته والدخول مستطلعا حالة أبيه، اعترضه حسان مستديرا مشيرا إلى غطيطه الذي ارتفع شخيره قائلا له: دعه ينام.
وهنا اندفع الأمير حسان كالتائه الغائب عن وعيه، من هول تلك اللحظة التي كأنها دهر بحاله، والتي أنصت فيها إلى وصية والده «التبع المتجبر» متجولا وحده داخل ردهات القصر الشاهقة، مبعدا عنه كل من حاول الاقتراب منه مستفسرا عن حالة الملك من أمراء وشيوخ قبائل ومستشارين.
كان كل ما يشغل بال حسان ويستولى على كل فكره وخلجاته، تلك المهام الجسام التي ستلقى على كتفيه والتي تتهاوى تحت ثقلها هامات أعلى الجبال قبل الرجال، وهي أن ينام الليل ويصحو، آخذا مكان أبيه في قيادة تلك الجموع المتنافرة، من قبائل وأقوام، وأن يقتل ويغتال في وضح النهار دون أدنى رحمة.
تساءل: كيف؟
وهو الذي حاول جاهدا طويلا الابتعاد عن شهوة الحكم والتسلط، منشغلا بقراءاته وأسفاره البعيدة، لكن دون طائل.
أعاد مسترجعا كلمات أبيه، وذلك الوجه القبيح الكئيب، لسيدة جبل ضهر، كيف له أن يسلم أمره أو قياده لامرأة متوحشة قاسية الملامح، تقبع داخل كهفها أو جحرها كمثل حية رقطاء، «تتغذى بمخ البشر»، كما يقولون.
وكيف له أن يتقبل وصاياها ونصائحها. - كارثة.
وقبل أن يفيق حسان من طلاسم أفكاره كانت الأصوات النائحة قد ارتفعت من كل جنبات القصر تندب موت والده التبع أسعد.
وعلى الفور دوى قرع الطبول العملاقة من خارج القصر وأعلى سفوح الجبال المحيطة معلنة موت الملك التبع أسعد، وكان صدى دوي الطبول يتردد في كل مكان كالهدير.
وسرى الخبر كالنار في الهشيم من مدينة إلى أخرى، ومن مضارب قبيلة إلى ما يجاورها، فارتفعت أصوات النساء النائحات وعقدت اللقاءات بين شيوخ القبائل وأمرائها، وارتفعت أصوات المنشدين بالأشعار الجنائزية التي تتحدث عن مآثر التبع الراحل وطموحاته وفتوحاته التي لم تفت في عضدها سوى الخيانة التي تعرض لها من ذلك الدليل الآسيوي، بل لقد وصل الحماس والحنق ببعض الأمراء وشيوخ القبائل، إلى حد المطالبة بإحضار ذلك الدليل الآسيوي - مقطوع اللسان - والانتقام منه علنا وعلى رءوس الأشهاد. - اقتلوه، اقتلوه!
وهنا تدخل الأمير الوريث «حسان» حائلا في حزم من وصول الجموع الثائرة التي امتلأت بها ساحات القصر إلى مطمورة ذلك الدليل الآسيوي لتصب عليه نقمتها دون رحمة؛ صارخا بها: ارجعوا، حذار.
فما فائدة الانتقام؟ بعدما نفذ المكتوب وأصبح الملك التبع جثة مسجاة ستوارى الثرى بعد لحظات.
بل إن الأمير حسان عاد مذكرا الجموع المتزاحمة الغاضبة بمدى ما لحق بذلك الدليل الآسيوي سلفا من عقاب، مشيرا إلى إقدام والده الراحل على جز لسانه في إحدى نوبات غضبه منه، صارخا: يكفي الآن ما هو فيه، أما الآن فهو ضيف حمير، أتسمعون!
الفصل الثاني
وصية كاهنة الجبل
اتخذ الملك التبع الجديد حسان وجهته ذات مساء إلى جبل «ضهر» مكدودا نهبا لخواطره المتضاربة، كانت أضواء المصابيح والشموع المشعلة تضيء سفوح الجبل العملاق، الذي تغطت متعرجاته وسفوحه وتضاريسه بالمضارب والخيام، يؤمها أتباع تلك السيدة - سيدة الجبل - من مرضى ومجاذيب ومعلولين.
وكانت جوقات الغناء الجماعي ذات المسحة الدينية الشعائرية تعلو من هنا ومن هناك، وهم يستخدمون في غنائهم وإنشادهم إيقاعات الدفوف الطاغية المثيرة لكل المشاعر الجسدية؛ حيث تتمايل عليها الجموع ميمنة وميسرة في غياب كامل عن كل وعي، وهي الجموع من سكان ذلك الجبل، من فقراء وأتباع ومعلولين ومشعوذين ودراويش ومرضى.
وما إن واجه حسان الجبل، حتى توقف بحصانه، لا يعرف أي المسالك يسلك، وأخفى من فوره وجهه بشاله مبعدا ملامحه عن العيون المستطلعة وأطلق العنان لحصانه راكضا من حول الجبل المائج بالحركة والغناء والحياة.
استوقفته في بعض الأماكن أصوات ذلك البكاء والعويل على أبيه التبع الراحل مشيرين إلى فرسه الحمراء:
كأنك «يا حمرا» بتصيري
تحت رياح الندابات
غاب اللي يعرف مقدارك
يملأ لك لحد عبارك
وإن خست من القمح يزيدك.
وما إن تلمس طريقه المؤدي إلى حيث مغارة تلك السيدة المنتشية بالدم، حتى مضى من فوره صاعدا لا يلوي على شيء، إلى أن توقف مستطلعا ودخل المغارة الموحشة الحجرية، المحاطة بالتماثيل الرخامية والمرمرية العملاقة، كمثل معبد شاهق.
ترجل عن حصانه، وتقدم منه على الفور من اقتاد الحصان إلى طاولته وربطه مقدما له الطعام في صمت وقور.
واستغرق التبع حسان طويلا في تأمل تلك المنحوتات التي صيغت من نفيس الأحجار الصلدة نصف الكريمة، لمعبودات وثنية ورموز وأشخاص، تعرف فيها على جدوده التباعنة اليمنيين الذين حكموا طويلا تلك البقاع، تعرف على «شداد بن عاد الكبير» وعلى «يشجب بن يعرب بن قحطان»، وعلى الكثير من تماثيل والده التبع أسعد بالذات.
ودمعت عيناه حين شاهد منحوتات إخوته الأربعة الذين أودت بحياتهم تلك الحرب الأخيرة المشئومة في ربوع الصين والشرق الأقصى، فكان موتهم السبب الرئيسي فيما حل بأبيه من أحزان ثقيلة عاتية، أنزلت ببصره وجسده السقوم، خاصة حين كان يجيء برءوسهم - المحنطة - المحفوظة، على أوعيتها الذهبية، ويتأملهم في حسرة نادما باكيا، الليلة بعد الأخرى، حتى إذا نام تحاصره الأحلام والكوابيس دون مهرب، واشتدت عليه أحزانه وأسقامه حتى أودت بحياته قبل الأوان.
وتهاوى حسان جالسا، وهو يرقب منزلق ذلك الجبل الهائل الذي تبدت له نيرانه المشتعلة على طول سفوحه وأخاديده كجمر هائل متقد. - يا لها من ليلة ... جحيم!
غمغم لنفسه مكتئبا آخذا رأسه بين ساعديه الاثنتين في حيرة: الجحيم بعينه؛ حكم حمير.
وكان قرع الدفوف العملاقة وأنين الرباب يصم أذنيه الاثنتين، وبدا المكان موحشا إلى حد دفع به دفعا إلى تحسس حسامه وخنجره، تأهبا للدخول. - تلك المرأة اللغز!
طالعته من جديد منحوتات إخوته الفرسان الأربعة الذين التهمتهم نيران الحرب الأخيرة المسعورة الواحد عقب الآخر، كمثل عقد منفرط. - الرحمة!
وما إن تحرك منفلتا داخلا إلى أغوار ذلك الكهف الرطب، حتى طالعته صورته المنعكسة على جدرانه الحجرية المشطوفة التي صيغت من نادر الأحجار الملونة والنفيسة، ما بين المرمر الأملس كمثل مرايا عاكسة، واليشب والعقيق والسليماني والياقوت الشديد الاحمرار.
تبدى له وجهه وهيئته منطبعة عبر مئات المستنسخات، التي لم تكن أبدا تعكس حالته الآنية ، بل عبر آلاف مؤلفة من الانفعالات والتبديات التي لم يكن يعرفها أو يشهدها من قبل في نفسه. - غرائب!
وسريعا ما انفتحت تلك المغارة المتعرجة المسالك والدروب التي تغطت جدرانها بالرءوس البشرية الحقيقية المسمرة بالجدران، والتي لا يزال بعضها يقطر بما يشابه الدم الأحمر، كما لو أن حادث قتلهم قد وقع لتوه، غمغم حسان لنفسه؛ متسائلا: أسرى!
بل إن أصوات العواء والنحيب والتوسل، من داخل ردهات الكهف ذاته وصلت مسامعه، طاغية على أصوات الدفوف العملاقة الخارجية.
توقف ملتاعا مأخوذا، إلى أن جاءه صوت المرأة. - حسان؟! - أجل! - تأخرت طويلا!
اندفع داخلا لا يلوي على شيء، إلى أن وجد نفسه داخل بهو فسيح لا يحده البصر، أحالته ألسنة النيران العملاقة إلى نهار جلي واضح المعالم والتفاصيل.
وفي آخر المكان انتصبت المرأة كمثل عملاق وقد تناثرت جدائل شعرها العسجدي الضارب إلى الحمرة حتى ليكاد يغطي جسدها كله، واقفة على شبه درج يقود إلى عرشها الباهر الذي لا يقل كثيرا عن عروش التباعنة ذاتهم، بيدها مغرفة، ومن هنا وهناك تخالطت روائح الشواء مع البخور المعبق داخل المكان. - أقول تأخرت كثيرا.
نطق سائلا: تأخرت عن ماذا؟
أجابت بصرامة: عن حكم حمير.
قال: أنا الآن تبع حمير.
عاجلته نازلة عن صرحها في حزم: لن تحكم حمير إلا إذا سمعت كلامي ونفذته بكل دقة يا حسان بن أسعد.
وما إن اقتنصت عيناها الواسعتان عينيه في وقفته حتى اعترته رعدة هائلة من قمة الرأس حتى أخمص القدم. - تعال.
تقدم منها طائعا كمثل منوم، إلى أن توقف مطرقا وهي تسر إليه: تذكر جيدا أنه من هنا، من مغارة جبل ضهر «خرج سبعة فراعنة عظام حكموا نيل مصر وديارها.»
أصم العواء الطاغي الذي لم يكن يعرف له مصدرا أذنيه من جديد. - أحقا!؟
وحين قاربته المرأة أحس دفئا يشيع في جسده وأطرافه، وأحس بها مثيرة في فرائها الأحمر القاني محاطة بألسنة لهبها وطلاسمها. - اجلس.
أشارت إلى كرسي بديع التكوين جانبا، وهاله أن الكرسي يعج بمئات الثعابين والحيات المنتصبة على قوائمها، وقد انفتحت أفواهها وحلوقها، وتمددت ألسنتها، كمن تعاني جوعا هائلا منذ دهر. - اجلس.
تراجع مأخوذا من هول المفاجأة غير المتوقعة التي واجهته بها تلك المرأة الدموية اللغز. - أين؟ - هنا على كرسي التباعنة العظام.
استدار من جديد مبتعدا متحسسا مقبض سيفه، في ذات اللحظة التي خطت فيها المرأة جالسة بكل ثقلها على الكرسي نفسه وفوق رءوس الحيات الجائعة الزافرة، التي خف فحيحها مستحيلا إلى مثل خوار خافت. - اسمع جيدا ما أقول يا حسان بن أسعد.
جاءه صوت أبيه المحتضر محذرا بطريقة لم يعهدها من قبل فيه، وكانت تلك آخر كلماته. - في كل ما تقول لك سيدة الجبل، اسمع جيدا.
تساءل غير مصدق: ماذا يحدث؟
عم صمت طويل، بدا فيه وكأن المرأة - الكاهنة - تستعرض أمامه قدرتها المعجزة غير العادية في الجلوس على الكرسي المليء بالحيات أمامه وأكداس حليها الذهبية اللامعة، تضوي وتلمع كمثل جمر متقد على أسطح جسدها البرنزي القائم.
جيدها، ذراعاها، خلاخيلها.
بل إن ما ضاعف من اندهاش التبع حسان، هو استسلام تلك الحيات منتصبة الرقاب، فاغرة الأفواه لجلستها على هذا النحو المشع بكل جسارة وتحد. - ماذا يحدث؟
تساءل بينه وبين نفسه، في ذات اللحظة التي اعتدلت فيها المرأة على ذلك الكرسي - المرعب - الذي ادعت منذ هنيهة بأنه «كرسي التباعنة العظام»، وأنه ما من حاكم لحمير، توانى عن الجلوس عليه على ذات رءوس الثعابين والحيات. - اسمع جيدا لما أقول.
من جديد اختلط صوتها، بوصية أبيه الواهنة له، والتي ربما كانت آخر ما نطق به من كلمات قبل أن يغمض عينيه، تائها في غيبوبة احتضاره إلى أن تلاشى عن الوجود. - في كل ما تقول لك سيدة جبل ضهر، اسمع لقولها.
مضت توغل في تأمله طويلا صامتة، ومتشاغلة بتلميس رءوس حياتها بكف يدها، في حنو. - تقدم يا حسان بن أسعد.
انتصبت من جديد واقفة متجهة إليه جاذبة في شبه أمر. - اجلس، قلت اجلس!
تهاوى من فوره جالسا على الكرسي الذي تهاوت رءوس ثعابينه متراجعة مستسلمة منكسرة، بينما دفعت له المرأة بإناء ليعب ما به من شراب. - اشرب.
وقبل أن يفرغ الإناء في جوفه عاجلته؛ قائلة: اقتل من فورك أول من تصادفه، حالما تتخلى عني خارجا من هذا المكان.
انسل حسان ينزف عرقا، مستندا بجدران المغارة، بينما طالعته صور وجهه على الأحجار البلورية، أكثر وحشة وتشويها، حتى إذا ما قارب مدخل المغارة، استل من فوره خنجره من غمده متقدما من أول من صادفه متسللا داخلا. - من؟!
ووصلت دهشته أقصى مداها حين ارتفع ساعده مشيرا محذرا صارخا: أنا عمرو ... أخوك ... يا حسان ... احذر!
اندفع منسلا خارجا باحثا عن حصانه ملقيا بجسده بكامله فوقه، مطلقا له أقصى عدوه نازلا عن ذلك الجبل المشئوم، بينما طرقات الدفوف العملاقة تحاصر سمعه، كمثل طبول رجروج أو طبول حرب همجية مستعرة.
ما إن أفاق حسان من تلك الزيارة - الكابوس - وأحداثها، تنفيذا لوصية أبيه التبع الراحل، حتى غمغم طاردا عنه تصوراته وهواجسه المرعبة السوداء. - لا، لا.
حتى اندفع داخلا عابرا ردهات قصره باتجاه غرفة نومه ملقيا بنفسه بكامل ملابسه ودروعه على فراشه محموما مغمغما: أقتل آخر من تبقى من إخوتي عمرو شقيقي، حدقة عيني؟!
تسللت إليه ابنته الوحيدة المقربة «تدمر» التي اعتاد استشارتها في كل صغيرة وكبيرة، فجذبها في حدة محتضنا إياها مسرا إليها بأحداث تلك الزيارة الموجعة التي نفذها بكل الدقة حسب وصية الوالد الراحل، إلى أن وصل بها إلى جد إقدامه - منذ هنيهة فقط - على قتل أخيه الوحيد الحبيب «عمرو». - لا، لا، لن أفعل وليذهب عرش حمير إلى الجحيم.
انفلتت ابنته «تدمر» من بين أحضانه وهي تخفي عينيها بأناملها العشر، كمن لدغ مانعة شرا جائعا. - عمرو، عمي، لا.
هبت من فورها مبتعدة، إلى أن استدارت سائلة والدها: هل كانت «السيدة» على علم بموعد قدومك إليها؟ - أبدا، لا أحد يعرف، حتى أنت يا تدمر، فأنا لم أخبر أحدا إطلاقا هذا النهار.
واجهت تدمر الجدار وهي تدقه بقبضتها في عصبية. - وما الذي أتى بعمرو تلك الساعة؟ - لا أعرف.
عم صمت ثقيل داخل المخدع.
وحين تناهى إليهما - حسان وابنته - سماع اقتراب أصوات خارجية وحفيف أقدام زوجته وجواريها، اندفعت تدمر من فورها خارجة مغلقة باب المخدع، مانعة الجميع، حتى أمها، من الاقتراب من غرفة الوالد التبع، وهو على تلك الحال؛ نهبا لهواجسه التي تطحن رأسه، صارخة في صرامة: أبي ليس مريضا ولا شيء من هذا، لكن حذار من الاقتراب الآن! ابعدوا جميعا.
عادت من فورها، إلى حيث أبيها المتوعك الذي من فوره مضى متقلبا على فراشة، كمن يعاني ألما معويا يمزق أحشاءه. - ابعدوا الآن.
اندفعت تدمر جارية باحثه عن طست وإبريق الاغتسال المصاغ من الذهب الإبريز، دافعة به تحت ذقنه وفمه لتلقي «القيء» الذي تزاحم في حلقه وفمه مسترجعا. - شربت من يدها، لا أعرف ماذا شربت من يد تلك السيدة المرعبة.
عاد الملك يتلوى من جديد معاودا القيء وكأنه يستخرج أحشاءه عن آخرها. - علقم!
جرت تدمر باحثة عن قطعة من الليمون ولما لم تجد. - ليمونة، ليمونة.
اندفعت متجهة إلى الباب المفضي إلى المطبخ الملحق بالمخدع، ومرة أخرى عادت تصرخ في وجه كل من حاول الاقتراب من غرفة أبيها: حذار، الليلة، أبي ليس مريضا، ابعدوا.
عادت إليه بعصير الليمون وبعض الأعشاب فتناولها التبع شاربا، مكوما كل وسادات المخدع من فوق رأسه ووجهه الغارق في بحار العرق، لإيقاف الصداع والألم، وسرعان ما علا غطيطه وصراخه: لا.
ما إن أفاق الملك - التبع - الجديد حسان بن أسعد اليماني، من كابوسه ومرضه وما ألم به عقب زيارته المشئومة لمغارة سيدة جبل ضهر، تنفيذا لوصية والده الراحل، حتى مضى من فوره مستشيرا أصدقاءه ومقربيه وكل من يثق فيه من قريب أو بعيد بما أشارت به تلك المرأة الطاغية. - ماذا أفعل؟
هل أنفذ الوصية؟
أأقتل أخاي عمرو؟
أنفذ الوصية!
مستحيل، مستحيل، لن يحدث أبدا. - ماذا في أيدينا، لا مهرب، إنها الوصية. - الوصية ... أخي ... لحمي. - الوصية.
حينئذ استبد الجنون بالملك الذي أخذ منه الخوف والفزع كل مأخذ ليس فقط من الوصية والجلوس على رءوس الأفاعي الكاشفة عن أنيابها، بل من كل ما أصبح يحيط به، وما هو مقبل عليه، وتلك المهام الجسام، التي وجد نفسه فجأة مطالبا بها، منذ رحيل والده التبع أسعد عقب كارثة ضياع جيشه وتيهه في ربوع الصين. - أخي.
كان يمضي متفرسا في الوجوه المحيطة به، التي تدفع به دفعا، إلى حيث هوة الانتشاء بالدم، ودم من، آخر من تبقى من إخوته الخمسة، وبعد أن فقد إخوته الأربعة الذين التهمتهم الحرب المستعرة في أقاصي المعمورة.
هنا يحل الصمت بالجميع وكأنهم يتخلون عنه، لائذين بذلك الصمت المستسلم الكتوم المتآمر.
وحتى ابنته المقربة «تدمر» وعمته «البسوس» لاذتا كلتاهما بذات الصمت المطبق دون نطق أو محاولة مد يد العون لغريق يهذي وحده على مرأى من الجميع.
وكأن الأمر لا يعني أحدا غيره، وهو الذي ما زال ينزف ليل نهار باكيا افتقاد إخوته الأربعة.
وظل حسان هكذا أياما امتدت لشهور لا يذوق للنوم طعما، بل بدا هزيلا إزاء مهماته كتبع وريث لعرش التباعنة القساة القلوب والسواعد والأطماع.
هكذا بدا حسان في نظر نفسه وسيدة «جبل ضهر» التي لها على الدوام الكلمة العليا، على حد قول والده تبع أسعد، قبل أن توافيه منيته. - في كل ما تقول لك سيدة جبل ضهر، اسمع لقولها. - كيف ... أخي؟
وتعمد حسان عدم الالتقاء بأخيه عمرو، والتطلع في حدقتي عينيه كمثل مذنب أثيم، بعد أن صادفه للحظة على عتبات مغارة جبل ضهر، إلى أن حانت لحظة التقائه به حين تسلل إليه عمرو بنفسه عن طريق عمته البسوس التي لم يكن يرجئ لها مطلبا.
فتقدم منه عمرو متضرعا معاتبا في حنو؛ سائلا: لماذا تخفي نفسك عني، هل حدث مني ما يسيء يا أخي حسان؟
فما كان من حسان إلا أن انتفض واقفا معانقا شقيقه الأصغر، متحسسا بيده اليمنى مكمن خنجره.
متراجعا: حبيبي عمرو، أنت في عيني، أنت حدقة عيني.
بل إن حسان أثقل على عمرو بالرجاء في أن يتقدم ليأخذ مهام الملك الجديد بدلا منه.
عندئذ بكى عمرو على صدر أخيه الأكبر حسان أحر البكاء وأشقه، متصورا أن أخاه الأكبر إنما يفتقد ثقته ويتخيله طامعا في حكم حمير، وهو الذي يحفظ له كل تقدير وإعزاز مدى العمر.
وحاول حسان جاهدا إفهام أخيه ثقل ما هو فيه وما يجثم على كاهله، ولكن دون جدوى إلا أن «عمرو» بدا كمثل ضحية وديعة مستسلمة تأخذ طريقها إلى محرقتها صاغرة. - أنت أخي ... أخي.
وتعقد الموقف بين الشقيقين، وهو الموقف الذي كانت عمتهما «البسوس» تنتظر نتائجه بفارغ الصبر، من خلف خبائها داخل أستار قصرها الذي جرى فيه اللقاء بين الملك حسان وأخيه الأصغر. كانت البسوس مثلها مثل سالف التباعنة لا شيء يعنيها في ذلك العالم الواسع سوى الاستبداد وغاياته في حكم تلك القبائل المترامية على شواطئ الخليج العربي والجزيرة واليمنين.
وهكذا فشلت خطتها هذه المرة أيضا في استعجال وحسم أمر «تاج حمير» الذي لن يكتمل نصابه إلا عقب الالتزام بالوصية، مهما ثقلت المهام إلى حد إراقة الدم الواحد، وهي التي كان يروق لها أحيانا إشعال نيران المحارق في الأجساد من بهائم وطيور وبشر.
كانت البسوس أو سعاد التي تعرف بأسمائها المتعددة، قد آثرت في سنواتها الأخيرة التفرغ الكامل لرعاية شئون عرش «التباعنة» وما يتطلبه ذلك من تدخل في أدق المشاكل والقضايا التي لا تنقطع، كتلك التي عادة ما تنشب وتستجد بين القبائل والعشائر والبطون والأقوام المترامية على طول الجزيرة العربية شمالها وجنوبها، والتي يضمها ذلك التحالف القبائلي الحميري أو القحطاني.
ومنذ شبابها المبكر كانت شديدة الحماس حفاظا على تقاليد عرش التباعنة؛ لذا آثرت رغم زواجها من أحد أمراء بلاد «السرو وعبادة»؛ أي «الأردن اليوم» واسمه «سعد»، وانتقالها منذ البداية للعيش في بلاده، والعودة معا للعيش في سبأ، بعد أن شق عليها الابتعاد عن متابعة ما يستجد من مشاكل حكم حمير وصراعات أقوامها، وفي البداية رفض زوجها «سعد» مطلبها ذاك وهو الانتقال ببيته وكيانه وممتلكاته للعيش في وطن الزوجة، إلا أن مرضا ثقيلا ألم به فجأة في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة أخيها التبع أسعد، عقب كارثة تشتيت جيشه في ربوع الصين.
هنا استسلم لها الزوج واستجاب لأطماعها ومنطقها في رعاية شئون حكم حمير بعد موت التبع ، فوافق على الانتقال معها إلى سبأ والعيش بها، ووصل الاندهاش - بالعمة - البسوس أقصى مداه، وهي ترقب من خلف ستائرها وخبائها، ما يحدث بين الأخ وأخيه من تعاطف.
وأفزعها أكثر ذلك التراخي الذي يبديه الأخ الأكبر حسان نحو أخيه الأصغر محتضنا إياه مارين على طول ردهات القصر، في ذلك الأصيل الذي بدت فيه الشمس الغاربة، عبر الشرفات والنوافذ، قانية الاحمرار كمثل جمر نار متأجج.
وأدهشها ضعف حسان وهو يتوسل إلى شقيقه الأصغر «عمرو» في التقدم ليأخذ مكانه ويعتلي عرش «التباعنة» معبرا بكل جوارحه عن شقائه وما أصبح يعانيه من آلام ليس في مقدوره احتمالها. - أنت أخي.
غمغمت البسوس وهي تفح في غل: عشنا وشفنا.
قالت لنفسها: أعلى هذا النحو من الرقة والسماحة يجيء تبع حمير، المنتظر!
وواجهته البسوس بهذا القول - المزري - ساخرة إلى حد أن حسان انسل خارجا من قصرها دون رجعة. - عمتي، اتركيني.
واستبد بالبسوس الغضب من تصرفات ابن أخيها حسان على هذا النحو - الحنون - الأرعن، حتى إنها لم تحاول أن تثنيه عن عزمه في الخروج من قصرها رافضا غاضبا على هذا النحو، وكل ما قالته له هو: انتظر، أنت ملك حمير.
وهي التي ما دبرت هذه الوليمة التي استدعت إليها - الضحية - أخاه الأصغر عمرو، إلا بناء على طلب، كليهما، من قاتل وقتيل إن صح القول.
خاصة عمرو، الذي أصبح في أيامه الأخيرة يعاني وحدة قاسية أقرب إلى الذنب من إشاحة أخيه الأكبر عنه على ذلك النحو.
وهو - أي عمرو - الذي اتخذه على الدوام صديقه ومثله الأعلى، وكان أكثر أهل حمير حماسا وتوقدا بتنصيبه ليعتلي عرش «التباعنة» مكان أبيهما الراحل أسعد.
بل وحتى عندما حاول الأخ الأصغر عمرو اللحاق بأخيه، وقبل وصوله إلى ركبه عند البوابة الخارجية، منعته عمته البسوس محتضنة إياه وهي تداعب بأناملها خصلات شعره الفاحم المجعد. - ارجع يا عمرو يا حبة عيني.
فلم تكن البسوس تكن كرها أو حقدا للأخ الأصغر، بل هي الوصية. - أنا لن أرتقي يوما حكم حمير.
هكذا صرخ في لوعة.
فالأمير الصغير الهائم دوما عمرو، كان على الدوام الأكثر قربا من البسوس، أرضعته صغيرا إلى أن شب ونما بين صدرها وجوانحها تحنو عليه الليل بطوله. - الوصية!
بكت بين ساعدي عمرو، الذي بدا لها - على عادته - تائها لا يدري ما يجري ويحدث من حوله منذ افتقاد التبع الأب. - ما الخبر؟ ألعلني آخر من يعلم؟
حاول ثانية الانفلات من عمته البسوس وابنة أخيه «تدمر» والجميع. - ماذا دها أخي حسان؟ سأذهب إليه الليلة بقدمي هاتين. - لا يا عمرو. - لماذا ... تمنعونني عن أخي ... صديقي؟
مضى عمرو في انفعاله وثورته يتطلع إلى الوجوه المشدوهة من حوله دون أن يعي ما يعتري الموقف كله من غموض، مما ضاعف من إحساسه الدفين بأنه هو وحده وليس أحدا غيره السبب الرئيسي لكل ما يجري من نزاع وتطاحن، فما كان منه إلا أن انفلت خارجا مسرعا مصمما على اللحاق بأخيه واستجلاء سبب غضبته وانسحابه على هذا النحو المكفهر.
امتطي ظهر فرسه - سحب - مطلقا العنان لكوكبة فرسانه في إثره، إلى أن وصل قصر أخيه التبع الحاكم حسان، مترجلا مقتحما ردهات القصر الذي أصبح يشيع فيه الصمت المحمل بالأسى، نتيجة لأحزان التبع الجديد وصراعاته.
إلى أن لحق بأخيه حسان داخل مخدعه، وكان ساعتها يستبدل في إعياء أرديته ولباسه، استعدادا للإغفاء دون أن يراوده النوم كالعادة.
حتى إذا ما طرق عمرو الباب فاتحا داخلا، استدار إليه حسان مرتعدا محملا بكل غضب صارخا مخفيا وجهه بين كفيه كمن يعاني ألما دفينا يطحنه طحنا: ابتعد عني، ابتعد!
تراجع عمرو كالمشدوه من قسوة طرد أخيه له من بيته على هذا النحو الفادح. - أبتعد عنك يا حسان، يا أخي، تطردني؟! - اذهب، اذهب عني، لا ترني وجهك!
صرخ الملك التبع ملتاعا: امنعوه.
هنا اندفعت جوقة الحرس التي انشقت عنها الجدران محيطة بعمرو المرتعد وهم يسحبونه في رفق إلى حيث البوابة الخارجية لقصر التبع.
فهو متعب هذه الليلة.
وبدأت حالة الأخ الأصغر عمرو الصحية تسوء تباعا، وكان شاعرا رقيق الشمائل ظل طيلة سنوات شبابه منكبا على الأسفار والترحال في متاهات العالم القديم مشرقا ومغربا، بحثا عن كنوز المعرفة ودفائنها والاستفادة من كل ما يجيء به من إبداعات.
فهجر نابذا منذ صباه صراعات القصور تلك، متخليا هائما لا يبغي من عالمه سلطة أو جاها سوى مصادقة المخطوطات التي كان قد احتمل لتملكها كل الصعاب، ولو كانت في متاهي الأرض.
لذا لزم عمرو فراشه داخل قصره عقب تطاول شقيقه الأكبر عليه إلى حد طرده دون رجعة من مخدعه. - أبعدوه! وبكته زوجته - وابنة عمه - الصغيرة، حاملة بين صدرها وليدهما الطفل الصغير «ذو اليزن» دون أن تدري لمرضه المفاجئ سببا واحدا يشفي غليلها، سوى تلمس بعض شذرات تجيء من هذيانه الليل بطوله. - تطردني يا حسان، يا أخي.
ودون علم منه قررت الزوجة الحزينة حمل وحيدهما الرضيع «ذو اليزن» وزيارة أخيه الأكبر - تبع حسان - وإبلاغه بما وصلت إليه حالة أخيه الأصغر عمرو، الذي أصبح معلولا شاحب الوجه لا يقوى على مجرد المشي أو الكلام.
حتى إذا ما استقبلها التبع الجديد وعلم بما انتهت إليه حالة شقيقه الأصغر المعلول، تضاعفت همومه وعصفت به أحزانه الدفينة من جديد، إلى حد أنه مضى في ثورة غضبه يمزق حلته الملكية وتاجه وأرديته وهو يطؤها بقدميه الاثنتين كمثل مخبول على مرأى من حرسه وحجابه وأهل بيته.
ولم تفهم الزوجة الوادعة سبب انفلات ثورته على هذا النحو، دون أن يقدم على قرار زيارة أخيه أو استدعاء طبيب مداو قادر على شفاء علله.
فما كان منها سوى البكاء دفاعا عن زوجها عمرو فهو ليس خائنا أو متآمرا. - فلماذا يتآمر الجميع عليه؟
وهنا لم يجد حسان له مهربا، سوى امتطاء حصانه والتوجه إلى «جبل ضهر» واقتحام غار سيدته الدموية تلك، وإعادة طرح قضية أخيه عليها، وكيف أنه الآن طريح الفراش يعاني سكرات الموت. - أجل الموت المحقق.
واجهها محتدا جاثيا على ركبتيه: كل ما أطلبه منك، هو إعفائي من الوصية.
قالت مشيرة إلى يديها الاثنتين: لا أملك.
سألها: وإذا ما انقضى أجل عمرو؛ أخي؟
أجابت في حزم: لا مكان لك في إرث التباعنة.
اندفع غاضبا لا يلوي على شيء خارجا، إلى أن قفز هائجا على ظهر حصانه، نازلا متعرجات جبل ضهر ومسالكه، ودقات الدفوف العنيفة تجيئه مهيجة لكل حواس وكأنها صادرة من رأسه ذاتها.
زار عمته البسوس محاولا إيجاد مخرج لما هو فيه، فتلقى منها ذات كلمات سيدة جبل ضهر، وكأنهما - المرأتين - وجهان لعملة واحدة. - لا مكان لك في حكم التباعنة.
اندفع حسان صارخا بأقصى قواه، معاودا تمزيق أرديته على مرأى من عمته البسوس وابنته «تدمر». - لا مكان لي في إرث أبي، إلا بإراقة دم أخي الوحيد، لحمي، إنها الوصية الدهر.
وهكذا أعاد إليه أصدقاؤه ومقربوه ذات المعنى، إلى حد أنه أقدم في إحدى سورات غضبه على إشهار سلاحه في وجه ثلاثة منهم وإراقة دمائهم. - لا مهرب. - الوصية.
اندفع من جديد ممتطيا حصانه ضاربا عرض الحائط بكل ما سمع مقررا زيارة أخيه عمرو المريض المعلول.
وما إن وقعت عيناه عليه، شاحبا معلولا يهذي عبر بحار عرقه على فراشه، حتى تقدم منه حسان لاثما محتضنا بكل قواه، وكان ساعتها يجاهد في أخذ أنفاسه الأخيرة دون نطق.
وسريعا ما استل حسان خنجره من غمده، وذبح أخاه «عمرو» من الوريد إلى الوريد، صارخا في أقصى جنونه على مرأى من زوجته المحتضنة لوليدها ذو اليزن: عمرو، أخي!
الفصل الثالث
التبع حسان يفني قوم زرقاء اليمامة
دوت طبول «الرجروج» العملاقة التي كان يشارك في قرعها ثمانية من الرجال الأشداء.
احتفالا بذلك الحدث الكبير الجلل، وهو جلوس الملك حسان اليماني على عرش التباعنة.
وسرى الخبر أول الأمر من جبل ضهر المتاخم لصنعاء، ومنه إلى بقية بقاع حمير، في عدن وحضرموت وسبأ وذي الرمحين وصرواح وإرم ذات العماد. - الآن أصبح حسان اليماني حقا، تبع حمير المهاب، ارتفعت الرايات والبيارق والزينات، وامتدت حلقات الرقص والسمر، ونحرت الذبائح من نوق وجمال وماعز.
كل ذلك كان يحدث مدويا في أذني التبع الجديد حسان كعويل، وليس أبدا إيذانا واحتفالا باعتلائه عرش «التباعنة» العظام.
فلم يكن قد أفاق بعد من هول أحزانه الدفينة التي تزايدت منذ إقدامه على قتل أخيه الوحيد المريض «عمرو» في فراشه، وعلى مشهد من زوجته وطفله الوحيد «ذو اليزن» يبكي في حرقة على صدرها. - «أأقتل أخي عمرو، بيدي هاتين؟»
ظل التبع الجديد لأيام لا يذوق للنوم طعما، بل حاول جاهدا ألا يمس بيديه الاثنتين، الملوثتين بدم الشقيق، أي شيء.
ورفض استقبال أي من المقربين منه فيما عدا ابنته «تدمر» التي حاولت بكل ما أوتيت من حكمة ورجاحة عقل التخفيف عن والدها، مدعية أن لا دخل له يذكر فيما حدث، بل إن عمها الراحل الحبيب «عمرو» كان من جانبه يسعى إلى الموت سعيا، شأن كل الضحايا والقتلى.
وراحت «تدمر» تلثم في حنان كفي والدها طريح الفراش - حسان - وساعديه في حنو، وهي تدرك ببصيرتها الصائبة ما أصبح يعانيه من فعلته الشنعاء التي شارك الجميع في دفعه إليها دفعا. - أخي عمرو ماذا بقي لي؟
بل إن الأميرة تدمر، شاركت والدها مقاطعة كل ما يحدث من احتفالات تنصيبه، وتوافدت الوفود ما بين ملوك وأمراء وشيوخ قبائل وفرسان من كل صوب وحدب باتجاه قصر الملك التبع حسان إلا أنه رفض استقبال الجميع.
وزين قصر عمته البسوس بالزينات البهيجة، وعزفت الموسيقى داخل ردهاته وعمت الأفراح كل كيانات حمير في اليمن والجنوب العربي وشواطئ بحاره الجنوبية ابتهاجا باليوم المنشود الذي لا بد، وأن ينعم فيه الجميع بدفء الأمان المعزز دوما بسطوة «التباعنة» وملوكها منذ شداد بن عاد الكبير.
ومن هنا تجددت التحالفات، وبدأ فرسان القبائل يأخذون طريقهم إلى الميادين لمواصلة تمارينهم استعدادا لإعادة انتصاب الرايات التي نكست طويلا، منذ موت التبع أسعد وتنفيذ ابنه ووريثه حسان لوصيته - المفزعة - أيا كانت، حتى وإن تمثلت في قتله لأخيه الأصغر عمرو الحبيب.
فالآن فقط يمكن لحمير أن تسلم قيادها للتبع الجديد المتجبر القاسي القلب، يقودها إلى حيث يشاء دون كثير عناء.
أما عن حال التبع الجديد «حسان» فقد لازمته الأحزان القاتمة التي وصلت إلى أعمق أعماقه عقب إقدامه على قتل أخيه الأصغر - الوحيد - عمرو، وهو راقد على فراش المرض، بخنجره المسموم، وذلك بقطع رأسه من الوريد إلى الوريد، ووضعها على «طست» من الذهب مغطى بالرماد، مثلما فعل أبوه - أسعد - مع رءوس أبنائه الأربعة يبكيه أحر البكاء كلما عم المساء. - ألا سحقا ليوم يأكل فيه بعضي بعضا، أيها الحبيب عمرو.
وهكذا فرض الملك حسان حصارا صارما حول نفسه في عزلته داخل قصره الحصين فلم يعد يكلم أحدا، حتى ابنته تدمر التي هي أقرب إليه من نفسه ذاتها.
حتى إنه لم يسمح لوفد من آلاف الوفود التي سعت إليه لتقديم الهدايا وفروض الطاعة بمقابلته، مشيعا أنه مريض ملازم لفراشه حسب مشورة الأطباء.
إلا أن الوحدة الصارمة التي فرضها على نفسه، كانت قد أحدثت مفعولها من حيث التحولات التي حدثت داخله، ليخرج بعدها على شعبه وقبائله، حسانا آخر جديدا، عابس الوجه ضائقا مستهدفا للبطش، أينما ساقته إليه قدماه.
وهكذا بدأ أولى خطواته الانتقامية بقتل جميع من أشاروا عليه بتنفيذ تلك الوصية المشئومة بقتل شقيقه عمرو.
فلم يستثن منهم واحدا، مهما تعاظمت درجة صداقته وقرابته منه.
كان يبعث إلى الواحد منهم بسيافه طالبا مقابلته، وقبل أن تعبر قدماه عتبة الديوان الثالث داخل مقر الحاكم يكون قد قضى نحبه.
وكان هذا سببا رئيسيا في تزايد بطشه وهيبته التي أصبح يحسب لها كبراء حمير قبل صغارهم كل حساب.
وكانت أخبار بطشه بأقرب مقربيه، تصل مسامع عمته البسوس أولا من عيونها المنبثة عليه حتى داخل قصره ومضجعه، فيصل بها الانتشاء أقصى مداه! - ها هو رأس حمير الحقيقي شديد البأس.
بل لكم تمنت البسوس أن يزداد انتقام ابن أخيها التبع حسان أكثر فأكثر، حتى ولو أصابها هي ذاتها الدور، إلا أنها أكدت وصيتها لمقربيها وهي الحفاظ على ذلك الوليد الصغير الذي لا يزال بعد رضيعا - ذو اليزن - ابن الأمير - الضحية عمرو، والتي كانت البسوس قد انتزعته انتزاعا من صدر أمه، قبل أن تعود إلى قبائلها بوادي الحجاز باكية فجيعتها في افتقاد كل من الزوج والابن.
وهكذا عكفت البسوس على تنشئة الرضيع ذو اليزن في كنفها مولية له رعايتها القصوى، بعيدا عن العيون، وبخاصة عيني - عمه - التبع حسان، وبعدما اعتراه من تحولات ورغبة جامحة في الارتواء بالدم المراق، نازعا عنه كل بادرة لرحمة، حتى قيل عنه إنه أصبح لا يرحم حتى نفسه ذاتها. - هكذا تريدونني!
فلقد كان دائم السخرية المريرة لنفسه. - كل ما أبتغيه هو أن أحوز طاعتكم قبل إعجابكم، فهكذا أرادت حمير بي المسير. وشيئا فشيئا تخلى التبع حسان اليماني عن عزلته واصطفائه لنفسه فقط يحادثها مناجيا بلا عون أو صديق.
فخرج على قومه أكثر صلفا وتجبرا، وبدأ بإعطاء القسط الأكبر من جهده لإعادة تنظيم ورص صفوف قوات جيشه التي أوهنتها وأودت بمعظم فيالقه الحروب الطويلة المضنية التي خاضها والده - التبع أسعد - في أواسط آسيا والشرق الأوسط.
واتخذ لنفسه وزيرا حكيما يدعى «حنظلة» أجمعت مشورة الجميع، وأولهم ابنته ومكمن سره «تدمر» عليه.
وكان ذلك الوزير الحكيم «حنظلة» على معرفة واسعة بقبائل وعشائر اليمن والجنوب العربي، وتحالفاتها العلنية والسرية، كما كان حنظلة على معرفة بالقبائل والأقوام المجاورة والمتاخمة - لحمير - وما تطمح إليه في إضعاف الحميريين وتفكك تحالفاتهم بانتظار اليوم الموعود للوثوب عليهم، وخاصة عقب كارثة إحباط جيوشها التي قادها التبع أسعد حين أوصله طموحه إلى «نطح» أسوار الصين ذاتها. - «قد دعتني نفسي أن أنطح الصين.»
ثم ما انتهت إليه تلك الغزوة المغامرة التي تسبب فيها ذلك - الدليل - الآسيوي الخائن الذي أسلم له الملك أسعد مشورته وقياده، فأفقده اتجاهه إلى حد التيه الكامل هو وجيشه في غياهب تلك البلاد والوهاد لسنوات ثم اتخاذ قرار العودة إلى جزيرة العرب في غفلة منه.
وانتهت تلك الحملة بانتقام التبع أسعد من دليله وحليفه الخائن بقطع لسانه والمرض كمدا حتى الموت.
وهكذا مضى ذلك الوزير حنظلة، يسوق للتبع حسان ما يستجد من أخبار القبائل والأقوام الطامعة، متعرفا على مكامن ضعفه باستثارة التحديات.
إلى أن نجح أخيرا في إقناعه بالتخلي عن عزلته ودفائن أحزانه والاستبصار بالأخطار المحيطة والمحدقة بأمن حمير، وأهمها تلك القوة الضاربة التي بدأت تدب بين قبائل «جديس» وهم من العرب البائدة وأميرتهم الحكيمة عميقة البصيرة «زرقاء اليمامة».
وكيف أن قبائل جديس نجحت أخيرا عقب حروبها الطويلة مع قبائل «طسم» في إحداث النصر الساحق لجديس إلى حد فنائها لقبائل «طسم» وتشتيت فلولهم على طول جزيرة العرب شرقا وغربا حتى قيل فيهم: «لعبت بهم أيدي جديس»، وكانت زرقاء اليمامة أكثر استبصارا بالخطر ومدى استفحاله منذ المهد.
كانت على الدوام مدركة خطر حمير وتبعها الجديد «الفتى» الذي لم يكن يرغب أبدا أول الأمر أن تعلو هامته سواء داخل أقوام وكيانات جزيرة العرب، أو فيما يتاخمها من أقوام في الشام وما بين الرافدين وأفريقيا.
وكانت زرقاء اليمامة - وكما تروي سيرتها - لا تنام الليل، منذ أن علمت ووصل أسماعها أخبار اندحار الحميريين وتقهقرهم من أقاصي آسيا، بعدما حدث من خداع لملكهم التبع أسعد.
وكانت على دراية بأن ما حدث لحمير، ليس أكثر من كبوة أو عثرة طريق، تمهيدا لإعادة جمع الشمل والالتئام توثبا لإعادة التطاول ومواصلة الغزو والتفوق واستهداف الحروب الدموية، التي لا بد وأن تسحق يوما أول ما تسحق عشائرها وبني جلدتها، خاصة وأن «جديس» وبعد امتصاصها لطاقات مناوئتها «طسم» أصبحت الآن تشكل قوة فتية ضاربة على طول جزيرة العرب بشقيها الشمالي والجنوبي.
فها هي مدينة اليمامة الآن عامرة مزدهرة، ملء السمع والبصر.
ومن هنا فلن يهدأ للحميريين وملكهم الجديد حسان بن أسعد بال، قبل أن تطأ جيوشهم الجرارة أرض جديس، لا سيما وأنها عادت محملة بكل جديد من حروبها الآسيوية، التي لم تطحنها، بقدر ما أعادت فتح شهيتها من جديد للفتح والدم المراق.
ولكم نبهت زرقاء اليمامة الأذهان والعقول لما يحدث ويجري من حولهم، مطالبة بعدم انتكاس السلاح والخلود إلى لذائذ غنائم حربهم مع طسم التي انتهت باستئصالها من الوجود. - فعجلة حمير لن ترحم، وهذا قدرنا.
لكن من يسمع ويرى، والجميع تأخذهم نشوة النصر المعجل الساحق في جديس.
من يمكن له أن يصدق يوما، بل لحظة انتكاس الرايات الخفاقة داخل مدينة اليمامة إثر النصر الساحق على جديس.
والصوت الوحيد المحذر لزرقاء اليمامة، يجيئهم بلا صدى مبنيا في اعتقادهم على مجرد دلائل وظواهر لا أساس لها من جانب حمير وتبعها الجديد حسان، وهو الذي لم يفق بعد من ضربات الآسيويين، التي أودت بأمرائهم وفيالقهم.
لكن من يسمع ويرى؟!
ذلك الذي يدبره الحميريون وملكهم، حسان لهم في الخفاء من اجتياح وعدوان، وهو ما حدث بالفعل من جانب التبع حسان الذي بدأ في أيامه الأخيرة صحوته وعيناه الاثنتان تحطان على جديس وعاصمتها اليمامة التي أصبحت مضرب الأمثال بين العرب؛ نظرا إلى ما تتمتع به من ثراء وسطوة.
لذا آثر التبع حسان اليماني ووزيره الأول المقرب «حنظلة» اللجوء إلى الحيلة، وهما يعدان العدة لاجتياح اليمامة عاصمة جديس، خاصة وأن قبائل حمير بجيشها لم تفرغ بعد من استكمال استعداداتها وتوحدها لاستئناف القتال، بعد الخسائر التي كانت منيت بها في حروب الآسيويين.
وخاصة أكثر أن هذه الغزوة المقبلة تجيء كأولى غزوات «حسان» كحاكم جديد لحمير وتوابعها، ومن الأسلم أن تجيء وما يترتب عنها وعليها، بأقل الخسائر الممكنة.
لذا فمن الأرجح في مثل هذه الحالة، مهادنة «جديس» وحاكمتها الزرقاء وإخفاء نوايا العدوان، الذي آثر التبع حسان أن يجري ليلا، وبطريقة مفاجئة لا تسمح للعدو لشحذ قواته وكتائبه، خاصة وأنها - أي قبائل جديس - لا تزال تشرع أشرعتها، عقب الانتصار الساحق على مناوئيهم من قبائل طسم.
وهكذا أجرى الإعداد للعدوان سرا، مصحوبا بالنوايا الحسنة المعلنة لسكان اليمامة وأميرتها الزرقاء، وهو ما أدركته زرقاء اليمامة ببصيرتها النافذة.
فما من رسالة - معسولة - أصبحت تتلقاها من حكام حمير، إلا وأثارت سخطها وطاقتها في استنهاض الهمم، بإزاء الخطر المرتقب القادم، الذي أصبح يطرق كل بيت وخباء ومضرب في جديس، لكن من دون طائل يرجى. - خذوا حذركم الليلة قبل الغد.
ولا من مجيب أو سميع يرجى.
ذلك أن جيوش الملك حسان وإمعانا في السرية والمفاجأة، منعت قرع طبول «الرجروج» التي غالبا ما كانت تسبق زحفها.
بل هي اقتلعت خلال زحفها ليلا أشجار غابة بكاملها بحيث تستر الجيش الزاحف تحت فروعها وهو يواصل تقدمه في بطء شديد دون أدنى جلبة.
حتى إذا ما شاهدت زرقاء اليمامة خدعة الجيش المدجج الزاحف، أهابت بقومها صارخة معتلية أعلى قلاعها: يا جديس، يا قوم! لقد سارت إليكم الشجر، وأتتكم حمير!
لكن صرخات زرقاء اليمامة المحذرة جاءت متأخرة جدا، وبعد فوات الأوان.
ويقال إن حسان اليماني أذل جديس حتى العظم إلى أن أفناها عن الوجود، وضاعت سدى تحذيرات زرقاء اليمامة لسنوات ويقظتها في التنبيه بالخطر الجاثم المهدد لقومها ومدينتها، منذ أن استقام من جديد عرش «تباعنة» اليمن، عقب الموت الكمدي المفاجئ للتبع أسعد اليماني، وتولي ابنه الأكبر حسان مكانه.
لكن من كان يسمع ويعي، والجميع في اليمامة قد أعماهم النصر السابق المعجل على بقية مناوئيهم من قبائل طسم إلى أن حلت الكارثة ووقع ما كانت تحذر منه زرقاء اليمامة.
الفصل الرابع
الهجوم الليلي والتخفي بأغصان الأشجار
على ذلك النحو المتآمر الفادح، جاء اجتياح التبع اليمني «ميت القلب والحواس» حسان بن أسعد لقبائل «جديس» سكان اليمامة، سهلا ميسرا كمثل نصل سكين يقطع زبدا.
فمع الهزيع الأخير من الليل المظلم الدامس وبعده قام جيشه بالتخفي من الرأس حتى أخمص القدم بأفرع الأشجار وغصونها من دون بذل أي محاولة لقرع الطبول أو إحداث أية جلبة، وبالصمت الرهيب الذي كان يلف المكان، أطبق حسان على الجديسيين من العرب العاربة وهم داخل مضاجعهم ليطحنهم جيشه الزاحف كمثل غابات وحشية مطبقة من كل صوب وحدب على الأسوار والبوابات والدور والمضارب، وسيوف جند الملك حسان تعمل في الرقاب النائمة، مشعلين النيران والحرائق أينما حلوا.
بل إن التبع حسان وجنده، تعمدوا استدراج كلاب قبائل جديس بالاحتيال عليها فرموا اللحم المسموم لها، حالما قاربوا مضارب أعدائهم وفرائسهم ليلا؛ مما ساعدهم على اقتناص النصر بأقل الخسائر.
ومن هنا كانت الفاجعة التي حلت بقبائل جديس، ليذبحوا رجالا ونساء وأطفالا داخل مضاجعهم ليلا غيلة على ذلك النحو الغادر من جانب ذلك الملك المتجبر وجيشه الزاحف الذي طحنهم طحنا على مرأى من أميرتهم «زرقاء اليمامة» التي أعيتها كل حيلة في تبصيرهم، فلعلها الوحيدة التي اعتلت رأس فرسانها وحرسها الخاص، وتصدت للحرب والقتال من جهة، ومن جهة أخرى صارخة في بقية رجال جديس ومحاربيها النائمين والغافلين: يا جديس، يا قوم! لقد سارت إليكم الشجر، وأتتكم حمير.
لكن من يمكن له أن يسمع ويعي في تلك الساعات السابقة على انبلاج النهار، وقد نفذت أسهم الحميريين، وعملت سيوفهم في رقابهم، عبر تلك المذبحة الليلية التي عمت، كالطاعون، ساحات مدينة اليمامة وباحاتها ومضاربها ومنازلها وخيامها دون رحمة أو شفقة.
ورغم كل محاولات زرقاء اليمامة وثلة لا تذكر من فرسانها ووصيفاتها من النساء، في التصدي والمقاومة لجيش الملك حسان العارم، إلا أن الهزيمة كانت من نصيبهم.
فماذا تجدي مجرد كتيبة في مواجهة جيش غاز متكامل البنيان؟
إلا أن مقاومة زرقاء اليمامة ورجالها أفزعت التبع حسان ذاته في تلك الليلة الحالكة الظلمة، لدرجة دفعت به إلى البحث بنفسه عن مصدر تلك المقاومة الخطرة، برغم كل ما اتخذه من احتياطات سرية، إلى أن تصدى لها بنفسه وصولا إلى أن أوقعها جريحة تنزف وهي لا تزال تقذفه بأشنع سبابها، تحت سنابك خيله المدججة.
ولكم كانت دهشة الملك الغازي حسان اليماني الكبرى وهو يرنو إليها من أعلى هامة جواده، ليتعرف عليها في لباس الحرب. - امرأة؟! - أجل امرأة، أيها المتآمر، المدجج بالليل والأشجار.
ضحك التبع حسان طويلا، إلى أن استلقى على قفاه. - لم أضحك منذ زمن! - غدا تضحكك الأيام والليالي أكثر فأكثر يا حسان.
وحين حاول جنوده الاعتداء على زرقاء اليمامة والإجهاز عليها منعهم بنفسه: دعوها فهي حليلتي!
فما كان من زرقاء اليمامة إلا أن زحفت إلى أن قاربته، بعد أن راقت في عينيه نظرا إلى جمالها الباهر وذكائها المتوقد، وذلك التحدي البديع الذي يغطي ملامحها وخلجاتها.
حتى إذا ما حاول التقرب منها، طعنته بخنجرها إلى حد جرحه ونزف دمه.
عندئذ عملت سيوف حرسه وفرسانه في جسدها إلى أن قضت الزرقاء نحبها على تراب مدينتها اليمامة ترويه بدمها.
وجاء انتصار حسان اليماني الساحق على اليمامة المطلي بالخديعة والغدر، وبالتالي كسر شوكة «جديس» على طول جزيرة العرب، مجرد فاتحة طريق لشهيته المتعطشة للدماء والتفوق على الآخرين، ومن ثم الحفاظ على سلطة أسلافه «التباعنة».
فاجتاح نجران ودان له بحر العرب والعجم، وأفنى أقواما وقبائل من العرب، التي عرفت فيما بعد بالبائدة، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة وكيانا منهم جديس، وجرهم والعماليق ورائش وبقايا فلول طسم.
ولم يكتف بهذا، بل تطلعت أنظاره الشرهة التي لا تعرف الاكتفاء إلى مواطن الزرع والضرع أو أرض «اللبن والعسل» في الشام وفلسطين، حرصا منه على الإبقاء على رايات السبئيين، ومن انحدر من نسلهم من «التباعنة» ملوك حمير وكهلان، الخفاقة مشرعة خفاقة.
فمن نسل حمير جاء ملوك بني قضاعة والكلابيين، أما من الشق الثاني للتحالف؛ أي كهلان، فقد انحدرت سبع بطون، تضخموا إلى قبائل وأقوام، وهم: طيء ومذحج، وهمدان، وكندة، ومراد، وأنمار، والأزد.
ومن الأزد انحدر فيما بعد الغساسنة - ملوك الشام - عقب خراب سد مأرب، كما انحدرت منهم قبيلتا: الأوس والخزرج ملوك يثرب - أو المدينة المنورة - كذلك انحدرت قبائل خزاعة، سدنة أو «كهنة» الكعبة فيما قبل الإسلام.
فمن الأسلم التعرف على تلك البنية القبائلية القرابية التي انتظمت تحت رايات ذلك التبع الغازي حسان اليماني، قبل إقدامه على نقل حروبه وفتوحاته خارج جزيرة العرب في الشام وفلسطين وأفريقيا التي ستكون من نصيب ذو اليزن الذي رأى مصرع أبيه وشهده بعينيه منذ أن كان رضيعا بين أحضان أمه، مصرع والده «عمرو»، حين جثا على أنفاسه أخوه الأكبر التبع حسان، لائما محتضنا في البداية، إلى أن استل خنجره من غمده وذبحه من الوريد إلى الوريد، وبعدها انقاد الملك التبع حسان لذلك الجنون الغاضب، فمضى يمزق ملابسه (الملكية) ويهتك عرشه - أي عرش التباعنة - بعدما امتدت يد الغدر والاغتيال لرقبة أخيه الوحيد المقرب «عمرو».
ذلك أن الملك حسان، وبعد أن انتظمت تحت راياته معظم تلك القبائل والأقوام بدأ يشاور وزيره الحكيم «حنظلة» سائلا، بعد أن رضيت عنه حمير واعتلى عرش «التباعنة» كاملا ودانت له أقوام وكيانات الجزيرة العربية: هل هناك أعظم مني في الأرض؟
فأجابه وزيره حنظلة متحرجا: يوجد خارج البحار عرب من أهل الشجاعة ، يقال لهم «بنو قيس» أو القيسيون، وهم من بنى مضر.
فاستشاط الملك حسان هائجا قائما عن عرشه ثائرا في وجه وزيره المنكمش الذي تراجع منزعجا من صراحته للتبع حسان، وهو الذي لم يضلله يوما مخادعا، استرضاء لمروءته: عفوا يا مليكي، إنها الحقيقة ليس إلا.
أعاد حسان صراخه المدوي في ردهات قصره، معترضا على ما تجرأ وزيره على البوح به في مجلسه: أتقول الحقيقة؟
لحظتها لاذ الوزير العجوز بالصمت، بينما اندفع الملك حسان مقررا الحرب والخروج إلى ما وراء البحار؛ منشدا:
يقول التبع اليمني المسمى
بحسان فما للقول زورا
ملكت الأرض غصبا واقتدارا
وصرت على ملوك الأرض سورا
وطاعتني الممالك والقبائل
وفرسان المعامع والنمورا
وقد أخبرت عن بطل عنيد
شديد البأس جبار جسورا
فقالوا إنه يدعى ربيعة
أمير قد حوى مدنا ودورا
تولى الأرض في طول وعرض
فكم أخرب وكم شيد قصورا
فقصدي اليوم أغزوه بجيشي
وأترك أرضه قفرا وبورا
أسير بهم إلى تلك الأراضي
وأملك للقلاع وللقصورا
ويغنم عسكري منهم مكاسب
وأعطيهم بنات كالبدورا
فيبقى الحكم لي برا وبحرا
ويصفو خاطري بعد الكدورا
وحين حاول حنظلة الانسحاب استوقفه؛ ليطرح عليه مدى أخطار ما هو مقبل عليه في تلك الحملة؛ ذلك أن التغلبيين من بني ربيعة سكان تلك البلاد، وكذلك أبناء عمومتهم «بني مرة» الذين عرفوا بالبكريين، ما هم سوى شعوب بحرية، ولن يتم الوصول إليهم إلا عن طريق البحر وهم سادته منذ أقدم العصور.
ومرة أخرى استشاط التبع حسان غضبا في وزيره المعارض لرغباته وطموحاته على ذلك النحو الصادم المحبط.
فما كان من الوزير حنظلة، إلا أن شرح له أمر أولئك الأقوام، ومدى وعورة الطريق إليهم، وهم الذين جابوا ربوع العالم القديم ببحاره ومحيطاته شرقا وغربا، بسبب تجارتهم الواسعة وعمق معرفتهم بالبحر وأغواره.
وواصل الوزير العليم إخبار التبع بكل ما يعرفه ووصل إلى علمه عن «سكان الثغور» ومدى تفوقهم واتساع علمهم بكل صغيرة وكبيرة مجالها البحر وأخطاره.
يضاف إلى ذلك قدرة تلك الشعوب من «تغلبيين وموارنة» على القيام بالخدع والحيل ، التي أكسبتهم من قبل النصر على كل طامع في بلادهم وثرواتهم.
وفي النهاية تفهم الملك حسان مغزى حديث وزيره حنظلة، وهو أهمية الإعداد البحري لتلك الحملة التي سيسيرها إلى الشام وفلسطين لحصارهما، بالإضافة إلى حاجته الملحة والضرورية في الاستزادة بالمعرفة اليقينية لظروف وطباع ومدى بأس تلك الأقوام التي هو مقبل على غزوها.
وأبقى الوزير الحكيم حنظلة على تحذيره من ذلك الخطأ الجسيم، وذلك في الإقدام على غزو أقوام ومحاربتهم لا تكتمل معرفته بها، كما حدث في حروب الآسيويين على مشارف الصين، ومدى ما تكبده الجيش اليمني من إحباط وخسائر.
وبهذا القول الحصيف تمكن الوزير من كبح جماح رغبات التبع حسان وطموحاته وحتى «لا تقع الفأس في الرأس» كما حدث في السابق.
ومن هنا أرسل حسان برسله إلى تلك البلاد ليأتوه بأخبارها ودقائق مسالكها وحكامها.
كما أمر التبع حسان من فوره بالانكباب على تجهيز السفن والمراكب البحرية التي ستحمله وجنوده وعتاده، إلى ربوع الشام ولبنان وفلسطين، حتى إذا ما استكمل بناء السفن والمراكب، وعاد رسل الملك محملين بالأخبار والمعلومات عن كل صغيرة وكبيرة في ربوع الشام وفلسطين، وأرسل الملك حسان بنفسه إلى ابن أخته - الملك الرعيني - المعين من قبله على الحبشة والسودان، يخبره بأهمية تجهيز المؤن والرجال لإمداد حملته في الشام وفلسطين، وبعد ذلك أصبح الطريق مفتوحا أمام الملك للخروج بحملته، بعد أن استقر رأيه الذي رجحته عمته البسوس، بتعيين ابنه الأكبر - الصحصاح بن حسان - ليخلفه مكانه على حكم حمير، في غيابه.
وانشغلت البسوس بتعليمه وتلقينه نصائحها وتعاليمها بما يسهل عليه ملء فراغ أبيه في غيبته.
وكانت البسوس قد أولت كل رعايتها لابن ابن أخيها الأمير عمرو المقتول وهو ذو اليزن الصغير.
الفصل الخامس
حصار الشام وفلسطين
وما إن انتهى التبع الغازي حسان اليماني من إعداد سفنه ومراكبه التي وصل عددها إلى بضع مئات لنقل جنوده وكتائبه المحاربة لمحاصرة مدن الشام وفلسطين، حتى تفرغ بمساعدة عمته «الأميرة البسوس» لتنصيب ابنه «الصحصاح» ليخلفه على حكم اليمن وبقية أقوام الجزيرة العربية التي تم له فتحها بحد السيف والخداع.
وهكذا تم إعداد الحملة، وإرسال الرسل إلى حلفاء الملك حسان وولاته في: «السودان والحبشة والصومال» خاصة - ابن أخته - الملك الرعيني، الذي سبق أن نصبه والده - تبع أسعد - لحكم هذه البلاد، قبل إقدامه على حروبه في ربوع آسيا الوسطى والشرق الأقصى وخيانة دليله وحليفه الآسيوي الذي كاد يودي به وبجيشه، فطالب التبع حسان واليه الرعيني بإمداد الجيش بالمؤن والرجال؛ حيث إنه في طريقه إلى بلاد الشام لفتحها.
وفي البداية حاول الرعيني من جانبه إحاطته علما بمدى ما تنطوي عليه هذه المخاطرة الكبرى، خاصة وهي تجيء في أعقاب الهزيمة التي سبق أن مني بها جيش والده في ربوع الصين، «ودماء قتلانا لم تجف بعد» إلا أن تشدد التبع حسان في مطالبه للرعيني دفعت بالأخير إلى تلبيتها كاملة غير منقوصة.
وهكذا توافدت وحدات وكتائب المحاربين الأفارقة من سودانيين وأحباش وصوماليين على مقر الملك حسان، بعتادها ومؤنها وأسلحتها، مما عضد من عزم التبع حسان، فأمر من فوره كبار قواده باستقبالهم وتهيئة مضاربهم، وإعادة تدريبهم خاصة على أساليب الحرب والحصار البحري الذي هم مقبلون عليه، في ربوع الشام وبلاد «السرو وعبادة» بوادي الأردن وفلسطين.
ومن جديد أقيمت المضارب والثكنات لإيواء القبائل المحاربة المتدفقة والقادمة من حول مأرب.
واستشار التبع حسان وزيره الأول «حنظلة» في مسألة الاستعداد للرحيل البحري، عبر أقصر الطرق والمسالك التي ستقوده وجيشه بصورة آمنة إلى المناطق المطلوب فتحها في الشام وفلسطين، وبأقل خسائر ممكنة، اعتمادا على عنصري المباغتة والحركة.
ورغم توجس الوزير الحكيم من الإقدام على تلك الحرب، وما تنطوي عليه مغامرتها، إلا أنه آثر - هذه المرة - التكتم الحذر على مشاعره ووجهة نظره حيال إصرار التبع وطموحاته التي لا تنتهي، خاصة وأنه ليس هناك من أسباب حقيقية تدفع إلى اندلاع مثل هذه الحرب - عبر البحار - التي عادة ما تحمل في طياتها الكثير من الأخطار التي لا طاقة لأحد على تحملها.
ولكم حاول الوزير المستشار التوسل بالعقلاء المقربين من الملك حسان لإثنائه عن غرضه، فلم يجرؤ أحد منهم على إعلان رأيه الصريح، مقدما مصلحة «حمير» على أطماع الملك التبع الشخصية وشهوته الجارفة للتسلط.
فحتى عندما أفضى الوزير حنظلة بدفائن مشاعره حول تلك الحملة - المغامرة - للبسوس، عمة التبع حسان، التي لها الكلمة العليا في مثل هذه الأحداث الجليلة من هجرة وحرب، آثرت الصمت بدلا من الاعتراض أو مجرد التروي وإعادة تدارس الأمر؛ قائلة: أصبح الأمر متأخرا جدا، بعدما عزم التبع على المسير، وبعدما جهز كل شيء.
غمغم الوزير متوجسا: على هذا النحو يجيء مصير حمير وأرواح رجالها وأقدارنا جميعا.
قالت: لعلك الأقدر من غيرك على معرفة معاندة التبع حسان وتصلبه.
عندئذ تنهد الوزير الأول: إذن ليكن ما يكون.
حتى إذا ما دقت طبول الحرب واعتلى الملك حسان اليماني سفينة المقدمة، مودعا الجماهير الغفيرة التي لا يحدها بصر، انطلقت السفن باتجاه ساحل الشام وفلسطين بغرض فرض الحصار البحري وإعلان الحرب على التغلبيين من بني ربيعة وبني مرة.
قال الراوي: وكان ربيعة - أي أمير بني ربيعة - في ذلك الزمان من كبار أمراء العربان، وكان أخوه «مرة» - انتسابا إلى بني مرة أو الموارنة - من الأمراء والأعيان. «وكانت منازلهم في أطراف بلاد الشام، وكانا - أي ربيعة ومرة - يحكمان قبيلتين من العرب هما بكر وتغلب، وقد ولد لربيعة خمسة أولاد مثل الأقمار، وهم: كليب الأسد الكرار، وسالم البطل الشهير الملقب بالزير، وعدي ودرعان وغيرهم من الشجعان.»
وأما أخوه الأمير «مرة» فله بدوره عدة أبناء شجعان، منهم: همام وسلطان وجساس، وبنت نبيلة جميلة يقال لها «الجليلة».
وعلى عادة ما هو متبع بالنسبة إلى التزاوج القبائلي - وبالتالي السياسي - المتبادل بين القبائل المتحالفة وأبناء العمومة، فقد تزوج الأمير همام بن مرة ب «الضباع» من بني تغلب.
وأحب كليب الجليلة بنت مرة، وكان يجري التجهيز لزواجهما، بعد أن فاتح والده - ربيعة - والدها - أي والد الجليلة - الأمير مرة في أمر زواجهما، حين انتقل إليه من فلسطين ووادي الأردن، إلى بيروت والبقاع.
فما كان من «الأمير مرة» إلا مباركة الأمر سوى أنه لزم الصمت مفكرا في كيفية حمل الخبر إلى ابنته - الجليلة - وإقناعها.
فهو يعرف عن ابنته الكبرى الجليلة، مدى صلابة شخصيتها ودقة اختيارها لمصيرها خاصة إذا ما كان الأمر متصلا بما يهفو إليه قلبها من حب وزواج.
حتى إذا ما أقدم على مفاتحتها، رحبت من كل قلبها بالزواج من الأمير كليب بن ربيعة محتضنة والدها في حنو بالغ. إلى أن فوجئ الجميع بذلك الخبر الدامي المفزع الذي روعت له بلاد الشام وفلسطين، وهو اقتراب الحشود البحرية التابعة للملك التبع حسان اليماني الذي يعمل تحت إمرته عشرة من ملوك جزيرة العرب الأشداء.
وهكذا وقع خبر الغزوة البحرية للتبع حسان كصاعقة مفاجئة صادمة للجميع، وبخاصة لكليب بن ربيعة التغلبي وحبيبته الجليلة بنت مرة، وهما يتأهبان لعقد القران الذي أصبح حديث البشر من عامة لخاصة في ربوع لبنان ودمشق وفلسطين.
وتوالت أخبار الجيش الغازي فيما بعد، وكيف أنه انقسم إلى قسمين كبيرين؛ ميمنة وميسرة، متملكين خلال زحفهما على طول الشواطئ ما يقابلهما من مدن وبقاع «بحد السيف المهند، حتى إنهم ملكوا معظم البلاد وأطاعتهم العباد.» «هكذا ضرب التبع المستبد الغازي حصاره البحري حول بلاد الشام، فأحاط بها من جميع الجوانب بالمراكب والكتائب.»
إلا أن تملك العاصمة السورية دمشق قد جرى إتمامه برا، وكان واليها من قبل الملك ربيعة، يدعى «زيد بن علام»، الذي قاتل قتالا مريرا، وألحق الكثير من الهزائم بجند التبع حسان، الذي حاول بكل الطرق والوسائل استمالته ومحالفته دون جدوى.
كما أن التبع حسان بعدما عانى طويلا في حصار دمشق، أرسل لرأس بني ربيعة طالبا مفاوضته، إلا أن الأمير ربيعة رفض تماما الدخول معه في مفاوضات أو حتى مجرد اللقاء به، ما دام أن التبع اليمني قد جاءهم غازيا، وواصل حربه واختراق حصاره وإلحاق أفدح الخسائر بجنده وعتاده البحري، مما دفع بالتبع الغازي إلى اللجوء إلى الحيلة والمكيدة فاتجه من فوره إلى بني مرة - في لبنان - لاستمالتهم مقدما تنازلاته المرضية للقيسيين في الحجاز ولبنان، فعين الأمير «مرة» والد جساس واليا على تلك البلاد، وكان «يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع.»
وجعل واليه الأمير القيسي «عبس» أميرا على فلسطين وبلاد السرو وعبادة، وهي مملكة النبطيين أو العرب الأنباط الأردنيين.
كما أقام التبع الغازي حسان، واليه الأمير المسمى «عدنان» على الفرقة أو الجزء الثالث المتبقي من جيشه الغازي، على «أن يقيم في العراق بتلك المنازل والآفاق.»
وهكذا تفرغ التبع الغازي لمحاربة التغلبيين من بني ربيعة فشتت فلولهم في السهول والوهاد، مجندا كل طاقاته وأياديه الطولى للحاق برأسهم المدبر، وهو الأمير ربيعة وولده الأمير كليب.
فلم يهنأ للملك حسان بال، ما دامت بذرة المقاومة ما تزال مستعرة ممثلة في ربيعة وابنه الأكبر كليب، ومن حولهما الرافضون
1
لعدوانه المتسلط على بلادهم.
إلا أن التبع تمكن من أسر «ربيعة» والد كليب، حين أمر رجاله بإلقاء القبض عليه «ومن معه من بني قيس الطناجير، فقيدوهم في الحديد والجنازير، وشنق الأمير ربيعة وصلبه على بوابات دمشق».
وأمر حراسه وعيونه بإلقاء القبض على من يبكيه مصلوبا، أو يرثيه ببيت أو شطر من شعر.
عندئذ فقط وبعد تخلصه من رأس المقاومة وهو الأمير التغلبي «ربيعة»، «صفا بال التبع حسان، فشيد لنفسه قصرا حصينا مرتفع البنيان، جعل أبوابه من الذهب والفضة.»
وهكذا استرخى طويلا وعن رضاء معتليا كرسي التباعنة العظام، لا يشغل باله سوى البحث والغوص في مختلف اللذائذ التي تفيض بها وتطرحها بلاد الشام وفلسطين؛ أرض اللبن والعسل.
وهو ما لم يرض عنه أبدا وزيره الحكيم «حنظلة»، الذي كثيرا ما تسلل إليه بالنقاش بهدف محاولة إثنائه عن الاسترخاء الذي أصبح فيه التبع حسان، فمن الأفضل وبعد تحقيق هدف الحملة، العودة إلى ربوع اليمن والجنوب العربي، على ألا تغيب العيون الساهرة على الحفاظ على ذلك الفتح وتعزيزه في هذه البلاد والوهاد.
بل لقد توسل الوزير حنظلة لتعزيز رأيه ذاك بعمته البسوس، التي رجحته إلى حد أنها كررت عليه طلب العودة إلى ربوع اليمن، ولكنها عبثا حاولت لإصراره على عدم العودة.
فلقد كان حنظلة على شاكلة زرقاء اليمامة، التي أرداها التبع تحت سنابك خيله، وهي تكيل له السباب. - الغلبة لله، أيها الخصي.
كان مستبصرا بالخطر الكامن المستتر البادي في الأفق الذي أصبحت - تبيته - هذه البلاد الشاسعة المتضاربة التضاريس، ما بين البحر الهائج المتمرد، والبوادي وحياة المدن والجبال الشاهقة، والتي لن يهدأ لأهلها بال إلا بطرد الغزاة واسترداد أراضيهم وكياناتهم، مهما طال البقاء للتبع وصفا باله وزمانه.
وكان للوزير الحكيم كل الحق في تصوره الذي تمرد عليه التبع المفتون بما حققت سواعده.
ذلك أن التغلبيين ومجاوريهم من بني مرة، كانوا قد عقدوا النية والمقصد على الانتقام لموتاهم وتحرير بلدانهم من مدخل «الحيلة والخداع» الذي تشرعه وتبيحه كل حرب، بدلا من المواجهة غير المتكافئة مع التبع الغازي وجيشه والتي أصبح لا طائل منها.
وهكذا تربصوا في الخفاء للانتقام، بينما أظهروا الخضوع ومداهنة التبع علنا وفي وضح النهار.
وجاءتهم فرصتهم سانحة دون كثير عناء ذات يوم حين وصلت إلى أذني التبع حسان أخبار ذلك الزواج - السياسي - بين الأمير كليب بن ربيعة الذي اغتال التبع والده صلبا على بوابات دمشق، وبين ابنة عمه الأميرة الجليلة بنت مرة، التي تحدث الشعراء بجمالها وفتنتها الآسرة.
فما كان من التبع إلا أنه استشاط غضبا وطلب عدم إتمام الزواج مهما كلف الأمر من تضحيات.
بل أرسل من فوره يخبر والدها باستعداده هو ذاته - حسان - للزواج من الجليلة، بدلا من ذلك «العاصي» المدعو كليب.
من هنا حانت ساعة انتقام «كليب» من التبع واقتراب موعد تنفيذها بكل حرص، معلنا للأمير «مرة» والد الجليلة، مدى حرصه على أهمية التعجيل بهذا العرس - العجب - بين خطيبته وحبيبته الجليلة وبين ذلك الملك حسان المنتصر، معلنا في تهكم: أين نحن من عتبات الملك حسان؟! وتزايد عجب الأمير مرة أكثر، حين طالبته الجليلة ذاتها، التعجيل بإرسال موافقتها على الزواج من التبع حسان. - بل هما - أي كليب والجليلة - وضعا خطتهما لإتمام ذلك العرس، ودعما خطتهما بإرسال مختلف الشعراء والدلالين الذين لا هم لهم سوى التحدث بمحاسن الجليلة ومفاتنها وصوتها الشجي النادر الذي تحن له طيور السماء الصداحة قبل البشر.
أما التبع حسان فكان كلما وصلته أخبار الجليلة ومدى حسنها وبديع شمائلها تزايدت لوعته ولهفته ليحوزها حليلة، محققا بذلك هدفين:
أولهما:
الحيلولة دون إتمام ذلك الزواج بين الجليلة ابنة الأمير مرة حليفه وواليه على بيروت وطرابلس والبقاع، وبين ذلك «المارق» الذي سبق له صلب والده ربيعة.
وثانيهما:
هو الاستحواذ على تلك الأميرة الباهرة الجمال والشمائل الجليلة بنت مرة، ما دام أنه عقد النية على حكم بلدانه الشاسعة من مقره الذي راق له بدمشق في بلاد الشام.
الفصل السادس
تحقق نبوءة زرقاء اليمامة
طغى الملك التبع اليمني حسان بن أسعد، عقب استيلائه على ربوع الشام ووادي الأردن ولبنان وفلسطين، في حملة مباغتة غادرة، أراد بها أن تكون مجرد مهرب ليس إلا من ذلك الذنب الغائر عميق الجذور الذي تسلط عليه عقب إقدامه على قتل شقيقه الوحيد عمرو.
كذلك جاءت هذه الحملة في أعقاب اجتياح جنوده ليلا متخذين من أغصان الأشجار خباء، لقوم «زرقاء اليمامة» وما أحرزوه من نصر اختلسه التبع حسان اختلاسا، والناس نيام.
من هنا حق له وبعدما خفتت كل الأصوات المعارضة في دمشق وفلسطين من التغلبيين، وبعد مهادنته «لبني مرة» في ربوع لبنان، أن يتضاعف عسفه وطغيانه، وانحرافه في ملذاته المتسمة بالجشع.
ومن هنا أيضا جاءت استرخاءة التبع الغازي حسان اليماني، التي أقلقت إلى حد الفزع وزيره الأول حنظلة الذي حاول جاهدا تبصيره بمغبة تلك الحالة التي استسلم لها التبع وسرت عدواها بالتالي في جسد جيشه الغازي، بل ومن بقاء لا طائل منه ولا نفع في ربوع تلك البلاد.
كان الوزير الأول واسع المعرفة - على أقل تقدير - بطبائع المهزومين، خاصة على طول تلك البلاد والوهاد، وما يمكن أن يدبروه ويحيكوه في الخفاء، ستفصح عنه الأيام والليالي الحبالى بسحب توقع أميرة اليمامة «الزرقاء» وسبابها حين واجهته جريحة تنزف تحت سنابك خيله في دروب اليمامة ليلا. - غدا تريك الأيام والليالي الحبالى يا حسان الكثير من خباياها.
كان الوزير على دراية بمدى فداحة الكارثة التي تنتظر التبع ورجاله، في دمشق ولبنان وفلسطين مسرا لنفسه: أحقا ما يحدث، يا لها من كارثة.
فهي فعلا كارثة لا بد وأن يصادفها - يوما - كل غافل، أو مغفل. - مثلما حدث تماما لأبيه التبع أسعد حين واصلت جيوشه الزاحفة مشارف الصين إلى حين استسلامه مسلما مقاليد أموره، لأحد الملوك الآسيويين الأسرى الذي اتخذه دليلا وحافظا لأسراره يسيره على هواه، فما كان منه إلا أن ضلله وضلل جيشه لسنوات في ربوع الشرق الأقصى، فكان انسحابه وموته المبكر حزنا وكمدا.
وها هو التاريخ يعيد نفسه تماما مثلما حصل مع الأب أسعد الذي غرق في غفلته وترك دليلة «مقطوع اللسان» يتحكم فيه كما شاء، ثم ليغرق الابن - حسان - في غفلة مماثلة مع قبيلة بني مرة التي أسلم قياده لها طالبا مصاهرتها بالزواج عنوة من أميرتها «الجليلة بنت مرة» ضاربا عرض الحائط بقصة حبها، التي باتت مضرب الأمثال، لابن عمها الفلسطيني كليب بن ربيعة الذي صلب والده على بوابات دمشق عاريا مسمرا على مرأى ومشهد من سكانها الدمشقيين. - ما الجدوى؟
وهو - أي التبع - يعرف أكثر من غيره مدى دموية أولئك الأقوام في دمشق وفلسطين وتربصهم للانتقام مهما طال الزمن.
منذ أن عزم التبع حسان على مصاهرة «آل مرة»، وبعد أن فشلت محاولات الوزير حنظلة في تغيير رأيه، عقد النية على مجرد تلبية كل أوامره ورغباته التي أصبحت لا تنتهي. - ما يأمر به، مشيرا!
بدءا من تحضير قوافل الجمال والخيول المحملة بأكياس وصناديق الهدايا التي كانت تنوء بثقلها الجمال، بحيث آثر الجميع استخدام الفيلة المجلوبة من مجاهل الهند والبنغال والتركستان، مرورا بالعزائم والحفلات والاستقبالات التي لا تنتهي تكريما لآل مرة، وانتهاء بالعرس المرتقب الذي لن يقتصر الأمر فيه على الحفلات وإعداد المأكولات والمشروبات، بل سيشمل أيضا بناء القصور والسرايا وتأثيثها وتزيينها احتفالا «بعرس التبع» الذي أصبح يترقبه الجميع في دمشق وبيروت وعمان والقدس واليمامة وتدمر ووادي الحجاز، ناهيك عن اليمن ومدنها في حضرموت وسبأ وتعز ومعين وقيتبان.
فها هي الجموع تتطلع متلهفة إلى عرس التبع من الجليلة بنت مرة التي كان الصغير والكبير يتحدثان عن ندرتها وفروسيتها بين نساء العالم :
تقول العجوزة التي شاهدت
مليحة تريح العنا والصدود
يا أمير تبع يداك فيها السعود
وأقبل الخير لك والسعود
أتوك «بنو قيس» أهل السماح
وجابوا لك الخيل ثم النقود
وجابوا «الجليلة» لشخصك حليلة
بخدين حمر وعينين سود
وقامة طويلة كعود القنا
فوق الكتاف ترخي الجعود
بشعر طويل ورمش كحيل
بلا جر ميل تصيد الأسود
وذات شفايف رقاق نظاف
عقايل طرايف تزيل النكود
لها وجه كبدر بليلة قدر
ووجنات حمر كما الورود
وجسم رقيق وريق رحيق
وأسنان (لولو) سبت الورود
لها عنق كعنق الغزال
وطوق الذهب يوقد وقود
كتاف كالعاج كمثل الزجاج
والنقش مواج فوق الزنود
وكفان أطرى من الياسمين
من قد حواها ينال السعود
وهكذا أسلم الملك حسان كل حواسه، لمن يأتيه بجديد عن مدى حسن عروسه المرتقبة الجليلة بنت مرة وروعتها.
لذا توافدت الوفود من كل صوب على قصر التبع تلهج متغنية بمحاسن الجليلة ومآثرها التي لا تقتصر بحال عند الجماليات البدنية، بل من حيث رجاحة عقلها وصائب حكمتها وشعرها وغنائها وفروسيتها في الصيد والقنص، عبر غابات أرز لبنان ومروجه المكتظة بالأشجار.
وهكذا تغنى الجميع بالعروس المرتقبة على عتبات قصر التبع الغازي:
قد زين بنو قيس لك عروسا
تجلي لأجلك كل هم وقود
للملك حقا قد أحضروا
مليحة خلالها تزيل الحقود
فأرسل وراءها وخل المحال
واسمع كلامي وأجل الصدود.
وخلال تصاعد تلك الحمى المستعرة بالغناء والإنشاد للإعلاء من شأن الجليلة بنت مرة ومحاسنها، كل ليلة على بوابات وأعتاب قصر التبع، لم يجد الوزير الحكيم «حنظلة» منقذا لإعادة اجتذاب اهتمامات الملك لشئون حكم تلك البلاد المترامية الأطراف.
ومن هنا تزايدت المشاكل، متراكمة بلا حلول، سواء على طول ربوع بلاد الشام، أو ما يستجد من صراعات في اليمن وجنوب الجزيرة والسودان والقرن الأفريقي.
بل إن التبع آثر تكثيف وقته بكامله للاستعداد لإقامة عرسه المرتقب وتلبية رغبات العروس التي لا تنتهي، فهي لم تعد مقصورة على الهدايا وإقامة القصور والبساتين وشق الطرق، بل تعدت كل هذا لتصل إلى أخص خصائص الحكم ذاته، بتعيين مقربيها على طول المدن والثغور والبوادي والحصون، إلى درجة دفعت بالوزير «حنظلة» إلى التساؤل الملح، عن أحقية تلك المرأة في مد وإرساء أصابعها العشرة في كل شئون الحكم، وهي ما تزال بعد خارج جنبات هذا القصر - الحاكم - تساءل: ترى ما الذي ستفعله يوما، حين تتربع على هامة عرش التباعنة؟
من يدري، بل من يمكن له مجرد النطق بأهوال الكارثة المنتظرة المخيمة التي ستحل على رءوس الجميع.
غمغم الوزير لنفسه متحسرا: من يدري بأبعاد وأهداف سيطرة بني مرة عن طريق تدعيم رجالهم وأعوانهم على طول البلاد وعرضها، ثم ذلك الفشل الذي مني به التبع والجميع على مدى الشهور الأخيرة، لاستطلاع ما حل بخطيبها السابق. - كليب بن ربيعة!
ذلك اللغز الكبير الذي تقطعت أخباره على حين غرة، فلم يعد اسمه الذي لم يكن لينقطع له دوي يسمع أو ينطق به أي لسان. - ما الذي يحدث في الخفاء؟
على هذا النحو واصل الوزير «حنظلة» طرح تساؤلاته بينه وبين نفسه، دون أن يفصح عنها للتبع حسان لا من قريب ولا من بعيد بعد أن أعيته كل الحيل في تبصيره، بما أصبحت حقا تخبئه الأيام والليالي، على حد قول تلك الأميرة المقتولة: زرقاء اليمامة.
وهكذا أعطى الملك حسان سمعيه - وقبل كل شيء - لكل من يجيئه بأخبار الجليلة ورجاحة عقلها وشعرها ومعلقاتها المتداولة عنها، حتى إذا ما كتبت تخاطبه مرة، أطارت صوابه برصانة شعرها وموسيقاه، والأدهى من ذلك صوتها ومدى نقائه وطلاوته، كما حدثه بهذا الجميع:
مقالات الجليلة بنت مرة
حسان، أنت قيدوم السرايا
تحكم في القبائل والعشائر
كل المدائن والقرايا
وحكمك نافذ في كل أرض
وتخدمك القبائل مع الرعايا.
لكم حلم التبع حسان بأن يسمعها «أي الجليلة» تغني له ليلا معلقتها عنه بصوتها الشجي الذي يشمخ في نبرته شموخ أرز لبنان.
وها هي الجليلة بذاتها أصبحت في الطريق إليه محملة بمئات الصناديق من هداياها وممتلكاتها وخيولها وهوادجها، لتحط على عتبات قصر التبع.
وهكذا انشغلت العاصمة دمشق عن بكرة أبيها تبيت وتصحو على انتظار العروس وما تحمله، ليأتي العرس بعدها بصخبه وسموه ومباهجه التي لا تنتهي. - تلك الليلة الليلاء، المرتقبة.
ولعلها فعلا ستكون ليلة ليلاء بعدما أصبحت هاجس أفكار الوزير حنظلة، دون أن يعرف لذلك سببا واضحا. - هل حقا ما يحدث ويجري، أن تصفو القلوب بين الأغنام والذئاب على هذا النحو؟!
تساءل الوزير وهو يدور في جنبات القصر الشاهق صادرا تعليماته وأوامره التي تلقاها من التبع بحيث يجري تنفيذها بكل دقة وحزم، مع مراعاة اليقظة الكاملة لخبايا تلك الليلة المنتظرة التي أصبح يتوقعها الجميع على أحر من الجمر.
فالتبع الغائب عن كل وعي وإدراك، أصبح لا حلم له على طول ملكه المترامي سوى انتظار تلك الليلة التي ستأتيه بالجليلة بنت مرة.
وهنا يكون قد حقق هدفين بحجر واحد، أولهما استحواذه على الجليلة بنت مرة بجمالها ومواهبها ومدى الشعبية الجارفة التي تتمتع بها على طول هذه البلاد التي جاءها غازيا فاتحا.
ثانيهما هو نجاحه في ضرب وفرط عقد ذلك التحالف بين «بني مرة» وبين «بني ربيعة» التغلبيين الفلسطينيين. - وهو ما لم يدركه الجميع.
هكذا أسر الملك حسان لنفسه، مبررا مدى انكبابه على استعدادات التحضير لعرسه وزواجه من ابنة آل مرة.
بل وبهذا المنطق المتعقل نفسه واجه التبع حسان وزيره المقرب «حنظلة» في محاولة لتبصيره بأهدافه من إنجاح خطوات ومراحل هذا الزواج بالشكل اللائق، واعدا ومتعهدا بالتفرغ لحل كل ما استجد من مشاكل، وعلى رأسها بالطبع تشتيت فلول «بني ربيعة» وأميرهم المتمرد في شعاب الجبال المحيطة. - كليب بن ربيعة، وشقيقه الأصغر الملقب بسالم أو الزير سالم.
فكيف للملك حسان، أن يغفل لحظة عن كليب، وذلك الانتقام المبيت له، خاصة وهو الذي - أي حسان - سبق له صلب والده ربيعة على بوابات دمشق.
بل إن التبع أرسل فعلا بقواده وعيونه من كل حدب وصوب لترصد أخبار كليب وتصيده أينما كان، في لبنان أو وادي الأردن وفلسطين أو شمال الجزيرة العربية.
لكن الغريب هو انقطاع أخبار كليب وكل أثر له من كل تلك البقاع والوهاد، خاصة عقب إعلان التبع الزواج من الجليلة - خطيبة كليب السابقة - وموافقة أهلها وموافقتها هي ذاتها على ذلك.
وهكذا فشلت كل محاولات التبع حسان للإيقاع بكليب، أو حتى مجرد معرفة ما حل به، سواء عقب مقتل والده، أو عقب تخلي الجليلة بنت مرة عنه، مفضلة الارتباط والزواج بالملك الغازي المنتصر. - فلعله الآن، نهبا لأحقاده ينهشه الندم.
لكن كيف للتبع حسان أن يهدأ بالا، ما دام كليب بن ربيعة حرا طليقا، هو ورجاله من بني ربيعة.
كيف له أن يهدأ ويصفو بالا، وهو الذي سبق له التمثيل بأبيه وإخوته باستثناء هو وها هو اليوم يسلبه حبيبة قلبه، الجليلة بنت مرة، التي أصبح ينام ويصحو على أخبار محاسنها، وهي في الطريق إليه إلى دمشق وغوطتها الساحرة.
الفصل السابع
خديعة التبع المتجبر
كانت خطة الأمير الفلسطيني «كليب» التي رسم أبعادها وخطواتها مع حبيبته «الجليلة بنت مرة» تتمثل أولا في قبولها وترحيبها الشديد بالزواج من الملك التبع حسان. - فليس في الوجود كله، من هي أحسن وأرفع حظا مني؛ أن تمتد إلى شخصي الضعيف أنامل «ملك الملوك التبع حسان».
باغت كليب الجليلة مقررا. - وأرجو أن تنسيني تماما، وكما لو أننا لم نلتق من قبل. - كيف؟ - سأختفي عن كل الأنظار.
تساءلت الجليلة، وهي تتطلع ببصرها عبر الأفق اللانهائي غير مصدقة: كل الأنظار ... أين؟
قاربها كليب مهونا وهو يأخذ أناملها بين كفيه في حنو: سأخبرك يا جليلة في الوقت الملائم بمخبئي وأين سأكون؟
أعادت الجليلة التساؤل: وحدك؟ - لا، بل أنا ورجالي الذين سأعيد اختيارهم هذه المرة بكل حذر.
من جديد قاربته الجليلة فزعة مما يحدث: لكنك تعرف يا كليب أكثر من غيرك، بمدى الخطر الكبير الذي لا مهرب منه، فالتبع لا ينام الليل بحثا عنك، ورجاله وعيونه وبصاصوه أصبحوا لا يتركون شبرا في الأرض بحثا عنك، وعن رجالك.
ابتعدت الجليلة قليلا عنه مختطفة حقيبة صغيرة من أحد الأركان، مخرجة مجموعة من الأوراق - الجلدية - دفعت بها إلى كليب؛ قائلة: وهذا ما توصل إليه رجالنا، وعاد إلى به رسلي من داخل القصر الحاكم ذاته، ولك أن تتصور بنفسك عقب قراءة كل هذه المدونات، مدى ما وصل إليه جنونه للإمساك بك.
تناول كليب لفة المخطوطات التي دفعت بها الجليلة بنت مرة إليه ليدفع بها بدوره إلى أحد حرسه و«ناطورجيته» الذي تناولها متعجلا جاريا معاودا حراسته وتطلعه عبر جهات الأفق الأربع، معتليا أعلى ربوة مشرفة على مكان لقائمها في تلك الليلة التي غاب قمرها.
كانا يجلسان على شاطئ البحر، داخل كشك تحيط به حديقة قصيرة الشجر، على ربوة عالية مشرفة على البحر الهادر المتلاطم الذي تحده في شبه قوس مراكب الملك الغازي حسان على طول مرمى البصر ومن الجهات كافة، وجرى لقاء كليب والجليلة بأقصى درجات «الحيطة والسرية» بعيدا عن عيون الملك، وبصاصيه المندسين في كل شق، بحثا - وقبل كل شيء - عن كليب، بعد صلب التبع حسان لوالده الأمير ربيعة على بوابات «أمية» عاريا مقلوب الرأس رغم أنه كان نصف ضرير.
كما تم اللقاء بينهما في أقاصي فلسطين، في مدينة عكا بالذات التي قدمت إليها الجليلة سرا متخفية ممتطية حمارا. - أنساك؟
واجهته بسؤالها هذا في مكمنه وهي تركز أنظارها على فروة رأسه وشعره المجعد الأسود المسترسل على حلقات حول وجهه المتوقد بذلك الذكاء المشع والطافح بعلامات الجمال والرجولة التي لا يكل منها أي نظر.
عادت الجليلة تنقل نظرها بين كليب وبين سفن التبع الراسية في البحر بأضوائها المنعكسة على صفحة المياه؛ نتيجة النيران التي أوقدها بحارتها التي طاول بعضها عنان السماء في ليلة الصيف تلك؛ كي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، فبدت انعكاسات اللهب أشبه بمليون أفعى مجنونة تلهب ظهر البحر بسياط من ضوء.
وعادت الجليلة تسأل: أنساك يا محفوظ «أحد ألقابه الكثيرة»، كيف؟
ولن أزورك حتى هنا في عكا؟ - لن تجديني في عكا، بعد الليلة. - سيظل قلبي معك أينما كنت. - ولكن هكذا سنقتل معا إن لم يكن اليوم فغدا.
فوجئت الجليلة بذلك كمن تستيقظ من حبها وسباتها؛ متسائلة: نقتل؟
قاربها كليب إلى أن احتوى وجهها المعبر اليقظ بين كفيه الدافئتين: جليلة لا تخافي، وبإيجاز دعيني أكرر لك انسي من الآن ما بيننا.
انفلتت من بين يديه جارية نحو الماء، وهي في حالة من الذعر الكامل كمن يعاني من نزيف حاد جاء على حين غرة. - معنى ذلك أنك ستلقي بي في أحضان ذلك التبع لأصبح ضمن حريمه ونسائه وخصيانه، أليس كذلك يا محفوظ؟
1
اندفع إليها كليب مقاربا موضحا، وقد عرف قصدها وما يعتريها من اضطراب وسوء فهم. - الأول نخلص بأقل خسائر من ذلك الطاغية، حسان.
واجهته: وبعدها؟ - نحكم هذا العالم معا، يا جليلتي.
تطلعت الجليلة ببصرها نحو البحر الهادر والأفق الرحب وهي تشعر بحب غامر وشوق عارم نحو ابن عمها كليب وكأنها في تيه حقيقي.
فلقد كانت الجليلة بنت مرة تجمع بين دفتي شخصيتها إلى جانب ذلك الجمال الأنثوي الباهر، المجلل باتساع المعرفة فيما أنشدته وعرف عنها من أشعار ومعلقات، انتشرت إيقاعاتها بين جموع البشر وبكل ما عرف عنها من رصانة أقواها ومنظوماتها:
يا ابنة الأقوام إن لمت فلا
تعجلي باللوم حتى تسألي
فإذا أنت تبينت الذي
يوجب اللوم فلومي وأعدلي
وإذا أخت امرئ ليمت على
شقق منها عليه فافعلي
لم تكن لطموحات الجليلة بنت مرة حدود تقف عندها؛ لذا آثرت الاكتفاء بما قاله كليب لها؛ حيث اعتبرته نوعا من الضمانة التي بموجبها ستواصل مسيرتها المحفوفة بالأخطار؛ كي تنفذ غاياتها كافة والتي منها الاستحواذ على سلطة ذلك التبع الطاغية.
أما كليب المنكوب في مصرع أبيه أمير بني ربيعة والفار من وجه سلطة الطاغية فهو بالطبع الأكثر حيلة ودهاء، وبالتالي مناورته للخلاص من نير الظلم الذي حل بربوع هذه البلاد، بجبالها ووهادها وبحارها، إثر الغزوة الضارية المفاجئة التي حلت مثل كابوس ثقيل لا قبل لأحد به، وهما على مشارف الأسابيع الأخيرة لعرسهما وزواجهما الذي كان قد طال أجله.
وهو الزواج الذي تعاهد عليه القومان - بني مرة في لبنان، وبني ربيعة في فلسطين - ليكون آخر المطاف ونهاية لتلك الحروب والمنازلات والغزوات التي كانت مستعرة بينهما، لسنوات طويلة سوداء، عانى منها الفريقان الأمرين.
أما ما غاب عن أذهان الجميع ، خاصة والديهما - ربيعة ومرة - حين تعاهدا على ذلك الزواج - السياسي - هو حكاية حبهما الجارف معا الذي ولد معهما - الجليلة وكليب - منذ مطلع شبابهما، على مشارف بيروت، ووهاد صور، ومروج البقاع؛ حيث كان يتم لقاؤهما معا، وكأنهما بهذا إنما يتحديان تلك الحروب والمناوشات والغزوات الملفقة بين قوميهما.
إلى أن حانت مناسبة الاتفاق على زواجهما فضحكا معا طويلا، بل إن كليبا داعب والده وشيوخ قبائله في البداية برفضه ذلك الزواج المصطنع؛ إذ كيف له الرضوخ وتقبل الزواج من فتاة - بيروتية - لم يرها أو يسمع بها أو يهفو إليها قلبه.
وهنا دبر له بعض شيوخ قومه وأبناء عمومته أمر لقائه بالعروس الشاعرة الباهرة الجمال التي تلهج الشفاه والأفواه بمحاسنها على طول البلاد وعرضها، حتى إذا ما تيسر لقاؤهما ضحكا طويلا معا حتى استلقيا على ظهريهما.
بل إن الجليلة بنت مرة استعذبت تلك اللعبة طويلا، التي تتيح لها في كل مرة الالتقاء - بحبيبها - كليب على مرأى من الجميع، حتى ترضى عن اقتناع من الزواج وربط مصيرها الأزلي به. - فأنا لست سلعة أو بضاعة لإيقاف رحى الحرب على جثتي!
حتى إذا ما افتضح في النهاية أمر لعبتهما وعبثهما تنفس الجميع الصعداء مستبشرين بوضع حد لتلك الغزوات والمنازعات بين أبناء «البيت الواحد»، فأنشد الشعراء الجوالون وتغنوا بقصة حب الجليلة بنت مرة وكليب، المرادفة للسلم بدلا من الحرب والعدوان.
إلى أن حل بالجميع ذلك العدوان الغاشم الذي قاده التبع حسان اليماني، فجاء ضاريا مؤذيا بأمن الجميع.
كان والد الجليلة الأمير «مرة» المتعاون مع التبع قد أعطاه كلمته بتجهيز الجليلة له وها هي الجليلة ستزف إليه.
هنا انتصبت الجليلة كمن تحتضن هواء البحر بأكمله؛ قائلة لكليب: ها أنا جاهزة.
استدارت في أقصى كمدها مقاربة كليبا المتنمر في إثرها معلنة. - العروس.
واجهها كليب بدوره قائلا: إذن فلن يعرف أحد.
غمغمت: سوى العروس!
هنا اجتذبها كليب من يدها إلى ذلك الكشك المزين بأشجار الورود والرياحين جنبا إلى جنب مع اللبلاب بعيدا عن العيون ليزف إليها بتفاصيل الخطة.
وتقضي الخطة بأن يجري تجهيز العروس الفاتنة ذائعة الصيت والجمال وزينة كل النساء بحيث تأتي من بيروت إلى حيث عاصمة التبع حسان في دمشق، محملة بهوادجها وخيولها المطهمة وصناديقها الثقيلة مع جوقة من وصيفاتها وغلمانها، بما يسمح بتسلل الكثير من رجال كليب المقاتلين الممتازين، في الوقت الذي سينتشر معظم جيش - من التغلبيين - على التلال المحيطة بدمشق، وسيتم كل شيء كما يريد له التبع أن يجري ويتم بطريقة طبيعية. - طبيعي.
سوى أن كليبا سيفتعل معركة على مشارف دمشق، تسمح من جهة بتسلل رجاله إلى داخل صناديق محتويات العرس وأثاثاته العملاقة، وتسمح في ذات الوقت بتسلل كليب ذاته، باعتباره مضحك أو مهرج أو خصي الأميرة الجليلة المقرب، الذي يضحك الحجر قبل البشر، متنكرا بكامله تحت هلاهيله وجلود الحيوانات والأصباغ، متخذا اسم «قشمر بن غرة» الذي يلعب بالبيضة والحجر في ذات الآن.
يضاف إلى ذلك، اضطرار التبع حسان إلى إرسال معظم حرسه الخاص ورجاله لتخليص العروس الجليلة من أيدي قطاع الطرق وعصاباتها لتأديبهم.
هنا سيخلو لنا الجو للتسلل إلى حفلة العرس لتسلية التبع الذي لا ينام الليل حبا في اللهو والسمر. - وهذه ليلة عمره.
بهرت الجليلة من خطة كليب إلى حد دفع بها إلى القول بثقة ودون تردد: التي فيها سنقصف عمره.
استدارت لكليب مشجعة: انتقاما للدم الذي أهدره في بيروت والبقاع ودمشق والقدس وأسدود في فلسطين، واجه كليب الجدار كمن يكبت مشاعره في صعوبة بالغة. - أبي عريان مقلوب الرأس معلق على بوابات دمشق.
قاربته الجليلة: أعمامي وأولاد أعمامي، وأربعون فتاة من آل مرة.
أخذت الجليلة بيده معاهدة: في كل بيت مأتم، منذ وصوله.
استرد كليب يقظته وحلمه الكبير ذاك قائلا في حزم: إذن فهي فرصتنا الوحيدة يا جليلة. - لا تخف.
واجهها كليب مطوقا رأسها، حتى إنه أسقط خباءها عن رأسها: أنت الشيء الوحيد الخائف عليه.
لكزته الجليلة ضاحكة مسرة: لا تخف، فلقد أصبح لا ينام ليله، وفي كل يوم تصلني هداياه من قطعان الجمال والأفيال، مما تشتهيه النفس.
ضاحكها كليب: هكذا الأمر إذا.
داعبته: أليس هذا ما تطالبني به؟ أن أسحره سحرا بكل ما أوتيت وهكذا أصبح التبع - المفترس - حسان بن أسعد مجرد خاتم في إصبعي. - هائل.
واستطرد كليب مع الجليلة شارحا بكل دقة تفاصيل خطته ومسالكها خلال مراسيم هذا العرس الدامي المرتقب وكيفية إعداد رجاله ببالغ السرية والكتمان، وحتى كيفية تصميم صناديق جهاز العرس وخصوصيات العروس الجميلة.
وكذلك حادثها عن مدى إعداده لكتائبه المرابطة على طول الطريق بين بيروت ودمشق بسرية مطبقة.
وكانت الجليلة كثيرا ما تستوقفه مستوضحة طارحة مختلف ظروف الاحتمالات، ومنها إمكانات الانكشاف والفشل لخطتهما بالغة السرية على نحو يثير كل حمية كليب وتوقده وإحكامه لاحتمالات الوصول إلى رأس التبع الطاغية الغازي؛ ليجزها جزا متخذا مكانه إلى جانب الجليلة في حكم الشام وفلسطين، وإنهاء سطوة ذلك الغازي الذي أتت جيوشه على كل أخضر ويابس في بلادهم، والذي يصل به تسلطه إلى حد التفريق بين حبهما وهما اللذان سبقا أن تحديا به كل الحروب والعداوات بين قوميهما.
حتى إذا ما شارف اللقاء بين الجليلة ومحفوظ أو كليب بن ربيعة نهايته وطواهما الصمت الطويل داخل ذلك الكوخ المشرف على البحر المتلاطم قاتم الزرقة، وهما هائمان في أبعاد خطتهما وتفاصيلها، احتضن كليب الجليلة مودعا إلى أن حملها حملا بين ذراعيه، ليركبها حمارها المطهم، عبر الصمت والظلام المخيمين.
الفصل الثامن
العرس الدامي
لعلها كانت أصعب عملية اضطلع بها وزير التبع حسان، تلك التي كلفه بإنجازها منذ أن التحق بخدمته، وهي عملية الإعداد لمراسيم زواجه تلك الليلة الليلاء.
فمنذ مطلع النهار، وطلبات الملك وأوامره المتسمة بالعصبية والقسوة لوزيره «حنظلة» لا تنتهي ما بين اختيار المدعوين من ممثلي القبائل والعشائر والأمراء والقواد، والتوقف طويلا أمام كل اسم ولقب وقبيلة وقوم، واستقبال الوفود المحملة بالهدايا، ونحر الذبائح وإعداد قصور الضيافة، واستقدام كبار الفنانين، من شعراء ومغنين ومنشدين وراقصين لإحياء الحفل، من مصر وسورية وفلسطين وربوع اليمن.
ناهيك عن مطالب العروس ذاتها، وأهلها - بني مرة - التي أصبحت في الأيام الأخيرة لا تقف عند حد ومطمع.
والملفت في الأمر أنها مطالب غريبة تدفع إلى كل سخط وشك، إلا أن «التبع» لم يعد يسمع لأحد نصحا أو مجرد رأي بسيط سواها. - الجليلة بنت مرة ومراسيلها ومعلقاتها الطاغية.
تلك الأميرة - اللبنانية - التي سحرته بشعرها ومعسول قولها، قبل محاسنها، فكان أن أحبها التبع من قبل أن يراها أخذا بالقول المأثور: «والأذن تعشق قبل العين أحيانا.»
حتى إذا ما سنحت - للتبع العاشق - رؤيتها بطريقة مباغتة ساحرة للمرة الأولى، أردته من فورها صريع هواها وعشقها.
ذلك أن الجليلة بنت مرة - وكجزء من خطتها - في تملك قلب التبع حسان، دبرت خطة ذكية مفاجئة ولا تخلو من أخطار، لتلتقي به متنكرة على هيئة أمير فارس شاب مع مطلع نهار خرج أثناءه التبع محاطا بفرسانه وكوكبة قوداه المقربين للصيد والقنص في أحد مروج لبنان.
وهنا تحينت - الجليلة - تلك اللحظة للالتقاء بالتبع، وهو يطارد أحد الحيوانات البرية، فبرزت له من بين الأشجار، بعد أن أردت فريسته بسهمها، فما كان من الملك التبع سوى الترجل مندهشا من مواجهة ذلك الفارس الماهر المجهول الذي قاربه مواجها: من أنت؟ - أنا قدرك، أيها الملك.
وبعدما فاق التبع حسان من هول المفاجأة على هذا النحو استل حسامه، كما لو كان على موعد مع لحظة اغتيال غادرة مباغتة. - قدري؟! - أجل، يا مليكي.
حتى إذا ما كشفت خباءها عن وجهها الباهر الجمال مرخية خصلات شعرها العسجدي الضارب إلى الحمرة، متقدمة في حياء مغمغة: أنا، الجليلة بنت مرة! - أميرتي الجليلة؟ - أجل.
وضحكا طويلا وهما يطلقان لخصيانيهما العنان إلى أحد المروج المهجورة.
توقف الملك حسان منبهرا في أقصى نشوته من تلك المفاجأة العذبة التي أرادت بها الجليلة أن تدخل السرور على قلب الملك. - متى ينتهي كل شيء لنسعد معا يا جليلة طيلة عمرنا؟ - أنا طوع يمينك يا مليكي.
ومنذ تلك اللحظة والملك حسان، لا ينسى مقدار السعادة التي غمرته كما لم تغمره من قبل إثر لحظة الفرح تلك التي جعلته ينتشي بالحياة وحبورها الذي يضفيه الحب قبل أي شيء آخر.
ولم يطل لقاؤهما، ذلك أن الجليلة تعمدت إنهاء ذلك اللقاء الخاطف المفاجئ، حين ودعته معاودة تنكرها بعدما خلع عليها قلادته الملكية فأطلقت عنان حصانها مسابقة ريح الصباح، مختفية، تاركة التبع العاشق، ليلحق بركبه وفرسانه، كمثل طائر هائم محلق بين أرز لبنان الساحر المتعانق في شموخه إلى عنان السماء.
حتى إذا ما لحق فرسان الملك حسان به ظل يضحك في فرح منتشيا، مما أثار فضول مرافقيه، عندما فاجئوه مع غروب الشمس تمهيدا للعودة إلى دمشق محملين بأسراب صيدهم! - نريد أن نعرف صيد التبع اليوم. - أروع صيد.
إلى أن نطق أحدهم هامسا في أذن الملك، مما ضاعف من سعادته: لعلها الأميرة، الجليلة؟!
فكان كلما اقترب موعد وصول موكب العروس وتوابعها من بيروت إلى دمشق، كلما تضاعفت أعباء الوزير - حنظلة - نتيجة أثقال الملك التبع المتوتر عليه بالمطالب واستكمال الاستعدادات. - ألن ننتهي اليوم؟ أما من مهرب؟
حتى إذا ما تدافعت وفود الرسل المذعورة الغارقة في سيول دمائها قبل عرقها، بل ومنهم من قطع لسانه من جذوره، عائدين معلنين الأنباء السوداء عن تعرض موكب «العروس» لعصابات قطاع الطرق، ونهب كنوزها، بل وأسرها على طريق بيروت دمشق ووصل توجس الوزير إلى أقصى مداه. - كيف حدث هذا، الجليلة؟
وهاج الملك التبع حسان وماج على طول جنبات قصره وقلاعه حين وصله الخبر، إلى حد التطاول بل والتعدي بالقتل لبعض مساعديه وحاشيته، فلم يسلم من غضبه الجارف أحد، حتى الوزير حنظلة ذاته. - لزوجتي، حليلتي، يحدث كل هذا!
بل إن حنظلة وجدها فرصة ذهبية لمواجهة التبع الغازي، وتبصيره بما ينتظره من ألاعيب أهل هذه البلاد من آل مرة والبكريين والتغلبيين، فمن الواجب عليه - أي التبع - التنبه والحرص ولو على الدم الذي أريق وسفح على مشارف تلك التلال والوديان والبقاع وصحاري الأدوميين، حتى استتب له الأمن بعد فتحها وحكمها.
إلا أن الملك لم يتح لوزيره كلمة عاقلة واحدة مواصلا هياجه كمثل جمل منتقم مفلوت العيار، وهو يسعى إلى حتفه سعيا، بكل ما أوتي من جبروت. - كيف يحدث ما حدث لزوجتي؟!
صادرا من فوره أوامره ونواهيه لكبار قواده وفيالقه وحرسه الخاص ، وكل من طالته يداه، لإنقاذ العروس وإحضارها أينما كانت.
والأدهى من ذلك أن تغيب كل قوة وحامية بسرعة الريح، ثم تمضي الساعات ولا تعود بخبر. - ما الخبر؟
هنا يشتعل غضب التبع وانتظاره أكثر فأكثر مرسلا بمجموعة أخرى في أعقابها. - ثلاثة قواد يرحلون، ولا يعود منهم أحد بالخبر اليقين؟
حتى إذا ما حط المساء جاثما، وضجت مدينة دمشق عن بكرة أبيها متندرة بعرس التبع الغازي الذي استحال إلى كارثة. - فضيحة!
انشقت الأرض فجأة عن العروس وموكبها الهائل، في حالة من الذعر والفوضى الشديدين.
حتى إذا ما تسلل موكبها من جمال وخيول بأحمالها إلى داخل عتبات قصر التبع الحصين دون أدنى رقابة ارتمت العروس من فورها بين أحضانه باكية كمثل مراهقة غريرة.
وأمام انبهار التبع حسان من جمالها وروعتها وكامل زينتها وإيماءاتها العذبة وتدللها، أمر من فوره بإدخال صناديق عرسها ووصيفاتها وتوابعها من خدم وحشم، مشيرا: أقيموا الأفراح.
وعلى الفور علت الزغاريد والغناء ودقت الدفوف، وامتدت سماطات وموائد الطعام، ولهجت الألسن بكل لهجة ولكنة ولسان بمحاسن العروس والعرس، إلى أن اختلط الحابل بالنابل، في تلك الليلة التي اعتراها التوتر والمفاجآت منذ مطلع النهار، بما ينبئ عن اختتامها بحادث جلل.
هكذا بدا الأمر للوزير وهو يرقب مجريات أمور هذا اليوم الرهيب وما سينتهي إليه.
تساءل الوزير وهو يرقب متطلعا في وجوه أهل العروس وأقاربها وخدمها وحشمها ومهرجيها؛ متسائلا: كل هذا الجيش!
مضى يرقب ما يحدث على مشارف مخدع التبع، الذي استسلم للجليلة، إلى حد إجلاسها إلى جانبه على «عرش التباعنة» ويستغرق من فوره من تتبع مضحكيها وسمارها الستة وهم يقفزون متراقصين عابثين هنا وهناك على أصداء الموسيقى الصاخبة.
وعن للوزير السؤال عن أحدهم وكان أبرزهم حركة وقربا إلى قلب العروس الجليلة بنت مرة.
فقيل له إن اسمه «قشمر بن غرة» وهو مضحك الأميرة.
انسحب الوزير محاولا جذب انتباه التبع لما يجري فما كان منه إلا أنه أغلظ له القول، إلى حد الإقلال من شأنه أمام الجليلة التي بدت للوزير ساعتها وعيناها لا تغفل عن مهرجها «قشمر بن غرة» مما دفع بالوزير إلى الانسحاب حفاظا على ماء وجهه، وهروبا بجلده مما يحدث.
وراحت الجليلة تروي على التبع نكات ومداعبات مهرجيها وتهكماتهم الذكية وخاصة هذا «القشمر»، مشيرة إليه بساعدها الخمري اللون البض الملمس.
فاندفع «قشمر بن غرة» من فوره قافزا راقصا هازلا تحت رقع ثيابه، متمنطقا جلد النمر ومتقلدا سيفه الخشبي وسوالفه مدلاة كمثل «كبش». - من يناديني ... من ... من؟ - اسمع يا قشمر. - سيدتي، مولاتي.
مضى المهرج مشهرا سيفه الخشبي، ممتطيا عصاة الجريد كمثل فارس مغوار يجري في هزل.
وحين أغرقت الجليلة في الضحك إلى حد الارتماء امتدت يد التبع ساندة لها في حنو: حقا إنه يضحك طوب الأرض يا جليلة. - حقا بهلول نادر. - يزيل الغم ويفرج الكرب.
واندفعت تحادث التبع المنتشي عما حدث لها من رعب خلال الطريق، إلى أن ضاقت بها السبل فأعادها إلى حيث البهلول والمرح والغناء وليلة العمر هذه. - لننس ما مضى يا جليلة يا حبيبتي.
هنا كان المهرج قشمر قد أوصل الجليلة والجميع إلى أقصى حالات الاستغراق في الضحك الذي لم يخل من مجون، إلى أن تجرأ معبرا عن نفسه بعد تصنعه الخوف والهلع طويلا من التبع وهيبته وتاجه. «فمضى من فوره راقصا بسيفه الخشبي، وكان تارة يبحلق عينيه، ويدق الأرض برجليه ويديه، وتارة يقول: أين الفرسان الفحول؟ أين ابن عطبول؟» «وكثيرا ما يرقص ويضحك بلا سبب، وهو راكب الفرس القصب، إلى أن اندهش التبع من أعماله، واستغرب أحواله وأقواله.»
بحث التبع فجأة بعينيه عن وزيره حنظلة فلم يجده، هنا شاغلته الجليلة وهي تلاطفه: تعبانة.
عندئذ تدخل «قشمر» عابثا مضاحكا قائلا: إن كنت تريد الطرب الآن، فمر سيدتي الجليلة تغني لك، فإن صوتها مليح ولفظها فصيح.
وطلب التبع منها أن تغني، فهو ينتظر على أحر من الجمر سماع صوتها وأشعارها وإنشادها.
هنا واصلت الجليلة تدللها مدعية الحياء والخجل من جموع الموجودين، مطالبة بإغلاق الأبواب حتى لا يسمع أحد.
وما إن انسحب المدعوون بإيماء من عين التبع، حتى تطوع قشمر بالحنجلة هنا وهناك مغلقا أبواب المخدع بنفسه في هزل.
ثم عاد مقدما قيثارة مذهبة للجليلة التي ارتفع صوتها مغنيا شجيا ساحرا:
بحضرة تبع الملك المسمى
بحسان إذا ما شن غاره
وقد أمسيت في قبضة يديه
ومن حبي شغل قلبي بناره
ألا يا حارس البستان صنه
وإن فرطت في الطير طاره.
وحين وصل الطرب بالتبع إلى أقصى مداه، زاد به الوجد والغرام، إلى حد مطالبة الجليلة بالغناء دون توقف، إلى أن عاجلها قائلا: مثلك حقا يا جليلة نادر بين النساء فقد زاد سرورنا هذا المساء.
هنا أيقن - كليب - المتنكر تحت جلد وأصباغ وهيئة مضحك الأميرة «قشمر بن غرة» أن الوقت قد حان، فمضى يواصل هزله، مومئا للجليلة سرا بمشاغلة التبع الغائب عن وعيه.
ثم انسحب باتجاه صناديق العرس والجهاز، فاتحا في سرعة وخفة مخرجا فرسانه المختبئين.
إلى أن عثر على سيف التبع ذاته، فخرج إليه به وقد تقلد درعه.
وهكذا «خرج كليب فجأة إلى الملك الأكبر، وقد احمرت عيناه، حين تذكر أباه، فصال وجال في وجه التبع الذي ألجم من هول المفاجأة.» «ثم قفز كليب مقاربا التبع هاجما، إلى أن تعرفه التبع وأيقن بالهلاك، والوقوع في شرك العقال.»
واندفع كليب جاريا داخل مخدع التبع من دون أن تتوقف الموسيقى أو الغناء، فهب التبع كالمجنون وقد تعرفه منشدا مرثيته الشهيرة الكبرى:
يقول التبع الملك اليماني
لهيب النار تشعل في فؤادي
أمير كليب يا فارس ربيعة
يا حامي النسا يوم الطراد
أريد اليوم أن أعلمك شيئا
لتعرف حال أخبار العباد.
ولم يمهله كليب بن ربيعة ليكمل مرثيته، فهجم عليه صارخا: «لا بد من قتلك كما قتلت والدي، فأكون قد أخذت بثأري.»
وتقدم منه ودق عنقه وشهر رأسه عاليا على أسنة رماحه!
الفصل التاسع
اغتيال الصحصاح ابن التبع حسان
على ذلك النحو المأساوي، جاء ذلك العرس الدامي الذي أقامه التبع حسان اليماني لزواجه من الجليلة بنت مرة، والذي فيه قطع كليب الفلسطيني رأس التبع، بعد أن أمهله لإنشاد مرثيته الشهيرة التي اعترف فيها، بكليب وطراده:
أمير كليب يا فارس ربيعة
يا حامي النسا يوم الطراد.
وهي المرثية التي حملت عبر العصور بإضافات الرواة لما يعرف «بالتراكم الملحمي».
ففيها يتضح أن التبع القتيل كان على دراية بمصيره الدامي:
وعندي قد تبين بالملاحم
بأنك قاتلي دون العباد
وبعدي شاعرة تنزل عليكم
وعبدي يذبحك بين الجماد.
ويبدو أن التبع يعني بالشاعرة، عمته الشاعرة المنتقمة «البسوس» حينما يصلها خبر اغتياله بيد كليب في ربوع الشام، كما أن هذه المرثية، كشفت أبعاد المستقبل السياسي لبلدان الشرق الأردني القديم، مبشرة بالدور الفاتح الكبير الذي سيضطلع به ذلك الطفل الرضيع - ذو اليزن - ابن أخيه عمرو الذي سبق للتبع حسان قتله التزاما بالوصية، كما ذكر في مرثيته التراجيدية الكبرى على مرأى من الجليلة المتآمرة:
وسيف ذو يزن بعدك يظهر
تصحبه السعادة في العباد
ويبقى ملكه سبعين عاما
وبعد ذلك يطوي في الوهاد
ويظهر له ولد يدعوه «دمر»
شديد البأس مرفوع العماد
فيملك في بلاد الشام بعده
يجلب الماء من أقصى البلاد.
وهو ما حدث في أعقاب مقتل التبع حسان، وتشتيت فصائل بني ربيعة التغلبيين لجيش الملك حسان من اليمنيين، إلى أن اتخذ كليب مكانه، معلنا نفسه على رءوس الأشهاد أنه «التبع الجديد» مشهرا رأس التبع الغازي حسان، وعقد قرانه على حبيبته «الجليلة بنت مرة» التي قاسمته مخاطرة ما أقدم عليه، متسميا بكليب «ملك العرب والعجم».
لكن ما إن تواتر خبر مقتل الملك التبع حسان اليماني وشاع، من موطن إلى آخر ووصل أسماع عمته «الشاعرة البسوس»، حتى شقت ثيابها من هول النبأ الفادح وجسامته، وهي التي لم تبرأ بعد مما حدث وألم بوالدهما - التبع أسعد - وانتهى بموته كمدا وغما واندحارا.
هنا تخلت البسوس عن كل شيء حتى ذلك الغلام الصغير الذي كانت انتزعته من أمه الحجازية زوجة «عمرو» عقب قتل أخيه حسان له، والملقب بذو اليزن.
وقررت من فورها المناداة في أقوامها اليمنيين بالانتقام وأخذ الثأر، من التغلبيين والفلسطينيين وآل مرة - اللبنانيين - في آن واحد، بل ومن كل الذين دبروا تلك المؤامرة الغادرة على ذلك النحو الغادر الأليم. - يا للدناءة، يا لثارات حسان!
وعلى الفور قرعت طبول الحرب والانتقام العملاقة - الرجروج - على طول أقوام اليمن والخليج العربي، معلنة الخبر الفادح، والاستعداد للخروج والقتال انتقاما لدم التبع المسفوح على ربى دمشق وبيروت والبقاع.
وحين حاول «ذو اليزن» الصبي، الإلمام بما جرى، وأخبرته عمة أبيه البسوس نادبة الحدث، أبدى الصغير استعداده لمصاحبتها في حربها.
إلا أن البسوس نكبت أكثر حين جاءتها الأخبار بما حدث لجيش التبع وفيالقه التي نجح التغلبيون في إفناء بعضه، وتشتيت الجزء الأكبر منه، في أكبر كارثة انتقامية تعرض لها عرش التباعنة، منذ التبع حميد بن عبد شمس الملقب بسبأ.
وهكذا لم يعد يجدي الإسراع بإعداد ما يلزم من عتاد وسفن إبحار، قادرة على الردع، قبل أن يبرد ويجف دم التبع القتيل بين قبائله وأقوامه.
فحتى ابنه «الصحصاح» الذي كان قد أخذ مكان أبيه في حكم اليمن، بدا عاجزا إزاء فداحة الكارثة التي حلت بالتبع وجنوده في ربوع الشام وفلسطين والبقاع.
ورغم ذلك ظلت البسوس لا هدف لها سوى الانتقام الأسود على ما حل بابن أخيها مهما طال الأمد. - أبدا، لن تخبو نيران قلبي، إلا وكليب ممدد مقطوع الرأس بيد عبدي هذا.
بل هي مضت تصب لعنتها على كل من تقاعس أو تكاسل في الحرب وأخذ الثأر للحميريين المنكوبين، نتيجة الغدر والخيانة. - الدس في المضاجع.
وكانت كلما تدافعت إلى قصرها وفود المعزين، التهبت نيران أحقادها أكثر وأكثر، مهددة: ألم يعد هناك رجال في حمير؟ أين الرجال؟ أين؟
الآن جاء دور النساء، ولا غيرهن.
إلا أن المصائب وتوقيتها لم تمهل البسوس؛ إذ سرعان ما تواترت الأخبار بمقتل «الصحصاح» ابن أخيها حسان ذاته، ليلحق بأبيه في قصره المنعزل على أيدي حلفاء التغلبيين الفلسطينيين والدمشقيين وعيونهم الذين أصبحوا يتطلعون إلى ربوع اليمن ذاته. - النكبة ذاتها.
وهكذا انفرط لوهلة، عقد حمير، وأصبح يدعو إلى كل مخاطر وتخوف ورثاء، مما دفع بالبسوس وشيوخ القبائل إلى التعجيل برأب الصدع، والبحث المضني، قبل أي شيء، عن مخرج من أهوال تلك الكارثة التي حلت دفعة واحدة بعرش التباعنة.
هنا تطلعت الأنظار لتحط على رأس «ذو اليزن» الصبي الذي لم يكن ساعتها قد بلغ الحادية عشرة من عمره، إلا أنه كان منذ صغره متماسكا يحوي حكمة الكبار، وتنبئ ملامحه عن البأس الذي عرف عن التباعنة، منذ عبد شمس أو «سبأ».
وعلى الفور أجمعت الآراء على المنقذ الجديد وهو «ذو اليزن» ابن عمرو - المغدور - الذي اشتهر ب «مزيقيا» أو الممزق، ليعتلي عرش التباعنة في تلك السن المبكرة، إنقاذا لليمن والجنوب العربي، بل وجزيرة العرب بأكملها وهي على تلك الحال من التفكك والاضطراب.
فجرت مراسيم تنصيب الملك الجديد ذو اليزن خافتة مبسطة من دون احتفالات وصخب وقرع طبول الرجروج، وذلك بسبب الحزن الذي ألم بالجميع عندما علموا بمصرع التبع حسان وولده الصحصاح، ولما ألم بعرش التباعنة.
وهكذا قدر لذو اليزن الذي ولد وتربى يتيما في كنف البسوس التي كانت قد اقتنصته اقتناصا من بين أحضان أمه، التي فرت بجلدها عائدة إلى قومها بالحجاز، عقب قتل التبع حسان لزوجها والد الطفل.
بعدها استماتت البسوس في اغتصاب الطفل الرضيع - ذو اليزن - من بين أحضان أمه ودفعت به إلى كبار المربين والحكماء ومعلمي الفروسية لينمو ويشب، متمرسا عن جدارة لحكم «حمير» وما يدور في فلكها من أقوام.
وها هي قد حانت فرصتها سانحة، حين وضعت بيديها الاثنتين تاج التباعنة على رأس «ذي اليزن»، عبر طقوس الأحزان الجنائزية التي صاحبت مراسم حفل تتويج التبع الجديد. - ذو اليزن.
حتى إذا ما انتهت عمة أبيه البسوس من ذلك تفرغت من فورها مبيتة وعاقدة النية على الانتقام لمقتل التبع حسان، حتى ولو استدعى الأمر اللجوء إلى المكائد والفتن واستخدام كل أساليب المناورة والخداع المؤدية إلى تحقيق أغراضها وغاياتها في الانتقام الأسود لدم التبع المهدور.
فهو ذاته الأسلوب - الدنيء - الذي لجأ إليه التغلبيون وحلفاؤهم «آل مرة» لقتل الملك التبع ليلة عرسه بدمشق.
فكانت كلما استمعت إلى تفاصيل المكيدة التي أودت بحياة التبع حسان، من عيونها وبصاصيها - شهود العيان - داخل قصر التبع، اشتعلت أكثر نيران حقدها وتأججت إلى حد أنها أصبحت لا تنام الليل. - يا لها من خيانة بشعة!
بل إن نسج الأقاويل والشائعات حول تفاصيل ما حدث تلك الليلة المشئومة داخل قصور الشام ولبنان، وصل بكامله إلى سمعها، ممهدا لها طريق خطتها الجديدة في الانتقام على ذات النمط «والوتيرة» التي أنهت حياة ابن أخيها وفي عقبه ابنه الصحصاح، وكاد أن يصل الأمر بعرش التباعنة إلى نقطة التأزم واللاعودة. - الخراب.
ومن هنا كان لجوء «الأميرة البسوس» إلى الحرب على ذات الوتر، أي وتر الخداع والتآمر وإيقاع الفتن والتحريض، وكل ما من شأنه تقويض أركان بيت بني مرة وبني ربيعة.
وفي مثل هذه الحالة، فمن هو أجدر من البسوس وأكثر باعا وعمقا وأغوارا في اختلاق مختلف صنوف فن الإيقاع، وفي زرع البغضاء والأحقاد وشراء الذمم. - من هو الأجدر في حمير لها؟!
فلا حد ولا نهاية لقدرتها هذه بالإضافة إلى ثرائها وسطوتها التي غدت مضرب الأمثال، بما يتيح لها استئجار أو استخدام البصاصين والملفقين من بلاد الشام وفلسطين طولا وعرضا.
يضاف إلى كل ذلك قدرتها على الحديث والإقناع وهي الشاعرة العريقة صاحبة المعلقات والمحرضات والموثبات والمراثي والمدائح.
فمن غير البسوس يمكن له أن يتفرد متفوقا في أسلوب حرب المخادعة والإيقاع المفضي إلى كل دمار، تعجز عنه أعتى الأسلحة والرجال؟
ومن هنا فكبوة حمير ودم التبع القتيل لن يأخذ بثأره غيرها، خاصة وبعد محصلة المعلومات والشواهد التي جمعتها جاهدة من مدن الشام وبواديه قبل حضره ومدنه، وبخاصة أخبار ووقائع ذلك التحالف الجديد بين آل مرة في لبنان، وبين التغلبيين الفلسطينيين، عقب زواج التبع الجديد، كليب، بالجليلة بنت مرة، ووراثة عرش حمير نهارا جهارا.
ثم ذلك الاستحواذ الجائر من جانب «كليب» الذي أصبح يتسمى متعاليا ب: «ملك العرب والعجم»، ممسكا بمقاليد السلطة والتسلط على حلفائه اللبنانيين؛ مما أوغر قلوب الأخيرين عليه، باعتباره لم يرع الاتفاق الضمني السابق لدى اغتيال التبع.
بل إن الأخبار والأقاويل وصلت إلى أذني البسوس مبالغا فيها إلى حد معرفتها الدقيقة بتفاصيل الصراع الوليد الخفي المتفاقم بين كليب وأخي زوجته الجليلة المدعو «جساس بن مرة».
وكيف أن الجليلة أصبحت نهبا لذلك الصراع بين زوجها وشقيقها، محاولة بكل ما أوتيت من رجاحة عقل، رأب ذلك الصدع الجديد المهدد بين قبائل زوجها، وقبيلتها هي - آل مرة - وحتى لا ينتهي الأمر بها إلى ضياع كل شيء.
وهي التي حلمت طويلا وصبرت إلى أن أوصلها طموحها إلى التربع على ذروة السلطة في دمشق وفلسطين وتوابعهما.
ووسط خضم تلك المسالك والمتعرجات والقسمات الواضحة السمات واصلت البسوس - أو سعاد - تحركاتها ورسم أبعاد خطتها الدامية، للانتقال بثروتها من خيول وجمال ورءوس أغنام وأموال، بالإضافة إلى كوكبة حرسها وأهل بيتها إلى ربوع الشام ولبنان.
إلا أنها تمهلت وأخرت تنفيذ خطتها ورحيلها، حين وصلتها أخبار جديدة، تلقتها من رسلها مستبشرة غير مصدقة، حتى إنها خلعت على الرسل، الذي حملوا إليها هذه الأخبار، الكثير من الأموال والهدايا.
ذلك أن والي التبع القتيل حسان على عدن وحضرموت والمدعو بالأمير «عمران القصير»، وصل به الغضب والضيق من مكيدة مصرع التبع حسان بالشام وفلسطين على ذلك النحو الغادر، إلى أقصى مداه، فجهز من فوره جيشه وفيالقه استعدادا للإبحار إلى تلك البلاد ومحاربة التغلبيين من بني ربيعة وحلفائهم، انتقاما لما حدث وألم بالتبع الذبيح.
حتى إذا ما وصلت الأخبار إلى التبع الجديد - كليب بن ربيعة - عن تلك الاستعدادات التي يجريها «عمران القصير» بعدن وحضرموت، استنفر من فوره قومه، لأهمية وضرورة التنبه لما يحدث، وقبل أن «تقع الفأس في الرأس»، وتسقط البلاد في أيدي تباعنة اليمن مرة ثانية.
وهكذا خرج كليب في كامل عدته وعتاده للقاء جيش عمران القصير الذي جاءهم بجيشه منتقما هذه المرة.
والتقى الجيشان واشتعلت لهيب الحرب، «حتى عظمت الأهوال، وظل كليب يفتك بهم وبأفيالهم وبفرسانهم كمثل ليث ضار، إلى أن تمكن من منازلة قائد اليمانية ذاته - عمران القصير - أياما طوالا، فظلا في حرب وقتال، إلى أن أرداه كليب صريعا.»
وعاد كليب راجعا إلى الشام، فدخلها «كالبازك»، أو كمثل صقر محاط بالعز والنصر.
وهنا لم تجد «البسوس » لها منفذا، سوى مواصلة استعداداتها للانتقام الأسود المبيت سرا!
الفصل العاشر
انتقام البسوس
استبشرت أقوام اليمن والجنوب العربي باعتلاء التبع الجديد «ذو اليزن» عرش التباعنة، وهو ابن عمرو الذبيح.
وكأن كل ما حدث من كبوات مقوضة لملك الحميريين في السنوات الأخيرة، والتي اختتمت بمصرع التبع حسان بدمشق، لم يكن أكثر من تكفير عن اغتيال عمرو - والد ذو اليزن - الذي تسمى بالممزق أو الذبيح.
وها هو أخيرا ابنه الوحيد - ذو اليزن - يحكم حمير، بعدما أصابها وأدماها من كبوات جسيمة، جاءت متلاحقة كعقاب على ما قد اقترفت يداها.
وهكذا استراح الجميع مستبشرين بذو اليزن أو «ماء المزن»، الذي عرفه الجميع محبا أولا وقبل كل شيء للعلم والبحث في أغوار كنوزه ومخطوطاته التي لا تنضب، لكن وبما لا ينفي فروسيته التي شاعت عنه أيضا منذ مطلع شبابه، مثل خوضه مباريات الفروسية العربية، والتي لا تبعد كثيرا عن الطراد والنزال، بل والحرب عامة باعتبارها رياضة العرب القومية.
إلا أن ما اتفق عليه الجميع، هو مدى سماحته وانشغاله بأمور الناس وما يفيد وييسر حياتهم من إنشاءات لسدود وطرق استجلاب الماء وتصريفه وكيفية التحكم في مساره ومجراه بما يحقق الرخاء والاخضرار للناس والدواب.
وهي مشرعات السدود والتحكم في مناسيب المياه باعتبارها مصدرا لكل حياة ونمو.
فجاء اعتلاء «ذو اليزن» عرش التباعنة أقرب إلى بلسم أراح الجميع، وأخصهم بالطبع أهل العلم الذين التفوا من فورهم حوله معضدين مستبشرين، فلعل في قدوم هذا الشاب الصلد العف ما يحد قليلا من تسلط تباعنتهم وطموحاتهم التي لم تكن لتقف عند حد، على طول المشرق والمغرب على السواء.
وعادة ما كانت تنتهي تلك الأعمال الكبيرة من حروب وهجرات - والتي تتخذ من طموحاتها مجرد مطايا لبلوغ الآمال، تحت أي شمس وموطن، من مجاهل الصين حتى تخوم مصر - بكارثة لا يعرف لها أحد مدى تقف عنده، سوى أنها - أي تلك الكبوات والانتكاسات - كانت تصيب الجميع بلا استثناء من كبير إلى صغير.
ومن هنا توسمت القبائل اليمانية في التبع الجديد «ذو اليزن»، شيئا مخالفا عمن سبقوه من أسلاف، فلعله سيأخذ بالمشورة أو الشورى التي غابت عن أسلافه التباعنة على طول تاريخهم الغابر، بل إن هذا بذاته ما أصر عليه وزيره وناصحه الأول الذي اتخذه هو بنفسه - ذو اليزن - بمعزل عن عمة أبيه ذاتها، وهو المعلم والشاعر الحكيم «يثرب».
فكانت علاقة ذو اليزن بيثرب أكثر من مجرد التوقف عند النصح وإسدائه، خاصة والتبع الجديد، كان لا يزال حديث السن، لم يتعد التاسعة عشرة من عمره حين وقع عليه الاختيار، ليلعب دور المنقذ في حكم حمير وسطوتها التي تخطت جزيرة العرب شمالا وجنوبا.
فالعلاقة بين التبع الجديد - الشاب - وبين وزيره الشيخ المتمرس يثرب، تخطت دور النصح، لتلتقي عند النظرة الواحدة والرأي الواحد في معظم الأمور التي غايتها إفادة التحالف وتوثيق عراه أكثر فأكثر.
واتضح هذا للجميع منذ الوهلة الأولى، أو منذ أول كارثة واجهها «ذو اليزن» كملك لحمير، وهي كارثة اغتيال عمه - حسان - وابنه غدرا، واتساع صدى الدعوة التي تبنتها - قبل الجميع - عمته البسوس مطالبة بالثأر والانتقام.
هنا فقط تطابقت وجهتا نظر كل من ذو اليزن ووزيره يثرب، وهو ما ضاعف من اشتعال نيران أحقاد البسوس إلى حد إعلان غضبها عليه وعلى وزيره «يثرب». - يا للخنوع المزري! ماذا دها حمير؟
حتى إذا ما واجهته البسوس بموقفه السابق، الذي أبدى فيه الرغبة لمرافقتها للنزال وأخذ الثأر من مغتالي عمه التبع حسان وابنه، أجابها ذو اليزن في حزم: أيامها لم أكن تبعا لحمير. - والآن؟ - الآن وفي هذا المكان، تأمرني حمير.
اندفعت عمته البسوس مواجهة في حدة، شاهرة صدرها له: أنا حمير!
غمغم الملك: أنت عمتي.
قاربها التبع الشاب ذو اليزن في حنو، آخذا بساعدها، مشيرا من شرفات قصره المنفتح على الجهات الأربع: ها هي حمير، الناس يا عمتي!
ولكم وخز ذلك الموقف الذي جاء متفجرا بين البسوس وحفيدها ذو اليزن أعماق قلبها ومشاعرها وجعل منها جرحا غائرا لا يبرأ، وهي التي مهدت له حكم حمير، ليخرج ومنذ أول قرار على رأيها وما تشير به هي أولا، كما اعتادت على الدوام منذ أن كانت في مثل سنه بل وأصغر؛ لذا فلا بد أن في الأمر شيئا، زفرت البسوس في حقد: ذلك العجوز الأرقط، يثرب، رأس الأفعى.
وهكذا صبت البسوس منذ البداية نيران غضبها وأحقادها على وزير ذو اليزن المقرب «يثرب» دون أن يثنيها شيء عن قرارها الذي أصبح يشويها شيا. - دم حسان.
وشيئا فشيئا واصلت البسوس نفض أيديها من التبع الجديد الذي لم يعد يأخذ برأيها في الخروج للحرب انتقاما لعمه حسان، حتى إذا ما وجدت بغيتها في الانتقام وأخذ الثأر الذي يبدو أن لهيبه اشتعل أكثر في «صنعاء وعدن»، أضرمت هي المزيد من النار إلى أن دفعت بابن عم حسان الأمير المدعو «عمران القصير» إلى تجهيز حملة من «مئة ألف مقاتل، إلى بلاد الشام.»
وكان كليب قد استعد للحرب والقتال، وخرج للقاء «عمران القصير»، والتقى الجيشان واشتعل لهيب المعارك والحرب، حتى عظمت الأهوال، فظل كليب يفتك بأفيالهم، إلى أن تمكن من عمران القصير ذاته، فصرعه على ذلك النحو المشين الذي لطخ حكم حمير وتباعنتها. - يا لها من كارثة لن يمحوها أي ثأر ودم مراق على روابي دمشق ولبنان وأرض السرو وعبادة وفلسطين، مدى الدهر.
تساءلت البسوس مذهولة كمن فقدت وعيها كله وهي تسير عبر ردهات قصرها على غير هدى: أي دم ذلك الذي سيشفي غليلي يوما، ليستقر ابن أخي التبع حسان في مثواه الأخير. شردت ببصرها عبر الشرفات المحيطة، متطلعة إلى وفود القبائل شاهرة الرماح والحراب مطالبة بالثأر لدم التبع المغتال، وابنه الصحصاح وابن عمه أخيرا: عمران القصير. - الدم ... الدم ... الثأر ... الثأر.
مدت البسوس كفي يديها وكأنها تستشف وتقرأ ما تخبئه الأيام والليالي الثكلى من أحداث جسام حبلى بالثأر المبيت. - رأس كليب بن ربيعة.
أرخت فجأة ذراعيها منكسة، كمن أسقط في يدها يائسة، من فداحة الأخبار الأخيرة التي حملها إليها رسلها وبصاصوها الفارون الذين عادوا أدراجهم إثر الانتصار الأخير الجديد الذي أحرزه كليب بن ربيعة على جيش عدن وصنعاء. - يا للعار.
اندفعت البسوس من فورها صارخة في وصيفاتها : أين الجثمان؟ - بالقاعة الغربية يا مولاتي.
مضت من فورها متشحة بخبائها الأسود عابرة صفوف المعزين من رجال ونساء، إلى أن وصلت إلى حيث التابوت الحجري الجرانيتي الذي ووري فيه جثمان الأمير «عمران القصير» مشيرة للحراس برفع الغطاء حتى إذا وقعت عينا البسوس على الجثمان المسجى بلا رأس، تراجعت كالمشدوهة من رهبة المشهد: أين الرأس؟ - سمره كليب على بوابات دمشق إلى جوار رأس التبع حسان.
صرخت من فورها: والرجال، أين الرجال في حمير؟! أين؟! أين؟!
عم صمت طويل، لم يقطعه سوى نهنهة النساء وعويلهن في خفوت وتحسر.
عادت من فورها إلى مضجعها، عاقدة العزم على تنفيذ انتقامها المبيت من جميع التغلبيين الفلسطينيين وآل مرة اللبنانيين. - أشفي غليلي من كليب وتلك الملعونة، الحية الرقطاء، الجليلة بنت مرة.
وهكذا بدأت البسوس تخطط لانتقامها المقبل، ومن المعروف أنها كانت تحمل العديد من الأسماء والألقاب منها: سعاد، وتاخ يخت، وهند، والبسوس، بالإضافة إلى الاسم الذي يرد في الأدب العربي الكلاسيكي «الهيلة».
وقد قامت ملاحم التباعنة لتنسج عن البسوس ملاحم كثيرة أضفت عليها هالات أسطورية وحدتها مع المتنبئة الشاعرة الطروادية «كاساندرا»، مثل قصة حبها وزواجها المشابهة لما وقع بين «أبولو وكاساندرا» وانتهى بزواجهما في النهاية.
فلقد كانت سعاد أو البسوس منذ مطلع شبابها فاتنة باهرة الجمال فصيحة اللسان شديدة البأس دائمة الترحال.
كانت تركب الخيل في الميدان وتبارز الفرسان، واشترطت ألا تتزوج إلا من يقهرها في ميدان القتال.
وكان أن سمع بخبرها ملك عظيم اسمه سعد اليماني وكان ملك بلاد السرو - أي الأردن - فركب إليها وبارزها، إلى أن اقتلعها من فوق سرجها فأقرت له بالغلبة، وتزوجها وأقام لها حفلا عظيما لمدة سبعة أيام.
بعدها عاد بها إلى بلاده، وظلت تحكم معه البلاد عشرة أعوام، إلى أن أصيب «سعد اليماني» بالعمى وفقدان البصر، فأصبحت هي الملكة، وكلمتها هي العليا في بلاد السرو وعبادة.
إلا أنها آثرت العودة بزوجها الضرير إلى بلادها خلال فترة تغيب أخيها التبع أسعد وحروبه في أقاصي الشرق، إلى أن وقعت الأحداث الأخيرة الدامية ، التي دفعت بها إلى التصدي للانتقام بنفسها، والعودة إلى ربوع بلاد الشام، التي سبق لها أن عاشت وحكمت فيها سنوات عشرا.
لذا فإن البسوس على دراية واعية دقيقة بمجريات الأمور بالشام وبلاد السرو وفلسطين، بما يسر لها سبل تحقيق أغراضها من أوسع الطرق وأقصرها للانتقام بشكل رهيب وبشع وبصورة أكيدة لا يخالجها أي شك.
فما إن حددت يوم رحيلها سرا، حتى ركبت هي وبعلها الأعمى وبيتها وبناتها وثمين ممتلكاتها وسارت إلى أن حطت رحالها في بيروت والبقاع بالقرب من «حلة بني مرة».
وعلى الفور أرسلت وفودها بغالي الهدايا للأمير «جساس بن مرة»، حتى إذا ما استحسن جساس رفيع هداياها إليه، طلب مقابلتها، فسعت إليه - البسوس - وأنشدته أبلغ أشعارها: «بدوام أيام الأمير جساس بن مرة، ورفع على ملوك قدرك ومكانك، ونصرك على حسادك وأعدائك.»
وما إن تعجب جساس من فصاحتها وسألها عن حالها حتى قالت: «أنا شاعرة أطوف القبائل والعشائر، أمدح السادات وذوي الجود والأكابر.»
هنا رحب جساس بها للعيش في دياره وحمايتها من كل معتد.
وهكذا بلغت البسوس مرادها، فمضت من فورها تنشر الفتنة بين «البكريين من آل مرة»، وحكامهم التغلبيين أو بني ربيعة وملكهم المتجبر كليب. - ذلك الذي حرم عليكم الماء والكلأ.
وعندما بلغت ذروتها في تحريض القبائل، ووصل الأمر إلى مسامع أميرهم جساس بن مرة، بعدما أوغرت صدره ضد التغلبيين وتعديها على قومه، طالب بضرورة الاجتماع بزوج أخته الجليلة - كليب - وإعلامه «بتعديات أقوامه وجورهم وجورها.»
إلا أن فتنة البسوس كانت قد استفلحت إلى أن وصلت أسماع الملك كليب ذاته، وتبني بني مرة لها، فأرسل إلى جساس يطالبه بإيقاف الفتنة وإخراج العجوز الشاعرة من القبيلة.
وهكذا تحقق الانقسام، ونمت المخاوف وأزهرت التوجسات بين الطرفين.
حتى إذا ما أقدم كليب يوما على قتل ناقة البسوس المطلسمة - التي كان يدعى أنها من سلالة ناقة النبي صالح والملقبة بسراب، حين اقتحمت - الناقة - بستانه البهيج وسط غوطات دمشق، الذي يقال إنه كان «من أحسن متنزهات الدنيا» مما دفع بكليب إلى إطلاق سهمه نحو ضرع ناقة البسوس - السائبة - ليستقر معتدلا في ضرعها وليشخب ب «الدم واللبن».
حتى إذا ما أدركت البسوس ما حصل وتلفحت بجلد ناقتها وتخضبت بدمها دخلت نائحة على جساس بن مرة وألقت بجلد الناقة الذبيحة بين يديه، هنا استبد بجساس الغضب.
حتى إذا ما حاول جساس تهدئة البسوس وتعويضها بما تطلب فداء لناقتها؛ أجابت: أريد واحدا من ثلاثة أشياء:
إما أن تملأ حجري بالنجوم
أو تضع جلد الناقة على جثتها لتقوم
أو رأس كليب بالدماء يعوم.
وهكذا خرج الأمير جساس قاصدا مقر الملك كليب بدمشق، وما إن استقبله كليب قادما عليه بكامل عدة حربه، حتى تعرفه، إلا أن جساس راوغه زاعما له أنه كان في طريقه للصيد، وما إن مر بدمشق حتى جاءه مسلما ومعاتبا لقتل رعيانه لناقة ضيفته ونزيلته «العجوز الشاعرة وبعلها الأعمى.»
حين طيب كليب خاطره، عارضا عليه أربعمئة ناقة عوضا عن ناقة العجوز الضيفة، واصل جساس خداعه مغيرا الموضوع قائلا: «مرادي أن ألعب معك سباقين بالجريد.»
وضحكا ولعبا طويلا في صفاء إلى أن تحين جساس لحظة مباغتة لاغتيال الملك من ظهره، «وهز في يده الرمح وطعنه في صدره حتى خرج يلمع من ظهره.»
فسقط كليب يتخبط في دمه، فندم جساس وتقدم إليه وقبله في لحيته وعارضيه، وضمه إلى صدره، ووضع رأسه على ركبتيه، وقال: «سلامتك يا أبا اليمامة، فقد حلت بي الندامة.»
فطالبه كليب بشربة ماء وأنشد مرثيته متحسرا:
يقول كليب اسمع يا ابن عمي
أيا جساس قد أهرقت دمي
أيا غدار تطعنني برمح
ولست أنت في الميدان خصمي
على ناقة تقتل ابن عمك
أمير كريم من لحمك ودمك
بيوم الضيق كان يزيل همك
ويردي الضد في يوم النزال.
وما إن فرغ الملك القتيل - كليب - من شعره الدامي، حتى ارتعد جساس وذبلت أطرافه وهو يبعده عنه ليسقيه مروعا، ثم تركه مجندلا هاربا، لعبد البسوس المختبئ، الذي تقدم من الجثمان ليجز الرأس ويعود به إلى سيدته «الهيلة» أو البسوس التي حققت انتقامها من قاتل التبع حسان، وأشعلت فتيل حربها الشهيرة بين آل مرة والتغلبيين، تلك الحرب القبلية الانتقامية التي استمرت لمدة 41 عاما، والتي اشتهرت باسمها حتى اليوم: حرب البسوس!
الفصل الحادي عشر
التبع ذو اليزن يحكم حمير
كانت نتيجة احتفاء القبائل والأقوام في جزيرة العرب بالملك الجديد الشاب «ذو اليزن» وحبهم الجارف له، هي انخراطه بكل طاقاته في إعادة بناء مشروعات سدود المياه العملاقة، التي تتيح للناس الزراعة والرخاء ونشر الاخضرار من بساتين زاهرة وحبوب.
كان الملك يهدف من هذا إلى إعادة بناء واستقامة ما سبق للحرب أن هدمته، وذلك لما تتطلبه من رجال، أجبروا على التخلي عن الزراعة والرعي، ليساقوا بالآلاف المؤلفة أو تحملهم السفن والمراكب إلى ما وراء البحار، إلى أن تمكن الملك التبع بمساعدة وزيره الحكيم «يثرب» من إعادة بناء سدود «مأرب» التي كانت قد هدمتها السيول، وتخلى سواعد الرجال عنها انشغالا بالغزو والحرب في ربوع قارة آسيا وشمال الجزيرة العربية وفي ما بين الرافدين، حتى إذا ما عم الرخاء، ارتفعت الأيدي بالدعاء للملك الشاب، وتجمعت وفودهم أكثر فأكثر للالتفاف حوله، وهي تلهج له بالنصر في كل خطواته.
وتضاعفت فرحة الوزير الأول «يثرب»، وهو يشهد الجموع على ذلك النحو، إلا أنه سرعان ما اعتراه التغير والاندهاش، حين تهاوت إلى سمعه الأصوات المرتفعة في حضرة الملك التبع، التي أصبحت تطالبه بالخروج إلى الغزو والفتح، أسوة بما اتبعه ودرج عليه أسلافه من التباعنة.
وسرعان ما تزايدت الدعوة للغزو والفتح ومواصلة القتال تحت راية التباعنة. - وحتى لا تنكس سيوف حمير وأذرعها الضاربة.
فلم تقتصر تلك الدعوة مع توالي الأيام والأشهر على العدنيين والصنعانيين، انتقاما لمصرع أميرهم - المنتقم - عمران القصير، بل تواترت إلى أسماع الملك ووزيره من كل كيان وموطن وقبيلة، والتي علت نبرتها داخل عدن وصنعاء وحضرموت خاصة.
وزاد من عجب الوزير «يثرب» أن التبع الجديد ذو اليزن بدأ يسمع إلى دعوة المطالبين بالغزو والطراد يوما بعد يوم، متخليا عن آرائه السابقة في التعمير والزراعة ونشر الرخاء.
ولم يمض وقت طويل، حتى توافدت جماعات المقاتلين وفيالقهم وكتائبهم من كل مكان مشهرة سلاحها، إلى عاصمة التبع، بانتظار إشارته بالحركة والخروج للقتال.
وكان كلما تضاعف حماس المحاربين واشتد، أثنى عليهم الملك التبع؛ مقربا مستبشرا فاتحا لهم ذراعيه وقلاعه وبساتينه ومخازن مؤنه، مغدقا عليهم العطاء السخي المشجع لقدوم وفود جديدة من كل قبلية وموطن تحت حكم «حمير» الشاسع.
حتى إذا ما حاول الوزير «يثرب» مفاتحة الملك في هذا الأمر وعواقبه، قاربه الملك نازلا عن عرشه، ممسكا في رفق بذراعه باتجاه شرفات القصر الحاكم مشيرا إلى الناس، بنفس ما فعله سابقا مع عمته البسوس قائلا: «إنما أنا أسير؛ حيث تسير جموع الناس.»
تراجع الوزير مفكرا وقد أحاطت به الوساوس من كل جانب، خاصة عندما أصبحت وفود المحاربين وفيالقهم في الأيام الأخيرة لا ينقطع لها تواصل، حتى ضاقت مدينة التبع، على الرغم من رحابتها، بهم، غمغم الوزير لنفسه في أسى: حقا إنه إرث التباعنة الذي لا مهرب منه، لا حياة بلا حرب أو قتال وأنهار دم.
وتساءل يثرب بينه وبين نفسه في حسرة: ألا يكفي ما فعلته البسوس في إشعال نيران الحرب الضارية في ربوع الشام ولبنان وفلسطين، بعدما أوقعت بينهم بفتنتها التي أصبحت اليوم وبعد مقتل جساس بن مرة لكليب بن ربيعة التغلبي، تحصد الجميع حصدا؟ ألا يكفي؟
إلا أن التبع سرعان ما انخرط بنفسه بين صفوف جيشه المتعاظم مشرفا ومنظما على تدريباتهم ومؤنهم جالبا السلاح والعتاد من كل مكان.
والوزير الحصيف «يثرب» يستشف ببعد بصيرته نهاية كل ذلك. - الحرب وأنهار الدم، تلك التي لا مهرب من أوارها وهكذا تحقق حدس الوزير، بحلول ذلك اليوم المشئوم الذي أقام فيه الملك ذو اليزن حفلا كبيرا شغل قاعات قصره «الحصن» واستغرق الإعداد له أياما طوالا.
ودعي إلى هذا الحفل كبار قواده ومستشاريه وشيوخ القبائل والأمراء والحكام، امتد فيه السمر وتبادل الآراء والمشورة بين الجميع، حول ما يحدث ويجري داخل مختلف الأقوام المتاخمة لحمير والمناوئة لها، بما قد يشكل خطرا في المستقبل.
وفجأة قدم إلى ذلك الحفل شخص غريب، في هيئة مسكين أو سائل، وينم مظهره بكامله - وكما أجمع الجميع - على أنه غريب، لم تألفه عين من قبل.
وحينما دفعت السماحة بالملك إلى الترحيب بالغريب وسؤاله عن حاله، أخبره بأنه مجرد سائح جوال في بلاد الله الشاسعة، خبر أحوال البلاد والعباد، مدونا أخبار ما يسمعه ويراه، ولا أكثر.
هنا عاجله الملك بالسؤال: وهل صادفك من هم أعلى منزلة منا؟
صمت السائل ولم يجب. - إني أسالك؟
عندئذ انهمك السائل في تناول طعامه لائذا بصمته كمن لم يسمع.
وحين تدخل بعض الحاضرين مطالبينه بالرد على التبع، انتصب واقفا مجيبا عليه: أجل. - من إذن؟ - ملك بعلبك. - هل سبق لك زيارة بلاده؟ - أجل.
واجهه الملك ذو اليزن: أخبرني أيها الصديق.
وهنا اندفع ذلك الغريب السائل، ساردا تاريخه وخصائصه وحصونه وقلاعه وكتائب جيشه - من حراس الأرز - وعن سطوته وثرائه. - يا للغرابة!
ليلتها لم ينم التبع وظل يفكر، وفي النهاية عقد العزم على المسير إلى بعلبك والبقاع مهما كلف الأمر؛ لتأمين ذراع حمير الطولى وتحصينها التي أخذ «تباعنتها» على الدوام بمنطق «أن الهجوم خير وسائل الدفاع». - أيها الناس، إن لم تهاجموا الناس هاجموكم، وإن لم تغزوهم غزوكم.
ولم يطل الوقت كثيرا بطبول الرجروج، حتى سمعت مدوية عالية من كل موطن وقوم، على طول ملك حمير الشاسع.
واتخذ جيش ذو اليزن طريقه شمالا إلى أن حط رحله في موطن يقال له «وادي فزان» على مشارف «بيت الله» في الكعبة.
وتوقف ذو اليزن منبهرا من الكعبة وبنائها وشموخها، والآلاف المؤلفة التي قدمت لزيارتها من كل موطن وقوم وكيان.
أما الوزير «يثرب» فقد توجه من فوره للزيارة والحج إلى بيت الله، مما أوغل صدر التبع، فحاول مهاجمة بيت الله متجبرا، وبذل الوزير غاية حكمته محذرا إياه، الذي تراجع من فوره متخاذلا، ثم انسحب واهنا إلى مضاربه فلزم فراشه مكفهرا مريضا، غير قادر على اتخاذ أي قرار.
ولزم الملك فراشه أياما يعاني من آلامه المبرحة التي ألمت به، وعجز حكماؤه عن شفائه، إلى أن ثقل عليه المرض وأصبح يهذي بلا طائل، طالبا ومستنجدا بوزيره، المقرب يثرب شاكيا له: أيها الوزير العاقل الخبير يثرب، أخبرني بما دهاني؟
وهنا أخبره الوزير، بأن ما اعتراه من مرض عضال بسبب تطاوله على بيت الله الحرام، الذي شيده إبراهيم الخليل وبكره إسماعيل - أبو العرب - مزيدا: فللبيت رب يحميه، أيها الملك.
هنا تحامل الملك ذو اليزن، متخذا طريقه إلى حيث الكعبة فأومأ إليها مثله مثل بقية خلق الله، إلى أن أتم حجه.
ثم أمر بكسوتها بغالي الديباج وتزيينها بالذهب والفضة ونفيس الأحجار الكريمة التي كانت في حوزة التباعنة.
وحين عادت إلى الملك عافيته، وزالت عنه أمراضه وآلامه، دأب على كسوة الكعبة واستكمال ما يلزم من زينتها ومنشآتها.
بينما طاف الوزير الوادي المزهر المتاخم الذي يعبقه رحيق العطور؛ عاقدا العزم على إقناع الملك بالبقاء في تلك الربوع التي تعيد للنفس صفاءها.
ورجع التبع ذو اليزن إلى رأى وزيره بمواصلة البقاء في رحاب «بيت الله»، دون استعجال المسير.
أما الوزير «يثرب فقد أخبر الملك مطولا بتاريخ بيت الله، وما سبق أن تعرض له تباعنة اليمن من أسلافه الذين حاولوا مجرد الاقتراب منه دون خشوع، ومنهم «يعرب بن قحطان».
أما الوزير فقد استغرقه حلم أجهده طويلا، وهو بناء مدينة تشرف على هذا الوادي البهيج، ومن فوره عقد العزم، واجتهد في تخطيطها وعمارتها، وشق أساساتها، ورفع أسوارها وتعمير قصورها ودورها ومضاربها وأسواقها وما أجراه من أنهارها.
وهكذا عمرت المدينة وازدهرت ساحاتها وأروقتها وأسواقها، ورأى سكانها أن يطلقوا عليها اسم الوزير الحكيم «يثرب».
وساعد الملك التبع ذو اليزن وزيره في تعمير المدينة التي أعطاها اسمه، باذلا كل عون، إلى أن استقامت «يثرب» زاهرة، تفيض عمرانا وعطاء.
فما كان من الوزير إلى أن كتب معلقته الشهيرة للملك ذو اليزن، التي دونت على رقائق الذهب وعلقت بالكعبة الشريفة، وفيها يقول الوزير «يثرب».
أيا ملك في هذه الأرض قد سما
جللت بيت الله خزا مزركشا
يحير عيون الناظرين مرقما
وساعدتني حتى بنيت مدينتي
يهاجر إليها سيد الأرض والسما
ويظهر - يوما - دين الحق شرقا ومغربا.
فلقد كان الوزير «يثرب»، وعقب نزوله ربوع هذه الأرض، واختلاطه بأهلها وطوافه على طول بواديها ووديانها، كمن يستشف أمرا جللا هائلا سيحل يوما بها.
صحيح أنه لم يكن على يقين من أبعاد ذلك الانطباع الذي امتلأ به، إلا أنه كان وكلما مر به الوقت، تضاعفت رؤيته ويقينه من تصوره ذاك.
بل إن الغريب هنا أن كثيرين من أصدقائه ومقربيه قد شاركوه ذلك الإحساس.
وأن الملك التبع ذو اليزن، فاتحه كثيرا في ذلك التصور حول الإرهاص بمولد شخص كبير منتظر، قد يغير يوما وجه الأرض، وسيجيء مولده من بين ربوع هذه البلاد.
وفي البداية تصور الوزير «يثرب» أن الملك ذو اليزن - وعلى عادة ما عرف عنه - إنما يوافقه في تصوره هذا، من باب المجاملة فحسب، إلا أن الملك كرر على مسامعه كثيرا مشاركته إحساسه ذاك وعبر مناسبات مختلفة، مما دفع به إلى التيقن من صدق إحساسه.
بل إن حماس التبع في التعجيل ببناء يثرب واستجلاب ما يلزم لبنائها وتخطيطها من خيرة بنائي مصر والعراق والشام وعلى نفقته الخاصة، قد فاق حماسه ذاته.
ولكم حاول الوزير يثرب، أن يدفع الملك التبع إلى أن يعطيها - أي يثرب المدينة - اسمه بدلا منه، إلا أن ذو اليزن رفض مصرا على تكريمه بها.
مما دفع بالوزير إلى مواصلة سهر الليالي بحثا عن شيء - متكافئ - يرد به جميل الملك وحسن صنيعه، دون جدوى.
حتى إذا ما جاء يوم طالبه فيه الملك ذو اليزن بسماع آخر أشعاره وقصائده، أمهله الوزير بضعة أيام ليكتب فيها «معلقته» عنه، ولكم عانى الوزير يثرب في محاولة التعبير عن مدى حبه وتقديره الجارف لذلك الملك التبع، الذي لا يحدوه سوى الخير والعطاء لبسطاء الناس أينما اتجه وقادته قدماه، إلى أن وصفه في قصيدة عصماء.
الفصل الثاني عشر
البحث عن كتاب النيل ومنابعه
لكم تمنى الوزير الحكيم «يثرب» أن يطول به المقام في هذه البلاد العاطرة، على مقربة من «بيت الله».
فلقد شعر بالارتياح، الذي شاركه الملك التبع ذو اليزن، الإحساس به عميقا جارفا، خاصة وبعدما شفي من بلائه عقب إقدامه على كسوة الكعبة.
بل إن ما ضاعف من انشراح قلب الوزير الأول، هو ذلك النمو المطرد الذي بدت عليه المدينة التي أقدم على تشييدها «يثرب»، والتي تلاحق عمرانها وعمرت أسواقها بكل منتجات بلاد العرب والعجم والهند وبلاد الشام ومصر وقرطاج والحبشة.
فأقيمت المباني وشقت الطرقات وأنشئت الحدائق وملاعب سباق الخيل على ضفاف أنهارها وبساتينها التي اجتذبت الزائرين ووفود الحجيج من كل مكان.
بل إن المدينة وصلت إلى ذروة بهائها وعطائها إلى حد أن الملك التبع نفسه ذو اليزن لم يعد بقادر على فراق يثرب وحلو لياليها وسمرها، ليواصل زحفه على رأس جيشه إلى بقاع لبنان محط آماله عبر رحلة زحفه وفتوحاته، مرورا ببلاد السرو وعبادة وأرض فلسطين ووصولا إلى السودان والحبشة.
فلقد كانت تلك الرحلة الشاقة المضنية، هي الحلم الأزلي للملك منذ صباه. - البحث عن كتاب النيل. - كيف؟ - مصادر النيل.
سأله الوزير ذات مرة: أتقصد من أين يجيء النهر؟
أجابه ذو اليزن، منكبا بكامله على استكمال مخطوطة دونت صفحاتها على رقائق من جلود الأيائل البرية قائلا: المنابع.
ولعل ذلك الاهتمام من قبل الملك بالماء مصدر كل حياة ونمو، نبت معه كهواية ومنذ صباه المبكر، وكان أيامها في الحادية عشرة من عمره، وهو ما دفع بالوزير يثرب إلى احتضانه إياه، وتبنيه منذ تلك السن، وكما لو كان ابنه أكثر منه معلمه الذي اصطفاه، وهو ابن عمرو القتيل.
فلقد كان الماء ومصادره ومكوناته وطرق التحكم فيه وتطويعه لخدمة الناس هو الاهتمام الأول لذو اليزن أينما حل، فهو موضوعه الذي لا يمل الحديث عنه والقراءة فيه. - فهو ذو اليزن؛ أي ابن ماء اليزن.
هو كما لو أنه متحد بالماء ذاته، باحثا عنه، مسخرا كل ما توصل إليه من مصادر قوة، لإعادة تملكه. - الماء.
فما كان من مكان نزل فيه، إلا وبحث عن مصادر مائه ومصدر حياته، وإذا لم تتواجد «نجدها بسواعدنا قبل أي شيء»، كما كان يحلو له القول.
وها هو «يمن» ذو اليزن السعيد، ينعم بسدوده ومشاريعه التي فجرته - أي اليمن - بالعطاء، جبلا وسهلا.
بل وها هي «يثرب» التي أرسى الملك بنفسه معالمها تبدو، كمثل عروس، عامرة زاخرة بكل ما تشتهيه الأنفس وتستعذبه. - يثرب، مدينة النور المنتظر.
وبدا الوزير الأول منتشيا وهو يرقبها - أي المدينة - من مقره المشرف على أعلى روابيها، كمن لا يطيق فراق حبيبه!
كان الملك التبع ذو اليزن قد عقد العزم على الرحيل، وكانت قد سمعت طبول الرجروج بإيقاعات لها رتابتها المتكاسلة، تنم عن قرب حدوث الفراق، مخالفة بذلك إيقاعها المعتاد كالهدير لدى الإعلان عن الحروب والغزوات.
وذلك بعدما طال مكوث الملك ذو اليزن وجيشه طويلا في ربوع تلك البلاد ووهادها، مما ساعد على نمو الروابط والعلاقات بين أبناء الجزيرة شمالا وجنوبا.
وهي روابط وعلاقات متشعبة المسالك والأغراض والمنافع، ما بين صداقات ومصاهرات وقصص حب، ومصالح تجارية وعمرانية نمت وأثمرت مع بزوغ مدينة يثرب واتساع عمرانها وحوانيتها يوما بعد يوم.
بل لقد وصل الحماس من قبل القبائل والعشائر العربية الشمالية في نجد والطائف وينبع وعسيران، إلى حد دفع بشبابهم إلى التطوع والالتحاق بفيالق جيش التبع ذو اليزن، الذي حل عليهم ونزل حليفا أكثر منه غازيا أو طامعا في بلدانهم.
وهو ما لم يعتادوه مع من سبقوه من جدود وأسلاف - تباعنة - حسان بن أسعد، وتلك النكبات التي لن تغيب يوما، والتي أحدثها حسان على طول بلدانهم ومضاربهم، وكما حدث مع قوم «زرقاء اليمامة» وإفناء قبائل جديس، وتهديم مدينتهم اليمامة إلى حد لم يسبق له مثيل.
من يمكن له تناسي أهوال حسان وسبيه لأميرتها الشاعرة المحبة منفتحة الحس والبصيرة «الزرقاء» مكبلة في قيودها، وهي تلعنه وتصفعه بقيودها في إقدام. - غدا تسقيك الأيام والليالي الحبالى يا حسان، من ذات الكأس. - غدا، ذلك الذي أراه، تجز رأسك عن عنقك المتكبر، بذات أسلوب الغدر.
ولعله هو بذاته ما حدث وانتهى إليه مصير عمه الملك التبع حسان.
لكن شتان ما بين ذلك الملك السمح البناء ذو اليزن، وبين عمه حسان.
ومن هنا كان ذلك الحماس الجارف الذي تفجر فجأة، كمثل نهر جارف مكتسح بين جموع القبائل في يثرب وما حولها، حين سمعت طبول الإيذان بالرحيل تجيء دقاتها بطيئة على استحياء وكأنها تود الاستئذان، لاستكمال مهام الرحيل والزحف، وهو ما لم يصدقه أحد من سكان يثرب وتخومها من العرب الشماليين، حين سرى الخبر سريعا حول إقدام التبع ذو اليزن وجنده على الاستعداد للرحيل عن يثرب وشمال الجزيرة، لاستكمال رحلة أهدافه في ربوع الشام ومصر «العدية» حتى أواسط أفريقيا.
وبدت الجموع كمن تستيقظ من غفوتها بعدما توثقت الروابط وازدهرت العلاقات والمصاهرات.
بل إن ما أحزن الجميع لفراق ذو اليزن، هي تلك المشاريع الجزيلة العطاء والفائدة التي خلفها ذو اليزن ووزيره الحكيم «يثرب» وبقية حاشيته ومقربيه، من تكريم لبيت الله، وإنشاء مدينة يثرب، وشق الأنهار والترع على طول البلاد.
وكانت قد تجمعت الوفود بمشاعلها المتوهجة مودعة ذو اليزن وجيشه معبرة عن مرارة الفراق والغياب. - تصحبكم السلامة.
وهكذا واصل ذو اليزن، على رأس جيشه، الزحف الذي استغرق أياما إلى أن شارفوا مدينة «بعلبك»، بأسوارها وقلاعها الحصينة التي تقطع بضخامتها الفراغ المحيط، مشرئبة ببواباتها النحاسية العالية التي يعلوها الحراس المدججون بالسلاح وخوذات الحرب المعدنية اللامعة.
ولم يشأ التبع اليمني إعلان الحرب أو غزو بعلبك مفضلا الحكمة على العدوان.
كذلك لم يصدر عن ملك بعلبك مبادرة إعلان حرب أو قتال، حين وصلته أخبار نزول جيش ذي اليزن الجرار بالسهول والتلال البعيدة الغور عن تخوم المدينة.
إلا أن الملك - واسمه أيضا «بعلبك» - وقف مشرفا من أعلى روابي المدينة، مسلطا عينا لا تخيب بصيرتها على ذلك الزحف الذي لا قبل لمخلوق به، والمقترب من المدينة، لكن دون أن يشهر أحد سلاحا. - هذا ضيفي!
نطق بذلك الملك بعلبك متراجعا قليلا عن جدار النافذة العليا المشرفة على قمة «برج البروج»، مرتجا من هول الكارثة التي لا قبل له من قبل بمثلها. - كل هذا الجيش والعتاد.
كان الملك بعلبك قد أمضى يومه بكامله مستطلعا لقطعان الخيول العربية المطهمة والعربات الملكية وقوافل الجمال، وفيالق جيش المشاة، وقطعان المؤن التي لا تنتهي من رءوس الأبقار والجمال والماعز .
حتى إذا ما قارب دخول الليل التالي وهو ما زال مأخوذا بارد الأطراف من هول ما يشهد، وما لم يشهد من قبل، عاد مؤكدا لنفسه بصوت واضح النبرات لمن حوله من كبار قواده ومستشاريه وعيونه المسلطة. - هذا ضيفي!
واستمر الوضع على هذا الحال أياما امتدت إلى أسابيع، لم يرفع فيها أي سلاح. - ويلي، ويلي!
صحيح أن الملك «بعلبك» لم تغفل له عين من هول ما رأي من ضخامة جيش التبع اليمني، ومدى حرصهم، وعدم تحرشهم بأحد، إلا أن ما أصبح يبحث عنه هو. - كيف التصرف؟
وهكذا أمر الملك بعلبك من فوره بإرسال واجبات الضيافة وإعدادها بكثرة تفيض عن حاجة ذلك الجيش، من رجال وما يليق بهم ومن في معيتهم من زوجات وأمهات وشيوخ وأطفال.
وما إن انشغلت المدينة عن بكرة أبيها بإعداد كل ما يلزم من واجبات استضافة جيش التبع الذي لم يبدر منه عدوان إلى الآن «ربما يمر مرورا ببلادنا وبلاد جيراننا وغيرنا من أقوام»، كما أمر الملك، حتى حمل الحرس المكون من كتيبة مسالمة في هيئة رسول وآلاف الذبائح المطهية للترحيب بالتبع الملك «ذو اليزن» من قبل الملك «بعلبك» لضيوفه العرب النازلين.
وعادوا من فورهم محملين بشكر التبع ذو اليزن للملك بعلبك، واستمر هذا الحال في تقديم «العشاء» من قبل ملك بعلبك بضعة أيام، إلى أن قرر ملك بعلبك الانتقال بنفسه لملاقاة التبع. - لنعرف ما الخبر؟ وما يحدث؟
وهكذا انتقل إليه ملك بعلبك في حرس بسيط، فهب الوزير يثرب لاستقبالهم إلى أن أدخلهم على الملك ذو اليزن الذي رحب به شاكرا حسن ضيافته، وهو في طريقه بحثا عما يشغل باله وفكره عن مصادر الماء، وخاصة. - كتاب النيل.
غمغم ملك بعلبك متحسسا جبهته كمن يمنع نفسه من الإغفاء، بعد طول عناء: النيل.
قاربه الملك ذو اليزن في مودة وهو يأخذ بيده ليعتلي عرشه إلى جانبه: منابع النيل.
وما إن دارت أقداح القهوة العربية، حتى استجمع ملك بعلبك كامل توهجه، وكان ضخم البنيان، كث الشوارب والحاجبين، محبا للحياة ومباهجها، وبدا للحظة مفتونا من مشهد الملك التبع ذو اليزن وصفاء ذهنه وما يشغله من موضوع، هو في الحقيقة قوام كل حياة في الوجود من سلم وحرب وسياسة. - الماء ومصادره.
اندفع من فوره محييا ذو اليزن. - يا له من موضوع يليق بالملك.
وامتد الحديث بينهما عذبا يفيض صفاء وتدفقا حول عالم البحار والأنهار وأسراره التي سيظل موضوعها يشغل كل بال.
إلى أن تفهم ملك بعلبك، حسن غاية التبع، فعرج بالحديث مستوضحا هدفه من النزول على تخوم بعلبك، فأخبره الملك ذو اليزن مازحا بصوته العميق الذي يشيع كل طمأنينة في آذان سامعيه: لم لا يعرف كل منا صاحبه؟
ثم أعاد ذو اليزن طمأنة الملك بعلبك قائلا له: ولعلك الآن تعرفت علينا وأدركت حقيقة نوايانا.
هنا فهم ملك بعلبك غرض التبع ومرماه، وكيف أنه الآن - أي ملك بعلبك - على معرفة بحجم جيش التبع وعتاده.
فبادره ملك بعلبك ممتنا مرحبا: هذا مطلب يشرفنا حقا أيها الملك الحكيم التبع.
قال ذو اليزن: «مرادي أن أنظر عسكرك.» - هذا شرف كبير لنا حقا.
وقبل أن يهب ملك بعلبك مودعا التبع ذو اليزن منصرفا، اتفقا على استعراض عسكر الأول في اليوم التالي. - فلعلك أيها الملك الكريم، تبارك جيشنا وترعاه.
الفصل الثالث عشر
ملك بعلبك يجمع مستشاريه
ما إن انصرف التبع ذو اليزن عقب استعراضه لجند وكتائب وعتاد ملك بعلبك الهائلة العدد والعدة، وذلك التنظيم وحسن المظهر الذي اتسم به أفراد الجيش وقادتهم، حتى أحاطت المخاوف والهواجس من جديد بملك بعلبك؛ متسائلا: ماذا أفعل؟ دلوني!
وعندما لم يسعفه أحد بجواب شاف، اندفع من فوره، غارقا في مشاعره، مسترجعا تعبيرات وجه ذو اليزن وهو يطل من فوق البناء المشرف على ساحات جنده وكتائبه في إعجاب وتقدير ملفتين، وفي بعض الأحيان كان يرفع يده بالتحية لجموعهم. - ترى ماذا يقول؟ ولماذا طلب مني هذا المطلب الغريب، أن يشهد جيشي ومصدر قوتي، لماذا؟
تساءل مسترجعا لحظة أن أطل بنفسه من أعلى كوة قلاعه مستعرضا جيش ذلك الملك اليمني التبع، حالما انشق الأفق البعيد عن عسكره وقواته بملابسهم الغريبة وأجسادهم الناحلة الجافة الدقيقة التكوين وأسلحة حربهم، ودقة تنظيم صفوفهم. - لا بد أن في الأمر شيئا، ستكشف عن وجهه الخبيء الأيام والليالي المقبلة.
من جديد اتجه من فوره إلى جموع مستشاريه طالبا مشاركتهم ومشورتهم الرأي في ما يحدث ويجري في بعلبك وبقاعها والذي جاء هكذا دون سابق إنذار. - أخبروني ماذا يحدث، وما الذي يمكن فعله الآن قبل غد، قبل فوات الأوان؟
وهكذا فتح الملك على نفسه فاتحة لا حد لها ولأهوالها، حين حاول كل وزير أو أمير أو قائد من قواده، الإدلاء برأيه ومشورته وخططه.
فمنهم من رأى الملك التبع - ذو اليزن - يبغي شرا بهذه البلاد، وإلا فلماذا جاء إلى بعلبك وبقاع لبنان بالذات، ولماذا لم ييمم وجهته إلى بلاد السرو وعبادة؛ أي وادي الأردن وفلسطين؟
وإذا كان طريقه وغايته بلاد الحبشة وأواسط قارة «أفريقيا»، فلماذا لم يتخذ أقصر الطرق من اليمن وجنوب جزيرة العرب، عبورا إلى القرن الأفريقي، بدلا من بعلبك وشمال لبنان؟
وانتهت آراء ذلك البعض إلى أهمية الاستعداد للحرب واتخاذ الهجوم كخير وسائل الردع والدفاع، بدلا من أن يبدأ هو - أي التبع - هجومه، خاصة بعدما تعرف عن قرب على حجم الجيش وعتاده وأساليب قتاله.
وتزايدت مخاوف الملك بعلبك من الاندفاع والأخذ بهذا الرأي، فمن يدري؟ لعل ذلك التبع اليمني صادق في قوله ونواياه، وأنه حقا يشغله بحثه الذي يركب له كل الصعاب والمخاطر، بحثا عن: كتاب النيل ومنابعه.
تساءل ملك بعلبك: من يدري؟ فقد نخسر كل شيء في حربنا مع اليمنيين، وما عرف عنهم من بأس وجلد على المنازلة والقتال.
وأعاد الجميع إلى الأذهان سيرة تبعهم حسان اليماني وتجبره في حروبه مع «آل مرة» والتغلبيين، وما أقدمت عليه يداه من صلب وقطع رقاب ما تزال تخضب آثارها بوابات دمشق.
ثم ها هي ذي الحرب التي أشعلت فتنتها عمته البسوس، تلتهم الجميع معا من آل مرة والتغلبيين، وفي كل عام يتزايد أوارها مستعرا متفاقما. - حرب البسوس.
غمغم ملك بعلبك، متجها كالمأخوذ إلى حيث شرفة قصره الشمالية المطلة على فلول مضارب جيش التبع وقبائله النازلة في سهول البقاع: حرب البسوس بين أبناء البيت الواحد ومن يدري؟ لعل لهيبها وشررها سيصلنا هنا في ربوع هذه البقاع.
استدار من جديد عائدا حيث وفد مستشاريه وقواده، ساترا بكفه جانب وجهه المكفهر عن تلك العيون المحيطة المتطلعة إليه، وكأنها إنما تتطلع مشدوهة إلى إنسان آخر غيره، فهم لم يعتادوا من قبل أن يروا مليكهم على هذا النحو من الاكفهرار والتخاذل وهو يكرر تساؤله المؤرق: من يدري؟!
بل إن ما ضاعف من شكوك ملك بعلبك أكثر فأكثر هو مجيء التبع بجيوشه إلى البقاع، بدلا من نزوله وجيشه إلى دمشق وفلسطين لأخذ ثأر عمه من كليب بن ربيعة وآل مرة، ثم انفجر ملك بعلبك غاضبا حين تسرع أصحاب الرأي المتصلب المطالب بالهجوم قبل أن يبدأه اليمنيون صائحا: نحن لسنا في لعبة مراهنة، فأين نحن - حراس الأرز - من حمير وتباعنتها؟
هب الملك عن كرسيه، كمن يعاني اختناقا من هول ما يحدث، متذكرا هيئة أمير بني ربيعة مصلوب الرأس إلى أسفل على مدخل دمشق، وقد غاب عنه دمه المنحبس في عروقه، جاحظ العينين غارقا في صمته وآلامه المبرحة.
وما إن استرد ملك بعلبك عافيته حتى عاوده صفاء ذهنه، فطالب ناصحيه بالتروي والعمل في صمت وضبط النفس إلى حين عودة عيونه وبصاصيه المنبثين بين جموع اليمنيين ومضاربهم في آخر الليل ومعرفة حقيقة ما يحدث. - ما الخبر؟
وفي آخر الليل كان قد تجمع لديه كل ما طلبه من أخبار، إلا أنه لم يجد فيها أبدا مبتغاه، وهو ما ينبئ عن اقتراب رحيل التبع ذو اليزن عن البقاع، بل وعن لبنان والشام بأكمله، صرخ الملك من جديد وقد اعترته النوبة: ألم يطب لأولئك البدو الغزاة الإقامة والمقام في بلاد الله الواسعة، سوى هنا وعلى عتبات بواباتنا؟
استدار ضاربا كفا بكف: أتكتم أنفاسنا ليل نهار على هذا النحو؟
كان ملك بعلبك قد أصدر أوامره لعماله وحكامه بالصمت، منذ نزول التبع وجيشه فلم يعد يسمع في كل جنبات المدينة لهوها وصخبها وما اشتهرت به من أفراح ودبكات ورقص وغناء حتى مطلع كل فجر.
لذا بدت المدينة في الأيام الأخيرة صامتة مترقبة، يشيع في جنباتها التوجس المطبق ولا شيء غيره. - إلى متى؟
تساءل الملك متفرسا في وجوه المحيطين منه من وزراء ومستشارين وقواد: إنه الحبس، الأسر بعينه، ما أصبحنا وأمسينا فيه داخل أسوارنا.
مرة أخرى عاوده هدوءه وتماسكه معاودا التساؤل: أما من حيلة؟ - حفلة على شرف التبع.
تفوه الملك مفكرا: مسمومة!
وأخذا بمقولة خير البر عاجله اندفع الملك من فوره معدا كل شيء بدقة وحذر شديدين.
حتى إذا ما أشرف بنفسه على دقائق خدعته الجديدة، توجه من فوره إلى حيث يربض حرسه عاقدا عزمه على المسير إلى مضارب التبع ذو اليزن لدعوته للحفل، ودعوة وزرائه وكل قواده وأمرائه وحتى كبار جنده لحفلة العمر التي ستشهدها سهول بعلبك تلك الليلة. - ليفرح الجميع، وتتوثق عرى الصداقة والمحبة، الليلة!
وسريعا ما استحال ليل روابي ومنحدرات وقصور وبساتين بعلبك، إلى نهار جلي وواضح، بعدما انتشرت محارق نيران الشواء والطهي وأضيئت الفوانيس والمشاعل والشمعدانات ذات الأفرع الثمانية، وعمت البهجة الجموع وانتشرت حلقات الرقص الجماعي العملاقة (الدبكة) وعلت الموسيقى وصاحت المغنيات، ومدت السماطات والأبسطة والموائد الخشبية والنحاسية والمرمرية.
وتوقف ملك بعلبك يشهد بنفسه من كوة أعلى أبراج قلاعه، غبار موكب الملك التبع في جبروته محاطا بهوادجه وكواكب فرسانه، وفي إثره موكب وزيره، العاقل الحكيم يثرب.
وهنا تدافعت دقات قلبه مما سيحدث هذه الليلة الليلاء، التي قرر أن يضع فيها حدا لهواجسه ومخاوفه.
حتى إذا ما قارب موكب الملك التبع ذو اليزن مشارف الحصون الأمامية للمدينة نزل ملك بعلبك مسرعا متبوعا بحاشيته ومقربيه، وقد نشر الزينات والأعلام اليمانية شمالا وجنوبا مرحبا بالتبع ذو اليزن. - شرفت ديارك.
واصطحبه من فوره إلى حيث اعتلى معه عرشه الهائل وأجلسه أعلى منه منزلة.
ومدت موائد الطعام والشراب، وعذب السمر، وخلال كل ذلك ازداد الملك بعلبك شحوبا حتى إنه لم يجرؤ على أن يشير للتبع مرحبا إلى حيث موائد الطعام.
وتزايد اكفهراره أكثر، حين لاحظ أن الملك ذو اليزن ووزيره يثرب أو أيا من مرافقيه لم يقرب أيضا طعاما أو شرابا.
بل إن الوزير «يثرب» نادى أحد مقربيه وأسر له بشيء لم يسمع، تواتر من فوره إلى جموع الضيوف في ذات الصمت الحازم.
هنا تزايدت هواجس الملك المضيف، وهو يرقب ما يحدث، من دون أن يعرف فحواه، وتساءل: تراهم قد عرفوا بأهوال هذه الوليمة المسمومة!
وحاول دفع الملك ذو اليزن إلى المشاركة في الغناء والطرب، جاذبا اهتمامه إلى مهارة حلقات الراقصين وهم يدقون الأرض في تناسق متناغم عرف عنهم منذ القدم، وجاءت به الكتب والأسفار القديمة، وشاركه التبع ذو اليزن مؤكدا، في صفاء عن مدى مهارتهم وحسن غنائهم وإيقاعهم.
وعم الحفل لحظة وجوم امتدت ثقيلة إلى أن قطعها سقوط بعض اليمنيين صرعى بعدما تسرعوا وأكلوا الطعام المسموم يعانون في صمت وأصوات مكبوتة، مما دفع بالتبع ذو اليزن، إلى مقاربة ملك بعلبك مسرا في أذنه قائلا: مرادي أن أنازلك أيها الملك في الميدان!
ثم انسحب التبع الملك ووزيره يثرب وبقية المدعوين من أمرائه وقادة جيشه وحاشيته، بعدما اتفقا على المنازلة في اليوم التالي على مشارف تلال بعلبك.
وفي اليوم المحدد مع مطلع النهار، اجتمعت جموع عظيمة لا يحدها بصر من الجانبين مبكرين لمشاهدة النزال بين ذو اليزن وملك بعلبك.
وحين تواجها صالا وجالا في الميدان طويلا، بين «صد ورد وطراد ومهارشة»، حتى انبهر كل من شاهدهما.
وظلا هكذا إلى أن غربت الشمس دون غالب ومغلوب، فتصافحا وافترقا على اللقاء في اليوم التالي وجرت المبارزة بعدما داخلها خبرة كل منهم بخصمه، وظلا يتلاقيان ويتباعدان، ويكمنان ويفران طيلة اليوم إلى أن حطت الظلمة أعالي جبال بعلبك وروابيها، وافترقا على لقاء جديد.
وامتدت المنازلة بينهما سبعة أيام.
وفي اليوم الثامن كان ذو اليزن قد داخله الوهن والتعب، إلا أنه تمكن من ملك بعلبك الهائل الجثة فأرداه قتيلا، وأشرف بنفسه على دفنه في مهابة وتكريم.
وبعدها قرر الملك ذو اليزن بمشورة وزيره المقرب يثرب الرحيل عن تلك البلاد، بعدما أخذ عشرين حملا من مال ملك بعلبك وجواهره وذهبه الإبريزي وفضته الفينيقية.
وارتحل ذو اليزن بجيشه طالبا أرض الحبشة وبلاد السودان، إلى أن نزلوا واديا ذا أشجار.
الجزء الثاني
مقدمة الجزء الثاني
آخر التباعنة: الملك سيف بن ذي يزن
توقفت بنا أحداث السيرة المندثرة للملوك التباعنة عند رحيل الملك التبع ذو اليزن، إلى أفريقيا بحثا عن كتاب - أو منابع - النيل، وإقدامه على بناء مدينته التي شق أنهارها وشيد قلاعها وبنى أسوارها وسماها، أحمرا أو «الحمراء».
لحين نشوب ذلك الصراع بينه وبين ملك الأحباش «سيف أرعد» الذي أفزعه، إلى حد الجنون، نزول الملك ذو اليزن بجيشه العربي بالقرب من بلاد الحبشة، وتهديد سطوتها ويدها الطولى المهيمنة على منابع النيل، وعلى معظم الأقوام والكيانات والقبائل الأفريقية، سواء في شرق أفريقيا المتضمن للقرن الأفريقي، أو شمالها في السودان وبلاد النوبة وصعيد مصر والمغرب.
فكيف لملك الحبشة «أرعد» أن يهدأ بالا، وهو يشهد تعالي سطوة العرب وتبعهم ذو اليزن وازدهار مدينتهم الجديدة التي تضاءلت بجانبها عاصمته إثيوبيا، كما ورد في معلقات الوزير الحكيم «يثرب».
ومن يثرب قد سرنا بعد عمارها
إلى بعلبك ابن عمي بها كبرا
وسرنا إلى أرض الحبوش بجيشنا
نزلنا بواد عمه الماء والزهرا
مليكنا ذو اليزن عمر أحمرا
حصنها بالأسوار وأجرى الأنهرا
فما كان من سيف أرعد سوى اللجوء إلى الحيلة والمكائد للتخلص من الملك التبع ذو اليزن الذي عمت شهرته آفاق أفريقيا، فأرسل بأخلص وأجمل وأذكى جواريه «قمرية» محملة بسمها الزعاف لتقضي عليه.
إلا أن الجارية التي بهرت من روعة وحضور وفروسية الملك ذو اليزن، سرعان ما وقعت في حبه منذ أول لقاء، فأفضت إليه بخطتها باكية عند قدميه.
وهنا توطدت الصداقة بين الملك التبع الزاهد المنقطع لأبحاثه العلمية لإنشاء المشروعات المائية من سدود وخزانات هدفها الاخضرار وخير الناس، وبين الجارية الباهرة الجمال والذكاء التي جاءته لتقتله.
وكان المرض المفاجئ قد بدأ يغزو جسد الملك الكهل، دون أن يخلف وريثا لحكم التباعنة من بعده، فقرر الزواج من قمرية، ليخلف منها، وقبل فوات الأوان، وريثا لحمير، هو: «هيكل، وندعوه سيف»؛ مولد آخر التباعنة.
وفي أعماق القارة السوداء ولد «هيكل» أو سيف بن ذي يزن يتيما بعدما فارق والده الملك ذو اليزن الحياة، مفضيا لزوجته قمرية بوصيته التي موجزها أن تعتلي هي عرش التباعنة لحين اشتداد ساعد ولده الوحيد سيف (أو هيكل) لتسلم سلطاته. - ليحكم بالعدل بين الأقوام والقبائل.
وكذلك أوصى له الملك الوالد، بمخطوطاته ومدوناته وأبحاثه حول: كتاب النيل.
إلا أن مولد سيف صاحبه الكثير من المخاطر الهائلة التي أضرم لهيبها ملك الأحباش المتجبر سيف أرعد، ووزيره المعادي للعرب الساميين «سقرديون»، فما كان من الأم قمرية، إلا أن ربته في الخفاء بأحراش وغابات أحد البلدان الموالية سرا للعرب (من المرجح أن يكون السودان أو الصومال) وتدعى مملكة «أفراح».
ونما سيف بن ذي يزن بمنفاه يتيما مطاردا من سيف أرعد وعيونه الموجودة على طول الأقوام والبلدان الأفريقية، وفي الوقت نفسه بات سيف أرعد مرتعدا خائفا من مولده وعيشه المدهش في الخفاء:
ومولود يأتيك يملك أرضهم
ويبقى على جميع البرية حاكما
وهكذا واصل ملك الحبشة أرعد مطارداته وحروبه خلال طفولة سيف بن ذي يزن، فغزت الحبشة اليمن وشمال الجزيرة العربية، وتوغلت في صعيد مصر، حتى هاجر اليمنيون أنفسهم إلى تلمسان تحت حكم عبد الودود والمنذر، إلى أن اشتد ساعد سيف اليزن، فجمع كوكبة من أخلص فرسان القبائل المعادية للحبشة وتسلطها وخاض سلسلة من المخاطر والمغامرات على طول البلدان والقلاع المهجورة شرقا وغربا في أفريقيا، وأحب بنت ملك أفراح «شامة»، التي اصطحبته بضع سنوات عبر مخاطراته تلك في ربوع أفريقيا واليمن، إلى أن تزوج بها عقب إنقاذه لها من بين مخالب ابن ملك الحبشة الذي كان يبغي الزواج بها، ولعب سيف بن ذي يزن أبرز أدواره كبطل شعبي، حين تسلل بأتباعه وفرسانه إلى داخل بلاد الحبشة ذاتها، فأقدم مليكها سيف أرعد على حصار عاصمة التباعنة في أفريقيا - أحمرا - ذاتها، بهدف تخريبها وأسر ملكتها قمرية.
وتمكن سيف (أو هيكل) من تخريب سدود ومنشآت النيل داخل الحبشة، إلى حد تمكنه من تخريب الحصار ذاته حول أحمرا، وفك أسر أمه، ثم طاردا معا جيش الأحباش وملكهم سيف أرعد إلى أن أوقع به وقتله.
وهنا أصبح سيف بن ذي يزن: تبع حمير المنتظر.
وعمت الأفراح وتوثق الأمن والأمان في ربوع اليمن والجزيرة العربية بأسرها، بالإضافة إلى بقية البلدان التي يجمعها نهر النيل، وأهمها بالطبع «مصر العدية»؛ حيث توافدت الوفود على أحمرا من ربوع مصر، مطالبة بزيارة الملك سيف - أبو الأمصار - لمصر التي بها استقبل استقبال الأبطال الفاتحين، بعدما أراح أهل مصر من ملك الحبشة وتهديده لرقابهم وأرضهم؛ نتيجة لتحكمه في مناسيب النهر الأسمر داخل الحبشة وتخومها، ففي مصر، التي أعطت لسيف بن ذي يزن، أقصى طاقات حبها واحتضانها له ولأفكاره ومشاريعه العمرانية، وجد الملك سيف مبتغاه الأخير، فأقام بها طويلا، بعدما أحاطه المصريون بحبهم المتدفق والجارف، فأطلقوا عليه: أبو الأمصار.
وحين أنشأ بجبل المقطم القلاع والحصون لجيشه لحمايتها، خاصة من أخطار الفرس الطامعين، أطلقوا على الجبل «الجيوشي» وتعارفوا على الملك سيف ذاته ب: أبو الجيوش.
واصطحب الملك سيف بن ذي يزن زوجته ورفيقة صباه ابنة ملك «أفراح» شامة، وابنهما الذي سمياه «دمر»، إلى مصر فأقاموا بها طويلا وبدأ استعداده لحماية مصر من الطامعين، حتى إذا ما تجددت أطماع الفرس في حكمها، واصل حروبه ومطارداته لفلولهم داخل خراسان، بعدما توغل في أصفهان بجيشه العربي الذي كان قد أحسن تدريبه بنفسه بالجبل الذي يحمل اسمه إلى اليوم، «جبل الجيوشي».
وكان يحلو له التنكر ومواصلة أسفاره ومخاطره السرية، لاستطلاع نوايا الفرس، بحجة بحثه عن كنوز جدته بلقيس ملكة سبأ والملك سليمان.
وعندما كبر ابنه من شامة - دمر - نصبه حاكما لسورية الشمالية، واتخذ من ميناء بانياس عاصمة له، إلا أن غزوات الأقوام الفارسية الطامعة تمكنت من أسر دمر، مما أوقع الأحزان الثقيلة بأمه شامة، إلى حد أفضى بها إلى الجنون.
وهنا لم يجد الملك التبع سيف بن ذي يزن مهربا من مطاردة الفرس ومنازلتهم عبر آسيا الصغرى والأناضول وشبه القارة الهندية، وهي حروب طويلة ومضنية، ضد ملك يدعى «الهدهاد» الذي واصل تعقبه إلى «ما وراء نهر بلخ» و«عاد فدخل دلتا مصر عن طريق دمياط مظفرا بالنصر، مخضبا بالدم النازف على جبينه كأرجوان.»
لكن سرعان ما اندلعت من جديد الحرب بينه وبين الملك الفارسي «بهرام»، إلى أن حقق الملك سيف نصره الأخير، الذي انتهى بهدنة، أقدم الملك التبع سيف بن ذي يزن خلالها على الاقتران بابنة بهرام الباهرة الجمال «مهردكار» وعاد بها إلى مصر، دون إدراك لأبعاد المؤامرة التي دبرها الفرس للتخلص منه بأقل الخسائر؛ حيث اضطلعت زوجته «مهردكار» بوضع السم الزعاف في طعامه خلال رحلة بحرية لهما على شاطئ النيل، هربت بعدها عبر أحراش الدلتا، فلم يعثر لها على أثر.
وفجع المصريون بموت مليكهم المنقذ المحبوب - سيف - فبكوه أياما في الطرقات والشوارع.
وكفن الملك سيف بن ذي يزن ودفن بمدفنه وكنوزه بالجبل الذي كان قد أعطاه اسمه الجيوشي وانتهت فاجعة موته الغادرة وسيرته العاطرة، «فركب على مصر أربعة ملوك من أرض خراسان العجم، ووقعت الحروب الطاحنة بينهم وبين دمياط ودمنهور الوحشي، وهرع لنجدتهم أسيوط ملك إيليا وفلسطين»، حسب نص مخطوطة السيرة المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني المرفقة.
السيرة بين التاريخ والفولكلور
ولعل أبرز ما تؤرخ له هذه السيرة الملحمية التي يتعاقب فيها الشعر والنثر، هو امتداد الصراع بين الساميين والحاميين، ثم تلك الحروب القبائلية الطاحنة التي اتخذت من الشام ميدانا، وبالتحديد منطقة بعلبك والبقاع بلبنان مرورا بفلسطين ومصر إلى حيث أفريقيا الوسطى والحبشة والسودان، بالإضافة إلى القرن الأفريقي، بهدف تعريب هذه الأقوام.
وهنا تنتهي حقيقة حدود مناطق النفوذ العربي الجنوبي، وهي ما تؤيده النقوش والمدونات التي عثر عليها علماء اللغات السامية، سواء في اليمنين، أو على طول الطريق التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، مارا بمكة المكرمة ويثرب ومدائن صالح وتيماء وتبوك ومعان حتى دمشق.
كذلك أثبتت الاكتشافات الحفائرية - الأركيولوجية - في بلاد الحبشة وتخومها، أن هذه البلاد كانت خاضعة يوما ما للنفوذ التجاري أو الثقافي أو السياسي اليمني.
فالحروب الطاحنة بين العرب والأحباش أكدتها المصادر التاريخية الإسلامية، فالسيرة في حديثها عن تلك الحروب: تستطرد في عرض الحياة وأعمال البطولة، وهي صادقة في هذا العرض، إلى حد كبير، فسيف بن ذي يزن، الذي ولد لأبيه في أفريقيا، والذي تربى في البراري في الفلاة، وأتى منذ صباه بالكثير من أعمال البطولة وبعد النظر، كشخصية تاريخية ماثلة محققة، هو التبع اليمني الذي قاد الجيوش العربية الجنوبية، وطرد الأحباش وأنهى سطوتهم من بلاده، وقد تحدث «ابن هشام» عنه، وذكر الكثير من الأشعار والمعلقات التي تنسب إليه أو قيلت عنه، كما تعرض لحروبه ضد الفرس الطامعين، ودوره وحروبه ومآثره في شبه القارة الهندية، وانتساب الكثير من الأسر الحاكمة الآسيوية إليه، فهو الجد السالف للأسرة الحاكمة في «بوروناي»، وبطل من أبطال ملاحمهم.
وأخيرا يبدو أن راوي هذه السيرة، خبير بمصر التي احتفت بسيف بن ذي يزن وخوارقه وبطولاته في صد أطماع الأحباش من جانب، والفرس من جانب آخر؛ حيث يذكر من جغرافيتها، ولغتها وعاداتها أدق تفاصيل ملامح بلدانها مثل أسوان وإسنا وإخميم وأسيوط ومنفلوط وملوي وأهناسيا وحلوان والجيزة، وحارة الوطاويط، وقلعة الجبل والروضة، وجبل الجيوشي، الذي تسمى باسمه «أبو الجيوش» الملك سيف، ومدفنه به إلى اليوم، وذلك أيضا حسب نص مخطوطة المتحف البريطاني.
الفصل الرابع عشر
التعريب داخل أفريقيا
كان الوادي الأخضر هائل الشجر والإثمار الذي استقر رأي التبع ذو اليزن على النزول على رءوس جباله وروابيه السندسية الحانية، وضفاف أنهاره العذبة العميقة الزرقة ذات الخرير الشجي.
وكان الوادي بالإضافة إلى جماله الباهر الأليف يفيض ويموج بمختلف أنواع الحيوانات والطيور وقطعان الماشية من جمال وأبقار وأغنام وأيائل برية.
ورغم خلوه من السكان، إلا من بضعة رعاة فرادى، فإنهم فروا الأدبار هربا عندما وقعت عيونهم على جيش ذو اليزن الجرار المدجج بالسلاح.
وكان التبع ذو اليزن لا يزال يعاني طيلة الطريق من بعلبك إلى أفريقيا، مما اضطره ودفعه دفعا إلى تحديات ملك بعلبك ومنازلته إلى أن أرداه قتيلا بحسامه على مرأى من أمرائه وأقاربه وذويه، فما فكر على الإطلاق أن ينازله حتى الموت، إلا أنه ما إن رأى رجاله يهوون صرعى نتيجة أكلهم السم في تلك الليلة الليلاء، حتى أدرك الخيانة من قبل ملك بعلبك، فكانت المبادرة بالتحدي والمبارزة معه أسلم الحلول بدلا من رفع السلاح وإحداث مجزرة رهيبة يسيل لها الدم مدرارا على السهول والروابي ويذهب ضحيتها الأبرياء قبل الأعداء.
ولقد حاول الوزير «يثرب» كلما حاول الملك مفاتحته في أمر ما جرى، تهوين الأمر عليه، بأن «البادئ بالشر هو عادة الظالم».
بل إن التبع ذاته كان ينوي الرحيل بجيشه عن بعلبك بعد أيام معدودة، دون أدنى أطماع أو نية سيئة تجاه ملكها الكريم الشمائل، الذي رحب بهم في البداية خير ترحيب، إلا أنه سرعان ما استهوته هذه البلاد الحارة المتفجرة بالعطاء الذي تفصح عنه طبيعتها السخية.
وتملكه الحماس أكثر حين تبين له مدى كثرة الماء ومجاريه على طول ذلك الوادي، بما يسهل له ممارسة هوايته وتحقيق أهدافه خاصة بحثه عن «كتاب النيل» الذي يؤرقه البحث عنه وحل طلاسمه وألغازه.
فانشغل الملك ذو اليزن في أبحاثه وأسفاره ما يعن له من ملاحظات حول الماء ومصادره، وكيفية التحكم فيه، خاصة النهر العظيم، نهر النيل.
حتى إذا ما انتهى ركب ذو اليزن من حط رحاله في ربوع تلك البلاد والغابات، أقيمت المضارب والخيام وبيوت الشعر، وبدأ بتشييد قصر التبع ووزيره يثرب على سفوح أعلى الجبال المحيطة بالوادي الفسيح وغاباته الكثيفة.
وانخرط الملك من فوره مستغرقا في أبحاثه المضنية عن منابع النيل؛ حيث سافر المسافات الطويلة بصحبة حراسه ومساعديه، وسأل كتبته تدوين ملاحظاته وما توصل إليه، بل بعث بإحضار بعض مراجعه ومخطوطاته ومدوناته السابقة من مأرب وسبأ وصنعاء.
وكان كلما سافر ورحل وبحث، زاد تفكيره فيما يطمح إليه، واحتياجه للسنوات الطوال لاستكماله.
فهو الماء؛ الحياة قبل وبعد أي شيء آخر.
إلى أن استقر رأيه الذي فاتح فيه وزيره المقرب «يثرب» وهو ضرورة بناء مدينة، تليق بالملك التبع تقع إلى الجنوب أكثر من المكان الذي نزلوا فيه.
وعلى الفور أمر بإحضار الصناع والمهندسين، فحفروا أساسها وبنو جدرانها وأسوارها وحصونها المنيعة.
وانشغل الملك ذو اليزن بنفسه، في كيفية تحويل المياه إليها فأمر بشق أنهارها العذبة، بما يحقق أبحاثه وما هو منشغل به: كتاب النيل.
واستغرق العمل والبناء في إقامة المدينة الجديدة في أفريقيا الوسطى سنوات، حتى إذا ما اكتملت، أسكن عشائره ومقربيه وسماها بنفسه «أحمرا».
وجاءت مدينة «أحمرا» منافسة لسابقتها «يثرب» في اجتذاب التجار والصناع وأرباب الحرف والزائرين من كل صوب: من مصر والسودان وقرطاج والمغرب الكبير وبلاد الحبشة وبلاد «بنط» أو الصومال، إلى أن وصلت أخبار الملك التبع ذو اليزن ومدينته التي على مشارف أرض الحبشة، إلى مليكها الجبار بالغ السطوة والجاه والذي ترعد له القلوب عند ذكر اسمه: الملك سيف أرعد.
وهو الذي يحكم بلاد الحبشة وما حولها من بلدان متضمنة السودان؛ حيث تقف حدوده عند مصر العليا. - يا للغفلة التي لن تغتفر يوما لأحد، كيف جاء عرب اليمن وتبعهم الكبير ونزلوا بلادنا واستوطنوها، وشيدوا مدينتهم ونحن لا نزال غافلين؟
استشاط ملك الحبشة سيف أرعد غضبا وصرخ في وجوه أعضاء مجلس حربه، من أمراء وشيوخ قبائل وحكام وقواد ومستشارين. - كيف حدث هذا؟!
توقف الملك فجأة، حين قدم وفد إلى مجلس حربه الذي كان قد دعا إليه، وكانوا يتوافدون بمراكبهم البحرية، صاعدين من فورهم إلى حيث قصر الملك سيف أرعد.
وكانت مدينة ذلك الملك يقع نصفها في البحر ونصفها الآخر في البر، وكانت حصينة مترامية الأطراف، فيها القلاع والموانئ والمنشآت البحرية ومصانع صنع مختلف الأسلحة التي اشتهرت بها في كل بلدان أفريقيا، التي لم تكن لتهدأ لها حروب ومنازعات، مما جعل تجارة الأسلحة رائجة وضاعف من ثراء مدينة الملك سيف أرعد التي اشتهرت أيضا بزرع الفتن بين أقوام القارة السوداء المترامية الأطراف.
وكان ملك الأحباش الذي يرفل في الذهب الإبريز ومعه كبار تجار المدينة لا هم لهم سوى الثراء، بغض النظر عن كيفية الحصول عليه، أما أن تصل الغفلة بالجميع إلى حد أن ينزل بلادهم وتخومهم بدو عرب المشرق وتبعهم واسع الشهرة والعلم والشكيمة ذو اليزن، فتلك كارثة الكوارث ولا شك، والأدهى أن يجيء نزولهم على هذا النحو، بلا حرب أو معارك أو قتال أو مقاومة، إلى أن يهنأ لهم البال فيشيدوا مدنهم وحصونهم، وها هي «أحمرا» عاصمة التبع، أصبحت تجتذب، عاما بعد عام، كل الأنظار المتطلعة لمصنوعاتها ومنتجاتها ومبانيها وأنهارها وبساتينها. - إلى هذا الحد تصل الغفلة بالجميع؟
أهكذا نصل متأخرين جدا على الدوام، وبعدما نفذ السهم ليفت من مقتلنا جميعا الصغير قبل الكبير، دون استثناء؟
وحاول بعض الحاضرين تهدئة ثائرة الملك سيف أرعد، بحجة أن التبع اليمني لم يرفع سلاحا ضد أحد.
عاود الملك صراخه: تلك هي الكارثة كل الكارثة.
وتدافعت بعض الأصوات مشيرة إلى أن الملك ذو اليزن منشغل بالمياه وكتاب النيل، دون غزو أو قتال، إلا أن الملك أرعد قاطع الجميع قائلا: الماء ... النيل ... حياتنا!
هب واقفا موضحا وهو يضع قبضته حول عنقه، كمن يعاني اختناقا حقيقيا. - رقابنا ... مقتلنا ... الماء ... النيل.
وكان لدى ذلك الملك - سيف أرعد - حكيمان أو وزيران؛ أحدهما يدعى «سقرديس»، أما الوزير الثاني فيدعى «بحر قفقاف الريف» أو «أبو ريفة».
كان أولهما وهو «سقرديس» يكره العرب - أولاد سام - الذين لا يحبون أحدا من ذرية حام أو الحاميين الأفريقيين؛ لذا اندفع سقرديس من فوره متحاملا ضد التبع ذو اليزن وجيشه ومآربه في أفريقيا التي يسترها ببحثه عن «كتاب النيل» ومنابعه. - إنه مجرد قناع خادع لتغطية أطماعه.
ثم عاد يؤكد: ومن الأفضل لنا المبادرة بحربه وقتله وإفناء جيشه العربي الغازي، الذي استباح بلادنا في غفلة منا جميعا - على حد قول الملك أرعد - ومن الأفضل لنا القضاء على تلك المدينة - أحمرا - التي شيدها التبع اليمني، وجلب إليها الماء من كل مكان، فالخطر، كل الخطر، من تلك المدينة التي أصبحت مضرب الأمثال في الأمن والأمان، حتى اجتذبت التجار والزائرين من مشرق الأرض ومغربها.
هنا قاطعه الملك أرعد مشيرا في رثاء عبر شرفات قصره: ألا ترون ما انتهت إليه مدننا وتجارتنا من جراء إنشاء تلك المدينة العربية التي امتلأت ساحاتها في غمضة عين بورش الحدادة وصهر الحديد وصنع السلاح وتربية الخيول العربية حتى أصبحت اليوم ترسانة وحربة موجهة إلى صدورنا؟ صرخ الملك أرعد، وقد احمرت عيناه وتبدلت سحنته عن آخرها، فجرى إليه خدمه بالماء. - ألا ترون وتشهدون؟
وكان الوزير - عدو العرب - سقرديس، على دراية كاملة بتاريخ التباعنة وحروبهم في الشرق البعيد، وتجبرهم وفتوحاتهم، فأعاد إلى الأذهان أساليب التباعنة في الغزو القائم على الخداع، مثلما حدث مع التبع حسان اليماني - عم ذو اليزن - حين اجتاحت جيوشه المتسترة بالأشجار مدينة اليمامة وأسرت أميرتها الزرقاء التي حذرت قومها الغافلين طويلا دون جدوى، وهو بذاته ما يحدث الآن.
أما الوزير الحكيم الثاني للملك سيف أرعد، وهو «أبو ريفة» فقد رفض ذلك المنطق وآثر التروي وتدبر الأمر قبل الاندفاع بالقتال والحرب مع سليل «تباعنة اليمن» وما عرف عنهم من بأس.
كان «أبو ريفة» وأصله من بلاد الحجاز، ما يزال لسانه عربيا، وما كان يعبد «زحل» كالأحباش، وكان محبا للعرب متقربا منهم؛ لذا آثر منذ البداية رفع صوته والإدلاء الهادئ برأيه للملك أرعد، محبذا عدم المبادرة بالهجوم والحرب ضد العرب النازلين. - فلعل النازل، يرحل يوما، بلا حرب وويلات وأنهار دماء.
ولما كان الوزير الحكيم «أبو ريفة» مقربا من الملك أرعد، فقد أسلم له أذنيه منصتا لمشورته، في هذه الظروف العصيبة التي حلت بالأحباش وبلادهم وهيمنتهم على مشارف أفريقيا.
إلا أن الوزير الأول، لم يطق على نزول العرب صبرا، واندفع من فوره يزين للملك سرعة الحركة والمبادرة ضد التبع ذو اليزن، ما دامت الحرب هي في ذاتها خدعة، فلم لا تلجأ إلى المكيدة والخداع؟ - كيف؟ - نرسل له بالجارية «قمر» حليلة.
هنا استكان الملك أرعد لرأي وزيره «سقرديس» منصتا مفكرا: ولعلك أيها الملك الأقدر على معرفة «قمرية، سكة الأذية» أكثر من غيرك.
فهي جارية نادرة، بديعة الجمال باهرة الحضور والغناء والكلام، كما أنها داهية الدواهي كمثل أفعى، بل هي أفعى أودت بحياة الكثيرين بمنقوع سمها الزعاف.
وحين انتشى ملك الأحباش سيف أرعد، من مكيدة وزيره «سقرديس»، هب من عرشه مشيرا إلى خدمه بإخلاء طريقه إلى حيث يقيم حريمه للاجتماع بتلك الجارية المسمومة قمرية.
وحاول الوزير الثاني أبو ريفة اللحاق بالملك سيف أرعد، للحيلولة دون تدخل تلك الجارية - الداهية - شديدة الطموح والتلون والناطقة بكل لسان ولهجة، في ذلك الأمر الخطر، إلا أن سيف أرعد لم يعطه آذانا مصغية، هاتفا وهو يقارب ديوانها: قمرية، أيتها الأذية.
الفصل الخامس عشر
مؤامرة ملك الحبشة لقتل ذو اليزن
ما إن رفع الملك أرعد طرف الستار المفضي إلى مخدع الجارية الباهرة الجمال والمتوقدة الذكاء «قمرية»، حتى أدركت من فورها ما يشغل فكره، كما عرفت مرماه من زيارته هذه لها.
هبت قمرية مبتسمة ومرحبة قائلة: التبع اليمني الغازي، ذو اليزن، أليس كذلك؟
وقف الملك أرعد وواجهها مندهشا، وسألها: من أخبرك؟ - عيناك. - أجل يا قمرية؛ إنه ذو اليزن.
قاربها مفاتحا إياها فيما يجول بخاطره مسلطا عينيه في عينيها السوداوين الواسعتين المتوقدتي الذكاء اللتين تنطقان بالتحدي وتتجلى فيهما الفروسية.
ثم رفع ذراعه المغطى بأكمله بالأساور الذهبية، في ذات اللحظة التي أشارت إليه قمرية بالجلوس: استرح أيها الملك، لا تشغل بالك هكذا، فما من ليل دامس إلا ويعقبه نهار.
أعادت هي هذه المرة مواجهته والغوص في عينيه المثقلتين اللتين عاداهما النوم منذ زمن. - لا تشغل بالك كثيرا، فمن يدري ما يخبئه الغد؟ وحسنا فعلت بزيارتي بعد طول غياب. - كيف؟
أشارت إلى قارورة سمها الزعاف «ابن ساعته» الخضراء اللون، التي تخبئها بين جدائل شعرها الطويل الضارب الاحمرار: وكأنك كنت معنا يا قمرية! - أنا دائما معك!
غمغم الملك أرعد شاردا في استرخاء، محاولا تبرير ما هو مقدم عليه ولو أدى الأمر إلى التضحية بأجمل وأذكى نسائه المقربات، موضع سره وشكواه وأدق أسراره وخباياه: ماذا أفعل، إن ذلك التبع لا يصطحب معه مجرد جيش، بل أمة بأكملها، وأنا لا قبل لي بمواجهته مفردا وحدي، بعدما استسلم الجميع على النحو الذي تعرفينه.
قاربها أكثر في تودد: أتسمعينني، قمرية؟!
هب عن كرسيه متوقدا بالحماس الذي ألهبت به قمرية رأسه وأعصابه بمجرد لقائه بها، وكأنما هي جيش بأكمله قد هب لمساندته وشد أزره في وحدته المريرة هذه: أنا لم أعد أحتمل وحدي ذلك الغباء والتكاسل والتخلف الذي تعيشه هذه البلدان والأقوام والقبائل على طول هذه القارة المسترخية السوداء، أبدا لن أحتمل وحدي.
استدار مقاربا قمرية كمثل طفل يبغي هدهدة أمه الحنون الدافئة: أن أخرج بجيشي للقاء ذلك التبع اليمني وجيشه الذي يسد عين الشمس ذاتها وحدي؟!
واجهها في تلصص: ولعلك الأقدر على معرفة الأخطار التي جلبها ذو اليزن بنزوله وقبائله بلادنا.
كان الملك أرعد على دراية كاملة بمدى ما تتمتع به «قمرية» من قدرات سياسية لا تقف حدودها عند الحبشة والسودان وما حولهما من أقوام وكيانات، بل إن بصيرة الجارية الأعجمية المولد واهتماماتها، أكثر تطلعا وطموحا على الدوام، ولعلها ومنذ أن جيء بها من الأناضول إلى إثيوبيا، تحلم ولا تزال، باليوم الذي ترى فيه نفسها في ذروة السلطة والتسلط، تحيط بها هالات الشهرة والمجد أينما حلت.
وكثيرا ما شاركها سيف أرعد حلمها الكبير هذا في التطلع، دون كلل، إلى ما وراء البحار.
قاربها سيف أرعد: ولا منقذ سواك يا قمريتي من هذه الكارثة. وأفضى إليها الملك الحبشي بتفاصيل خطته في التسلل - بقارورتها - إلى التبع ومعها غالي الهدايا وثمينها من كل نوع وصنف: جمال وخيول وقطعان ضأن، ومال وذهب وفاخر الثياب وأبدع منتجات الحبشة، وختم كلامه لها قائلا: ولعلك ستتكفلين بالباقي، في الوقت والمكان الذي تحددينه أنت يا قمرية، ولا أحد سواك.
وقضى الملك أرعد ليلته تلك، محذرا قمرية من كارثة انكشاف الأمر - المؤامرة - الذي سينتهي حتما بضياع ملكه وملك آبائه وأجداده، بل ضياع أفريقيا بأكملها.
حذرها الملك مرارا، من ضراوة انتقام التبع ذو اليزن لو انكشف أمرهما، كما حدث مع ملك بعلبك الذي مات قتيلا، حين نازله ذو اليزن وقطع رأسه، ودفنه بمهابة تليق بملك وصديق، وظل يبكيه على مرأى من ذويه ومقربيه شهورا.
كما حذرها الملك مطولا - بخاصة - من مدى سحر ومنطق واتساع علم ذلك الملك ذو اليزن، الذي تلين له الأحجار قبل البشر، فلقد كان الملك على معرفة بمدى طموح تلك السيدة القوية ذات الشكيمة التي لا تقف مطامعها عند حد.
بل إن طموحها كثيرا ما تجاوز طموحه، وهو الملك الحاكم للحبشة والسودان وأفريقيا الوسطى. - حذار من سحر الكلمات.
فهي - قمرية - التي تتقن عن دراية العربية ولهجاتها المختلفة بدءا من الجعزية - لهجة حضرموت - التي سبق لليمنيين نشرها بالحبشة، مرورا بالآرامية، والقحطانية والحميرية والمعينية والسبئية، وهي لغات أولئك الأعراب الغزاة، بالإضافة إلى معرفتها ببقية اللهجات الأفريقية، من نيجرية وأمهرية وهررية.
وفي صبيحة اليوم التالي لاجتماع الملك أرعد بقمرية، كان قد أعد كل شيء ببالغ السرية والكتمان، ما بين قوافل الهدايا والعبيد والرسائل التي ستحملها الجارية - السفيرة قمرية - إلى حيث قصر الملك ذو اليزن بمدينته «أحمرا»، من قبل ملك الحبشة «سيف أرعد».
إلا أن قمرية لم يكن يغيب عليها عقد لقاء أكثر سرية بينها وبين الوزير «أبو ريفة» لاستجلاء أمر مهمتها هذه المحفوفة بالمخاطر.
وهنا لم يقصر الوزير - الحجازي - الحكيم، كلامه معها عند التحذير والنصائح، بل دعاها إلى الثقة عن يقين حقيقي بالملك ذو اليزن، لدرجة دفعت بالجارية - المغتالة أو المحتالة في ذات الوقت - إلى التروي مفكرة منبهرة من عمق تفكير ذلك الملك وسماحته، مما دفع بها دفعا إلى التعجيل بمهمتها. - فقط لكي أراه عن قرب، فلقد أصبحت مبهورة بما أسمعه عنه.
حتى إذا ما حان موعد الرحيل، ظلت طيلة الطريق الوعر الذي استغرق أياما، غارقة بكاملها في تصور شخصية وحضور ذلك الملك الباهر، الذي - وكما يشاع عنه - لم يقهر مظلوما، أو يقف في صف الظلم والتسلط، ولم يكن يوما من الضاربين أو الباطشين، رغم ما عرف عن أسلافه التباعنة من ظلم وتجبر.
حتى إذا ما حطت قافلتها مشرفة على عاصمة التبع، العالية الأسوار وذات الأبراج والحصون والقصور، ورأت أنهارها الجارية وبساتينها وقبابها، تمنت الجارية، وبعدما استراحت نفسها، أن تقضي بقية حياتها هنا في أحمرا. - يا للروعة! يا للبهاء!
بدت المدينة العالية الأبراج والحصون، التي صيغت قبابها من النحاس الأحمر القاني الاحمرار، في نظر قمرية، كمثل مدن الأساطير القديمة الغابرة التي سمعتها تروى على الشفاه.
وظهر لعينيها الذكيتين كل شيء متناسقا: ألوان الواجهات الناصعة البياض والرسوم الجدارية التي تفيض تعبيرا عن مراحل حياة الملك التبع ذو اليزن والنقوش العربية المدونة على أصلب الأحجار والمعادن والجلود التي تزين الساحات والميادين والبساتين ودور العلم والأعلام، والأسواق الخاصة بكل ما تشتهيه الأنفس، من فاخر الديباج مثل أرجوان صور ونفائس فارس والهند، وتلك الحلي الذهبية والفضية التي تزين جيد النساء، مع أزيائهن الموشاة النفيسة.
كانت قمرية قد وصل بها الانبهار من مشاهد الحياة اليومية ل «أحمرا»، إلى حد دفع بها إلى استعادة حلمها القديم من الثراء والتملك الذي لا يعرف له حد. - أحمرا، يا حلمي القديم!
هنا أطلعت من خباء هودجها مشيرة إلى رئيس حرسها، مطالبة بالإبطاء حتى يتاح لها أن ترى كل شيء في المدينة وأن تملأ عينيها من جمالها، مستنشقة تلك العطور الذكية التي استرخت لها ملامحها، إلى حد أنساها كل توتر صاحب مهمتها العسيرة التي قدمت من أجلها وتحملت بسببها كل تلك المشاق.
تحسست قارورة سمومها التي خبأتها بين طيات شعرها العسجدي، متنهدة مشيحة ببصرها إلى حيث قصر التبع ذو اليزن: وصلنا.
إلى أن حانت لحظة لقاء الملك التبع ذو اليزن بجارية ملك الحبشة «سيف أرعد» عقب سلسلة طويلة من لقاءات رجاله بها لمعرفة غرضها من تلك الزيارة، وأخصهم وزيره الحكيم «يثرب»، الذي أشار عليه بمقابلتها بعدما أعجب بجمالها الباهر ورجاحة عقلها وفصاحتها: أشهد أنني لم ألتق قبلها بأروع وأفصح من تلك السيدة المتعالية المتوقدة الذكاء.
وكان أن أشار الملك ذو اليزن بإدخالها، حتى إذا ما تصافحا، وقدمت إليه قمرية رسائل ملك الحبشة، وفضها مسرعا، قاربها مادا إليها يده في ثقة، مما دفع بها إلى التراجع، وهو يواصل الخطو باتجاهها مبتسما قليلا، ثم اتجه بيده مشيرا إلى جدائل شعرها العسجدي المنسدل، مما دفع بقمرية إلى أن ترفع يدها إلى شعرها، مخرجة من فورها قارورة السم الضاربة الاخضرار من بين جدائل شعرها حيث تخبئها. - ها هي!
ناولتها له مطرقة مستسلمة في صمت حط عليها من بالغ انبهارها بالملك التبع ذي اليزن. - مولاي.
أجلسها الملك على مقربة من فرشه. - استريحي.
وامتد الحديث بينهما صافيا متوقدا، دون أي شائبة أو خداع وكأنهما على معرفة وثيقة أحدهما بالآخر منذ زمن طويل.
تحادثا فيما يحدث ويجري على طول القارة السوداء بكياناتها وأقوامها المختلفة في مصر والمغرب الكبير والقرن الأفريقي ونيجيريا وبلاد الحبشة.
وأفاضت معه قمرية في حديث عميق عن الماء والتربة والأنهار وأخصها النيل كما استحوذت على إعجاب التبع حين تعرج الحديث بينهما عن تباعنة اليمن واهتماماتهم بالسدود ومجاري الماء منذ «عبد شمس بن سبأ» وسده الشهير بسد مأرب.
كما تطابق رأيهما على كراهية الحروب والعدوان التي لا تحقق سوى قتل الأبرياء من الناس الآمنين. - فيكفي الناس ما هم فيه من آلام وتطاحن يومي. - أجل، أجل، فالحياة ذاتها تقتلنا يوما إثر يوم.
إلى أن غيرت قمرية مجرى الحديث وأخذت تتطلع في عيني الملك في ثبات؛ قائلة: ما قبلت هذه المهمة - القذرة - إلا لكي أراك وأتحقق بنفسي بما سمعته عنك وعن سعة رحمتك.
ابتسم التبع ذو اليزن: ماذا سمعت؟
قالت: سمعت ما يبهر أعداءك قبل محبيك.
زفر الملك مستريحا: أحقا؟ أتصدقين؟
اندفعت قمرية من فورها جاثية منكبة عند ركبتيه، وتتطلع في انبهار من تواضعه الجم، فمد ذو اليزن يده إليها: اجلسي في بيتك، في هذا الكفاية.
وعم صمت ثقيل بينهما، ارتفعت فيه أصوات عزف موسيقى خافت وغناء من قاعة الطعام فدعاها التبع إلى العشاء مكررا: أنت في بيتك.
كان الملك التبع ذو اليزن قد زاد من معرفته بها بعدما راقت في عينيه، محرزة من فورها مكانة في قلبه لم يسبق لامرأة أن بلغتها من قبل.
وكان الملك ذو اليزن قد أصبح في الفترات الأخيرة نهبا للوحشة والانعزال، بعدما أحس مرضا حاول جاهدا كتمانه عن الجميع، خاصة وهو لم يخلف له وريثا لعرش التباعنة.
لذا آثر كتمان آلامه وأحزانه، تحسبا لمدى الأخطار التي يمكن أن تتفجر على طول مناطق حكمه ونفوذه المترامي، إذا ما أشيع وتواتر خبر مرضه المفاجئ وما ألم به. - كارثة.
ومن هنا جاء وصول تلك السيدة الحكيمة الباهرة الجمال الذي يزينه عقل راجح وبعد بصيرة، متوافقا كل التوفيق لما هو فيه. - قمرية، جئتني في وقتك.
كان قد عقد العزم على الاقتران بها من دون تردد وقبل فوت الأوان. - من يدري ما يخبئه الدهر؟
حتى إذا ما سنحت الفرصة للملك بعدما انقضى وقت العشاء، أفضى أثناءها ذو اليزن لوزيره المقرب «يثرب» بإحساسه نحو قمرية ورغبته المتأججة الطاغية للاقتران بها، رحب الوزير من فوره مباركا في أقصى حماسه وسعادة.
وهكذا أقدم الملك التبع ذو اليزن على الاقتران بقمرية بسرعة وعجل ليخلف منها وريثا لعرش التباعنة. - هيكل، وندعوه: «سيف».
وهو الملك الفاتح سيف بن ذي يزن، آخر الملوك التباعنة، الذي سمي بأبي الأمصار، وحروبه وفتوحاته في أفريقيا والهند وبلاد الفرس.
وهو ما ستطالعنا سيرته، بالجزء الثاني من هذا الكتاب.
الفصل السادس عشر
زواج ذو اليزن من قمرية
منذ اللحظة الأولى التي التقى فيها الملك التبع ذو اليزن بتلك الفتاة الباهرة الجمال المتوقدة الذكاء «قمرية» التي كانت قد جاءته - متسللة كمغتالة - تبغي أولا وقبل كل شيء إزهاق حياته، عن طريق ترياقها المعجل، تخلى عن كل شيء ولم يعد يعرف للنوم طعما.
بل إن التبع احتفظ بقارورة السم الزعاف كما هي إلى جانب فراشه، وكان يحلو له في بعض الليالي تناول تلك القارورة المتناهية الدقة والصغر وتأملها مجددا بعدما استخرجتها قمرية - خلسة - من بين جدائل شعرها العسجدي الضارب إلى الاحمرار، ثم مدت يدها له فتناولتها إياه، بطريقة تلقائية منذ لحظة لقائهما داخل قاعة عرشه ومن دون أن تنطق ببنت شفة. - استريحي!
إلى درجة دفعت بالملك ذو اليزن إلى عدم مفاتحتها في الأمر رغم تعدد لقاءاتهما، وتعرف أبعاد تلك المؤامرة التي تهدف إلى اغتياله في فراشه، كل ذلك من تدبير ملك الحبشة «سيف أرعد» الذي بدأ علاقته معه على هذا النحو الأثيم، بل إن ذو اليزن تعمد من جانبه تغيير الموضوع بكامله بسؤاله لقمرية عن الملك سيف أرعد قائلا: كنت أنوي من جانبي الرد على هداياه بأفضل منها، «أطرق مبتعدا» لكن ما باليد حيلة.
ألجمت «قمرية» بدورها، دون أن يسعفها ذكاؤها الذي اشتهر عنها، أمام نبل شمائل ذلك الملك العربي الراجح العقل إلا أنها تململت مطرقة مغمغمة: ما أنا سوى رسول أيها الملك. - أعرف.
قالت: ولعل هذا لم يكن قراري منذ البداية.
هبت من فورها مقاومة انفعالاتها متجهة في معاناة إلى حيث الشرفات الفسيحة المشرفة على السهل الذي شيد على قممه المطلة على مدينة «أحمرا» وقصر الملك التبع الحصين. - أبدا لم يكن هذا قراري. - تقصدين اغتيالي؟ - لم أقصد شيئا سوى أن أراك يوما.
قاربها التبع منبهرا من جمالها الطاغي.
لحظتها تدفقت الدموع السخية من عيني قمرية. - أنا لم أبك أبدا من قبل. - أعرف.
اندفعت تتأمله في أقصى حالات انبهارها، كما لو كانت على معرفة سابقة كاملة ودقيقة بمعالم وقسمات وجهه. - أبدا، لم أعرف للنحيب طعما وإحساسا. - أجل، أعرف.
سألته في عفوية طفولية طاغية وهي تقاربه أكثر متأملة إياه من تحت أهدابها المبللة: حقا تعرف! كيف؟ - مثلك لا يبكي أبدا يا قمرية.
ضاحكها: الأذية.
هنا لم تتمالك قمرية السيطرة على مشاعرها فاندفعت تضحك من أعماقها، كما لم تضحك أبدا في حياتها، إلى درجة أسقطت عنها كل أسلحتها، لتعاود براءتها الأولى التي عاشتها يوما في طفولتها «الأعجمية»، وقبل أن تأخذ طريقها - كجارية مملوكية - ذائعة الصيت تتقاذفها القصور والمؤامرات ودسائس الحكم والسياسة، وحياة الترف والثراء وشهوات التسلط على أعناق ومصائر أعتى الملوك والأمراء، إلى أن انتهى بها المطاف في أعلى الذرى لدى ملك الأحباش «سيف أرعد» الذي بعث بها إلى ذو اليزن.
وهكذا لم تصدقها عيناها، وهي تقف يوما في مواجهة ملك هذه البقعة الشاسعة من الأرض ذي اليزن بوجهه السمح الآسر العميق المشاعر. - لعلني ما زلت أحلم سابحة في أغوار هذه اللحظة الدهر، يا مليكي التبع.
أشار ذو اليزن بذراعه عبر شرفات قصره: نحن ما زلنا في وضح النهار، أيتها الأمير قمرية.
ومرة أخرى انهمرت عينا قمرية الباهرتا الجمال دموعا مدرارة، متسائلة مدهشة: أميرة؟
هنا علا رنين جرس الاستئذان بالدخول، وانفتح باب قاعة عرش التباعنة على مصراعيه، واندفع الوزير الأول «يثرب» داخلا في مهابته، إلا أنه توقف وقد أدهشه مشهدها المفصح دون كثير عناء عن الكثير من الأمور الجليلة. - ماذا يحدث؟
غمغم يثرب متسائلا لنفسه، وقد جمد في مكانه حيث يقف، إلى أن أشار الملك التبع له بالدخول: صديقي الوفي يثرب.
تقدم الوزير يثرب مسرا للملك بموعد الحفل: وصلت مواكب الوفود.
تطلع الملك إلى السماء وكأنه يقرأ الوقت: وصلوا، أشار الملك لمساعديه منسحبا مربتا على يدي قمرية، وأحاط على الفور أربعة من مساعديه فألبسوه تاجه وعباءته وطيلسانه، وحين انتهوا من مهمتهم، اتجه ذو اليزن إلى حيث تقف «قمرية» مادا لها ذراعه في استئذان نبيل: لم لا تحضرين هذا الحفل معنا الليلة يا قمرية؟
ارتعدت قمرية من الرأس حتى القدم من هول مفاجأة الملك التبع لها على هذا النحو، وحاولت بسرعة السيطرة على حواسها وهي تمسك بيد الملك التي مدت لها.
أما الوزير يثرب فقد غالب اندهاشه معلقا قائلا: إنه حفل الأسلاف التباعنة الذي يحل موعده الموافق لهذا الشهر القمري من كل عام، ويحضره الملوك والأمراء والسفراء من سبأ وحضرموت ويثرب ومصر وبلاد النبط وفارس وبلاد بنط ودمشق والمغرب الكبير.
ولم يكمل الوزير يثرب حديثه عن الحفل؛ إذ طغت موسيقى تتخللها الهتافات المدوية بحياة الملك التبع، في ذات اللحظة التي انفتحت فيها قاعات القصر، التي بدت وكما لو كانت قاعات دائرية مسحورة تدور في بطء وديع مهدهد مع اتجاه حركة الشمس في الأفق البعيد التي بدت حمراء قانية.
وبدت القاعات الفسيحة المتناهية الروعة غاصة بالوفود المشرئبة بأعناقها باتجاه الملك ذو اليزن، وقمرية إلى جانبه متأبطة ذراعه غير مصدقة ما يحدث، ولكنها أدركت في النهاية مغزى اصطحاب الملك التبع لها جهارا على هذا النحو، إلى درجة دفعت بها إلى القول في جدية بالغة: إذا تخليت عني بعد اليوم فسأتجرع سمومي! - لن يحدث.
وحين بدأ الملك النزول عن أولى درجات عرشه، انحنت هامات الوفود رجالا ونساء وصدحت الموسيقى، ودارت أطباق الطعام وكئوس الشراب وتقدم الملك ذو اليزن محييا مرحبا بالجميع ممازحا إياهم في حنو بالغ معلنا تقديمه «لقمرية» في بساطة وهو يضاحكها على مرأى من الجميع قبل أن يطلب يدها بعفوية بالغة: أتقبلينني زوجا؟
فما كان من قمرية إلا أن تراجعت منزوية خجلا من روعة وصفاء ذلك الملك البهي الطلعة الذي لم يدرك أبعاد الصدمات المتتالية التي أحدثتها هذه الليلة العاتية المتلاحقة الأحداث «لقمرية» التي تمتمت بخجل بالغ؛ قائلة: يبدو أنك أيها الملك الذي ستعجل باغتيالي الليلة، قبل الأوان.
أجابها ذو اليزن؛ مازحا: واحدة بواحدة.
إلى أن واجهها بغتة في جدية: أتقبلينني؟ - أقبلك!
ثم أطرقت خجلا.
قال موجها حديثه هذه المرة لكبار مدعويه من مختلف بقاع الأرض، بأزيائهم الغريبة الشديدة الاختلاف والتنوع المتضاربة الألوان والمجوهرات: أتمنى أن يتحقق أملي يوما لأخلف من قمرية وريثا لعرش التباعنة، مجرد أمنية.
تنهد الملك جانبا مخفيا ما اعترى وجهه من تعبير يفيض بالأسى ثم أردف؛ قائلا: قبل فوات الأوان.
صفق المدعوون، وعلت الموسيقى والغناء وتبارى الشعراء في تمجيد الملك التبع، بينما اندفعت قمرية تبذل أقصى طاقاتها للسيطرة على مشاعرها إلى أن أخرجها الملك من أحلامها. - لعلني أخلف منك يوما وريثي، «هيكل».
هنا سرى الاسم بين الجموع متلاحقا من مجموعة إلى أخرى ومن فم إلى آخر إلى أن عم الصالات الواسعة الغاصة بالشموع والمشاعل وموائد الطعام والشراب والشواء، ومختلف الفرق الموسيقية والأكداس المكدسة من ثمين الهدايا النادرة والمجوهرات. - هيكل، هيكل.
قال الملك ذو اليزن، موضحا: هو «هيكل»، وسأدعوه «سيف».
وتدافعت الوفود أكثر من كل حدب وصوب وهي تتطلع مرة إلى وجه الملك التبع، ومرة إلى قمرية وقد اعتراها الذهول الذي أفصحت عنه الملامح اللاغطة المحبة لذلك الملك الذي لم يعهدوه أبدا يخطو بمعزل عن الخير: هيكل، سيف، أحقا ما نسمع ونرى، هيكل، سيف!
تساءل الجميع في همس هنا وهناك: أحقا ما يحدث؟!
إلا أن قمرية اعتراها حزن غريب عميق الأغوار لم تعهده أبدا، وهي التي قضت حياتها بكاملها داخل ساحات ومحارم قصور مشابهة دون أن تصدم يوما من الأيام بمثقال ذرة كما صدمتها هذه الليلة المتلاحقة الأحداث. - ما الذي اعترى الملك الليلة، ليصدم الجميع على هذا النحو من الغرابة التي قد تفضي إلى توقف القلب عن نبضاته والدم عن سريانه، وتؤدي إلى الموت الزؤام، الموت اندهاشا، لماذا؟
لقد مشت تشد على يد الملك حيث يتوجه قلبها، أو لعله سيقفز منخلعا من بين جوانحها، لقد جاءته منذ أيام معدودات متآمرة مغتالة تتأبط سمها الزعاف لترديه قتيلا في غمضة عين، ثم ها هي الآن أميرة ممسكة يده التي لو حدث وتخلت عنها، لفارقت الحياة بأسرها من فورها. - ما معنى هذا، الليلة! - هيكل وسأدعوه: سيف!
تساءلت: من جاريتك قمرية؟
أجاب دون تردد ممسكا يدها برفق: أجل.
شردت ببصرها: لو أن الشمس الغاربة لتوها أعادت إشراقها الآن حالا لما تساءلت: لماذا، ولما كانت عثرت على جواب شاف.
حتى إذا ما سنحت لحظة قاربهما فيها وزيره وصفيه المقرب «يثرب» اتجهت إليه قمرية بسؤالها الأزلي معبرة بكل وجهها وخلجاتها: لماذا؟
أجابها الوزير يثرب: لأنه ذو اليزن.
استكانت لحظة مطلقة عنان أفكارها لذلك الحب الطاغي المكبل الذي اعتراها فجأة ودون سابق إنذار من الرأس حتى القدمين مرددة بعده: ذو اليزن.
هنا تدافعت الوفود المتطلعة إليهما من كل جنبات القاعة العملاقة مهنئة مهللة، وهي تلقي بنادر الهدايا تحت أقدامهما، النساء قبل الرجال يخلعن عنهن أساورهن وأقراطهن الذهبية المرصعة بالياقوت والزمرد والرجال خناجرهم الإبريزية وما يحملونه من ثمين الأحجار الكريمة مهنئين. - حان الوقت، وحل الأوان، مبروك يا أميرتنا، وعلى الفور علا اسمها: قمرية، قمرية!
الفصل السابع عشر
جنون ملك الحبشة
جن جنون ملك الأحباش «سيف أرعد» حين تنامى إلى سمعه الكيفية التي انتهت إليها مهمة تلك الجارية التي كانت تغل سما «قمرية»، والتي بلغت ذروتها القصوى منذ لحظة وصولها إلى مدينة التبع اليمني الغازي ذو اليزن، «أحمرا» فبدلا من أن ترديه قتيلا بسمها الزعاف الناقع، أوقعته في حبائلها إلى حد إقدامه على الزواج منها. - أحقا ما أسمع؟! يا لها من كارثة.
اربد وجه الملك وهو يسمع ويقرأ تقارير عيونه وبصاصيه، مقارنا الواحد بالآخر، وأزعجه أنها جميعها تلتقي على الزواج من قمرية، ليخلف منها وريثا «لعرش التباعنة العظام».
تساءل الملك محطما من فوره كل ما تقع عليه يداه في غضب مندفع جارف: عرش التباعنة العظام؟! هنا في قلب أفريقيا هنا؟! على مقربة منا، من إثيوبيا!
لحق به وزيره المقرب الذي يمقت العرب ملهوفا محاولا تهدئة ما ألم به من ثورة غاضبة، حين استدار إليه الملك دافعا إليه بكومة ما تلقاه من تقارير. - إنها مشورتك، اقرأ يا سقرديون! - قرأتها بكاملها حرفا حرفا.
رفع الملك ذراعه المغطى بالأختام والأساور المصاغة من الذهب الإبريزي الأحمر صارخا: سيتزوجها التبع تصور، يتزوج من قمرية.
رفع صولجانه مشهرا مهددا: ليخلف منها وريثا لعرش التباعنة، وهنا، هنا عند أعتابنا على أعتاب أسعد يهوذا.
أعاد مسرعا قراءة أحد التقارير. - لقد حدد وهو لا يزال في بطن أمه «الأذية» «هيكل» وسيدعونه «سيف»، ليشهره في وجهي، في مقتلي أنا وليس أحد سواي، بالطبع من هو غير أنا؟!
وعلى الفور تصور الملك أرعد، مائدة ملك بعلبك المسمومة، وما انتهت إليه، صارخا في وجه وزيره المأخوذ سقرديون: هي بذاتها الحكاية القديمة، تطل برأسها من جديد تماما، مثلما حدث مع ملك بعلبك وانتهى بقطع رأسه.
تهاوى من فوره جالسا على عرشه - عرش أسد يهوذا - آخذا رأسه بين ساعديه. - الحكاية القديمة، هه، والآن جاء دوري أنا، هنا.
غمغم ساخرا: فالتبع لا يبغي حربا، بل انتقاما.
وكما لو أن أطماع وأحلام ملك الأحباش قد تهاوت كلها دفعة واحدة، كما لو كانت مجرد أضغاث أحلام، استحالت فجأة إلى كوابيس محاصرة مروعة لا مهرب له ولا فكاك منها. - إلى أين؟
كانت أحلامه وأطماعه لا تقف فقط عند مجرد حكم إثيوبيا وتوابعها، بل كان قد ورث بدوره عن أسلافه السيطرة على النيل ومنابعه حتى مصبه، فكان يمد بصره إلى السودان والقرن الأفريقي والصومال وأريتريا ومراكش بل والمغرب الكبير بكامله وبلاد النوبة ومصر العليا، لتنتهي تلك الأطماع مؤمنة حدوده على مشارف البحر الأبيض المتوسط ومنارته «فاروس»، التي أصبحت الإسكندرية فما بعد.
بل هي لم تكن أبدا مجرد أحلام وأطماع، توارثها الملك «سيف أرعد» عن أجداده وأسلافه جيلا إثر جيل، بل كانت أطماعا شخصية أيضا عمل فعلا على تحقيقها، وزاد عليها أطماعه الآسيوية في بلاد التبع ذاته في جنوب جزيرة العرب منبت ومنبع ذلك الخطر الجاثم دوما على بلاده وأمنها.
لذا واصل الملك أرعد على الدوام إعداد فيالقه المحاربة الزاحفة التي لم يكن ينقطع هجومها وغاراتها الخاطفة على حدود ومدن تلك البلاد، ثم العودة من جديد إلى إثيوبيا، بالأسلاب والأسرى والغنائم من «ذوي البشرة البيضاء»، تمهيدا لإعداد العدة للزحف الكبير وإحكام قبضة الحبشة عليها شمالا وغربا.
وكان يرجئ ذلك الزحف دوما بانتظار الانتهاء من أقوى وأصلب أعدائه، وهو ذلك التبع اليمني ذو اليزن، الذي بدد منذ نزوله بجيشه وقبائله، أحلامه وأطماعه.
وها هو أخيرا - أي التبع - قد سد عليه كل المنافذ باكتشافه لأبعاد خطة اغتياله الخسيسة المغلفة بثمين الهدايا ورسائل المودة وحسن الجوار، حين أرسل إليه بسفيرته قمرية.
انتفض سيف أرعد من جديد منتصبا متحركا على طول جنبات وردهات قصره، ووزيره المتنمر سقرديون في إثره، يتحين لحظة تهدئة ثائرته، ليفضي إليه بخطته الجديدة حول كيفية التخلص بأسرع الطرق وأنجعها من أولئك العرب الغزاة وشرورهم.
اتجه الملك أرعد من فوره إلى حيث خلوته، عابرا الجسر الموصل بين مقره وقلعته الواقعة داخل الميناء المطوق من ثلاث جهات، والذي حوله إلى شبه جزيرة حصينة، إلى أن توقف مستديرا لوزيره سقرديون مفضيا إليه بهواجسه. - لا بد أنه عرف بخطتنا.
أجابه الوزير باقتضاب: من قمرية، الحبيبة الجديدة التي أصبح الطريق إليها مفتوحا لتعتلي عرش التباعنة.
نظر الملك أرعد إلى الماء مغموما: لا تقف أطماعها أبدا عند حد، تلك الجارية البيضاء. - حية رقطاء، أعجمية.
غمغم الملك مهموما بمرارة بالغة: أما من مهرب أبدا من هذا العالم المليء بالجنس الأبيض وشروره، هه، ها هي قمرية وبعد كل ما قدمته لها زاحفا عند أقدامها.
عاتبه وزيره: حين أهملت كل تحذيراتي عنها. - لننس ما مضى، لتذره الرياح.
علا صوت الملك مهددا: نحن هنا الآن، وفي هذا المكان، التبع لا ينسى ثأره لحظة، مهما تظاهر بالسماحة، وهو أنه لا يبدأ حربا ولا يمشي أبدا إلى حيث الخراب.
عبرا ممشى جانبيا يقود إلى «ذهبية» عائمة إلى أن أصبحا وسط البحر الملبد بالغيوم المتعانقة مع سفوح الجبال الشاهقة المحيطة، وغابا طويلا داخل أغوار البحر المحيط. - جحيم التبع اليمني وانتظاره، جحيم.
أما التبع ذو اليزن، فقد أرجأ على عادته السمحة انتقامه من ملك الأحباش الذي بدأ علاقته به على ذلك النحو الغادر، منشغلا بحبه الجديد من تلك الفتاة - قمرية - التي جاءته قاتلة ومغتالة، فتملكت من فورها أعماق قلبه، حين ذرفت أمامه دموعها مدرارا ندما على ما أقدمت عليه في البداية، وانتهى إليه أمرها إلى حب عميق ضارب الجذور والأبعاد للملك الضحية البهي الطلعة الذي أسرها أسرا بسماحته وفروسيته.
ومن هنا تلاقيا معا منذ البداية - التبع وقمرية - على أرض صلبة من المكاشفة والصراحة، فكانا أن رسخا جذور الحب بدلا من البغضاء والتآمر.
وكان كلما مر يوم جديد، تكشف للتبع مدى طاقات وقدرات قمرية نتيجة عميق معرفتها الواسعة بالكثير من الأمور والمعارف والأحداث، سواء منها ما كان غابرا مندثرا، أو ماثلا يواصل جريانه وسريانه اليومي ليصل يوما إلى مثواه ومنتهاه الأخير.
كانت على معرفة واسعة بجزيرة العرب شمالا وجنوبا، وما يعتمل فيها من أحداث وصراعات وهجرات قارية وحروب ومنازعات قبائلية وعرقية وعشائرية.
بل هي استفاضت معه الليالي إثر الليالي، أو خلال رحلاتهما معا للصيد والقنص والتريض واللهو عبر بساتين وقلاع وحصون «أحمرا»، وما بدأ يستجد حولها من مدن ومضارب وليدة، يتحادثان معا حول تاريخ جدوده التباعنة وسيرهم وأخص سماتهم وحروبهم وغزواتهم وشعائرهم ومآثرهم وما قيل فيهم من أشعار ومراث أو قبوريات، بدءا من جدهم السالف «يعرب» الذي ينسب إليه أنه كان أول من تكلم العربية، «قبل حادث بناء مدينة بابل وبرجها الكبير، وتبلبل الألسنة بها»، وبها - أي بالعربية - نطقت بقية القبائل؛ مثل: عاد وثمود وطسم وجديس - قوم زرقاء اليمامة - والعماليق ورائش.
واستفاضت معه قمرية مطولا خاصة عن مدينتي عاد وثمود، اللتين يسميهما الأحباش مدينتي مرقسيا وبرجيسيا، وكيف أنهما كانتا عامرتين؛ إذ كان لكل مدينة عشرة آلاف باب.
وكانت قمرية على دراية معجزة بالأنساب العربية - بل وغير العربية من أعجمية - بدءا من أبناء يعرب ملوك سبأ، وكان أولهم الملك التبع عبد الشمس بن سبأ، الذي سمي سبأ؛ لأنه كان يسبي أعداءه، ومن نسله انحدر ملوك حمير وكهلان، ومن كهلان جاءت أشهر بطونها، قبائل الأزد، الذين تفرقوا عقب خراب سدود اليمن، وكان أهمها سد مأرب، وسد الخانق بصعدة وسد ريعان الذي أعاد بناءه الملك ذو اليزن قبل مجيئه إلى هذه البلاد، وسد سنان وعنس وجيرة، بالإضافة إلى بقية السدود التي أعاد الملك ذو اليزن بناءها أو تعليتها أو مضاعفة منسوباتها من المياه، مثل سدود: «سحر وذي سمال، وذي رعين، ولحج، ومفاضة، وهران، والشبعاني، والمنهاد، ولطاف.»
كان أكثر ما يثير إعجاب الملك التبع ذو اليزن في قمرية، هو قدرتها الخارقة على حفظها الدقيق للمراحل التاريخية الغابرة، لمثل هذه السدود والمنشآت المائية التي أسهم في بنائها أو ترميمها ذو اليزن، مضيفة الكثير من المعارف والمعلومات التي غابت عنه - كبناء - قبل أن يكون متبحرا بخلفيتها التاريخية.
وهكذا أفاضت معه قمرية في الحديث حول ثلاثة وثلاثين سدا، لدرجة دفعت به إلى إعادة الاهتمام والتحقيق من كلامها بإرسال رسله لاستكمال العمل في بعضها حتى إنه أطلق على أحدها سد قمرية.
حتى إذا ما تعرج الحديث بينهما حول منحى آخر جديد، تزايد إعجاب الملك بها، خاصة في مخزون معلوماتها ومعارفها عن معتقدات العرب الغابرة أو المندثرة مثل الموحدين وغيرهم، وأهمهم الشاعر أمية بن أبي الصلت وخالد بن سنان العبسي، والشاعرة طريفة، والشق بن أنمار، وإسماعيل بن ثابت بن قيدار، والحارس بن معاف، والأخير هو القائل عقب هزيمة قبائل جرهم أو الجراهمة لقومه:
وكنا ولاة البيت من بعد ثابت
نطوف بذاك البيت والعز ظاهر
وصرنا أحاديث وكنا بغبطة
كذلك عصتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تجري لبلدة
بها الأمن أمن الله فيها المشاعر
ولكم تمنت قمرية على الملك ذو اليزن أن ييسر لها زيارة «البيت» في مكة المكرمة، فوعدها ذو اليزن بذلك، حالما الانتهاء من إتمام مراسيم زواجه منها، وهو الزواج الذي أصبح يتعجله بصبر نافد، إلى حد الاستعجال الواضح.
وهو ما كان يدفع بقمرية إلى التساؤل، وإطالة التفكير وحدها في لحظات خلوتها دون التوصل إلى جواب تشفي به تعطشها. - لماذا العجلة بالزواج؟
بل إن الملك بدأ في أيامه الأخيرة يستفيض معها في الكيفية المثلى لمواصلة حكم حمير والبلاد المفتوحة، مشددا على أهمية سيادة العدل والحكمة، وكأنه إنما يوصيها هي بذلك قبل غيرها. - لماذا هي بالذات؟! وما الذي يبغيه؟!
لقد أصبحت، ومنذ لحظة لقائهما الأول، لا تفكر في مخلوق آخر سواه، فما هو - ذو اليزن - سوى الماء الحي الذي يروي صحراءها العطشى المجدبة، وفي انقطاعه عنها، موتها المحقق كما سبق أن ذكرت. - إذا ابتعدت عني بعد اليوم فسأتجرع سمومي.
تساءلت أمام مراياها العاكسة كالمذهولة: تراه يتصورني طامعة في ملكه.
أضافت: أنا حقا طامعة فيه ولا شيء آخر في هذا العالم الفاني يغنيني عنه، وسواء أكان ذو اليزن أو صيادا معدما فهو عالمي الوحيد، جلي، وفي هذا الكفاية لشفاء ظمئي المتحرق منذ لحظة اللقاء الأول التي لن أنساها ما حييت.
حتى إذا ما ضاق بها الخناق يوما دون أن تعثر على جواب شاف لتساؤلاتها هذه التي لا جواب لها، اتجهت يوما إلى وزيره الأول وصفيه «يثرب»، مختلية به؛ سائلة: كثيرا ما يراودني التساؤل، حول سوء فهم الملك لي، وكأنني إنما جئته طامعة في ملكه، أقول لك الحق أنا فعلا طامعة، لكن فيه هو ذاته، وما عداه سراب.
عندئذ هدأ الوزير يثرب من روعها، إلا أنه ولدهشتها أعاد إليها ذات التساؤل: أنا حقا لا أعرف ما الذي اعترى التبع في هذه الأيام؟ تطلعت إلى الوزير في أقصى دهشتها: أنت أيضا!
قال في غموض: لا أعرف! - كيف لا تعرف ؟
أضاف أكثر غموضا: يخيل إلي أنه يخفي شيئا عنا جميعا.
قاربته قمرية مناشدة: ما هو الشيء الذي يخفيه عنا؟
أضاف يثرب: أصبح في الآونة الأخيرة كثير الحديث عن وريث لملكه المترامي.
شردت قمرية غائبة في تفكيرها. - فعلا، أصبح لا حديث له، سوى ... أجهشت بالبكاء فجأة وهي تدق في عصبية الجدار المواجه.
يا لنكبتي! يا لنكبتي!
قاربها الوزير يثرب في حنو: هدئي يا أميرتي من روعك وحاولي ما استطعت إبعاد مثل هذا الخاطر، لا شيء سيحدث سوى كل خير، والملك شديد الاستبشار بك منذ حللت في حياته التي كانت موحشة، فأنت أعرف الناس بزهده عن النساء.
مضى يجفف لها دموعها الغزيرة بمنديله قائلا: حاولي ما استطعت إسعاد الملك التبع الذي أعطى كل حياته للناس ولم يفكر لحظة في نفسه هو، حاولي.
اتجهت إليه معاودة التساؤل من خلف دموعها التي انهمرت مجددا: كيف؟
فكري في عرسكما معا؛ قالت: أنا رهن إشارته، ولا أريد أي عرس لا أريد سواه في هذا العالم المظلم.
واصلت البكاء والنحيب في حدة. - لماذا؟ لماذا؟
فتح الباب فجأة وتوقف الملك ذو اليزن قائلا بصوته الهادئ النبرات: ماذا؟ أتبكيانني من الآن؟
تقدم منها ممازحا: ها أنا الآن ما زلت في هذا الجسد.
أدارت قمرية وجهها ثانية غارقة في دموعها.
الفصل الثامن عشر
مراسم عرس التبع
ما إن وصلت وفود المهنئين أفواجا إثر أفواج إلى عاصمة التباعنة الجديدة - أحمرا - محملين بثمين الهدايا والكنوز للمشاركة في حفل عرس الملك التبع ذو اليزن، حتى أشرف الوزير الأول «يثرب» على نزولهم بقصور الضيافة التي أعدت لهم، والملحقة بقصر التبع.
وجاءت الوفود المشاركة من الملوك والأمراء والحكام وشيوخ القبائل من اليمن والجنوب العربي وشمال جزيرة العرب والشام ومصر والعراق والمغرب الكبير.
وابتهج الجميع بهذا الحدث الكبير، استبشارا بأن يخلف التبع ذو اليزن من زوجته قمرية التي وقع اختياره عليها وريثا لعرش التباعنة، كما سبق للملك أن تمنى: هيكل، وكنيته: سيف.
وهكذا ارتفعت الدعوات وعلت الأماني بأن ينال ذلك الملك الرحيم العفوف - ذو اليزن - يوما مبتغاه، خاصة وقد تكاثرت أطماع الأحباش وملكهم المتآمر المعادي للعرب سيف أرعد ووزيره الشرير «سقرديون».
لذا استبشر الجميع في ربوع اليمن والجزيرة ومصر وما بين النهرين والمغرب الكبير بتلك الخطوة التي أقدم عليها التبع، بعد طول زهد في التفكير في الزواج والإنجاب، ولو من مدخل الحفاظ على ذلك الرمز الذي استقر تحته الجميع كمظلة آمنة تشد أزرهم ضد أي عدوان مبيت.
فالملك ذو اليزن ذاته بدا في سنواته الأخيرة رافضا للحرب والعدوان، لا يشغله شيء سوى إنشاء مشاريع شق الأنهار واختزان الماء بتشييد السدود والخزانات والمنشآت التي تتيح لتلك الأفواه الجائعة الحياة والنمو والازدهار، بالإضافة إلى أحلامه في نشر العدل والأمن للجميع، حتى لهجت الأفواه من أقاصي الأرض بالحب والثناء له. - شدد الله ساعد ذو اليزن الرحيم الضارب، وجرت مراسيم عرس التبع باحتفالات باهرة على طول مدينة - أحمرا - وعرضها، وكان أكثر الجميع حبورا ومباركة لما يحدث، وزيره المقرب «يثرب» عقب تيقنه من حب «قمرية» للتبع ومدى فصاحتها وعمق بصيرتها وعلمها ومعارفها ورجاحة عقلها، إلا أن قمرية ظلت نهبا لأحزان ثقيلة مخيمة تتصل جميعها بزواجها من التبع ولا تعرف أصلا ولا سببا واحدا. - لماذا؟
وكانت كلما اجتمعت بالملك ذو اليزن وامتد بينهما الحديث وتعرج، عاود الملك تأكيد وصاياه لها، سواء بالنسبة إلى شئون حكم البلدان المترامية وكيفية تسييسها وإدارة دفتها، أو بالنسبة إلى ذريته المرتقبة منها - ذكرا كان أو أنثى - أو فيما يتصل بحماية مشاريعه المائية والزراعية، أو في التشدد معها في نصرة المظلوم وتسييد العقل والحكمة، وكانت هذه الأحداث تعيدها إلى أحزانها الغامضة الدفينة التي لا تعرف لها سببا.
كانت تساءل نفسها في وحدتها: لماذا يتعمد الملك إثارة أحزاني ودموعي التي أصبحت لا تنقطع؟! إلى درجة أنها أصبحت تمقت هذا الضعف في نفسها، وهي التي لم تكن تعرف للبكاء ونزف الدموع طعما - كعادة النساء - قبل حبها ذلك الجارف المتفجر.
وسألت، في هذا، الكثير من مقربيه من أمراء وحكماء وشيوخ القبائل حتى وزيره «يثرب»، فلم يزدها الأمر إلا التيه والافتقاد في بحر الغموض الذي تعيشه.
حتى عندما انتهت مراسيم الزواج، حاولت التسلل إلى مكنونات قلبه لمعرفة ما به، لكن هيهات!
فلقد كان كل ما يتعجله منها، هو الخلفة والذرية، مما دفع بها أكثر إلى التوتر ومعاودة التساؤل حول غرابة أطوار ذلك الملك الزوج الذي لا يكبرها كثيرا، والذي أصبح كمن ينتظر مجهولا لا قبل لأحد بانتظاره.
فكانت كلما مرت بهما الأيام والليالي، تضاعفت لهفته بانتظار مولودهما. - سيف، درعي القادم، أين؟
ويمضي يتفوه بتلك الكلمات التي عرفت عن تباعنة اليمن وحكمائهم إزاء شعورهم باقتراب الأجل مثل الحكيم لقمان بن عاد صاحب النسور أو لقمان «ذي النسور» الذي ربط بين موته وفناء آخر نسوره السبعة، وكانت أسماء تلك النسور على التوالي؛ هي: المصون، وعوض، وخلف ومغبغب، واليسر - أو الميسرة - وإنسي؛ لذا كان يتسمى بلقمان الإنسي، وكان سابعهم هو النسر «لبد».
وحين وافت المنية ذلك النسر السابع «لبد» فسقط مشرفا على الموت، ولم يقدر أن ينهض، و«تفسخ ريشه» كما يقولون، ناداه لقمان. - انهض لبد، أنت الأبد.
ولما لم ينهض ويطر من جديد محلقا بجناحيه، أنشد لقمان يبكي نفسه:
موتي إني أموت اليوم يا لبد
وا حسرتي أن قد تعرم الأبد
فطر كما كنت سالما أبدا
تحيا ونحيا معا ونحتفد.
فكثيرا ما تندر لها ذو اليزن بأشعار التباعنة - الدهريين - في وحدتيهما، كما ذكر لها ما قاله امرؤ القيس بن حجر المقصور بن الحارث آكل المرار الكندي وهو يرثي ذا القرنين الصعب بن ذي مراتد الحميري:
ألم يخبرك أن الدهر غول
ختور العهد يلتهم الرجال.
ثم ينشد متغنيا:
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا.
بل إن ما آلم قمرية وهي ما تزال بعد عروسا وضاعف من تمزقها وأحزانها وعذاباتها، وهو التحول السريع المتلاحق الذي حل بالملك، وزهده في الحكم موكلا أمر العسير من قرارته الجوهرية، إليها هي وحدها. - عليكم بالأميرة.
وكانت كلما واجهته متعثرة نهبا لمشاعرها الحزينة الآسية، بعدم معرفتها بأصول الحكم أجابها: ولم لا؟ أنت زوجتي تعلمي، تمرسي، أنا لست بخالد.
صحيح أنها كانت تلجأ في مثل هذه الحالات إلى منجدها، وهو الوزير الأول يثرب، ولكن أين لها بقرارات تتصل بالحرب والسلم وعقد المعاهدات وتسيير الجيوش وشق الطرق والسدود في شمال الهند، وأندونسيا والتركستان ومصر والمغرب الكبير ووادي الرافدين وحضرموت ويثرب ودمشق؟
أين هي من كل هذا لتحكم وتنهى، وهي التي جاءته يوما تحت أستارها وأقنعتها محملة بسمومها المعجلة ساعية للقتل والاغتيال.
إلى أن تحقق حدث «قمرية» وحل وهن المرض بالملك ذو اليزن، فلم يمهله طويلا؛ إذ ألزمه فراشه لا يبرحه.
وجاء توقيته متوافقا وكأنه على موعد مع تحرك ابنه - كجنين - في أحشاء أمه قمرية، وكم كانت فرحته الكبرى وهو معلول ذابل الوجه على فراشه، حين قاربته زوجته، وهي تسعى إليه على ركبتها وهو راقد على فراشه آخذة يده الحنونة الرحيمة لاثمة قبل أن تضعها على بطنها. - ماذا يا قمرية؟ - ابنك. - أحقا ما تقولين؟ - هيكل، سيف، ها هو يلهو معاتبا ويود لو يلثم جبهتك الأبية.
علت وجهه ابتسامة واهنة وهو يعاني من آلامه المبرحة مجاهدا على نفسه لتقبل لحظة فرح. - ابني، ليتني فقط يمتد بي العمر إلى أن أراه، آه سيف، وحيدي!
أغمض عينيه مستسلما في أحلامه قبل أن يأخذه النوم العميق.
بعدها لم تعرف قمرية كيف تتصرف، وهي تشهد بعينيها انزواء الملك واكفهراره تحت ثقل علته العاتية التي حيرت جميع حكماء ومطببي الأرض.
استقدموا له حكماء مصر والشام واليمن والهند، الذين تزاحموا على قصره من كل صوب، ولكن لا من دواء شاف.
وظل ذو اليزن تائها عبر غيبوبة مرضه العضال الأيام والشهور الثقيلة لا يسأل عن شيء إلا عن ابنه المنتظر. - لن أموت قبل أن تكتحل عيناي برؤيته بين أحضانك يا قمرية.
وهذا الجواب لم يكن يسعف قمرية أو يروي أحزانها فكانت تلجأ للدموع: ها هو يضحك لك من أعماقي.
ابتسم الملك في وهن. - سيف، سيف، متى؟
اكفهرت قمرية وغاب عنها لونها، وهي تشهد الملك الذي أحبته من أعماق أعماق قلبها يعاني آلامه المبرحة على هذا النحو، خاصة بعدما سمعته يتعجل رؤية وحيده على هذا الشكل الملح. - متى؟
قاربته محتضنة في انفعال، وهي تمسح عنه بكف يدها الحانية، خيوط عرقه النازف على وجهه وجبهته العالية المشرئبة في سمو، قائلة وهي تضاحكه مخفية عنه آلامها ومعاناتها مما سمعته وأصبحت لا تقدر على الإفصاح عنه. - أتقول متى، تراهنني على أنك ستشفى حالا من آلامك العابرة هذه، وفي عزك ومجدك سيتربى سيف وينمو.
غمغم ذو اليزن بفروسيته المعهودة متقبلا تحديها له: أجل، أراهنك بعرشي كله. - أنا لا أبغي عرشا ولا مجدا في هذا العالم سوى أن أنمو إلى جانبك مجرد نبتة، ويمكن القول زهرة برية في أحضان سنديانة، أرزة تعادي الفناء. - الفناء، الفناء.
تساءل معاودا تحسس بطنها وذلك النابض في أحشائها: ومن قدر له قبل الإفلات من قبضتيه الفناء الدهر، ذلك الغول الختور الذي يلتهم الرجال.
عندئذ استدارت عنه قمرية برأسها متجهة إلى حيث مدخل القاعة الشرقية، وحيث كان يقف منكمشا الوزير «يثرب» ومن خلفه كوكبة من الأمراء والسفراء والرسل الذين كانوا في انتظارها على أحر من الجمر.
واصلت تحسس جبهته، وتحسست بيدها الأخرى تلك الرسالة المطوية بين طيات ملابسها، كمثل حية. - الجميع بانتظارك من كل صوب.
أغلق الملك عينيه مشيحا، لا يعرف له جوابا.
عندئذ حاولت قمرية استجماع شجاعتها وما عرف عنها من إقدام لتفضي إليه بمحصلة تلك الأنباء الخطيرة التي حملها الرسل.
لا منقذ لشعبك ورعيتك سواك. - أنا، كيف ... على هذا النحو ... آه ... ليتني بقادر يا قمرية.
وحين أسلم جفنيه للنعاس انسلت قمرية في نعومة مبتعدة عن الفراش. - نام.
أرخت من فورها ستائر الشرفات، وأشارت بيدها دون صوت إلى جوقات الموسيقيين والمنشدين، الذين يتغنون بمآثر الملك في تنسيق رتيب أصبح في أيامه الأخيرة لا يخلو من الحزن الذي تحول إلى إيقاعات المراثي والبكائيات، فأخفتوا من فورهم من غنائهم الجماعي وإنشادهم، حتى تلاشت أصواتهم تماما.
واندفعت قمرية مغلقة باب قاعة مخدع الملك التبع، متجهة من فورها إلى حيث يقف يثرب وكبار رجالات البلاط والأمراء، ورهط هائل من رسل البلدان والأقوام التابعة والحكماء وشيوخ القبائل والعشائر، وقد حط على رءوسهم الطير جميعهم بانتظار ردها.
استخرجت المكتوب المطوي من بين طيات ملابسها مشيرة له في أقصى كمدها وحيرتها. - لم أقدر. - وما العمل؟
قاربها يثرب: لن ينقذ الملك وينقذنا جميعا سوى التحدي.
اختلى بها باتجاه الشرفات الجنوبية للقصر، القلعة، مشيرا مهددا. - من هنا يمكن أن تشهدي بعينيك ما نحن فيه: بيارق الأحباش.
زفرت في أقصى حنقها وتمزقها: ذلك الخسيس أرعد.
رفعت ذراعيها عاليا صارخة في أقصى حالات غيظها: ذلك المتسلق، الطحلب.
تمالكت قمرية نفسها وهي تكبت آلامها مشيرة باستقبال الرسل، وتلقي جديد معلوماتهم، وكيف أن جيوش ملك الأحباش «سيف أرعد» لا تكتفي بمحاصرة مدينة «أحمرا» بل إن طلائعها وصلت أعالي النيل متوغلة في ربوع السودان وبلاد النوبة إلى أن شارفت مصر العليا.
وتزاحم الرسل حولها بالتقارير وجديد المعلومات عن توغلهم في المغرب الكبير ونزولهم «تلمسان»، بعدما أشاعوا فيما بينهم خبر موت الملك ذو اليزن.
صرخت من أعماقها: يا للغدر الدنيء، الملك التبع معافى وفي أحسن حال.
وفي الغد سيمتطي ظهر - الشهباء - ويغيبهم عن هذه الأرض.
كانت تعرف أنها إنما تكذب بادعائها هذا، فما كان منها إلا أن انسلت لا تلوي على شيء، وفي أعقابها الوزير يثرب، إلى أن وصلت جناحها نازعة عنها ملابسها، مرتدية عدة حرب ذي اليزن وهيئته بل ولحيته ودروعه متمثلة مشيته، منسلة من جديد إلى حيث مخدعه، فانتزعت سيفه المعلق، خارجة على الجموع المنذهلة التي جثت داعية للملك التبع.
ومن فورها أشارت بدق طبول الحرب «الرجروج» واستعد الجميع للخروج من خلفها، بعد أن سرى خبر شفاء التبع وحلول المعجزة واستعد الجيش للخروج من - خلفه - لملاقاة عدوان الأحباش وملكهم سيف أرعد الجبار المعتدي.
الفصل التاسع عشر
قمرية تأخذ مكان ذو اليزن
ظهرت شجاعة الأميرة «قمرية» في تلك الحملة الانتقامية الضارية التي قادتها فجأة ودون سابق إعداد أو حتى مجرد التفكير في عواقبها، وذلك حين شاهدت بعينها مدى الخسة أو العدوان الأسود الذي استحال إليه ملك الأحباش «سيف أرعد»، حين سنحت فرصته بالانتقام مستغلا ما حط على الملك التبع ذو اليزن من مرض ألزمه فراشه.
فما كان من ذلك «الأرعد»، إلا المبادرة بالشر والعدوان، إلى رفع راياته وبيارقه وإشهار سهامه في محاولة لإطباق الحصار على عاصمة التباعنة «أحمرا».
هنا لم يكن أمام قمرية سوى ارتداء عدة حرب ذو اليزن ووضع تاجه ودروعه وشاراته، وحمل حسامه، بعدما اتخذت كامل هيئته متنكرة وخروجها بالجيش لرد العدوان - الحبشي - وما يمثله من خطر محدق.
وحالف الحظ في مكيدتها الانتقامية تلك، ذلك أن عيون وبصاصي سيف أرعد، ما إن وقعت أبصارهم عليها على ذلك النحو، حتى تراجعوا من فورهم مندحرين، فارين بجلدهم مشيعين عبر كل مدينة ووطن وكيان، كيف أن التبع اليمني: لم يمت، وهو يتقدم فيالق جيشه محاربا وعلى رأسه تاج التباعنة.
وسرعان ما سرى الخبر متواترا من كل مدينة إلى ما يتاخمها بأسرع من سريان النار في الهشيم. - الملك التبع معافى يعتلي صهوة جواده، الشهباء، ويتقدم جيشه فاتحا محاربا.
وساد الذعر والفزع أول ما ساد فيالق وكتائب جيش الأحباش، فركضت فلولهم تسابق الرياح عائدة باتجاه إثيوبيا.
إلا أن «قمرية» واصلت زحفها موقعة الرعب والموت والدمار بهم، حتى إذا ما تراجعت جيوش الأحباش عابرة النيل، واصلت تعقبها لها على طول غاباته وجباله المشرفة، مستخدمة فرق النشابة التي كان يوليها الملك ذو اليزن رعايته الخاصة، بل وكثيرا ما أوصاها هي ذاتها بهم. - النشابة هم درعي الحامي.
فمضوا يمطرون جيش الأحباش الفارين المذعورين من أعلى قمم سفوح الجبال المحيطة دون رحمة، فلم يفلت منهم سوى القلة التي عادت بالخبر والهزيمة المروعة إلى عاصمة سيف أرعد «إثيوبيا» معلنة خداع الملك - أرعد - وافتراءه بادعائه موت التبع، وها هو الملك التبع يواصل بجيشه الباسل تقدمه إلى هنا. - التبع اليمني لم يمت، ها هو على ظهر الشهباء بعدما قتل وأسر معظم جيش الحبشة.
كانت الأميرة «قمرية» تحارب بضراوة فائقة مواصلة تقدمها مسرعة إلى أقصى حد، ذلك أنها كانت نهبا للعديد من التوجسات العنيفة والمخاوف، سواء منها ما يتصل بصحة الملك ذي اليزن الطريح الفراش، أو ما يتصل بحملها وما في أحشائها منه، أو ما يتصل باتخاذها لقرار مصيري مثل قرار الحرب دون استشارته، ثم مدى ما سيحدثه مثل هذا القرار، حين يسمع به - ذو اليزن - فجأة ويعلم باختفائها عنه بضعة أيام قد تصل إلى أسابيع، دون مراعاة لآلام حملها وما يمكن أن يشكله هذا فعلا من أخطار تتصل بوحيده الذي ينتظره ببالغ الصبر ونفاده. - هيكل، سيف.
لذا، ما إن قاربت الانتهاء من مهمتها، إلى حد إجهادها، ثم انتصارها واقتحامها بجيشها حدود الحبشة وتوابعها ذاتها، حتى تملكها الإعياء الشديد. - لنضع حدا للعدوان المبيت علينا من سيف أرعد الجبان.
إلا أن الوزير «يثرب» آثر الاكتفاء هذه المرة بما تحقق من انتصار، تخوفا مما هي عليه من حمل، وقبل أن تودي الحرب وعنفوانها بما في بطنها، وتخوفا بالطبع على حياة التبع المريض المتردية. - ففي هذا الكفاية للأحباش وملكهم.
وكان حقا ما نطق به الوزير «يثرب»، ذلك أن سيف أرعد ما إن وصلته الأخبار بعدم صحة موت التبع ذو اليزن، وخروجه لإفناء جيشه وضراوة المعارك التي قاربت حدود بلاده ذاتها، حتى تولاه الجنون، فمضى يصرخ من أعماقه، لوزيره سقرديون وبقية وزرائه ومستشاريه وحلفائه على طول غرب وجنوب أفريقيا، غير مصدق ما يحدث ويجري ويقع من هزائم واندحارات.
وكالعادة صب سيف أرعد، حمم غضبه وسبابه على رأس وزيره - الشرير - سقرديون ومشورته. - الحقوا، مات التبع اليمني، يا للأكاذيب!
أعاد صراخه وثورته في وجه سقرديون: ها هو التبع اليمني يدق الأبواب أبوابنا ذاتها، مخادعنا، إثيوبيا يا سقرديون!
واجهه محتدا: على هذا النحو يصل خداعك حتى لي أنا، كأنك إنما تود إفناء جيشي وتودي بعرش آبائي وأجدادي ذاتهم المنحدرين من صلب يهوذا.
واصل تحديه على مرأى من الجميع. - اخرج إليه، اخرج لمواجهته يا سقرديون العجوز، اخرج إذن لملاقاة ذو اليزن، اخرج!
ومن جانبه حاول الوزير العاقل - الحجازي المولد - المدعو «أبو الريف»، التدخل لتهدئة ثائرة الملك «سيف أرعد» قائلا: من المفيد في مثل هذه المواقف العسيرة ضبط النفس، والأكثر إفادة هو الاستفادة من أخطائنا؛ فالكذب لا قوام له.
وناشد وزير الميمنة «أبو الريف» الملك وجميع حلفائه التروي وضبط النفس، بدلا من الافتراء والكذب والعدوان.
ثم مضى فطمأن الجميع بعودة الجيش العربي إلى العاصمة - أحمرا - بحسب ما تلقاه من تقارير رجاله الأخيرة.
ولم يكن الوزير أبو الريف كاذبا فيما ادعاه ودفع به إلى «سيف أرعد» في محاولة لإعادة الاطمئنان إلى الجميع.
ذلك أن قمرية آثرت العودة مسرعة ما أمكنها إلى أحمرا، بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه سواء بالنسبة إلى ملازمتها لزوجها ذو اليزن المريض، أو حفاظا على ما في أحشائها منه.
لذا جدت السير ما أمكنها بصحبة الوزير يثرب وكوكبة من أخلص الحراس مسرعين متلهفين عبر طريق العودة للاطمئنان على صحة التبع وما حدث له في غيبتهم خلال الأسابيع الأخيرة، التي استغرقتها هذه الحملة التأديبية، التي لم يكن هناك من مهرب من القيام بها.
ولكم ودت «قمرية» من أعماق قلبها مواصلة التقدم وملاحقة انتصارها لاقتحام بلاد الأحباش ذاتها وعاصمتها والتخلص من ذلك الطور الشرير - سيف أرعد - الذي لم تكن تحمل له يوما سوى الكره، ولكم ودت أيضا من قلبها أن تذيقه هو ذاته سمها الزعاف، بدلا من الملك ذو اليزن الذي أسرها أسرا لا فلات منه منذ لحظة لقائهما به.
كانت وهي لا تزال تقطع الطريق عائدة إلى أحمرا نهبا للعديد من الأحاسيس والهواجس العاصفة التي تعتمل دون هوادة في مخيلتها.
وكانت كلما بالغت أكثر في الإسراع، تضاعفت مخاوف الوزير «يثرب» على جنينها، فما من شيء سيضاعف من مرض وآلام التبع ذو اليزن، سوى سماعه بفقدانها وليدها وهو يعاني على فراشه أقرب إلى المحتضر منه إلى المريض.
أما قمرية، فلم تكن على أقل وعي ودراية بذلك الانتصار الساحق الذي أحدثته على جيش الأحباش، لتأمين حدود عاصمة التباعنة، ودرء كل الأخطار عن الملك المسجى الذي صرعه ذلك الداء العضال الذي ألم به وهو لم يتخط بعد مرحلة شبابه ونضوج عطائه. - ذلك الطحلب المتسلق الشرير، أرعد.
تساءلت وهي مشرفة على تخوم «أحمرا»: الغريب أن ذو اليزن لم يتحرك حتى لمجرد الانتقام منها عقب اكتشافه لمؤامرة اغتياله، حين اتخذ منها - سيف أرعد - مجرد أداة ومخلب نمر لتنفيذ أطماعه وأحقاده السوداء.
بصقت معاينه وهي تطلق العنان لحصانها الشهباء. - لا مكان يقف فيه ذلك الأرعد الخسيس، سوى العتمة والتآمر.
مضت تتوعده: لكن سيجيء يومه القريب، إن لم يكن من ذو اليزن، فمني أنا، أجل يا أرعد سيجيء يومك.
مضت رغم معاناتها الثقيلة، تقطع الروابي والسهول والجبال، عابرة الأنهار، مقتحمة أعتى الغابات التي لم تطرقها قبل قدم، لاختصار طريق العودة إلى حيث الملك المريض مطلقة من جانب آخر العنان لأفكارها وأمانيها في كسر شوكة سيف أرعد المشهرة على الدوام ضد العرب والعجم على السواء.
فلكم تمنت أن تمكنها الأيام منه لتشرب من دمه. - هل سيجيء هذا اليوم يا أرعد؟
وكانت خطتها تتركز في قطع الطريق على جيوشه وأذرعه الطويلة التي توصلت اليوم إلى صعيد مصر العدية والسودان والمغرب الكبير والقرن الأفريقي وكل أواسط أفريقية، في غيبة عن ذي اليزن بسبب كارثة مرضه الأخيرة التي استغلها أرعد حتى العظم.
ووصل بقمرية الفرح مداه، حين توقفت لتتجرع رشفة لبن وبضع ثمرات، فأحست بمولودها يتحرك في أحشائها. - سيف، ولدي!
وتصورت من فورها فرح التبع حين يصغي لها وهي تسرد عليه تفاصيل ما حدث، حتى إذا ما سألها عن وحيده، أجابت: ها هو قوي معافى مثلك، ويمكن لك أن تسمعه بأذنيك، اسمع، اسمع.
وما إن قاربها يثرب، حتى حادثته من فورها بهذا الخاطر، وكيف أن جنينها الذي أكمل شهره السادس اليوم، لا يزال حيا معافى في بطنها، غمغم الوزير هاتفا في فرح: هيكل.
ضحكت من أعماقها: سيف.
وما إن أشرفا على مدينة - أحمرا - مع الغروب حتى فتحت المدينة عن آخرها أبوابها النحاسية، ووصلهما هتاف وتكبير الآلاف المؤلفة، عاليا يصم الآذان تمجيدا لاستقبال «الملك» الفاتح المنتصر وعودته مظفرا.
وما إن جاست خيولهما عابرة أبواب النصر المزدانة بالورود والرياحين، والجماهير على الجانبين تجثو إلى حيث يخطو «الملك» المنتصر، حتى تحسست «قمرية» لحيتها معتدلة على ظهر الشهباء، متخذة هيئة ذو اليزن تحت دروعه وخوذته، تحيط بها أعلامه وبيارقه المسدلة، بينما العيون المبتهجة المهللة بالنصر والظفر لا تصدق ما تشهده وهي تدعو للملك التبع ذي اليزن، بطول العمر والنصر أبد الدهر.
واندفعت هي - متنكرة - محيية الجميع من كل جانب وصوب باتجاه القصر الحصين، وقد أدار النصر رأسها.
حتى إذا ما شارفت ساحات القصر ذاته، تعمدت أن تكمل دورها في اتخاذها هيئة الملك ذي اليزن، عابرة الساحات الجانبية والمداخل الخلفية للقصر، مدعية للجميع إرهاقها وحاجتها إلى الراحة، مستعينة بإشارات اليد بدلا من النطق والكلام، إلى أن انفلتت مسرعة داخلة من سراديب القصر الخفية، متجهة من فورها بكامل هيئتها وتنكرها صوب جناح مخدعها، وما إن انفتح باب المخدع، حتى توقفت في إعياء، مستندة على أحد الأعمدة المرمرية، ثم جثت على ركبتيها وهي تخفي ما بها، مرجعة ما تناولته من طعام، ولحقت بها جواريها في محاولة لمساعدتها. - ذو اليزن، حبي.
نهضت في تراخ طويل، لا تدري ما بها إلى أن تتمالك نفسها فخطت مسرعة إلى حيث جناح الملك، وقبل أن تجرؤ على فتح باب المخدع الغربي، تصفحت الوجوه المحيطة من حولها مستطلعة. - ما الخبر؟
وتقدمت قمرية في صمت ثقيل من الفراش في محاولة لعدم إيقاظ ذو اليزن من سباته وغفوته.
وما إن امتدت يدها في حرص كاشفة الغطاء عن وجه الملك التبع ذو اليزن، ومالت عليه لاثمة متحسسة أنفاسه حتى استدارت باحثة عن الوزير يثرب، الذي سرعان ما قاربها بدوره مذهولا ممتقع الوجه: نائم؟
وما إن كشفا من جديد الغطاء معا عن وجه الملك المستكين الهادئ الصافي الملامح، حتى صرخت قمرية: مات! مات ... ذو اليزن!
الفصل العشرون
ذو اليزن التبع المحتضر
أصبح الموقف عسيرا مربكا على «قمرية» والوزير «يثرب» داخل مخدع الملك التبع ذي اليزن بعدما وافته المنية ولفظ آخر أنفاسه في غيبتها، لرد عدوان ملك الأحباش سيف أرعد.
إذ بينما اشتعلت مدينة - أحمرا - حماسا وتكبيرا وهتافا محيطة بقصر الملك الحصين من كل الجوانب مغلقة ساحاته ومنافذه تمجيدا للملك التبع العائد المنتصر في ذلك الوقت، كان الملك - الحقيقي - قد فارق الحياة.
وما إن امتدت يد قمرية متنكرة تحت عدة حربه ودروعه ولحيته، لتمازحه معيدة الابتسامة الصافية إلى وجهه المسجى السمح، حاكية له من فورها ما أقدمت عليه خلال فترة غيابها عنه، وقاربته لاثمة حتى اكتشفت من فورها انقطاع أنفاسه ومفارقته الحياة، فما كان منها إلا أن شقت ثيابها صارخة: مات!
ولم يتمالك الوزير الحكيم يثرب نفسه سوى الارتماء عليها وكتم أنفاسها، بينما تكبير الجماهير وهتافاتهم تصم كل الآذان مدوية من كل جهة استبشارا بالنصر الذي حققه مليكهم الرحيم المنتصر المعافى.
بل إن الوزير أسرع من فوره مشيرا لأقرب الجواري بالإسراع بإغلاق كل الشرفات والمنافذ والأبواب، خشية تسرب كارثة موت التبع ذو اليزن دون أن تغفل عيناه عن قمرية التي أخرجتها فاجعة زوجها وحبيبها عن كل طور، فمضت ناشبة أظافرها في كل ما صادفها، وجهها المجهد، شعرها، دروعها التي هي دروع الملك ذاته ولحيته، هنا صرخ يثرب في حذر: الناس ... مشاعر الناس.
فالوزير الحكيم هو الأقدر على معرفة مشاعر الجموع التي أسكرها النصر الساحق على ذلك الملك الحبشي - أرعد - المعتدي المتحين لكل ثغرة ضعف تلحق بالعرب.
إلا أن قمرية التي تقمصت وأدت بمهارة دور الملك، دافعة بأعدائه الطامعين إلى الدمار المحقق، لم تع من فورها تصرف الوزير يثرب واندفعت كالمخبولة لا تبقي على شيء وهي تحتضن الجثمان المسجى الذي أغرقته بدموعها لاهثة مشيرة إلى بطنها. - ألم تعدني بالانتظار إلى أن ترى وليدنا؟ ها هو يتحرك في أحشائي، ضع يدك، ها هو سيف، وحيدك، اليتيم!
وكلما ارتفع صوتها، حاول الوزير إعادة تعقيلها وتبصيرها مشيرا إلى دوي تكبير الجماهير وجنونها بالنصر. - المهم أحزان قمرية وثورتها دفعت بها إلى إزاحة الوزير العجوز يثرب، إلى حد إسقاطه أرضا، فجلس مكانه منتحبا باكيا. - هكذا.
قاربته قمرية ملتاعة، وهي تسقط إلى جانبه نادبة، فما كان منه سوى احتضانها في أبوة مهدئا مستوضحا: ليس هذا أوانه، أنا أكثر منك معرفة بهم، وهذا تصرفك أنت بملابسك ولحية التبع هذه ، هذه، تحسست قمرية وجهها، كمن أفاقت فجأة من غفوتها، وما إن حل الصمت، حتى صمت آذانها الهتافات المدوية العاتية التي ترددت أصداؤها في أرجاء المدينة الواسعة. - أتسمعين يا ابنتي؟! - أسمع.
نطقت بتخاذل وهي تسند نفسها محاولة الوقوف، واضعة وجهها بكامله بين راحتيها: أهكذا تمضي بنا الحياة؟! حتى أحزاني علي أن أقتلها بداخلي!
أردف يثرب: حفاظا على الملك، حبيبك ... ذكراه ... الآن ... الآن فقط، مجرد ساعات لا غير ... ساعات معدودة اسمعيني ... لا غير.
هنا أسلمت قمرية مقاليدها للوزير يثرب وجلست على فراش الملك آخذة رأسه مهدهدة بين ساعديها، تندب ما بها بلا صوت.
ثم هبت فجأة فخلعت عنها دروعها وتاج الملك ولحيته متخففة، وتمددت إلى جواره، تنعيه في إعياء واضح.
بينما اتجه الوزير يثرب منسلا، إلى الشرفة البحرية، لمواجهة الجموع والأقوام المطالبة برؤية الملك، فناشدهم الهدوء نظرا لمرض الملك التبع، الذي خلد من فوره للنوم، نظرا إلى مرضه. - كما تعلمون جميعكم، فمن أحب ذو اليزن دعا له بالشفاء، ولزم الهدوء.
ومرت بضعة أيام ثقيلة على قمرية، ارتدت فيها ثياب الحداد، ولزمت جثمان التبع لا تفارقه نادبة في همس، إلى أن تسرب خبر موت التبع ذو اليزن إلى أقرب مقربيه، في تكتم وفق في الإبقاء عليه الوزير، يثرب، حتى لا يتسرب الخبر إلى الأحباش وملكهم الطامع.
إلى أن حان موعد دفن الجثمان سرا بمقابر التباعنة، حسب وصية ذو اليزن ذاته الذي ركز فيها على أن تعتلي قمرية العرش مكانه في حكم حمير وتوابعها، لحين تسلم «ما في بطنها مقاليد الحكم.»
ويبدو أن أخبار ما حدث لم تغب هذه المرة عن أذن الوزير المعادي للعرب سقرديون، فحانت فرصة استرداد مكانته - المهتزة - داخل بلاط «سيف أرعد» الذي وجدها بدوره فرصة سانحة، للانتقام والتخلص من «قمرية الأذية» وما في أحشائها، خاصة وقد أشار عليه كهنته ومقربوه بضرورة قتل التبع المنتظر - سيف - منذ المهد وقبل أن يستفحل خطوه ضد بلاد الأحباش وتوابعها.
وذلك حين أنشده الشعراء والمتنبئون:
ومولود يأتيك يملك أرضهم
ويبقى على جميع البرية حاكما
في عصره تخرب مدينة أحمرا
وأسوارها تدمى جميعا وتهدما.
وظل الملك أرعد فترة طويلة مرتعدا لا يعرف كيف يتصرف، فربما كان ما يسمعه مجرد خدعة تالية من جانب تلك الأذية قمرية، للقضاء على ما تبقى من جيشه وملكه، كما حدث في السابق.
ومن هنا استقر رأي سيف أرعد، على أهمية التروي قبل اتخاذ قرار متعجل بالحرب ودون أن تغفل عيناه على رصد ما يجري ويحتدم داخل عاصمة التبع - أحمرا - عبر عيونه وبصاصيه المنبثين في كل مكان.
حتى إذا ما أجمعت الأخبار والمعلومات من كل صوب على حقيقة موت التبع ذو اليزن ودفنه، وانفراد قمرية بوراثة ملكه المترامي الأطراف لحين وضعها لابنه ووريثه، غمغم لنفسه: هي بعينها النبوءة.
إلا أنه عاد من جديد يندب حظه العاثر، بتبديده لمعظم جيشه وقواته، خلال تلك المهمة التي اضطلعت بها، بنجاح فاق كل توقع، قمرية عن طريق خدعتها الدامية حين تنكرت متخذة هيئته ودروعه وسيفه، وحتى لحيته الكهرمانية اللون، وانقضت كمثل نمر على قواته مطاردة، إلى أن أفنتهم عن آخرهم، وأشرفت وهي على ظهر الشهباء التي لا تخطئها عين، وهي فرس ذو اليزن على أسوار إثيوبيا، فخلعت أبوابها بحرابها إلى حد دفعه هو - سيف أرعد - إلى الهرب بقواته الخاصة، بعدما رسخت في أذهان الجميع أن. - التبع اليمني لم يمت، وها هو يتحدى الجميع.
ومن هنا تزايدت مكانة وزيره المقرب «سقرديون» بعدما علم بتفاصيل الخدعة، إلى حد دفع بالملك إلى الاعتذار له علنا، بعدما رد إليه الاعتبار وأصبح لا يسمع سواه. - والآن ماذا ترى يا سقرديون الحكيم؟ - أرى أن فرصتنا الذهبية قد حان أوان قطافها اليوم قبل غد، تساءل الملك: وجيشنا على هذا الوضع من الضعف والتشتت. - لم لا نسترجع كتائبنا من أعالي النيل والنوبة والمغرب الكبير ولو إلى حين؟
هب الملك أرعد عن عرشه خائفا مفكرا: نتخلى إذن عن حكم هذه البقع، ونستسلم لثوراتها المؤيدة للعرب.
واجه الوزير سقرديون الملك في ثبات: هدفنا الآن هو قتل أو اغتيال أو اختطاف قمرية وإجهاض التبع مهما كلف الأمر .
اندفع سقرديون يواصل الطواف حول الملك وهو يصب الكلام في أذنيه، بعدما استسلم له كفريسة مستكينة هذه المرة. - قمرية الآن حامل في شهورها الأخيرة، ومن هنا فهي أضعف مخلوق يمكن تصوره، هي أضعف من فراشة.
أردف سقرديون ممازحا: تلك الحية.
مضى سقرديون يشرح للملك وكأنه يشرح له معادلة معقدة أشبه بالمعضلة: هي حية رقطاء، استحالت تحت حملها وما في أحشائها إلى فراشة، وعلينا تصيدها هكذا. - كيف.
ضحك سقرديون طويلا، حتى استلقى على قفاه، من مشهد الملك المحبط المستسلم له. - أقول كيف؟ دع الأمر لي.
حتى إذا ما أحبطت قمرية ثلاث مؤامرات متتالية من جانب سيف أرعد، لاختطافها، وعلى أسوأ الأحوال إجهاضها، في أسبوع واحد فقط، غمغمت في سخط وغل دفين من خسة «سيف أرعد» ووزيره سقرديون قائلة لنفسها: أنا لست فراشة ضوء هشة كما يدعون.
ومن هنا بدأت وهي تعبر شهر حملها الثامن تحسب لكل خطوة وفعل وقرار ألف حساب، ليس خوفا على حياتها، بل ولا على ما في أحشائها، بل على وصية الملك التبع الراحل الذي أحبته، ولم تمكنها الأيام والليالي من أن تسعد إلى جواره.
وبحسب وصية ذو اليزن، تملكت قمرية كل السلطة، بل وكثيرا ما كانت توقع مكاتباتها ومراسلاتها باسمه وخاتم ملكه، لحكام وشيوخ قبائل وأمراء وقادة جند البلدان التابعة لحكم حمير أو الحليفة، في دلتا مصر، والسودان وبلاد النوبة وبعلبك وفلسطين وصور، ومجمل كيانات جزيرة العرب شمالا وجنوبا، والكثير من البلدان الآسيوية حتى الشرق الأقصى وتخوم الصين.
وكانت في كل خطواتها تجري استشاراتها مع وزراء الملك - الراحل - وأخصهم وأقربهم إلى قلبها الوزير الحكيم يثرب.
وأحاطت قمرية قرارتها الكبرى والمصيرية بالكثير من السرية والحرص، حتى ولو تطلب الأمر عقد اجتماعاتها داخل مخدع التبع الراحل، وهي ممددة على فراشها.
ومما دفع بها إلى اللجوء إلى ذلك الأسلوب من السرية والتكتم، حرصها الشديد على إتمام شهور حملها، خاصة وأن بعض العناصر الحاقدة بدأت تظهر على المسرح، والتي رفضت أن تحكم حمير امرأة.
وقد حاولت الرد على ادعاءاتهم لاجئة إلى محصلتها التاريخية التي اشتهرت عنها، معيدة إلى الأذهان حكم شهيرات النساء لحمير، من بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل وحكمها المترامي لحمير وتوابعها، وانتهاء بالملكة «تدمر» ابنة التبع حسان بن أسعد، الذي اغتاله ليلة عرسه الدامي - بالحيلة - كليب بن ربيعة، وخطيبته الجليلة بنت مرة؛ بقولها: وها هي حرب البسوس الانتقامية التي نشبت بسبب ذلك الاغتيال، تدور رحالها على مشارف الشام وفلسطين والبقاع.
بل هي كثيرا ما أشهرت وصية التبع ذو اليزن ذاته، التي يوصي فيها بأن تحكم «امرأتي الأميرة قمرية لحين أن تسلم الحكم ما في أحشائها.»
وكم من مرة أيضا أعادت إلى الأذهان حكم الملكة «سميراميس» لبابل وآشور معا؛ أي في وادي الرافدين وآسيا الصغرى بكاملها، وفي بعض الأحيان، تصل بها ثورتها إلى حد المطالبة بإحلالها من وصية التبع الراحل، لتصبح في حل من كل هذا.
كانت تعرف - من طرف خفي - أن تلك الفتن والمكائد والمنغصات التي أصبحت تثار ضدها حتى داخل بلاطها الحاكم نفسه، مصدرها إثيوبيا وملكها «سيف أرعد» ووزيره «سقرديون»، لإجهاضها والإيقاع بها عن طريق استخدام مختلف الطرق والمصائد.
وكل ذلك يجري لها وهي حامل في أيام معاناتها الأخيرة، دون رحمة ودون تفهم لأبعاد ما يحاك ضد عاصمة التباعنة الجديدة - أحمرا - من مؤامرات، يستعر أوارها ليل نهار دون هوادة، أو حتى خجل إزاء ما يقع وينكشف أمره تباعا من خداع لقتلها واغتيالها، أو إجهاض ما في داخل أحشائها، بينما هي تحرص عليه حرصها على عينيها ذاتهما لكي تسلم الأمانة كاملة غير منقوصة.
وكان الوزير يثرب أحرص الجميع على قمرية وسلامة حملها؛ لذا أوصد عليها بنفسه دواوين القصر، الواحد بعد الآخر، عن طريق بث عيونه وأخلص جنده وأشجع فرسان حمير وقحطان في الأماكن الحساسة لرصدها.
إلى أن جاء اليوم الموعود، فتزايدت آلام قمرية بسبب محاولة المولود الخروج ورؤية النور، ووضع حد لمعاناتها.
حتى إذا ما حل مساء اليوم التالي، ومع انبلاج الفجر، تجدد الطلق الشديد على قمرية، لدرجة كادت أن تودي بحياتها ذاتها، وهي محاطة بالوصيفات و«الدايات» من كل جانب في حين ملأ صراخها جنبات القصر.
إلى أن علا صراخ المولود الذي غطى على صراخها فعلت الزغاريد طاغية من كل جانب، إلا أن قمرية أشارت إلى حاجتها الشديدة إلى النوم.
واستسلمت من فورها إلى نوم عميق بعدما وضعت أمانتها.
وحين استيقظت في ضحى اليوم التالي، استدارت في لهفة لترى وليدها للمرة الأولى، ولكنها لم تجده.
صرخت: ابني وحيدي، سيف!
الفصل الحادي والعشرون
الحرب الضروس في القرن الأفريقي
اندلعت نيران الحرب الضارية المستعرة بين «سيف أرعد» وأرملة الملك التبع ذو اليزن «قمرية».
وهي الحرب التي امتدت رحاها على طول أواسط أفريقية وقرنها الموصل إلى اليمن والجنوب العربي.
كما أنها حرب كانت قد تأجلت طويلا، نظرا إلى الظروف والملابسات الفاجعة التي مرجعها المرض المفاجئ للتبع ذو اليزن، عشية زواجه من قمرية التي كانت قد انشغلت بدورها بحملها المتعثر بابنه سيف، الذي دفعت به إلى الوجود يتيما بعد حدث موت ذو اليزن الفاجع في غيبتها، وهي تدفع فلول الأحباش الذين شارفت كتائبهم المتربصة المخربة أسوار «أحمرا» ذاتها.
وهكذا نجحت قمرية في إجهاض عدوان سيف أرعد المبيت بعد إشاعته - الكاذبة - لموت ذي اليزن، متصورا هو ووزيره المتآمر المعادي للعرب «سقرديون» أن الطريق قد أصبح أمامهما مفتوحا لتقويض عاصمة التباعنة بوسط القارة السوداء التي نبتت كمثل شوكة ترمي إلى تعريب أفريقيا مبكرا.
إلا أن سيف أرعد لم تغفل عيناه عن مرماه بتخريب أحمرا والانتقام الأسود المبيت من جاريته - أو مملوكته - قمرية التي خانته قبل أن تخون الملك ذو اليزن، حينما جاءته مغتالة، فاستحالت إلى محبة أنهت مهمتها بالاقتران به.
ترنم أرعد في حقد: تلك الذئبة، صحيح؛ لأن أباك «ديب».
حتى إذا ما استوثق سيف أرعد من مواراة التبع اليمني - كما كان يدعوه - الثري، بذل المستحيل باتجاه إعادة تكوين نواة جيشه، مشجعا وداعيا قومه إلى الإكثار من النسل والإنجاب، ومستقدما بعض فلول كتائبه من البلاد التي كان يحدوه حلم أسلافه «أسود يهوذا» بتملكها بدلا من أن تسقط في أيدي العرب - الساميين - بدءا من مصر العليا، والسودان وبلاد النوبة، وانتهاء بالمغرب الكبير، وبخاصة تلمسان التي كانت شبه خاضعة لسيطرته وتمدد نفوذه السرطاني.
في تلك الأثناء، لم تخمد نيران مؤامرته المتكررة هو ووزيره الشرير سقرديون، لاختطاف أو قتل أو اغتيال سيف بن ذي يزن الطفل والرضيع ثم الشبل.
إلى أن تراءى لقومه، أن الحكمة تقتضي رعايته وتربيته في الخفاء بعيدا عن العيون حتى أمه ذاتها، متنقلا من موطن وكيان، وقبيلة ومدينة إلى أخرى، بمأمن عن أذرع سيف أرعد السرطانية الطويلة المتوغلة في تلك القارة السوداء الغارقة في سباتها، أفريقيا.
وهي الأيدي التي تمددت كأخطبوط، وكان على قمرية مواجهتها - إن لم يكن اليوم فغدا - لإعادة استئصالها، وإلا لضاع كل شيء من ميراث التباعنة، سواء في أفريقيا، أو في ربوع جزيرة العرب جنوبا وشمالا على السواء.
ومن هنا أهابت بجميع الأقوام التابعة ضرورة الصحوة وجمع الشمل ونبذ الأحقاد، مسافرة متنقلة محرضة بنفسها.
فزارت سبأ وحضرموت وصنعاء وعدن وعمان والبحرين ويثرب وإخميم ومصر وقرطاج وتونس وبعلبك ولبنان؛ محذرة من سيف أرعد وأطماعه، جامعة فلول جيش التباعنة والمبادرة بالحرب دون غفلة.
حتى إذا ما نشبت الحرب، أبلت قمرية البلاء الحسن إلى حد الاستبسال الذي أخرس كل الألسنة الطامعة في النيل منها كامرأة أنثى، وهي الأقرب إلى أن تكون «أعجمية» منها إلى أن تكون عربية رغم اقترانها بالتبع الراحل وخلفها منه.
بالإضافة طبعا إلى التصورات الغيبية التي ربطت بين دخولها على ملكهم الحكيم الحبيب ذو اليزن، وبين قضاء التعجيل بمنيته، تحت ثقل مرضه العضال، ومن هنا كان ولا بد من مواجهة خطر الأحباش المعادين للعرب جنسا ولغة وحضارة، باعتبارهم ساميين طامعين في جيرانهم ومتاخميهم الحاميين: «ذوي البشرة السوداء، أبناء اللعنة.»
ومن هنا حقق سيف أرعد نجاحاته في جمع شمل أقوامه الأفارقة، مثيرا ومذريا مشاكل وقضايا، عنصرية وعرقية، تتصل باللون واللغة وركام مخلفات العصور - الأسطورية والخرافية - القديمة المتأججة تحت الجلد منذ الأزل، وساعد ملك الأحباش أرعد، في هذا وزيره - العنصري - الحاقد سقرديون، نظرا إلى ثقافته الهلينية اليونانية الدخيلة على العرب والأفارقة معا .
كما أن هذا المدخل المستنفر للدعوات «العنصرية واللونية» قد ساعد بالفعل سيف أرعد في تدعيم حشوده ضد العرب والتعريب، وأضاف إلى هذا ادعاءاته لأقوامه وحلفائه أن هدف ذي اليزن واهتمامه بمصادر الماء مصدر الزرع والاخضرار وكل حياة، من سدود ومجاري الماء و«كيميا» التربة وكيفية تخزين وتصريف المياه، مرجعها رغبته في السيطرة على شريان أفريقيا بأسرها وهو نهر النيل: ومن هنا كان تستره - أي التبع الراحل ذو اليزن - وراء بحثه وكتاباته - الخفية السرية - عن: كتاب النيل.
ودعم سيف أرعد دعوته العدوانية هذه، مرسيا قوائمها، مستثيرا حمية الأقوام وقبائل أفريقيا السوداء وتجميعها تحت راياته في إثيوبيا، مواصلا حملاته على عاصمة التباعنة ذاتها.
واستخدم أرعد في هذا كل وسائل الإسراع المعجل لتقويضها، بالحرب وقطع شرايين أنهارها وتخريب سدودها وإضرام النار في منشآتها وحصونها التي كان قد عانى ذو اليزن في إيجادها وتأمينها حتى آخر لحظات عمره القصير، ومن هنا أيضا جاءت معاناة الملكة قمرية في الصمود والدفاع عن حصون العرب التباعنة في وجه ملك الأحباش المدجج بكل وسائل القوة والخداع والتآمر، باللجوء إلى وسائل الحرب الخاطفة واختراق كل ثغرة تتيح للأحباش إحداث الخدوش الدامية - بأحمرا - والفرار دون مواجهة، مما دفع بقمرية إلى وصف تلك الحرب المخادعة بأنها شبحية.
ورغم ذلك نجحت قمرية في تغيير أساليب حربها بدورها، وردع أعدائها بقدرة فائقة لم تكن تخلو من خداع - أنثوي - ماهر، كثيرا ما دفع بسيف أرعد إلى الغليان، إلى حد الهذيان وملازمة الفراش واستدعاء حكمائه ومطببيه دون انقطاع، صارخا في وجوه الجميع، حتى وزيره سقرديون. - أنا لست مريضا، أنا فقط مسقوم من حية أحمرا، الرقطاء، التي ربيتها ورعيتها هنا بنفسي في إثيوبيا، فاستدارت اليوم مغيرة جلدها، لتلدغني أنا في المقتل، يا لسمومها المستشرية!
كانت قمرية تعرف كيف تلدغه في المقتل، وأينما يوجع، كلما عن له الهجوم الغادر. - واقعة بواقعة.
وكثيرا ما كان - ابنها - سيف اليزن، يضطلع هو بنفسه بإطباق الفك الثاني للكماشة القاتلة على سيف أرعد، من داخل بلاد الحبشة ذاتها، وكأنه إنما يستكمل لأمه قمرية - دون أن يعرفها - إحكام وإطباق خططها دون علم منه أو منها ومن دون أية اتصالات جارية بينهما سوى أن كلا منهما، إنما يسدد سهامه وخططه في جسد - ومقتل - عدو واحد.
فكان كلما أقدم الملك سيف أرعد على استخدام سلاح قطع مياه النيل عن أحمرا وتوابعها، أجهض سيف اليزن من الداخل محاولاته، سواء بإعادة تلك المياه إلى مجاريها، أو بإغراق بعض مناطق الحبشة ذاتها.
وهو ما ضاعف من جنون أرعد وتوجسه أكثر فأكثر، عقب كل واقعة تحدث. - يا للخيانة المستشرية، يا للدناءة!
كما أن كليهما - أي سيف وأمه قمرية - كانا على دراية ومعرفة أكثر بالنيل ومنابعه ومناطق فيضه وشحه وانقطاعاته؛ نتيجة لاطلاعهما معا على مشاغل وأبحاث الملك التبع الراحل ذي اليزن، التي استغرقته السنين الطوال منكبا بالأبحاث والقراءات والأسفار الطويلة والمخاطر الهائلة للوقوف على أدق أسرار الشريان العظيم. - النيل: بدءا من منابعه في الحبشة وأواسط أفريقيا وحتى منتهاه ومصبه على ساحل «فاروس» ومناراتها التي أصبحت الإسكندرية فيما بعد.
كانت قمرية تحفظ للملك الراحل ذو اليزن وصاياه بالحرص على مدوناته وكتاباته التي سبق أن أفنى فيها عمره وخيرة سنوات شبابه.
وذلك منذ أن تربى ذو اليزن - بدوره يتيما - في ربوع سبأ ومأرب وسدودهما التي كانت أعجوبة العالم القديم، وحققت لليمن حضارتهما التي أوصلتها إلى ربوع آسيا وما بين الرافدين وحتى مجاهل الشرق البعيد أو الأقصى.
وكان يحلو لقمرية، خاصة عقب الموت المعجل الذي أودى بحياة ذو اليزن، استخراج كتاباته ورسوماته التخطيطية الملونة على خرائط من جلود الأيائل البرية، والمنقوشة على العاج ورقائق الذهب، لتعاود فك طلاسمها وملغزاتها قارئة في استغراق وتلهف.
كما كان يحلو لها أن تنقل معارفها هذه موصلة بين الأب وابنه الوحيد - سيف - عندما كان لا يزال في كنفها قبل منفاه.
بل وكثيرا ما اقتادت سيف - الطفل - إلى حيث مخازن وكنوز وخزائن الملك التبع التي كانت تخفيها عن العيون في أعمق أعماق قلاعه السرية؛ حيث أودع ومنذ أن داهمه المرض. - كتاب النيل.
فتروح قمرية تلاعب ابنها - سيف - بقلائده وسواراته الذهبية وأحجار والده القيمة التي جمعها أسلافه وأضاف إليها هو الكثير، خاصة حجره القاتم الزرقة الذي اشتهر باسمه في التاريخ «لابس لازلي» وهو حجر ذو اليزن الذي قد يفوق الياقوت والزمرد قيمة.
إلى أن تجذب قمرية اهتمام ابنها سيف - وقبل أن تدفع به إلى المنفى - إلى كتابات الملك وخرائطه ومدوناته عن الماء والتربة، ونهر النيل.
وكان سيف الطفل بدوره يبدو سعيدا فرحا متوقد الذكاء منفتحا على المعرفة والاستزادة، بل وكثيرا ما طالب هو أمه الانسلال معا، وبعد أن ينام كل من في القصر والمدينة وحتى أقرب المقربين إليهما، إلى حيث يحفظ كتاب النيل.
فكانت قمرية تحرص بالذات على مخطوطات ذو اليزن، حول النيل ومكوناته وأسراره حرصها على حدقتي عينيها هي، فلم تطلع أحدا على خزائنها حتى وزيرها الأول «يثرب» حفاظا على وصية الملك بإيصالها إلى ما في بطنها حسب أمنيته. - هيكل، سيف، ولدي.
حتى إذا ما شب الغلام - سيف - وأصبح قادرا على القراءة، بدأت قراءاتها معه لمدونات والده الخطية، وهي تصب الكلام في أذنيه صبا ليحفظه ميسرا عن ظهر قلب.
كانت في كل حالاتها تتحسب لذلك اليوم المرتقب الذي سينتزع الطفل فيها من بين أحضان صدرها، ليربى في الخفاء بعيدا عن بطش سيف أرعد وأذرعه الطولى على طول غابات أفريقيا ومنافيها.
وكان كثيرا ما يستبد بها الشوق والحنين إلى رؤية وليدها التي حرمت منه منذ طفولته وصباه، كأي أم بسيطة. - سيف، وحيدي.
وكان يشتد بها ذلك الحنين الطاغي، خاصة في أيام الشدة والضيق بسبب عدوان ملك الأحباش، وذلك التحدي الكبير الذي فرضه عليها فرضا؛ بسبب الانتقام - الشخصي - منها. - حية أحمرا الرقطاء.
وفي مثل تلك اللحظات العصيبة، لم تكن قمرية تجد مخرجها إلا بإعادة السؤال - لوزيرها يثرب - عن ولدها ومصيره وأخباره المنقطعة عنها منذ سنين. - سيف، أما زال حيا يرزق. - هنا يقاربها يثرب بهدوئه وما عرف عنه من حكمة وبعد نظر قائلا: اهدئي أيتها الملكة، اهدئي فالأمير سيف يحيا في أحسن حال. - أين؟
هنا يستبد الصمت بالوزير الحكيم فلا يقدر على الإفصاح حتى لها هي، أمه، بمكانه ومخبئه. - أين؟!
الفصل الثاني والعشرون
حروب النيل
كان ملك الأحباش سيف أرعد، قد وصل به التوجس مما أصبح يحدث له في معاركه المستعرة مع قمرية إلى حد الجنون بعينه، فما يكاد يشتد ساعده وساعد أبنائه الكثيرين من زيجاته - السياسية - المتعددة داخل مختلف أقطار القارة السوداء، حتى يصبح على باب قوسين أو أدنى من وضع يده على أصل الداء، بتقويض - أحمرا - وإعادة مليكتها أسيرته.
هنا تداهمه الأحداث الخطرة غير المتوقعة، حتى من داخل حدود بلاده ذاتها الحبشة وتخومها، التي لا يعرف لها مصدرا.
والغريب أنها أحداث قد تصل بخطورتها إلى حد إغراق عاصمته ذاتها «إثيوبيا» وتكشف لكل ذي عينين وبصيرة عن مدى تفوق أعدائه من داخل الحبشة ذاتها، وكيفية قدرتهم المتعاظمة على الإلمام والمعرفة بأسرار النيل ودقائق قنواته وشرايينه.
هنا لا يملك سوى الإسراع بالتراجع المشبع بالهلع والهوس، مما يحصل دون أدنى توقع مما يحدث من خلف ظهره، فيتزايد تساؤله وصراخه مما يسمع ويتسبب في إشاعة الرعب بين رجاله. - هكذا، إن للحرباء أكثر من جلد ولون ووجه.
وكان يقصد بالحرباء - طبعا - الملكة قمرية وابنها - الغامض - سيف.
وبالطبع لم يخطئ سيف أرعد في ذلك كثيرا، ذلك أنه كان لسيف بن ذي يزن أكثر من وجه وجلد ولون؛ إذ كان يملك قدرات متعددة، منها قدرته على تغيير مواقعه داخل حدود الحبشة ذاتها وما يجاورها من بلدان وأقوام بأسرع من هبوب رياح الخماسين الشيطانية.
كما أنه كان متملكا لقدرات إخفاء نفسه وتغيير لونه، والتخفي تحت مختلف الأشكال والهيئات والسحن والوجوه، مضافا إلى هذا قدرته على النطق باللهجات المختلفة، بل وتغيير إيقاعه بكامله متحركا مواصلا طوافه داخل مختلف الأقوام والقبائل الأفريقية، مبشرا بالأمن والعدل، أينما حل، هو وأتباعه الكثيرون الخارجون على سلطان سيف أرعد وبطشه وظلمه.
فزار مصر العليا والسودان مرارا، وزار الشمال الأفريقي، وزار موطنه ذاته في اليمن وجزيرة العرب، مواصلا تجميعه لقواته ومؤنه وقلاعه ومصادر قوته التي تمكنه من إحباط كل محاولات ملك الأحباش المتوعد بتقويض عاصمة التباعنة العرب داخل أفريقيا.
ومن هنا لم تسه عينه الساهرة لحظة واحدة عن - أحمرا - وما أصبحت تعانيه ملكتها من جهد مضن خارق للصمود في وجه سيف أرعد، وأطماعه الداعية إلى تقويض وإحراق وإغراق تلك العاصمة العربية، مهما كلف الثمن.
حتى إذا ما وضع ملك الأحباش خططه وزحفه بمساعدة وزيره سقرديون للوصول إلى أسوار أحمرا وتطويقها التف هو - وجيشه - من جانبه بتطويق عاصمة الأحباش إثيوبيا، لتصبح مجرد فريسة تعاني آخر أنفاسها عند قدميه.
هنا يمضي الملك أرعد يمزق جلد وجهه ألما مما يحدث ويسمع وينشر الفزع بين قادته وأبنائه وجنوده، ولا يملك سوى التقهقر المزري عائدا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من غرق وحرائق، متوعدا بالإمساك بأعدائه من الداخل دون طائل. - التبع الجديد وأعوانه، ولا أحد غيرهم.
وكان أقرب أولئك الأعوان بالطبع «ملك مدينة أفراح» الذي تربى فيها - سيف - وأمضى طفولته ومطلع صباه.
وكان وزير الملك المقرب «سقرديون» يضرم في كل مناسبة، وعقب كل واقعة نيران حقد أرعد أكثر فأكثر على ملك أفراح وابنته العاشقة للتبع «شامة» إلى حد رفضها الزواج بيانا جهارا من ابن الملك سيف أرعد الأكبر، الذي يحبها بدوره إلى حد الجنون.
وهنا توافق قرار الملك سيف أرعد مع وزيره سقرديون، في أهمية التأني في تخريب عاصمة التباعنة - أحمرا - وأسر ملكتها قمرية، إلى حين الانتهاء من تطهير بلاد الحبشة ذاتها من الجيوب المقوضة والمتآمرة، التي تحسن الطعن في الظهور إلى حد القتل. - خونة، وأولهم هنا ملك أفراح وابنته التي قد تقودهما إلى موطن «التبع الخفي». - سيف.
هنا سأل الملك ممرورا وزيره سقرديون وهو ينهض ليواجه أمواج النيل المتلاطمة أمامه: ما العمل؟ أنعاود من جديد قطع الماء عن أفراح؟
أجابه سقرديون في حزم: ليعيده من جديد التبع ويتزايد حب الناس في تلك البلاد لمنقذهم من العطش والجفاف، وبالتالي ستتزايد شعبيته أكثر فأكثر.
واجهه الملك منفعلا: إذن ماذا ترى يا سقرديون؟ - أرى اقتطاع شامة ذاتها. - كيف؟ - اختطافها لمعرفة أسراره ومكمنه بكل الوسائل.
وكانت شامة ابنة ملك أفراح قد قللت في الأيام الأخيرة من اتصالاتها بسيف بن ذي يزن، كما اعتادت في السابق، وذلك استجابة لطلب ومخاوف أبيها الذي تضاعفت عليه مؤامرات سقرديون وملك الأحباش، خاصة عقب رفضها الزواج من ابن «سيف أرعد» ووريثه.
ووصل بها الغضب إلى حد إعلانها الانضمام إلى سيف ورجاله عيانا جهارا؛ إذ لم يكف والدها عن مطالبتها بالرضوخ والزواج الأقرب إلى الأسر من ابن ملك الأحباش، مما قد يدفع بها أيضا إلى حرق نفسها. - فسياط النيران ستكون أكثر رحمة على بدني وروحي من ذلك الزوج المدلل الفاجر.
وإزاء هذا التهديد الذي يعرفه الأب عن ابنته - شامة - كما يعرف قدرتها على تنفيذه، لم يملك سوى التراجع، وإبلاغ سقرديون برفضها.
ولما كانت شامة مدركة لأبعاد ومخاطر رفضها لمثل هذا الزواج، ومدى ما سيجلبه تعنتها هذا من أحداث انتقامية بشعة ستحط بكاملها على كاهل والدها المثقل، بل المدينة جميعها عن بكرة أبيها، فقد حطت عليها الأحزان الثقيلة السوداء، وهي التي تنتظر دون طائل أو حتى بصيص أمل الزواج يوما بمن يهفو إليه قلبها، منذ أن تفتحت عيناها عليه. - سيف اليزن.
إلا أن عين سيف بن ذي يزن، لم تغفل يوما عن إحاطة شامة بكل حماية ورعاية.
فلم تنقطع عنها رسله ورسائله إليها، يخبرها بمكامنه ومخابئه المتغيرة الجديدة أولا بأول، وبحنينه الجارف إليها: «فمن أجل عينيك يا شامة، أحارب الشر.»
مجددا على الدوام عهده لها بالزواج منها قائلا: «عقب خلاصنا من أرعد وعدوانه معا.»
وكانت شامة في وحدتها الجديدة التي فرضتها على نفسها، تحلم طويلا باليوم الذي يحقق فيه حبيبها - سيف - انتصاره على ذلك الكابوس الشرير الظالم سيف أرعد، لكي يصبح لحبهما مكان في هذا العالم الواسع. «فكيف لأزهار الحب ووروده أن تنبت وتينع في مستنقع سيف أرعد وإذلاله وظلمه.»
تساءلت ممددة على فراشها تعاني آلامها وحسرتها مما يحدث ويجري: حقا، كيف لأي نبت أن يزهر مع ناشر الجوع والعطش ذاك؟ إلا أن «شامة» سرعان ما كانت تعاود تفاؤلها واستبشارها، كلما وصلتها أخبار الانتصارات المتواترة التي أصبح يحرزها سيف بن ذي يزن ضد سيف أرعد ووزيره العجوز المتآمر سقرديون.
وكانت تشارك جماهير مدينتها السرية من أرعد ورعونته وجنونه الذي يصل به إلى حد ضرب وزيره «بالنعال»، كلما تفوق عليه سيف ورجاله من داخل حدود الحبشة ذاتها، وهو ما أحاله إلى معجزة ومنارة أمل أصبح ينشدها الجميع في كل مكان وموطن.
فكانت شامة تراسله ناقلة إليه مدى حب واستبشار الناس - بسيف وأتباعه - رافعة من معنوياته مشددة من ساعده الضارب، متشوقة لرؤياه.
هنا كان يبعث إليها سيف، بكتيبة من رجاله، تنقلها إليه إلى أقرب مخابئه من مدينة أفراح، ليلتقي بها مسرعا، فيمضيان معا، لحظات خاطفة تعود هي بعدها منشدة لنفسها: «يا مظني الشوق أنا قلبي صبح عن الدم آدي سنه حول، وأنا اللي عيشتي على الدم، جاني طبيبي وسمعني الكلام ع الدم وإن أذن الله، طابت مني أنا الجروح حا ألبس ثياب الهنا تشع منه الروح، وإن جا عزولي أقوللو: من هنا قوم روح فتحت لجروح وكانت كاتمة ع الدم.»
وتنشد لنفسها:
حبيت جميل زين وسبوني العوازل فيه وكتروا من الفتن لجل أتركه وأنفيه
وكيف أنا أتركه وأنفيه وأنا عقلي وروحي فيه.
شيع حبيبي وقال لي:
أنا عبدك وسيد غيرك
عينك على الكرم إذا خطروا العوازل فيه
وتغني وكما لو كانت في لوعتها تبعد عنها حسادها والعزول
يجازيك «يا لايم» عليه في الغرام يجازيك
إياك تلومني فيه
دا الحب له نار والعة
في المهجة وشاعلة فيه
يا زارع السنط هيا ودادي فيه
دا السنط كله منافع
أما الأرد نرميه
والمركب اللي انخرق
إياك تعدي فيه.
إلا أن عين سقرديون المشعة بالشر دوما لم تغفل عن تدبير الانتقام الدامي من ملك أفراح وابنته شامة، التي سبق أن تجاسرت على رفض ابن الملك أرعد ووريثه في اعتلاء عرش «ليوث يهوذا».
فتوعد ابن الملك بتحقيق آماله من شامة، فقط حين يحين موعد أعياد: «وفاء النيل.»
حتى إذا ما حان أوان موسم العيد، أوعز لمساعديه وكهنته بإيقاع «قرعتهم» لهذا العام على أميرة أفراح «شامة» مردفا: وهي رغبة الملك سيف أرعد، كما تعلمون، قبل أن تكون رغبتي.
حتى إذا ما وقع الاختيار على «شامة»، واستعدت مدن الحبشة وأفراح وتوابعهما لذلك الاحتفال - الشعائري - الذي كان يجري حدوثه في وقت واحد من كل عام، في كل موقع وكيان يواصل نهر النيل عبرهما جريانه كالحبشة وأوغندا والسودان وبلاد النوبة ومصر.
وتجمعت الجماهير من كل صوب احتفالا بعيد ذلك العام، متجهة مشرئبة صاعدة إلى تلك القلعة المهجورة فوق أعلى جبال المدينة التي ازدانت بالزينات والأعلام وفرق الموسيقى والطرب والألعاب الشعبية ونحر الذبائح.
ووصلت مع الغروب كوكبة من فرسان الملك سيف أرعد مدججة بالسلاح، يعقبها وفد الكهنة والمنجمين إلى قصر ملك أفراح، وهم يسوقون إليه - بشارتهم - بوقوع اختيار «القرعة» ثلاث مرات متتالية على أميرة البلاد الجميلة. - صاحبة الصون، أفراح.
هنا سقط الوالد من طوله مغشيا عليه، بينما صعدت كتيبة الجند لا تلوي على شيء، إلى حيث جناح «شامة» فأحاطوا بها من كل جانب وهي تقاوم وتبصق في وجوههم. - ابعدوا يا قتلة، يا لصوص الظلام والخرافة.
وعم الصمت جماهير المدينة عن آخرهم وهم يشهدون مشدوهين كيفية أسر أميرتهم، وهم يصعدون بها الجبل الشاهق المشرف على النهر، إلى أن اختفوا بها وهي صارخة مقاومة: قتلة ... لصوص ... عصابات.
حتى إذا ما ألقوا بها مقيدة عند قدمي ابن ملك الحبشة سيف أرعد العاشق لها، والذي سبق لها رفضه، خلع من فوره قناعه - هائل الحجم - عن وجهه ضاحكا من أعماقه مقهقها: شامة ... حبي!
هنا هوت ذراع ضاربة على أعلى عنقه، ففصلت رأسه عن ذلك الجسد «الخرافي» المتهتك.
الفصل الثالث والعشرون
سيف أرعد يصرخ: ولدي جثة بلا رأس
لم تكن اليد التي هوت فجأة على عنق - مقلقل - ابن ملك الأحباش سيف أرعد بحسامها، لحظة احتضانه «لعروس النيل» - شامة - التي وقع عليها الاختيار سوى يد سيف بن ذي يزن الضاربة. - شامة ... هس.
استدارت شامة في أقصى فزعها مما حدث فجأة وبشكل خاطف، في اللحظة ذاتها التي رفع فيها سيف قناعه عن وجهه ملقيا به، ثم جذبها إليه، وانسلا خارجين عبر ردهات ومسالك وأطلال تلك القلعة المهجورة الخلفية مسرعين لا يلويان على شيء.
بينما دوت أصوات الغناء والموسيقى والاحتفالات الماجنة - السنوية أو الموسمية - بعروس النيل عالية صاخبة من حولهما تصم الآذان.
نزعت العروس شامة غطاء رأسها الحريري الملون على شكل تاج هائل الحجم الذي أعاقها عن الحركة والجري بأقصى سرعة، مسلمة ذراعها لسيف، وهما يقفزان ويدوران حول السراديب المظلمة باحثين عن منفذ للإفلات عبره.
إلى أن اعترضتهما فجأة شلة من حرس ابن ملك الأحباش - مقلقل - وعندما أحاطت بهما كتيبة الجند من كل جانب، دون دراية أو إدراك منهم لما حدث، أعمل سيف اليزن حسامه في رقابهم الواحد بعد الآخر، ملقيا ببعضهم من فوق أسوار القلعة الخربة.
حتى إذا ما انتهى سيف بن ذي يزن منهم وكانوا قرابة سبعة جنود، مدججين بالسيوف والحراب، أعاد من جديد اجتذاب حبيبته - شامة - من يدها مواصلين عدوهما، باتجاه السراديب الخلفية للقلعة التي كان سيف قد درس مسالكها المتعددة، بهدف تضليل كتيبة الجند الرابضة فوق أبراج الحصن الواقعة في أعلى أسوارها.
إلا أنه توقف مستديرا مسرعا حيث اعترضته كتيبة أخرى من الجند محيطة بهما هذه المرة من كل جانب مشددة حصارها، فواصل قتاله لهم الواحد بعد الآخر، إلى أن تمكن بحسامه من ثلاثة منهم، وفر الباقون عدوا عبر البراري والهول.
وسرعان ما اختطفت شامة بدورها خنجر سيف من غمده، وكلما قاربها أحدهم محاولا إعادة اختطافها، أردته بخنجرها صريعا.
وما إن نزلا الدرجات الحجرية للقلعة، حتى توقف سيف من فوره مستخرجا رقعة صغيرة من الجلد متأملا في لهفة، بينما شامة تمسح عنه عرقه وجبينه بأناملها الحانية وهي تشرئب ببصرها إليه دون صوت، حتى أعاد جذبها من معصمها. - من هنا، يمينا يمينا، هيا أسرعي.
وما إن انسلا خارجين من سرداب القلعة الموصل إلى أسوارها الجنوبية حتى تنفس سيف اليزن بعمق وهو يواصل عدوه إلى حيث تقف كوكبة من جنده وحراسه بعيدا بانتظارهما، وسريعا ما ألقوا إليهما بحبل ساعدهما على تسلق أسوار القلعة الجنوبية، في نفس اللحظة ذاتها التي وصل إلى أسماعهما جلبة صادرة عن مجموعة أخرى من حراس ابن ملك الأحباش - القتيل - وبأيديهم المشاعل الضخمة والسيوف اللامعة المشهرة، وهم يحاولون اللحاق بهما دائرين من فوق أسطح القلعة للإمساك بهما. - ها هم، يمينا، يمينا.
لحظتها كان سيف اليزن قد أنزل شامة التي ألقت بنفسها بين أحضانه، وامتطى الجميع ظهور خيولهم، وغابوا عدوا وسط أشجار الغابات الكثيفة العملاقة، إلى أن شارفوا مرفأ «جانبيا» على النيل، قادهما الحراس إليه، فنزل سيف اليزن عن حصانه، متجها إلى شامة فحملها بين ذراعيه، إلى أن دلفا إلى مركب صغير مختبئ بين الأحراش بينما واصل حرسه الركض باتجاه حرس ابن ملك الأحباش لإعاقتهم عن اللحاق بهما.
ودارت معركة حامية بين الجانبين حيث التحما وسط الغابات والأحراش، أعطت المزيد من الوقت الكافي لتحرك مركبتهما - سيف وشامة - وسط مياه النيل الفضية إلى أن اختفيا في الأفق البعيد. - أخيرا، عبرنا النيل العظيم يا شامة.
امتطيا ظهري جوادين عربيين كانا بانتظارهما بصحبة مجموعة أخرى من الحرس، وتسلقا بضع تلال باتجاه إحدى القرى، وسيف اليزن ما يزال يداعبها بقوله: أتقبلينني خطيبا بدلا منه؟
تساءلت بصوت عال: من؟ - النيل!
ضحكا طويلا وهما يواصلان عدوهما في مرح أبدل من تعبهما وما بذلاه من جهد خارق للإفلات من تلك المكيدة التي كادت أن تودي بحياة شامة هذه الليلة. - عروس النيل، أم عروس ذلك «الفحل» الأبله - مقلقل - ابن أرعد؟
قالت: النيل أرحم!
وضاحكها سيف وهما يتوقفان في الخلاء الفسيح المحيط بهما لحظة كافية «لتغيير ريقهما» بتناول التمر واللبن قائلا: هل يمكن تصور ما حدث يا شامة؟
واصل: أن ننجح معا في تخليص ربوع هذه البلاد من وريث سيف أرعد.
ألقت برأسها بين أحضانه مسبلة عينيها كمن تحلم طويلا. - متى نخلص من أرعد ذاته؟ متى؟
واستبدت بها المخاوف من ذلك المصير المظلم الذي سينتظر والدها الشيخ من انتقامات ملك الأحباش لمصرع ولده ووريثه، مقلقل ذلك «الفحل» المتهتك.
وطمأنها سيف بن ذي يزن قائلا بأنه قد وضع لكل شيء حسابه، والمهم الآن هو أمنهما هما معا من ذلك الجنون الذي سيستبد بالأحباش وملكهم، على طول أفريقيا مشرقا ومغربا. - المهم هو مواصلة الطريق، حتى المرفأ الآمن، المهم هو اليقظة، هيا. - واصلا عدوهما من جديد، باتجاه مدينة ضخمة غاصة بالأضواء والفرح، تسد الأفق البعيد، إلى أن وصلاها مع الغسق، فدوت الأبواق معلنة قدومهما وانفتحت البوابات، على اتساعها واحتوتهما وفي أعقابهما جوقة الحرس داخلة، حتى إذا ما أصبح سيف بن ذي يزن وسط أفسح ساحاتها، شهر من فوره رأس ابن سيف أرعد. - رأس مقلقل.
هنا دوت المدينة بالفرح والتكبير والدعاء والهتافات للملك التبع المنتصر من كل جانب. - سيف اليزن، سيف اليزن!
أما ملك الحبشة سيف أرعد، فقد غابت الدنيا على اتساعها أمام عينيه، حين حملت إليه الأخبار مصرع ابنه ووريثه داخل تلك القلعة الحصينة التي جرى فيها احتفال هذا العام بعروس النيل. - بأيدي خارج أثيم، مجهول.
صرخ سيف أرعد من أعماقه، وهو يدق عمدان قصره: مجهول! أتقولون مجهول؟
اتجه من فوره كالمخبول ممسكا بخناق وزيره المرتعد، كمن يحاول إزهاق روحه عن جسده. - وأنت أيضا يا سقرديون اللعين، أتقول مجهول؟
أردف سقرديون شاحب الوجه: بل معلوم، معلوم، لا أحد سواه!
ألقى به الملك على أريكة جانبية في أقصى حالات هياجه، وهو يدق كفا بكف قائلا: أجل معلوم، إنه التبع الجديد سيف بن ذي يزن يا سقرديون، وليس غيره.
استدار من جديد إلى وزيره المأخوذ المرتعد: تلك مشورتك الجديدة، إذن فلم يعد سواي، لتراهن عليه، أليس كذلك؟
جرى كالمجنون صاعدا درجات سلالم عرشه المصاغ من الذهب الخالص صارخا وهو يتأمله مبهورا: لينتهي كل شيء، ليقضي العرب اليمانية على كل شيء، حتى عرش يهوذا هذا ... هذا.
انحط جالسا في حسرة على كرسي عرشه مطوقا رأسه بذراعيه. - أليس كذلك يا سقرديون، يا صاحب المشورة؟
حتى إذا ما تدافعت مجموعة من الحراس مرتدين ثياب الحداد، محاطين بجوقات النساء والنادبات، وهم يحملون الجثمان المسجى لولده مقلقل، هب أرعد عن عرشه مذعورا باكيا: ولدي ... وريثي ... لحمي.
وما إن تقدم بخطى بطيئة من التابوت الذهبي المطعم المحلى بالرسوم ، كاشفا غطاءه، حتى جرى مذعورا من هول ما رأى: ولدي ... جثة بلا رأس!
اندفع صاخبا هائجا عبر ساحات قصره وهو يصرخ بالثأر والانتقام والدمار. - رأس ابني، جثة بلا رأس، ابن سيف أرعد، هكذا على هذا النحو جثة بلا رأس، منين نعرف لها أساس.
أهاب باكيا بقومه وقبائله وأمرائه وأبنائه الكثيرين ناديا محرضا: تعالوا، تعالوا اشهدوا جميعا ابني مقلقل جثة نزعت عنها رأسها.
تدافعت الوفود والأقوام وشيوخ القبائل والأمراء ومن خلفهم جوقات النساء النادبات النائحات في السواد، وقد لطخن وجوههن بالنيلة الزرقاء «يصرخون ويتوعدون». - جثة بلا رأس: منين نعرف لها «أساس».
والملك يصرخ ويرعد ويمزق ثيابه وينتزع شعيرات ذقنه في جنون: ابني وريثي، أسد يهوذا، تعالوا قربوا، اشهدوا.
وخلال كل ذلك الجو الملبد بالحزن وبكائيات النادبات وعويل النساء، انسل الوزير سقرديون متخاذلا منزويا عن العيون المتطلعة المشيرة إليه بكل اتهام، فهو وحده صاحب ومدبر المكيدة الأخيرة، نكاية بملك «أفراح» وابنته - شامة - التي رفضت الزواج من الابن القتيل، بما يشير ويعني وقوفها في صف العرب الطامعين الغزاة، ولو لم يجهرا علنا بوقوفهما ذاك.
بل إن انزواء سقرديون ومحاولة اختفائه من هول مشهد ما يحدث، تضاعف أكثر حيرة، ووقعت عيناه بين الجموع، على وزير - الميسرة - الحجازي «أبو الريف» الذي تقدم في ثيابه فأفسح له الجميع طريقه إلى حيث التابوت الملكي المغطى برقائق الذهب، فأعاد غلق غطائه، مانعا في هدوء الوفود المتدافعة كالهدير من حول التابوت. - لتهدأ روح الميت في مثواه الأخير.
صرخ الملك سيف أرعد: لن تهدأ إلا بالثأر.
وعل الفور تعالت دقات طبول الحرب العاتية من داخل القصر وخارجه، مترددة من كيان إلى آخر، ومن مدينة إلى ما يجاورها، بإيقاع رتيب، تهيب بالكتائب ووحدات الجنود والمحاربين التجمع والتأهب للحرب.
وانسل سقرديون منسحبا إلى حيث الساحة الخارجية للقصر مصدرا تعليماته لقادة الوحدات والكتائب في محاولة للتغلب على ذلك الإحباط الذي لم يخل من إحساس دفين بالذنب مما حدث، وهو يوحي للجميع بأن الخطر كل الخطر من العرب - اليمانية - وعاصمتهم. - الموت والدمار لأحمرا.
وسريعا ما دوت الهتافات من كل جانب، مطالبة بالتوجه - الآن وليس غدا - لمدينة التبع ذو اليزن، والمطالبة برأس ابنه: سيف اليزن، ولا أحد غيره.
وهكذا وجدها سقرديون فرصته سانحة لإلهاب المشاعر، وتجميع كل الجهود للتخلص من النفوذ العربي، بحسب خطته السابقة التي لم يولها الملك سيف أرعد اعتبارا وهي تدمير أحمرا أولا وقبل كل شيء، ولو استدعى الأمر التخلي عن حاميات الحبشة في الشمال الأفريقي: في تلمسان وصعيد مصر والسودان وبلاد النوبة الآن. - وقبل إطفاء النيران المتوقدة بدفن الجثمان.
وهنا عارضه الوزير - الحكيم - أبو الريف في إعطاء الأولوية لدفن جثمان ابن الملك، وعدم التسرع قبل أخذ المشورة، بدلا من الانفراد بالرأي الواحد الذي وكما تأكد للجميع. - هو السبب الأول والأخير في تلك الكوارث التي أصبحت تحل بالبلاد.
وكان الوزير أبو الريف، يقصد من وراء ذلك كسر جماح الرغبات المستعرة بالشر من جانب زميله سقرديون.
ولما كان سقرديون، أضعف حالا هذه الجولة من فرض تصوره - السياسي - بالحرب، فقد آثر مهادنة الوزير أبو الريف؛ مشيرا: لكم ما ترونه.
حتى إذا ما انتهت الحبشة من دفن جثمان - ولي العهد - وهدأت طبول الحرب والعدوان إلى حين، أعاد سقرديون إذكاء لهيبها في أذني سيف أرعد. - الحرب والدمار للعرب المعتدين.
وعلى الفور انتظمت صفوف جيش الأحباش للانتقام والعدوان، آخذة طريقها إلى حيث أسوار المدينة العربية - أحمرا - وملكتها «قمرية» وابنها سيف بن ذي يزن. - التبع الغازي، الجديد.
الفصل الرابع والعشرون
مهد التباعنة
ما إن حقق سيف بن ذي يزن انتصاره بقتله لمقلقل بن سيف أرعد ملك الأحباش، وإنقاذه لحبيبته رفيقة طفولته وصباه «شامة» من بين براثنه، حتى عبر النيل باتجاه القرن الأفريقي، مواصلا هروبه بها من جنود وحلفاء وعيون سيف أرعد.
وهو الذي جن جنونه مما حدث وانتهى بقطع رأس ابنه ووريثه في حكم أفريقية، على ذلك النحو السافر من الغدر.
ثم هي الرأس التي شهرها سيف اليزن من فوره حين حط رحاله وشامة وسط الأقوام والقبائل الموالية للعرب والتباعنة، فأثارت الحمية بين الجميع، ومن الذين عانوا الأمرين من عدوان وتجبر الأحباش وملكهم، وبخاصة منذ أو وافت المنية والد الملك التبع ذي اليزن.
وهكذا تدفق من جديد الحماس للعرب في أفريقيا وبخاصة غربها وشمالها المتاخم للجنوب العربي، فتواترت أخبار ما حدث من كيان إلى آخر، إلى أن وصلت ربوع اليمن ذاته، بل جزيرة العرب بأسرها.
إلا أن إجماع المشورة بين الأقوام العربية وحليفاتها استقر على ضرورة وأهمية إسراع سيف اليزن بالزحف وخطيبته وكتائبه القليلة العدد، باتجاه اليمن والجنوب العربي، هربا من عيون سيف أرعد وبطشه وأذرعه الطويلة التي لن تهدأ أو تهادن فيما حدث، وبعد أن وصله جثمان ابنه المسجى، بلا رأس. - جثة بلا رأس. - منين نعرف لها أساس.
لذا آثر سيف بن ذي يزن الامتثال لإجماع المشورة العربية، مواصلا زحفه السري من مخبأ إلى آخر، إلى أن حط رحاله وبرفقته خطيبته شامة ابنة ملك أفراح في ربوع اليمن؛ حيث دفء الأهل والعشائر.
مهد التباعنة
وجرى استقباله بين قبائله وعشائره مجللا بالنصر والظفر اللذين حققهما عبر جهاده الطويل، لتثبيت حكم التباعنة في مجاهل القارة السوداء، وهو الذي ولد وتربى يتيما عبر المنافي والمخابئ تحسبا من ذلك العدوان المبيت ضده من جانب الأحباش وملكهم سيف أرعد، الذي كان قد اختطفه بالفعل عن طريق الدايات - أو القابلات - منذ اللحظة التي فارق فيها رحم أمه قمرية.
وها هو سيف بن ذي يزن الآن وبطولاته التي أصبحت مضرب الأمثال، تلهج بها الشفاه والجباه المتعطشة للنصر العربي، الذي كان قد شحب وهجه بموت والده ذو اليزن الذي أودى به المرض العضال قبل الأوان، وقبل أن تكتحل عيناه برؤية ولده الوحيد.
هيكل، سيف
حتى إذا ما دخل قصر أبيه ذو اليزن وجده - عمرو بن مزيقيا - الذبيح بيد أخيه التبع حسان، تدفقت مشاعره والتهبت من جديد بمواصلة الكفاح، وعلى الفور سرى وانتشر نبأ وصول ابن ذي يزن، المجلل بالنصر الذي اقتنصه اقتناصا ولو عن طريق الخداع في مواجهة الحبشة وأطماعها في عرش التباعنة وأحلافهم، سواء في أفريقيا، أو فيما بين الرافدين، أو في غرب آسيا .
وتدفقت وفود القبائل من أمراء وشيوخ قبائل من حمير وقحطان، من كل صوب وقوم وكيان، إلى سبأ للتهنئة بالنصر. - سيف بن ذي يزن! يا لها من معجزة! يا لها من صحوة انتظرها الجميع طويلا طويلا!
وعلى هذا النحو وصل سيف بن ذي يزن ووطئت قدماه أرض أجداده محملا برأس وريث «عرش يهوذا» ابن ملك الأحباش.
وسرى الحماس متدفقا بين الجميع إلى حد المطالبة بتنصيبه تبعا على عرش أجداده.
إلا أن سيف بن ذي يزن رفض المثول لهذا المطلب المتعجل، إلى أن يحين أوانه، معطيا الأولوية لتجميع فلول جيش حمير معليا من ذراعها الضارب، في مواجهة العدوان والبطش الحبشي المتزايد ضد عاصمة التباعنة في أفريقيا - أحمرا - وهو العدوان الذي لا بد وأن يصل الجميع هنا في اليمن وتوابعها.
إن لم يكن اليوم، فغدا.
وهكذا استطاع سيف إعطاء الأولوية للتجمع والاستعداد للقتال منذ لحظة أن وطئت أقدامه عاصمة التباعنة، دون تردد أو إبطاء. - فسيف أرعد يطرق الآن كل الأبواب، ولن يهدأ له جفن إلى أن يحط برحاله على حصون التباعنة ليدكها دكا.
ودعم سيف اليزن دعواه، مشهرا من فوره محصلة الأخبار والمعلومات التي وصلته حول ضخامة ذلك الجيش المدجج الجرار الذي استدعى الملك أرعد فيالقه وكتائبه من السودان ومصر العليا وتلمسان وبلاد النوبة، وحشده في إثيوبيا تمهيدا للمسير والعدوان مواصلا تساؤلاته. - لمن؟ لصدورنا هنا في أحمرا العربية، ولا أحد غيرنا.
وهكذا نجح سيف باستخدام مهارته الخطابية والسياسية في إلهاب المشاعر العربية وتجميع طاقاتها التي كانت قد تبددت طويلا.
وهو ما دفع بشامة إلى أقصى حالات اندهاشها وانبهارها معا، من سرعة وصول الإمدادات والفيالق العربية، من الشباب المتطوعين، بخيولهم وسيوفهم المشهرة، وتدفق ذلك الحماس العربي من كل صوب وكيان، حول سيف بن ذي يزن، إلى درجة دفعت بشامة، إلى تناسي هواجسها ومخاوفها من ذلك الخطر المحقق الذي لن يفلت منه والدها - ملك أفراح - وقومها، وذلك من جراء قيام حبيبها سيف بقتل ابن أرعد ليلة اختطافها من قبله لإجراء طقوس سفك دمائها دون أدنى شعور بالذنب أو الحياء.
ومن هنا جاءت استجابتها لدعوى سيف اليزن بأن الحل والخلاص لن يتحقق إلا بالجهاد للقضاء على أصل الداء، وقبل استشرائه في أفريقيا وما يتاخمها من أقوام.
ومن هنا توارت أحزانها ومخاوفها، وهي تشهد بعينيها تشكيل نواة ذلك الجيش العربي، الذي تعالت قرقعة سلاحه وتدريباته اليومية على طول عاصمة التباعنة وبقية المدن والمعالم العربية، التي تنقلت فيها وزارتها شامة بصحبة التبع المنتظر سيف بن ذي يزن.
فزارت برفقته، حضرموت، وصعدة، وذي رعين، وعدن، وإرم - ذات العماد - وصنعاء، والبحرين، وصرواح، ومأرب، ومدائن صالح ويثرب واليمامة محرضة إلى جانبه على ضرورة التأهب والصحوة للقتال الذي حان أوان اندلاعه إن لم يكن قد تأخر كثيرا على حد تعبيرها.
إلى أن تحقق حدسها الذي كانت قد تناسته في غمرة تجميع الجهود والطاقات العربية.
وذلك حين وصلتها الأخبار يوما بما حل بوالدها - ملك أفراح - الذي بدأ سيف أرعد انتقامه منه باقتحام عاصمة بلاده ومحاصرة قصره مطالبا بتسليمها هي - شامة - حية أو ميتة.
إلى أن تحقق من فرارها مع قاتل ابنه ووريثه ولم يشف غليله إلا بسياق والدها أسيرا عاري القدمين مقيدا عبر شوارع وميادين إثيوبيا، على مشهد من الجميع، وصلبه على بواباتها. - ذلك الأرعن شراب الدم!
صرخت شامة من أعماقها، ودون أن تذرف دمعة واحدة على عادة النساء، في مواجهة سيف اليزن، الذي تضاعف حبه وإكباره لها، وهو يضمها إلى صدره، عاقدا من فوره قرانه عليها في اجتماع بسيط هادئ ودون عرس أو صخب قائلا: في القريب العاجل سيحل عرسنا الحقيقي يا شامة، يا حبيبتي.
وكان يقصد بهذا يوم انتصاره على ملك الأحباش سيف أرعد. - حين يحين اليوم المنشود!
ولم تترك الأخبار الدامية لسيف بن ذي يزن، وعروسه شامة، متسعا من الوقت للارتواء من نهر حبهما القديم وزواجهما، بل سرعان ما تواترت أنباء توجه حشود جيش الأحباش، وعلى رأسه أرعد بنفسه ووزيره سقرديون، باتجاه العاصمة العربية - أحمرا - للانقضاض عليها وحصارها لحين استسلام ملكتها قمرية.
هنا زفرت شامة من أعماقها لسيف اليزن، وهما يتأهبان بدورهما إلى المسير والعودة إلى أفريقيا؛ قائلة في غل: وقبل أن تستسلم تلك الملكة قمرية ليسوقها أسيرة عارية القدمين والرأس في سلاسله وقيوده عبر شوارع إثيوبيا بنفس ما فعله مع أبي.
عندئذ رمقها سيف اليزن بنظره غائرة الأعماق والأبعاد، محاولا تفهم غرضها الأخير، فلم يكن قد سبق له أن حدثها قط عن ملكه أحمرا قمرية.
بل إن توالي الأحداث وصخبها استعدادا للحظة تجمع قرار المسير بنواة جيش حديث التكوين، دفعهم للزحف سريعا باتجاه شرق أفريقيا وأواسطها، ومواجهة جيش الحبشة وملكها. - وريث عرش يهوذا.
وهو قرار كان سيف بن ذو اليزن قد عقد الرأي على تأخيره كثيرا، وهو الأقدر بالطبع على معرفة مدى قوة الحبشة ورسوخها في مجاهل أفريقيا، مضافا إليه أيضا الدور العنصري - الدعائي - ضد العرب الساميين لونا وجنسا بل وحضارة من جانب أرعد، واصفا إياهم بالبدو الغزاة.
وبدأت الأخبار المتوالية الوصول تطرق كل الأسماع حول حصار أحمرا وملكتها قمرية، وهو ما أقلق مضاجع سيف إلى حد الفزع، وأفضى به في النهاية إلى اتخاذ قرار المسير عبورا من أقصر الطرق باتجاه الحبشة ذاتها ثم أحمرا.
وخلال المسير الذي استغرق بضعة أسابيع طويلة واصل فيها سيف اليزن سيره المؤرق ليل نهار.
وفشلت كل جهود شامة في التخفيف من أعبائه إلى أن اقترحت عليه اتخاذ بلادها وموطنها منطلقا للجيش العربي؛ نظرا إلى قربها محققة بذلك هدفها الدفين الذي أصبح يشدد في عضدها، وهو الانتقام لوالدها الطيب الذي اقتاده الأحباش أسير مقيدا بذيول خيولهم عاري الرأس والقدمين إلى أن تم صلبه مقلوبا رأسا على عقب على بوابات إثيوبيا.
مما دفع بسيف إلى التعديل من خطته، مقسما جيشه إلى فيلقين:
أولهما اتخذ اتجاهه إلى شرق بلاد الحبشة ذاتها، بقيادته مستخدما حيله الماهرة التي عرفت عنه في «حرب النيل»، بينما سار الفيلق الثاني باتجاه «أحمرا» وما يتبعها من أقوام أفريقية.
حتى إذا ما حانت لحظة الافتراق بفيالقه مسرعا عن شامة لتنفيذ تهديداته الخلفية لجيش الحبشة والانتهاء منها بأقصى سرعة يمكن تحقيقها، اتخذ طريقه على الفور للحاق بالفيالق المتجهة إلى نجدة المدينة العربية وملكتها المحاصرة «قمرية».
ولكم صعبت لحظة الافتراق هذه على شامة عندما ودعت سيف ذلك الغرام الطاغي الذي تملكها أكثر وتضاعف لهيبه منذ توالي ما مر بها من أحداث جسام.
فتذكرت حين أنقذها من ذلك الموت العاهر بين براثن - مقلقل - ابن سيف أرعد، ثم إفلاتهما معا عبر وهج المعارك والمخاطرات للخلاص من الشر.
وهكذا سرعان ما اندلعت سريعا المعارك، حين غير سيف بن ذو اليزن هيئته كلية بدءا من شعر رأسه «الأكرت» الجعد وانتهاء بلون وجهه ويديه وبدنه بكامله، ثم دخل الحبشة، وهو على دراية كبرى بمسالكها، منقضا على مقتلها باستخدام نقيضين لا غيرهما: الغرق والعطش.
فحقق انتصاره، وأحدث الذعر الجارف في ربوع البلاد المترامية، التي ما إن وصلت أنباؤهما إلى أسماع ملكها سيف أرعد، وهو على مشارف تحقيق نصره وحلمه الطاغي، باقتحام أسوار عاصمة «بدو المشرق» والإمساك برأس الأفعى «قمرية» حتى تهدم كل شيء كمثل معبد قديم تهاوى على رأسه الكبيرة. - جنون ... الخيانة ... الخيانة!
وقبل أن يفيق سيف أرعد من هول ما حملته إليه الأنباء محاولا إعادة السيطرة على جيشه وفيالقه، كان ابن ذو اليزن يأخذ طريقه للحاق ببقية جيشه والإطباق من الخلف على سيف أرعد ذاته، مما خفف الحمل الجسيم عن «أحمرا» ودفع بقمرية من جانبها إلى التشدد والمواجهة، وكأنها بهذا إنما تحكم إطباق فكي الكماشة على جيش الحبشة بقيادة سيف أرعد.
واشتدت وطأة القتال الذي امتد إلى داخل أحمرا ذاتها، خاصة حين دخلها سيف اليزن بجنوده، مواصلا خداعه وتنكره، في محاولة للحاق والإمساك بسيف أرعد ذاته.
إلى أن أصبح وجها لوجه مع أمه قمرية التي كانت قد استبعدت مجيء ابنها لمناصرتها في هذا الحصار والهجوم المباغت من جانب الأحباش.
إلى أن أطبقت عليه بفيالقها في محاولة لتصديه وقطع رأسه، بعدما فر سيف من أمامها.
فما كان من سيف اليزن إلا أن خلع زيه وتنكره كحبشي - أسود - على مشهد من أمه قمرية المتوثبة لقتله، ما سحا عنه حتى لونه معلنا: أنا سيف اليزن، هيكل يا أماه!
الفصل الخامس والعشرون
سيف بن ذي يزن تبع حمير المنتظر
تلك هي المرة الأولى، التي وعي فيها سيف بن ذي يزن على نفسه بعدما مادت أرض القلعة الرخامية من تحته، فسقط في ذلك الفخ - الملغم - المفتوح الفاه عن آخره.
وذلك لحظة إطباق ملكه أحمرا - قمرية - عليه على رأس جنودها من كل جانب، كمثل نمر مفترس هائج، مشهرة سيوفها وقواطعها وحرابها، لتهوى بها على رأسه. - اقتلوه!
كانت تلك هي المرة الأولى، التي فتح فيها سيف عينيه عن آخرهما وهو مجندل مقيد بالحديد و«الكلابات» والجنازير فزعا صارخا في وجه أمه الملكة المحاربة قمرية وهي على ظهر الشهباء فرس ذو اليزن متقلدة عدة حربه شاهرة حسامها استعدادا لكي تهوي به على رأسه فصرخ في وجهها: حذا ... أنا سيف ... هيكل ... ابنك.
هنا عجزت الذراع المشهرة الضاربة فتراجعت كمن شلت للحظة عن كل حركة، ونزلت قمرية من فورها مسرعة فزعة عن حصانها متفرسة في وجهه، وبالتحديد على شامة التباعنة الخضراء على جبينه، بينما خلع هو أقنعة تنكره وأزال الأصباغ عن وجهه وصدره العاري مسرعا: هو ... سيف!
وللحظة سريعة كمثل برق خاطف اقتنصت نظرات - الأم قمرية - المدققة ملامح ذو اليزن - والده - السمحة الفائقة النبل، منكبة عليه محتضنة إياه في حنو: هيكل ... سيف ... ولدي.
استدارت كمن تعلن لحرسها في انبهار لا يصدق أبعاد وحقيقة ما حدث. - سيف بن ذي يزن ... حذار.
وقبل أن تمتد يد لتخلصه من فخاخه كان هو قد اندفع نافضا عنه قيوده قائما منتصبا على قدميه في حيوية مصافحا أمه، متطلعا في وجوه فرسانها وكأنما يحيي بابتسامته الصافية أصدقاء أعزاء قدامى. - عدنا ... مرحبا ... أمي الحبيبة.
استدار مستطلعا من فوره سير المعارك الطاحنة الضارية الدائرة على طوال الساحات الواسعة في شوارع - أحمرا - المتقاطعة والجانبية عبر شرفات القصر الشاهق المرتفع البنيان، بما يسمح بجلاء ووضوح رؤية كل شيء على طول السهول والوديان، وعلى طول النهر الفضي العريض المتدفق جاريا إلى الشمال.
وبدا واضحا للعيان هدف الأحباش وحلفائهم المستهدف لقصر ذو اليزن ذاته حيث الملكة: أفعى أحمرا.
إلى درجة دفعت بقمرية إلى التخلي عن ابنها - سيف - مشيرة صارخة: انتبهوا ... غربا ... غربا.
إلا أن تراخي ابنها منفلتا من بين أحضانها مستبشرا ضاحكا، أعاد إليها من جديد تنهدها مشيرة للخطر المرتقب: تقدموا.
لحظتها تزايدت أكثر ضحكات سيف وهو ينفض عنه غبار معاركه مقهقها في عنف، وهو يقارب قمرية مجددا محاولا إعادة إنزالها من فوق صهوة جوادها، مما ضاعف من سخطها عليه، إلى أن قال سيف بن ذي يزن؛ موضحا: إنهم جنودي، جنودك أيتها الملكة الأم، المنتصرة، «ضاحكها» انتبهي.
تردد بصر قمرية بين حشود الجند المسرعة العدو باتجاه المدخل الغربي لقصر القلعة، وبين ضحكات سيف واستبشاره ممتطيا من فوره ظهر حصانه مشيرا لفيالق الجنود المقتربة، مهللة بالنصر، محيطة به من كل جانب في تعال. - المجد لتبع حمير المنتظر.
هنا بدا المشهد في عين الملكة الأم قمرية، أقرب إلى الحسد المحمل بكل زهو وإكبار. - تبع حمير المنتظر ... ولدي!
فاتسعت ابتسامتها وهي تشهد ما يحدث بين ابنها - العائد - سيف وبين فيالقه وكتائبه، بلباسهم المزين بالألوان التي يخالط فيها الأخضر الزمردي القاني، والأحمر الصارخ وقد شهروا سيوفهم؛ هكذا يدخل سيف بن ذي يزن مدائنه وقصر أبيه.
وبهر جنود أحمرا بدورهم مما يشهدونه غير مصدقين: إنهم يشهدون الآن وعبر أجيج المعارك المستعرة الضارية التي امتدت شهورا، تبعهم المنتظر. - سيف بن ذي يزن تحت أعلام التباعنة.
كان الفرسان يدورون بخيولهم من حوله - أي سيف - خالعين عنهم شارات التمويه والتستر بالأزياء الحبشية، رافعين رايات وبيارق التباعنة، وقد علت أناشيدهم المدوية احتفالا بالانتصار، في مشهد مثير صاخب بعث في جسد قمرية الذي أوهنته المعارك رعدة لم تكن تعرفها من قبل، في كل ما سبق لها أن واجهته وتصدت له، عبر حياتها الجسورة التي عاشتها. - ولدي العائد سيف. - تبع حمير العائد.
مضت قمرية تشهد عن بعد ما يحدث، من توافد فيالق وكتائب ابنها سيف بن ذي يزن، من كل جهة وصوب، نازعة عنها هي الأخرى شارات تنكرها تحت أزياء الأحباش وحلفائهم، ليحكموا خطة الكماشة المطبقة - من الخلف والأمام - على ملك الأحباش، منذ حط بجنوده داخل أحمرا ذاتها، فكان أن عجلوا بالنصر، غمغمت قمرية لنفسها: بل هم اقتنصوه.
حطت ببصرها عليه وهو يدور وسط حلقات فيالقه وكتائبه وجنوده، مشاركا في أغاني انتصاراتهم، مجللا من كل جانب بأعلام التباعنة وبيارقهم، إلى أن عم خبر عودة التبع العائد الذي فك حصار مملكة أحمرا، وأوقع بالأحباش الهزيمة، فتوافدت الجموع من كل جانب غير مصدقة، وتزايدت أغاني النصر وأفراحه متفجرة في كل مكان.
مما دفع بسيف إلى الاندفاع باتجاه أمه مطالبا إياها بالخروج لتحية جنوده وفرسانه والجميع، والمشاركة في احتفالات النصر في هذا اليوم الكبير معاودا إصدار تعليماته هنا وهناك، لمواصلة تصفية آخر قلاع وجيوب الأحباش، بل ومطاردتهم باتجاه الجنوب تمهيدا لأن يلحق بهم - أي بجنوده - قبل مطلع صباح اليوم التالي.
وانتهى سيف بن ذي يزن من متابعة مطاردة جيش سيف أرعد إلى داخل تخوم وحدود بلاده ذاتها، عبر معارك استخدم فيها الجانبان أقصى طاقات المقاومة، خاصة من جانب الأحباش الذين أفجعهم خداع سيف بن ذي يزن لهم بتنكره، وادعائه محالفتهم على ذلك النحو الصارم.
أما فاجعة ملك الأحباش سيف أرعد ووزيره سقرديون اللذين وصل بهما الغضب والحقد على التبع اليمني الجديد وغدره المتواصل بهما، إلى حد دفع بهما إلى خوض المهالك دون رحمة أو مهادنة في محاولات للإيقاع به أينما كان، وقبل استشراء خطره أكثر فأكثر عقب عودته عيانا جهارا لمنازلة الحبشة، وتحالفه مع أمه قمرية. - ستصبح الأذية أذيتين على رءوس الأحباش وكل الأفريقيين.
وهو ما تحقق بوصول إمدادات قمرية لمساندة ابنها في نقل المعارك إلى داخل بلاد الحبشة بدلا من أحمرا.
مما اضطر سيف أرعد إلى الإسراع مطالبا بالهدنة ووقف القتال، الذي رفضه بحدة سيف بن ذي يزن، بينما تقبلته ملكة أحمرا، مما أوعز الخلاف بينهما أو بين قراريهما المتضاربين.
وهذا ما سمح لسقرديون بتعميق ذلك الخلاف بين - الأم وابنها - إلى حد تزايد القطيعة التي جمدت مسار الحرب المستعرة وأوهنت من روح سيف المقاومة، ثم تقبله في النهاية لقرار والدته بوقف الحرب، والعودة إلى أحمرا.
حتى إذا ما عاد سيف بن ذي يزن إلى عاصمة التباعنة التي فتحت ذراعيها عن آخرهما لاستقباله بعد نفي وغياب طويل كانت قمرية قد اتخذت سلفا قرارها الذي عانت منه طويلا وحدها، في تنفيذ وصية الوالد الراحل «ذو اليزن» بتسليمه سلطاته ليعتلي عرش التباعنة.
وتم الاحتفال بتنصيبه، بما يليق من تكريم، حين تخلت قمرية عن عرش ذو اليزن الباهر، نازلة درجاته على مشهد من أمراء حمير ووزرائها، وشيوخ القبائل والعشائر والجموع التي جاءت لتشهد اعتلاء سيف بن ذي يزن لعرش أجداده المتوارث منذ سبأ وحضرموت.
وجثى هو على ركبتيه أمامها وهي تضع تاج ذو اليزن على رأسه مقبلة. - لعل التبع الراحل شهد تلك اللحظة من مثواه، وفي اليوم التالي لتنصيبه اقتادته أمه إلى حيث كنوز ذو اليزن وعدة حربه ومخطوطاته ودراساته عن «كتاب النيل»: سأحفظه في قلبي، كما تحفظ حدقتي عيني.
وكما لو أن سيف بن ذي يزن، قد وقع على بغيته حين انشغل بتصفح صفحات الكتاب في حرص، مستغرقا في تأمل رسوماته التوضيحية ومدوناته وخرائطه الملونة. - استغرق عمره بكامله فيه. - أعرف يا أماه ... أبي!
وهكذا استحوذت كتابات ومدونات التبع الراحل على ابنه: بعد تسلم سلطاته فانكب بكامله، وقبل كل شيء، على قراءتها وحل رموز وطلاسم - كتاب النيل - الذي يعرف أعداء العرب قبل غيرهم أن من يمتلكه يتحكم في النيل بكامله ومجراه وإخصابه ومجاعاته.
حتى إذا ما حاول سيف بن ذي يزن إجراء تطبيقاته، ولو من باب إرهاب الأحباش الأعداء، منعته أمه متغاضية عما انتهت إليه الأحداث باعتزالها لسلطاتها، وبعدما ارتضى الجميع وأولهم هي - قمرية - ذلك وهو ما انتهى بتنصيب التبع الجديد.
وعمق من أغوار الصراع الخفي بين الملكة المتنازلة عن العرش وابنها ما تلقاه الملك التبع سيف بن ذي يزن من رسائل بعث بها إليه وزير والده الأول المقرب «يثرب» حين أرسل له مهنئا وشاكيا من عدم قدرته على المجيء من يثرب إلى أحمرا لحضور مراسيم تنصيبه التي كان ينتظر يومها المنشود، تخوفا من أمه قمرية التي تسببت في رحيله إلى مدينته يثرب - أي المدينة المنورة فيما بعد - منشدا له أجزاء من معلقته الشهرية:
فمن يثرب قد صرنا بعد عمرها
إلى بعلبك ابن عمي بها عبرا
وسرنا إلى أرض الحبوش بجيشنا
نزلنا بواد عمه الماء والزهر
مليكنا ذو اليزن عمر أحمرا
حصنها بالأسوار وأجرى الأنهرا
أبراجها من حولها وقلاعها
بها شيدت والناس من حولها زمرا
ولم يشأ سيف أن يستوضح من أمه عن جذور خلافها مع وزير والده، وموضع سره يثرب تحرجا من جرح مشاعرها، كما أنه لم يشأ أن يستأثر بقرار مصيري، يتصل بالحرب والسلم ومهادنة سيف أرعد لا ترضى عنه والدته قمرية، مهما عز عليه. - فهي أمي، من حبلت بي.
ذلك على الرغم من تيقنه الدفين من خطورة قراراته في هذا الشأن، خاصة وأن الأخبار التي يرصدها عياروه وبصاصوه، تجيئه بالكثير حول الحشود التي يسعى إليها الملك سيف أرعد في الخفاء، والمبيتة كلها ضده وضد عاصمة التباعنة، مستخدما في ذلك كل النعرات العنصرية ضد العرب الساميين «ذوي البشرة البيضاء» وأطماعهم في أفريقيا الزنجية.
ودعم من صدق وتحقق هذه المعلومات المتسمة بكل خطر، ما بعثت إليه به مؤكدة حبيبته وزوجته «شامة» ملكة أفراح.
حتى إذا ما تراكمت مكاتباتها ومراسلاتها له من خطية وشفهية، حول جنون سيف أرعد وتحالفاته الخفية التي اتسع مداها حتى شملت وغطت غرب أفريقيا وجنوبها، بدأ سيف التفكير في معارك الحرب.
وهكذا وجد سيف بن ذي يزن نفسه محاصرا غير قادر على الحركة برغم تملكه لسلطاته كتبع لحمير وعرش اليمن، وهو الذي لم يعتد من قبل على حياة القصور الوادعة الرخوة، كمثل دمية في يد أمه قمرية التي استأثرت بقرار الحرب والسلم، مؤثرة احترام صكوك الهدنة مع الأحباش. - وأين هي الهدنة مع سيف أرعد وأطماعه التي لا يحدها حد.
إلى أن تواترت الأخبار، حول عبث الأحباش، السري من جديد في النيل ومقاييسه، وخاصة ضد مصر وأفراح وأعالي السودان.
بل وضاعف من خطورة الأمر، استقدام سيف لبعض حامياته في بلاد النوبة والمغرب الكبير. - لماذا!
وهو السؤال الذي طرحه على والدته قمرية مرارا دون أن تتزحزح ولو قيد أنملة عن قرارها مؤثرة السلم على الحروب وأهوالها.
إلى أن روع الملك سيف بن ذي يزن، برسل زوجته شامة المحملين بتجدد الحرب بين الأحباش ومملكة أفراح، وتلك الحشود الهائلة التي اجتاحت البلاد باتجاه العاصمة، وتصميم سيف أرعد على التخلص أولا، وكما يقول ويذكر مستخفا: «التبلغ أولا ببلاد شامة أي أفراح»، وهو يعلم أنها زوجته.
هنا نفد صبر الملك التبع سيف بن ذي يزن، مقررا كسر قرار والدته - قمرية - والخروج من جديد لملاقاة الأحباش، حتى إذا ما أعادت والدته معارضتها احتدام الخلاف بينهما، وانتهى بانقسام الجيش العربي، وخروجه وحده بفيالقه غير المتكافئة مع جيش الحبشة، لفك حصار أفراح والإفراج عن حبيبته وزوجته شامة التي لم تقدر له الأحداث المتوالية معاشرتها كبقية خلق الله، إلى أن وقعت في أسر سيف أرعد. - شامة ... حبي!
الفصل السادس والعشرون
سيف يفك حصار مدينة أفراح
اضطر سيف بن ذي يزن إلى مناوأة أمه قمرية والضرب بقرارها المستسلم ضد الأحباش والخروج عليه، كما اضطر إلى إحداث ذلك الصدع أو الانقسام في صفوف «جيش التباعنة».
حيث آثرت فيالق الملكة الأم البقاء في أحمرا؛ امتثالا لقرارها بعدم إعلان الحرب، مما أجبره على الخروج وحده بجيشه القليل العدد والعدة، تجاه مملكة أفراح لتخليص أسر محاربتها التي عانت طويلا، وهي زوجته وزميلة كفاحه وطفولته وصباه: شامة.
وهي - شامة - التي تفتحت عيناه عليها يلعبان ويلهوان ويدرسان معا، حتى إذا ما شبا عن طوقهما على كراهية سيف أرعد ملك الحبشة لكل ما هو عربي وعبوديته للآخرين، توقد حبهما على وهج المعارك المستعرة التي خاضاها ضده، مما اضطر شامة، وهي الفتاة، أن تخرج على إرادة والدها ملك أفراح بالسير في طريقه، بل والانتماء بكاملها إليه إلى حد هروبها مع سيف إلى اليمن وجزيرة العرب، ليعقد قرانه عليها رسميا بين الأهل والعشائر، وها هي شامة ترزح وحدها في قيود وأسر أرعد، كان سيف بن ذي يزن يعتلي رأس جنده وألويته غاضبا عاقدا العزم منذ أن لفظته بوابات أحمرا على التوجه هو وجنوده إلى المشرق الأفريقي، وهو لا يزال يلقي باللوم على نفسه لتردده الطويل أمام رغبات أمه قمرية - التي عارضت الإسراع بالخروج لاستكمال المعارك السابقة الموءودة أو المجهضة - عشية وضع الملكة خاتم ملك التباعنة على اتفاقات الهند الملفقة الأخيرة مع ملك الأحباش سيف أرعد قائلة: تكفي أرض هذه البلاد ما رشفته من دماء عربية، لم يجف تقيحها بعد.
اندفع التبع الشاب، ينهب الأرض بجبالها وأخاديدها وشلالاتها وبواديها وغاباتها المأهولة بقطعان الحيوانات والطيور وزواحف الأرض ما بين الأيائل البرية والضباع وأبناء آوى التي تعارف العرب على تسمية الواحد منها بأبي الحصين.
وكانت قطعان الحمير الوحشية والسناجب والقردة بأشكالها وفصائلها وممارستها عبر البراري، بأحجامها المختلفة المنتصبة على قوائمها، والتي تلفت النظر بأشكالها الغريبة وتصرفاتها العجيبة، وهي تقتات من غريب الشجر والثمر والزهور البرية التي لا يحدها البصر، بألوانها وتكويناتها من صفراء وحمراء وقرمزية وخضراء وسوداء وعسجدية، كشعر شامة المسترسل الأحمر.
وكان أكثر ما يثير مخيلة جنوده، فيتندرون به عبر زحفهم ورؤياهم لمجتمعات القردة العملاقة التي يسمونها «بالغيلان»، وكيف أنها كانت تشعل النار وتضرمها بالنفط في حروبها وغاراتها الوحشية، إلى درجة دفعت بسيف أرعد إلى ترويضها ومحالفتها وتدريبها، والدفع بها كتائب إثر كتائب ضد العرب كمحاربين مرتزقة بلا هوية، قد أضناها الجوع لتنهشهم وتأكلهم أكلا. - شامة ... كيف لي أن أتخلى عنك؟
واصل سيف اليزن زحفه متشحا أردية وبيارق التباعنة وتاجهم المتوارث - علنا - وعلى طول البلدان الأفريقية، حتى تلك الموالية منها لمملكة - ويمكن القول إمبراطورية - الحبشة وملكها المتسلط الذي أعماه التعصب ضد العرب سيف أرعد.
حتى إذا ما تسلل داخلا إلى أراضي أفراح الشاهقة واصل زحفه بجيشه باتجاه عاصمتها لفك الحصار عن شامة. - لكم عانت طويلا معه عبر رحلة نضالهما التي لم تترك لهما متنفسا للعيش ولو لفترة قصيرة كزوجين، بعدما عاشا مرحلة الطفولة ووهج الشباب معا كصديقين متلازمين.
وشق سيف بن ذي يزن طريقه بحد السيف موقعا بقادة وأبطال الأحباش، ميمنة وميسرة إلى حيث قصر شامة الشامخ المتعالي المحاط من جهاته الأربع بغابات الأشجار العملاقة المشتعلة كجهنم ذاتها من حوله وخلفه ومشرقه ومغربه التي كان يطلقها جيش الأحباش والغيلان.
ففك حصار القصر في ذات اللحظة التي حرك فيها أنصاره حرب الأنهار التي يجيدها منذ الصغر، فخفتت الحرائق لحظة عبوره كالبرق الخاطف إلى قصر شامة، المفضي بدوره إلى السراديب والمخابئ المتناهية الصعود والهبوط والالتفاف، واستطاع بعد جهد الوصول إلى شامة التي أخذته بالأحضان وهي تصرخ بسرور: تأخرت سيف.
أشارت من فورها إلى الخارج عبر كوات السراديب المحكمة التحصين؛ قائلة بتوتر: انظر جهنم.
وهالها في التو ما يحدث، فلول الأحباش وهي تلقي أسلحتها فارة ومذعورة إثر قياداتها التي كانت تولي الأدبار بدورها عبر الأفق البعيد، لتنجو بجلدها - الأسود - وقبل أي شيء من مجرد مقدم سيف بن ذي يزن ورجاله.
وشاع خبر وصوله مع رجاله على أفواه ومسامع الجميع في تواتر جاء إيقاعه بمختلف اللغات واللهجات والنبرات. - التبع المنتظر ... سيف. - تبع حمير الجديد العائد ... هيكل ... سيف.
وفرحت شامة واحمرت وجنتاها في براءة، وتزاحم الجميع على الشرفات التي انتزعت «ستائرها وكل ساتر» لمشاهدة ذلك المشهد، الذي تذكر سيف أنه تكرر مرة أمام عيني أمه قمرية، ومع ذلك لم تهبه ثقتها بعد. - الملكة لا تعرفني؛ أمي، من حبلت بي!
غمغم سيف بن ذي يزن لنفسه غائبا عن نفسه ذاتها، وهو يشارك شامة وبقية حاميتها ما يحدث من ذعر وشتات لجيش الأحباش على طول البراري ومتعرجات السهول الممتدة على مدى النظر، وهي تنهب بأقدامها العارية الأرض نهبا صارخة في فزع جماعي: التبع المائي.
ضاحكته شامة فرحة وهي تراقبه من تحت أهدابها متنفسة أخيرا الصعداء: نأخذ نفسنا لحظة الليلة! - أحقا يا شامة؟ اعذريني يا حبيبتي، فلعل فيما سمعته الكفاية.
وكان يعني بهذا خلافه مع والدته، إلا أن شامة أخرجته من هواجسه جاذبة: ليس هناك أعذب من هذا.
اندفعت مشيرة بكل ذراعها المغطى بالدروع المصاغة من الذهب الإبريزي القاني الاحمرار: النصر. - رد العدوان ... الظلم.
ولعل مساء ذلك اليوم المتأخر شهد حبهما نهايته السعيدة. - الحرية.
وفي تلك الليلة حملت شامة من سيف بن ذي يزن، بالوريث الجديد لعرش التباعنة الذي لقب فيما بعد باسم أجداده السالفين. - دمر؛ أي المدمر لأعدائه، ومؤنث الاسم هو «تدمر» وهي الملكة تدمر السابقة على بلقيس ملكة سبأ.
ولم يسترح سيف بن ذي يزن في أحضان ودفء زوجته المحبة - شامة - طويلا، فسرعان ما استجمع طاقات محاربيه، باتجاه سد الطرق والمنافذ على جيش الأحباش وقبل أن تستطلع فلولهم إثيوبيا عائدة مندحرة.
إلا أن سيف أرعد وجدها - باستشارة وزيره سقرديون - فرصة سانحة للعودة باتجاه عاصمة التباعنة ذاتها «أحمرا» خاصة وسيف اليزن بعيد عنها، والملكة قمرية والدته قد أصبحت في سنواتها الأخيرة منهكة إثر الحروب وأعمال الحصار التي نفذها سيف أرعد بها.
حتى إذا ما نفذ ملك الأحباش غايته، وأوقع الحصار والخسائر بأحمرا مضرما نيرانه في مدنها ومضاربها وقراها جن جنون الملكة فخرجت لملاقاته متعثرة، بعدما شق عليها الاستنجاد بابنها - هيكل - خاصة بعدما تخلت عنه في المرة السابقة، بحجة أن الأحباش الذين «سعوا وحفوا وراء عقد الهدنة طويلا لن يخرقوها بسهولة هذه المرة.»
لكنها ندمت بعد فوات الأوان، وبعدما استباحت جيوش الأحباش المدينة بخدعة هدفها مباغتة المملكة وتدميرها حرقا وغرقا وحربا من كل صوب وفي آن واحد.
ورغم صمود قمرية بعدما أعماها الغضب وأخرجها عن كل طور إلا أنها عانت الكثير في حصارها المباغت ذاك.
ووصل بها الغضب والرغبة الدامية في الانتقام إلى حد تحمل أقسى الويلات فوق كاهلها دون أن تجرؤ على الإرسال برسلها طالبة العون والمساندة من ابنها فلذة كبدها. - لن يحدث، لن أنحني.
إلا أن سيف بن ذي يزن لم يطق صبرا عندما علم وتيقن بما حدث، فاستجمع قواته مقررا التخلي عن شامة التي تحولت بهجتها إلى أسى وحرارة لافتقاد سيف زوجها من جديد، من يدري ما تخبئه الأيام والليالي الحبلى بكل عنف وانتقام بسبب ويلات عدوان الأحباش وحلفائهم التي لا تعرف مراعاة لهدنة أو اتفاق.
لذا قررت شامة مصاحبته بجهودها رغم أنها كانت تعاني من آلام الحمل الثقيلة التي آثرت إخفاءها عن زوجها.
هنا رفض سيف بإصرار مصاحبتها وكان يترقب على أحر من الجمر ما في بطنها: دمر.
بل أصر على بقاء حاميتهم وبقايا فلول جيش أفراح، الذي كان سيف أرعد قد أتى على معظمه ولم يبق من قادته البواسل سوى «الميمون» وهو أمير أفريقي أثبت عبر منازلاته وحربه ضد الأحباش بطولات أصبحت توقع الرعب بين صفوفهم، وخاصة في قلب سيف أرعد ملكهم ذاته الذي كان قد اصطحب معه في حربه هذه ضد عاصمة التباعنة - أحمرا - قائدين كبيرين بفيالقهما المحاربة أولهما ويدعى «ميهوب» واشتهر بلقب «سياس الثلاثي»؛ ذلك لأنه كان يقطع رقاب ثلاثة من أعدائه بضربة واحدة من سيفه، والقائد الثاني ويدعى «دمنهور الوحشي».
لذا استعصى القتال طويلا على سيف بن ذي يزن، واستمر حصار المدينة مطولا؛ مما أفزع والدته قمرية، وأخرجها عن طورها مرارا، مواصلة تنازلاتها لسيف أرعد والأحباش؛ مما دفع بسيف بن ذي يزن إلى المبادرة بمكاتبتها مطالبا إياها مراعاته ومراعاة تواجده - تحت راياتها - وعدم التسرع في اتخاذ قراراتها. - المفردة المتسرعة.
أما شامة فقد أزعجها بدورها ما انتهى إليه سير المعارك وضراوتها في أحمرا، فأرسلت إليه بقائدها «الميمون» وفيالقه.
فما كان من سيف بن ذي يزن سوى التشدد في مواجهة الأحباش وتحدي أبطالها منشدا:
أخوض بحر المنايا وهو معتكر
وأرمي قلوب العدا بالرعب والجزع
أعشق في الشتا سوق المنايا
كذلك في الربيع وفي الصيافي
ألا فأخبروا عني الملوك لأنني
إذا ازدحموا في الحرب يوم هياجها
فاثبت اليوم يا أمير لحربي
إن تكن جاهلا بضرب سهام.
وهكذا تحدى سيف بن ذي يزن القائد حلفاء الأحباش «سياس الثلاثي» ونازله بضعة أيام متتالية إلى أن أضعف ساعده، وبدلا من أن يقطع رأسه حين تمكن منه، أبقى عليه وأخذه أسيرا بفيالقه.
مما ضاعف من مخاوف الأحباش وملكهم أرعد فتشددوا عليه من كل جانب بينما هو - أي سيف - يواصل تحديه قائلا بأعلى صوت وهو يصول ويجول من فوق رءوس الجبال: من عرفني فقد اكتفى ، إلى أن سنحت له فرصة منازلة كبير قواد جيش الأحباش «دمنهور الوحشي» وفعل به كما فعل بالسابق، حين استحوذ عليه - وجنده - أسيرا بدلا من سفك دمه.
ثم كر سيف بن ذي يزن عائدا منتصرا إلى أقوامه مجللا ومخضبا بالنصر، كمثل أرجوان أحمر قان.
بينما جن جنون سيف أرعد ووزيره الشرير سقرديون، وهما يشهدان سير المعارك من حول أحمرا، ومدى ما أصبح يحرزه ذلك التبع الجديد من إضعاف لصفوفهم باستحواذه على حلفائهم - أي حلفاء الأحباش - حتى بدا الأمر أقرب إلى انفراط عقاله.
وهنا لم يجد ملك الأحباش سيف أرعد مخرجا سوى التراجع بجنوده منسحبا باتجاه الحبشة؛ تخوفا من أحابيل سيف اليزن المباغتة بالالتفاف من خلفه وسبقه بجيوشه إلى إثيوبيا.
إلا أن سيف بن ذي يزن بوغت بالأخبار التي حملها إليه تابعه «عيروض» عن ذلك المرض العضال الذي حط فجأة على كاهل أمه - قمرية - وألزمها الفراش طيلة الشهور الأخيرة التي شهدت معاركه الطاحنة، والذي آثر الجميع وعلى رأسهم الملكة ذاتها إخفاءه عنه.
ومن فوره هرع سيف بن ذي يزن فزعا متسللا سرا لزيارة أمه.
حتى إذا ما قارب فراشها منحنيا لاثما جبينها هاله ما وصلت إليه حالتها من تدهور شديد.
فتحت عينيها في تثاقل محتضنة رأس ابنها مغمغمة: سيف ... ولدي، لم أفرح بك لحظة منذ مولدك.
كل أم ... هيكل.
اندفع هو منكبا لاثما وجهها وراحة يديها في تلهف. - أمي الحبيبة، سندخل إثيوبيا جنبا إلى جنب قريبا، لتعتلي أنت عرشها.
ابتسمت في وهن، وأسبلت عينيها كطفلة، وغابت في سباتها العميق لاقطة آخر أنفاسها على أصداء ذلك الحلم. - متى ... ولدي سيف هيكل؟!
الفصل السابع والعشرون
موت قمرية
حطت الأحزان الثقيلة على سيف بن ذي يزن عقب موت أمه - قمرية - الذي جاءه نبؤها صادما مفاجئا، وهو الذي لم تمكنه الأحداث والمعارك والعمليات العدائية - الحبشية - المتوالية بلا رحمة أو توقف من النشوء والعيش في أحضانها واكتساب حنانها ومعرفتها عن قرب.
تملكته الأحزان العميقة، إلى درجة لم تسمح له بتذوق عذوبة نصره الأخير على الأحباش وملكهم سيف أرعد الذين عادوا مهزومين منسحبين لمجرد إشاعته - أي سيف اليزن - لنبأ غير صحيح، وهو أنه سيفاجئهم بين لحظة وأخرى بدخوله وجيشه إثيوبيا ذاتها.
وجرت مراسم دفن الملكة الأم قمرية في عجلة؛ نظرا إلى ظروف الحرب إلى جانب زوجها التبع الراحل ذو اليزن حسب وصيتها هي، أي قمرية. - ادفنوني عند موضع قدميه.
إلا أن تدفق الحياة بمرها وحلوها، سرعان ما أعاد البهجة إلى قلب التبع الشاب، حين وصلته مكاتبات زوجته الحبيبة شامة، وكان قد تخلى عنها - مجبرا - وهي حامل في شهرها الثالث لكي يخوض معارك «عاصمة التباعنة». - دمر ... بكري.
جاءته أخبار شامة مستبشرة ذات صباح مشرق تحمل إليه وضعها لمولدهما الأول. - دمر.
فقرر من فوره القيام بزيارة سرية خاطفة لملكة أفراح، لرؤية مولوده الجديد، وشامة التي اشتاق إليها سيف بن ذي يزن زوجته - ملكة أفراح - شامة، حين اندفع إليها منكبا مقبلا حاملا من فوره ابنه مستطلع شامة - أو حسنة - التباعنة التي تعلو جبينه وأسر إليها قائلا: مرحبا بالتبع المنتظر، دمر ولدي.
وضحكت شامة من شغاف قلبها وهي تنفض عنها أغطيتها، هاشة لاستقباله: حرب ... حرب، أما من لحظة راحة ... حب.
مضيا يتأملان الغلام الوليد في حب على ضوء الشموع العملاقة إلى أن أمسكت شامة بساعدي سيف وهي تهمس له بحنان؛ قائلة: كنت سأجيء، كنت أحلم بلحظة لقائي بوالدتنا الراحلة - قمرية - لكن. - أعرف، أعرف يا شامة يا حبيبتي.
واستقر سيف بن ذي يزن لفترة في بلاد زوجته شامة، معطيا بعض وقته لمولوده الجديد، الذي دفع دفئا متدفق الحماس فيه، وهو الذي تربى في ربوع ومنافي هذه البلاد يتيما معوزا.
إلا أن عين سيف اليزن لم تغفل لحظة عن عاصمة التباعنة «أحمرا» ولا عن ربوع اليمن والجزيرة والقرن الأفريقي وبعض بلدان المغرب الكبير وديار مصر - العليا - التي كانت موالية للعرب والبيت اليمني الحاكم آنذاك.
فكان دائم الترحال ما بين أفراح وأحمرا، بعدما تمكن من تأمين الطريق بين العاصمتين، فلم يعد بمقدور الأحباش قطع مسالكه وفرض نفوذهم كما كان في السابق.
بل ورغم ذلك لم يتوان سيف بن يزن عن استكمال توحيد فيالق وكتائب وأولوية جيشه الجديد خاصة بعدما وافت المنية أمه؛ تمهيدا للوثوب المباغت على إثيوبيا ذاتها. - وحتى يهدأ البال، باستئصال أصل الداء ومنبته، إثيوبيا.
وهو ما أصبح على يقين منه ملك الحبشة سيف أرعد ذاته، وبالتحديد عقب سماعه لموت قمرية، وتفرد ابنها سيف بالقرار، فضلا عن عامل اللائقة والمخاوف السائدة بينهما؛ أي بين سيف أرعد وسيف اليزن، فكيف للذئب إذن أن يصفو للغنم، وهو في نظر سيف أرعد. - الابن البكر لقمرية الأذية!
فلعل فرصة التبع الجديد سيف اليزن الآن أكثر اتساعا وبراحا من أي وقت وظرف مضيا.
غمغم سيف أرعد لنفسه وهو يراقب مياه البحر المتلاطمة في الأفق أمام عينيه الخائبتين. - لدخول تبع حمير إثيوبيا؛ ليقطع رأسي.
وكما لو أن ملك الأحباش يستشف مستقبلا جليا واضح الرؤية بقوله ذاك.
ذلك أن الطريق أصبح مفتوحا بالفعل أمام سيف بن ذي يزن لاقتحام عرش يهوذا، والانتقام من أرعد وريث ذلك العرش المعادي للعرب على الدوام.
ذلك أن وفدا من أهل مصر تصدرته أميرة مصرية باهرة الجمال تدعى «منية النفوس» زار التبع سيف بن ذي يزن، وهم يشتكون له من معاملة ملك الحبشة لهم وعدم الإنصات لمطلبهم في حصة ماء النيل الذي منعه عنهم سيف أرعد، تنكيلا وانتقاما منه لعدم مناصرته في حربه ضد التباعنة.
وكانوا قد لجئوا إلى سيف اليزن، لإنصافهم ومساندتهم، خاصة وقد عمت شهرته الآفاق حول معرفته الواسعة وتحكمه في مياه النيل ومجراه بدءا بمنابعه وحتى مصبه.
فما كان من سيف اليزن، إلا أن قطع على نفسه أمامهم عهدا بالقضاء على أصل الداء وتخليص الجميع من سيف أرعد وشروره، وإعادة المياه لهم ولجيرانهم السودانيين الذين كانوا قد جاءوه أيضا بخصوص هذا الشأن المحزن المؤلم الذي يستهدف نشر المجاعة والعطش. - حياة الناس.
وهكذا أعد سيف اليزن عدته وجيشه الموحد، وسار يطلب بلاد الحبشة إلى أن دخل إثيوبيا، وأسر سيف أرعد وعزله منصبا بدلا منه ابنه «مقلقل» الأصغر على عرش يهوذا.
وما إن استقر حكم التباعنة في الحبشة حتى عاد الملك سيف إلى أحمرا التي خرجت وفودها لاستقباله وقد زينت المدينة كمثل عروس تلهج بالثناء والدعاء له.
وشارك وفد مصر باحتفالات انتصار التبع سيف بن ذي يزن على سيف أرعد وأسره، كما شاركت «منية النفوس» الملك سيف حفلات نصره منبهرة إلى أقصى حد.
وكانت قد راقت في عينيه، فآثر الزواج - السياسي - منها، ليخلف منها ولده الذي سماه تيمنا «مصر». - فكانت أولى واجبات سيف بن ذي يزن، إعادة تدفق ماء النيل شريان أفريقيا آمنا حتى مصبه الأخير بمصر العدية، مما أوصل شعبيته وحب الناس له والتفافهم حوله وتحت راياته إلى أقصى مداه.
وهكذا دخل الملك سيف مصر زائرا بصحبة زوجته الأميرة المصرية «منية النفوس» وابنهما «مصر» فاستقبل استقبال الفاتحين، مما حدا به إلى الاستقرار بين ربوعها وبين أهاليها طويلا؛ فزار إخميم وأسوان - وسدها الكبير - كما زار إسنا وأسيوط ومنفلوط وملوي، وأقام طويلا بمدن مصر الوسطى، فزار أهناسيا المدينة، وحلوان والجيزة وقلعة الجبل والروضة وبولاق، وحتى القرى الصغيرة والحواري - مثل حارة الوطاويط - التي لم تخل من ذاكرته.
وزار بلاد الشام التي رحبت به بدورها فاتحة له ذراعيها فنصب ابنه «دمر» من زوجته الأولى - شامة - على حكم الشام وفلسطين، واتخذ دمر عاصمة حكمه بسورية العليا، في مدينة بانياس المتاخمة للاذقية.
وكان سيف بن ذي يزن، كأبيه محبا للعزلة، والانكباب على القراءة والعلم والكتابة، خاصة في مواضيع «الماء والتربة» وما يتبعهما من مشاريع عمرانية وزراعية من سدود ومصارف وخزانات هدفها الاخضرار والنمو.
كما كان الملك سيف كثير الأسفار والتنقلات التي يجريها في سرية؛ حيث كان يتنكر بأزياء الناس العاديين من فلاحين ونوتية وطلبة وعلماء وشعراء جوالين، وساسة الخيول العربية، وأطباء القرى وشيوخ القبائل والطهاة والمغربلين والمشعوذين؛ ليتعرف أحوال الناس.
وكان يتقن تقمص شخصيات هذه المهن عن دراية، بما يحقق له الوقوف على نبض الناس وقضاياهم ومشاكلهم، والإسهام فيما بعد في حلها عبر حكمه المتناهي على امتداد ربوع الجزيرة العربية والشام ومصر والسودان وعاصمة التباعنة أحمرا، والعديد من البلاد الأفريقية ، إن لم تكن أفريقيا بكاملها، عقب وضع يده على الحبشة، وما كان يتبعها من الأقوام والكيانات والقبائل.
إلا أن كل هذه المهام وغيرها كانت تدفع به على الدوام إلى تحسس الأخطار وأعمال العدوان المبيتة ضده، كتبع أو رمز عربي، يستهدف أول ما يستهدف. - العدل وخير الناس.
وكانت الأخطار تجيء هذه المرة من الأناضول وآسيا الصغرى ومسبوتاميا أو ما بين الرافدين، ومن بلاد الفرس.
لذا ادعى الملك سيف عقب استتبابه في حكم مصر والشام للمحيطين به أنه يعد العدة للعودة إلى اليمن وفلسطين: للبحث عن كنوز «الملك سليمان» وجدتنا «بلقيس ملكة سبأ».
حتى إذا ما انقطعت أخباره، في آسيا والهند وبلاد الفرس التي دخلها سرا لاستطلاع النوايا المبيتة ضد مصر والعرب، واصل غوصه في متاهات الحياة الشعبية لبسطاء الناس.
ومن فوره لم يتوان عن الإرسال برسله إلى ولديه «دمر» بالشام و«مصر» بديار مصر - الذي ولي حكم مصر في غيبته - آمرا إياهما بتجهيز حملة كبيرة طابعها الأعم «أن تكون بحرية»، وحين عاد إلى مصر التي كان قد اتخذ منها عاصمة لملكه المترامي، اصطحب جيشه ليحارب في الهند وبلاد الفرس. - إلى أن تمكن من قتل «الكسرى» الملقب «بصارخ البهلوان» مجهضا عدوانه المبيت ضد مصر والعرب من جانب الفرس وأكاسرتهم.
خاصة وقد سبق للفرس دخولها - أي مصر - عن طريق واحة سيوة بالخداع والمناورة وبقوا بها ردحا طويلا من الزمن.
وعاد سيف بن ذي يزن إلى مصر مظفرا فاستقبل استقبال الفاتحين من جانب فئات المصريين الذين قدموا من كل صوب للمشاركة في احتفالات النصر على العدوان المبيت ضدهم من جانب الفرس.
ففي مصر العدية ارتفعت شعبية الملك سيف بن ذي يزن، وهو الذي سبق أن أنقذهم من عدوهم المتجبر ملك الأحباش سيف أرعد، قاطع ماء النيل وها هو يتصدى للغزاة الجدد من الفرس فيرحل إليهم بجيشه الكبير لينقل المعارك الطاحنة إلى ديارهم وحصونهم ويعود مظفرا بالنصر. - أبو الأمصار.
حتى إذا ما انتهى سيف بن ذي يزن من تحييده للعدوان - الفارسي - المبيت، عاوده صفاؤه فانكب على كتاب النيل، مجريا أنهاره وسدوده وخزاناته في كل أنحاء البلاد، في الدلتا والصعيد ومصر والوسطى، فعم الرخاء البلاد، بعدما تزايد ارتفاع منسوب ماء النيل.
وتم التحكم في تخزين وتصريف المياه بما يحقق الاخضرار والنمو.
ورغم ذلك لم يتوان سيف بن ذي يزن عن تقديم كل رعاية لجيشه الموحد، الذي انتظم المصريون تحت لوائه جنبا إلى جنب مع عرب الجزيرة العربية، والأفارقة والمغاربة، ومن هنا فقد أطلق عليه المصريون لقب: أبو الجيوش.
فكان يجري تدريباته بجبل المقطم الذي عرف جزؤه الأعلى بجبل الجيوش نسبة إلى الملك سيف، وذلك تحسبا لأي عدوان قد يجيء يوما من جانب الأحباش، أو من جانب الفرس، خاصة الذين كانوا طوال حياته لا يأمن جانبهم وأطماعهم رغم انتصاره الأخير عليهم وقتله الكسرى الملقب بالبهلوان، وتعيينه واليا عربيا على خراسان.
فكان الملك التبع سيف بن ذي يزن، أول من فرض على المصريين نظام التجنيد الإجباري، وإعداد العدة لبناء جيش لا يقوم في معظمه على المرتزقة، بل على المصريين أنفسهم، جنبا إلى جنب مع جيشه هو أي سيف - الذي أبقى على بعضه في عاصمة التباعنة أحمرا - بأفريقيا.
وكان يحضر بنفسه تدريبات جيشه محاطا بكبار قادته ومستشاريه، وأخصهم الأمير الأفريقي الذي أصبح مقربا منه - الميمون - والذي كان قد بعثت به زوجته - شامة - ليعضد من ساعده في حروبه ضد الأحباش، فيما بعد بالكثير من المهام الجسيمة، ومنها حربه الأخيرة في خراسان، حتى إن سيف بن ذي يزن امتدحه قائلا: الميمون هو ساعدي الضارب.
إلا أن الميمون عاد من تلك الحملة ضد الفرس جريحا ينزف من أثر إصابته البليغة من جراء منازلاته ومعاركه ضد «صارخ البهلوان» الفارسي، مما أوغر صدر الملك سيف ضده، إلى حد منازلته هو بنفسه في خراسان وقتله وفرض الجزية على قومه.
واستقدم الملك سيف لقائده المسجى - الميمون - أشهر حكماء وأطباء عصره من الشام والهند ومصر للإشراف على علاجه، وكان لا يكف عن زياراته له رغم مهامه الكثيرة، خاصة بالنسبة إلى تلك الأحداث المستجدة التي اندلعت في كثير من مناطق «موطن التباعنة» في اليمن والجنوب العربي، مطالبة بضرورة عودة تبع حمير للإقامة الدائمة باليمن، وليس في مصر أو أفريقيا.
وهي الفتنة التي لجأ إليها الفرس، وأضرموا لهيبها على طول مناطق اليمن والجنوب، في عدن وحضرموت وصنعاء وسبأ وذي رعين، وحتى يثرب شمالا، وذلك لكي يرغموا التبع على التخلي عن حكم مصر واتخاذه عاصمة جديدة للتباعنة، بما يسهل عليهم إعادة حكمها.
مما دفع بسيف بن ذي يزن، إلى إجراء أكثر من زيارة - سرية - إلى جزيرة العرب، مبصرا بأخطار الفتنة الجديدة ذاكرا ومشيرا إلى أن: الخطر على العرب وبلدانهم وأقوامهم واحد، ولا مهرب منه.
وأنهى زيارته للجزيرة العربية، واعدا بعدم التخلي عن موطن التباعنة.
إلا أنه ما إن عاد إلى مصر، حتى صدمته الأخبار الجديدة بانقضاء أجل قائده المقرب «الميمون» في غيبته، فبكاه طويلا.
ومن فوره أرسل برسله ليخبر زوجته ورفيقة صباه «شامة» بالنبأ الفادح، خاصة وهو يعرف مدى تعلقها وتبجيلها لذلك القائد الأفريقي نصير العرب. - الميمون، الطيب الذكر.
الفصل الثامن والعشرون
الرحيل إلى مصر العدية
جاء موت القائد الأفريقي «الميمون» القريب من الملك سيف فاجعا له عقب زيارته لليمن والجنوب العربي؛ لإخماد لهيب الفتنة التي نشرها الفرس في ربوع جزيرة العرب مطالبين بتخلي التبع عن مصر، والعودة لعاصمته موطن التباعنة في اليمن، بما ييسر لهم - أي الفرس المجوس - إعادة اجتياحها.
وكان أول ما تبادر إلى ذهن الملك سيف هو زوجته ورفيقة صباه وكفاحه «شامة» ومدى فداحة وثقل الخبر عليها حين تصلها مكاتيبه ورسله، وهي التي كانت قد اتخذت من الميمون أبا وكبيرا لقادة جيشها، عقب افتقادها لوالدها الذي صلبه «سيف أرعد» معلقا على أشجار إثيوبيا لتنهشه جوارح الطير، وهو ما تحقق بالنسبة إلى شامة حين وصلها النبأ، فشقت ثيابها حسرة، واتشحت بأردية الحزن السوداء، وتقبلت العزاء في أميرها «الميمون» بقصرها، وهي تعد العدة للسفر إلى ديار مصر العدية، بعدما غلبها التشوق الجارف لرؤية الملك سيف والسؤال عن ابنهما البكر «دمر» وعزاء ورعاية أسرة «الميمون».
حتى إذا ما حان صباح يوم الرحيل إلى مصر حسب رغبة الملك التبع سيف، أرسل من فوره بسفينته البحرية الملأى بأخلص حرسه إلى أقرب مواني بلاد الحبشة لتقلع منها بشامة إلى مصر العليا.
حتى إذا ما وصلت شامة بركبها - البري - من بلدها إلى ذلك الميناء الحبشي وجدت في استقبالها «مقلقل» الأصغر ملك الأحباش الجديد الذي عينه الملك سيف اليزن عقب دخوله إثيوبيا؛ ليخلف والده سيف أرعد الذي سبق أن قطع سيف بن ذي يزن عنقه بيمينه.
واستقبل شامة، وهو يجيئها جاثيا محملا بثمين هدايا «عرش يهوذا» من ذهب وجواهر ومال لها ولزوجها. - ملكنا الحكيم الملك التبع، أبو الأمصار.
وتقبلت شامة هدايا ملك الحبشة - مقلقل الأصغر - شاردة مفكرة مسترجعة في رأسها ومخيلتها أحداث تلك الرحلة السابقة الخطرة الطويلة، بين بلادها - الموالية للعرب - وبين الحبشة وملكها السابق - سيف أرعد - وكيف شاركت هي في ذبح ابنه - مع سيف - داخل قلعة الجبل ليلة الاحتفال بعروس النيل التي كان مقدرا فيها ليلتها الاعتداء عليها وإغراقها في مياه النيل حية لحيتانه البحرية وتماسيحه وأفراس مائه.
تذكرت شامة كل ذلك طيلة رحلتها النيلية وهي شاردة ساهمة تتطلع عبر كوة سفينتها، وهي تشهد وتنصت لطرقات مجاديف النوتية، تضرب صفحة الماء الرصاصي اللون المطعمة بسياط فضية مبعثها ضوء القمر النصف المكتمل، منغمة على أصواتهم وغنائهم الشجي الجماعي المشبع بالأحزان.
تذكرت أحداث ومتعرجات رحلتها مع سيف بن ذي يزن، منذ أن تعودت على الاجتماع به مع مطلع شمس كل صباح ب «الكتاب الملكي» يتيما وحيدا مطاردا، يعيش حياته حذرا متوقدا يقظا لكل شاردة وواردة قد ترد من جانب الأحباش المتملكين لهذه البلاد.
فيا له من خطر محدق لا مهرب من أظافره المشهرة أن تتربى وتنمو ويشتد ساعدك على أرض الأعداء. - وعيونهم الراصدة ورماحهم المشهرة.
على حد تعبير سيف الذي كان شبلا أيامها، وهكذا تذكرت شامة وهي تغادر حدود وأطلال بلاد الحبشة التي دخلتها منذ فترة حاكمة، كزوجة لسيف بن ذي يزن وأم بكره. - دمر.
حاكم سوريا العليا - أو بلاد أشوريا - من قبل الملك سيف الذي غلبها الحنين لرؤيتهما معا كما في السابق؛ حيث كانت تطغى ضحكاتهما معا الصافية المبددة لمعاناة رحلة حبهما وكفاحهما، وكذا المصائد التي وقعا فيها معا، منذ آثرا الكفاح لتخليص بلادهما من عبودية سيف أرعد. - مبتكر حروب العطش والمجاعة. - كانت أيام!
زفرت شامة وهي تشرف - بذهبيتها - المحاطة بزوارق ومركبات الجند، على أهرامات مصر، وهي تسد الأفق. - أرض مصر.
يا له من حلم كثيرا ما استغرقها مع سيف أياما وليالي، وهما يحلمان معا بأن يتخذ يوما من أرض مصر العدية موطنا وموطئا لحكم بقية الأمصار، يا له من حلم ساخر!
انتبهت شامة فجأة مستطلعة. - ها هي أشرعة سفن الملك التبع سيف بن ذي يزن، تشق فضاء النيل.
وكان تقدم أسطول الملك يثير رهبة محبيه تسري عدواها في كيان شامة كله كلما اقترب موكب الملك النهري أكثر فأكثر.
كان التبع قد أقبل في موكبه النيلي لاستقبال حبه ومطلع صباه. - شامة ... حبي ... هنا في ربوع مصر.
عانقها طويلا وهو يغفو مستريحا على كتفها كمثل مخلوق بشري يعاني إرهاقا يؤججه الجلد ثقيل الأعباء. - اشتقت إليك طويلا طويلا يا شامة.
أشار إليها بذراعه محتضنا مسرا. - ها هي مصر العدية تهفو لاستقبالك.
ها هي حلمنا القديم معا.
تطلعت منبهرة من ضخامة المباني والمنشآت المحيطة بالنيل، الذي تحف به الزهور البرية النضرة، وسط ذلك الإشراق الكبير الذي يطبع قطاعات الحياة في موطن الأسلاف الفراعنة. - أطال الله بقاءك وأمجادك؛ فأنت زوجي وأبي بعد الأمير الميمون.
وحين رست سفينتها على مربض أحد القصور المشرفة المتعالية البنيان والروعة، أنزلها الملك سيف آخذا بيدها على مشهد من أمراء مصر وشيوخها وكبرائها، الذين قدموا من كل صوب لاستقبال الملكة محملين بالزهور وسنابل القمح وثمين الهدايا والفنون الباهرة التي اشتهرت وعرفت بها مصر في العالمين.
خاطبها الملك سيف قائلا مرحبا: أهلا بك في بلدك وقصرك يا شامة.
حتى إذا ما انتهت مراسيم واحتفالات الاستقبال والتعارف التي أقيمت لها، تذكرت من فورها خطتها التي جاءت بها، والتي لازمتها كحلم عذب طوال الفترة السابقة، وهو أن تستفرد بالملك سيف عبر رحلة إلى بلاد الشام لزيارة ابنهما، فعاجلته: ألم يتملكك الحنين لرؤية ولدنا دمر بعد طوال غياب؟
هنا زفر الملك، وكأنه يتخفف من أعبائه: أجل يا شامة، قريبا سنشد الرجال معا إلى بانياس لنعرج بعدها معا إلى زيارة «البيت الحرام» ويثرب.
ضاحكها وهما يتحدثان متسامرين في آخر الليل. - أقصد صفي أبي العجوز، يثرب.
وبالفعل عجل الملك سيف بإنهاء واجباته بمصر، وأهمها بالطبع مواصلة تدريباته لجيشه بجبله، الذي يحمل اسمه إلى اليوم، «الجيوشي»، وكان قد ترامت إليه الأخبار عن الحملة الانتقامية التي يقوم الفرس بإعدادها لغزو مصر من جديد.
لذا آثر الملك سيف إجراء مراسيم زيارته لسورية العليا وبانياس سرا ودون أن تصل تفاصيلها إلى أقرب مقربيه.
إلا أن خطته لم يقدر لها النجاح هذه المرة، فما إن انتهت على عجل زيارته مع شامة، لبكريهما دمر، وعرجا إلى مكة المكرمة ويثرب، حتى نزلت عليه الأخبار نزول الصواعق. - ملك الفرس ينزل على الأهرام بجيشه الجرار في غيبة عن التبع سيف بن ذي يزن.
وهكذا أسرع الملك سيف عائدا إلى عاصمته، إلا أنه وقع في أسر أحد أمراء الفرس واسمه «بلامه»، ولقبه «الهدهاد».
هنا حلت الكوارث الثقيلة من جديد على ديار مصر والشام معا.
إلا أن بصيص الأمل جاء هذه المرة من جانب «شامة» التي استطاعت الإفلات من كمين «بلامة الفارسي» وخلعت من فورها لباس الملكة الأم، مرتدية عدة حربها، مجمعة مع ابنها دمر نواة جيش استقدمت معظمه من بلادها ومن جيش دمر السوري، ونجحت في اقتحام مخبأ الملك سيف وفك أسره، وهو على شفا الصلب المحقق على أيدي الفرس، فقتل الملك سيف بلامه الفارسي، وواصل تجميع جيشه من اليمن ويثرب وأفريقيا متخذا طريقه إلى مصر لفرض الحصار على الفرس الغزاة عابرا النيل، مواصلا تقدمه إلى أن واجههم موقعا الذعر في صفوفهم حتى واحة سيوة وبرزخ السويس.
وكان الإرهاق الواضح القسمات قد استبد بجسد الملك سيف، عشية تنفسه الصعداء بعد الانتهاء من مطاردة آخر فلول الفرس عن مصر؛ نتيجة لما عاناه حين وقوعه في أسرهم الغادر ولضراوة المعارك التي خاضها ضدهم على طول مصر الوسطى والدلتا، رغم عدم التكافؤ بين نواة جيشه الذي جمعه على عجل، وبين جيشه الحقيقي بجبل الجيوشي.
حتى إذا ما عاد إلى حصونه تدافعت فيالق وكتائب زوجته «شامة» التي استطاعت استجلابها من بلدها وبقية البلدان والأقوام الموالية في أفريقيا واليمن.
مما عضد من ساعد الملك سيف، الذي كر راجعا باتجاه «مسبوتاميا» أو «بلاد الرافدين» مطاردا وموقعا الهزائم في صفوف الفرس إلى أن دخل «المدائن» أو «السبع مدائن» بعدما طال حصاره لها فترة من الزمن.
وبعث من فوره برسله لإحضار زوجته شامة وابنه دمر من بانياس، اللذين شاركاه احتفالات النصر التي عمت المدائن عقب صك الملك سيف، لشروط الصلح التي تتيح له حكم تلك المدن الفارسية «السبع» وما يتبعها.
ومرة أخرى وصل الانبهار بشامة لحظة مشاركة الملك اعتلاء عرش الأكاسرة الفرس، على مشهد الجموع المتلاطمة التي قدمت من كل صوب لتقديم فروض الطاعة للملك التبع سيف بن ذي يزن.
هي لحظة لن تغيب أصداؤها عن مخيلة شامة ما حييت. - أجل ما حييت في هذا الجسد.
إلا أن الملك سيف، وكما لو كان يقرأ أعماقها حين استطلع ذلك البريق الخاطف في عينيها السوداوين الباهرتين، «فبادرها مسرا مكرما مقدار مساعدتها له وفك أسره ومواصلة الحرب.» - إنه نصرك أنت يا شامة، فلولا دأبك وجسارتك؛ لكنت الآن ...
انتفضت شامة في وقفتها إلى جانبه على مشهد من الجموع، وقد أدركت غرضه الأخير؛ أي بإنقاذها له من أسره، ثم مؤازرته بكتائب جندها، التي شددت من ساعده في تعقب فيالق الفرس الفارين الغزاة حتى هنا. - للقضاء على منبت الداء.
وطال حكم الملك سيف للمدائن، حتى بعد عودة شامة إلى بلادها، وابنهما - دمر - إلى موطنه بسوريه العليا «بانياس» فقاد سلسلة من الحروب - الوقائية - في كثير من عواصم «الشعوب الفارسية» والهند، متوغلا باتجاه أواسط آسيا على عادة أسلافه التباعنة.
وكان كلما استغرقه الحنين الجارف إلى رفيقة صباه وحبه وموضع سره ومكنونه «شامة» بعث في طلبها، لتشاركه انتصاراته الجديدة، ولتشاركه أيضا المشورة فيما يستجد من أمور، سواء في مصر أو الحبشة أو السودان أو اليمن أو سورية العليا.
أما شامة فكانت على دراية بأهداف الملك التبع، الذي لا يبغي حربا ولا تملكا، بقدر ما يرغب في صد العدوان إثر العدوان، خاصة دسائس الفرس الطامعين وأساليب غدرهم التي تعتمد أول ما تعتمد على عنصر المباغتة، كما حدث في تلك الحملة الأخيرة التي باغتتهما معا إثر زيارتهما السرية لولدهما في بانياس والعروج بعدها إلى يثرب.
من هنا استبد التوجس بالملك سيف إلى حد دفع به إلى التوغل حتى أصفهان، كمن يدفع عن بنيه وقومه شرا وعدوانا مبينا، سرعان ما باغتاه من جديد، حين حملت له الأخبار التي جمعها عيونه وبصاصوه وصول ملك فارسي آخر يدعى «جهينة» ويلقب أيضا ب «الهدهاد» إلى نيل مصر، في غيبته، للقضاء أولا وقبل كل شيء على جيشه وعتاده بجبل الجيوشي كما حدث في الحملة السابقة.
ووقع الخبر ثقيلا منهكا على الملك سيف، حتى إذا ما استشار فيه زوجته شامة، أشارت من فورها بالعودة إلى أرض مصر للتخلص من ذلك الشر المبيت من جانب الفرس.
سألها شاردا غائبا عن كل ما يحيط بها: كيف؟ ثم استفاض شارحا الموقف لشامة. - والطريق البحري إلى مصر، أصبح مقطوعا بعدما نجح الفرس في التسلل من خلف ظهرينا، ضاربين بشروط الهدنة الأخيرة عرض الحائط.
قاربته شامة في حنوها مهدئة: التسلل ... لعله المنفذ الوحيد الآن.
غمغم ذو اليزن: أجل.
أردف معدا العدة للرحيل والعودة - سرا - إلى مصر: مكاننا هناك مع الناس ... الأهل!
الفصل التاسع والعشرون
سيف يتوغل في أصفهان
هكذا وقع خبر اجتياح أحد ملوك أو أمراء الفرس ويدعى «جهينة» ولقبه «الهدهاد» لمصر، على الملك التبع سيف بن ذي يزن، صادما مفاجئا له، بعدما توغل في أصفهان بجيشه العربي.
وفي مثل هذه الأمور والمعضلات المصيرية، لم يكن التبع سيف اليزن يجد معينا وناصحا له، سوى زوجته «شامة» التي أشارت عليه بالعودة بحرا إلى مصر عبر ساحل الشام مرورا ببانياس، وذلك لمعاونة ابنها - دمر - في صد العدوان الفارسي.
حتى إذا مارست سفنهم ومراكبهم بميناء اللاذقية، استولت على الملك سيف من فوره أنباء المعارك الضارية التي يجريها الفرس في الشام وفلسطين وحتى دلتا مصر، بعدما سنحت لهم الفرصة في غيبته لدخول معظم «هذه الأمصار»، وتزايد تقديره لإحدى الأميرات العربيات التي أوقفت خسائر جسيمة ملفتة بحملة الفرس الغزاة الطامعين، واسمها «سعيدة بنت الملك الأحمر» في محاولة منها لعرقلة تقدمهم في غيبته.
حتى إذا ما أرسل الملك سيف برسله إلى بانياس للوقوف على أخبار ابنه دمر، وعادت الرسل بلا جواب شاف، مما أزعج أمه شامة، التي تملكها التساؤل المفزع عن مصير ولدها وما حل به صرخت في فزع. - ابني ... وحيدي ... دمر.
إلا أن الأخبار المتضاربة التي وصلتهما من أفواه رسلهما أجمعت على انقطاع أخبار الأمير دمر، منذ خروجه بحملته وكتائبه مطاردا الجيش الفارسي الغازي، فلم يعد يعلم أحد شيئا عنه، وما إذا كان لا يزال حيا يرزق، أم أنه وقع أسيرا بأيدي الفرس، بما يرجح قتله استنادا إلى بعض المصادر.
هنا وقعت شامة - الأم - فريسة لمخاوفها وأحزانها على ابنها الوحيد، وما انتهى إليه مصيره الغامض وسط لهيب الحرب الهمجية المستعرة، التي أرادها الفرس هذه المرة أن تكون حاسمة محققة لأغراضهم في إعادة التسلط على جميع هذه البلاد والأقوام، توغلا حتى داخل أفريقيا ذاتها، ولقد حاول الملك سيف تهدئة شامة وتبصيرها بالخطر المحدق بالجميع من جانب الفرس وعدوانهم قائلا: فدمر مثله مثل كل أبنائي القتلى في الشام واليمن ومصر.
وهنا اقتادت المخاوف شامة إلى حد التشكيك في مقولة الملك ذاته مرددة لنفسها: كل أبنائي ... القتلى»، إذن فهو قد قتل والملك يخفي عني مصيره!
ولم تهدأ مشاعر الأم شامة إلا عندما استحضر الملك سيف في حضرتها أخلص رسله وبصاصيه، وأرسل بهم إلى كل البقع والأماكن التي يجري على أرضها قتال ضد الفرس؛ لمعرفة مصير الأمير دمر - قبل أي شيء - والعودة بالخبر اليقين في أسرع وقت ممكن.
حتى إذا ما عادت وفود الرسل من جديد دون جواب أو معلومة عن مصيره، اختنقت شامة بدموعها. - ولدي، لم أفرح بك كأي أم بوحيدها.
وما إن أشرفت سفن الملك سيف على ميناء دمياط وتسلل جنده إلى أرض مصر، حتى استحالت أحزان الأم شامة إلى بطولات لهجت بها الألسن، وهي تطارد بفيالقها - الأفريقية - فلول الفرس الغزاة باتجاه الصحراء، بينما تكفل الملك سيف بمنازلة ومطاردة جيش الهدهاد ذاته، إلى أن أوقع معظمه في أسره، وفر الباقون.
ودخل الملك سيف بجنده عاصمته - مصر - دخول الأبطال مخضبا بالدم الأحمر النازف كالأرجوان، ولحقت به زوجته - المحاربة - شامة، ومن جديد أقيمت الأفراح وعلقت الزينات وصدحت الموسيقى بأغاني النصر والتحرير للملك التبع العائد المنتصر.
أما شامة فما إن خلعت عنها عدة حربها، حتى تجددت على الفور أحزانها حول مصير ابنها دمر وأخباره التي ظلت كما هي غامضة متضاربة، وإن كان المرجح هو وقوعه - أي دمر - في أسر ذلك الملك الفارسي - الهدهاد - الذي عاد به مقيدا إلى «ما وراء نهر بلخ» مما أوعز صدر الملك سيف، وأبدل أفراح النصر إلى أحزان، فلم يهدأ له بال، إلا وهو يعد العدة من جديد للعودة إلى مدنه السبع - أو المدائن - ببلاد الفرس للانطلاق منها ومواصلة القتال لتحرير ولده الأسير واستئصال الداء من جذوره على حد كبير.
وطالت حروب الملك سيف بتلك البلاد أو الآفاق، دون أن يشفي غليله بوضع يده على ابنه الأسير لبعث الطمأنينة في أمه شامة، التي أصيبت في سنواتها الأخيرة واتشحت بأردية الحزن السوداء، دون أن تكف لحظة عن مفارقة ملابس وممتلكات ولدها دمر، تشمها وتتحسسها باكية مولولة الليل بطوله. - يا مين يعملني - يا دمر - في قبرك سحلية.
أمسح جبينك يا ولدي في كل صبحية.
حتى إذا ما شاهدها الملك في أحزانها تلك جاشت من جديد أحزانه ورغبته في الثأر والانتقام مطيلا أمد الحرب، محاصرا المدن الفارسية، لكن دون طائل.
وكان من عادات حرب الملك سيف، حينما يقرر لجيوشه اجتياح مدينة أو حصن أن يبعث كتيبة من جنده لتحرير ما تكتظ به سجونها ومنافيها من أسرى ومسلحين وقطاع طرق وخارجين على القانون.
فكان الملك يجمعهم ويخطب فيهم ويعيد تأهيلهم وتدريبهم على طرق وأساليب الحرب والقتال التي اشتهرت عنه، ثم يغدق عليهم العطاء ويلحقهم بجنده ... قائلا: أخلص أبنائي ... الأشقياء، أما شامة فكانت بدورها تروح تتفرس وجوه أولئك الأسرى - والأشقياء - فلعلها تستطلع وجه ولدها - البكري - «دمر» بينهم، دون طائل. - ولدي ... وحيدي ... أين؟!
إلى أن استسلمت في النهاية لعميق أحزانها فحلت عليها السقوم وضعف بصرها، ورغم ذلك ظلت تقاوم رغبة الملك سيف في ترحيلها عن مصر إلى بلادها ولو للراحة والعلاج.
ذلك أنها أصبحت أيضا تكره الحرب وتوالي أنباء المعارك وسيول الدم النازف الذي تربت وشبت عليه. - دم ... دم ... ولا مهرب من أكوام الجثث العفنة والمدن المشتعلة بالنيران والخراب، «لا مهرب أو مغيث في هذا العالم الوحشي المظلم.»
حتى إذا ما حاول الملك التحايل عليها بإبعادها عن ساحات المعارك، رفضت باكية معاودة ندبها ونحيبها وبكائياتها الذاتية: وولدي ... أأترك ولدي؟ ... حدقة عيني!
متشبثة باكية بأطراف أردية الملك سيف ذاته الذي يروح من فوره يحنو عليها محتضنها، محاولا تبصيرها بقوانين تلك الغابة التي لا مكان فيها لكائن وادع أو مستسلم، فما أصدق التباعنة القائلين: أيها الرجال إنكم إن لم تحاربوا الناس حاربوكم ... وإن تسبوهم سبوكم.
كان يضغط على رأسها بين ساعديه معيدا إليها السكينة، مسرا بصوته الهادئ: ولعلك يا شامة، شهدت بنفسك أحداث حربين عدوانيتين على بلادنا؛ من جانب الأحباش مرة، ومن جانب أولئك الفرس الطغاة الطامعين ثانية.
وكثيرا ما يصل الإجهاد بالملك سيف ذاته إلى حد تأمل كفي يديه في تساؤل كظيم: ماذا أفعل؟ دلوني!
عندئذ تتعرف شامة على ما يعتمل في أعماق الملك الذي كتب عليه القتال والمطاردة منذ صباه، بل طفولته اليتيمة في بلادها.
فتبادره مواصلة تصميمها: أبدا لن أتخلى عنك هنا.
إلا أن المهام الجسيمة التي تطلبتها الحرب داخل بلاد الفرس، وفيما وراء نهر بلخ، دفعت بالملك سيف إلى التخلي عن شامة موكلا حراستها والسهر على راحتها لأقرب مستشاريه وحراسه.
وكانت كلما تشعبت معارك وحروب الملك التبع سيف بن ذي يزن ، تدهورت أكثر فأكثر حالة شامة الصحية والعقلية معا، مما كان يضاعف من أحزان الملك ومخاوفه عليها، وهو بعيد عنها منشغل بكامله في حروبه في بلاد الفرس التي كثيرا ما تبدت له عاتية لا أول لها ولا نهاية. - كمثل قدر أسود.
لذا رأى الملك أنه من الأسلم ترحيل شامة والعودة بها إلى ديار مصر، ما دام أن الفرقة بينه وبينها أصبحت واقعا ماثلا لا مهرب منه، إلى حد استحالة التخلي عن مهامه والعودة إلى زيارتها، ولو سرا وبشكل سريع خاطف.
حتى إذا ما شارفت جيوشه ذات مساء حدود أصفهان قرر تجميد حصاره والتسلل سرا إلى حيث توجد شامة - بالمدائن - فزارها ليلا، وهي في فراشها مريضة تلهج باسم ابنها ومصيره الغامض. - دمر ... ولدي ... قتلوه ... أعلم لا تخفوا عني شيئا ... ولدي!
وهكذا لم يجد الملك سيف مفرا من ضرورة ترحيلها والعودة بها إلى مصر للراحة والعلاج.
فرتب بنفسه رحلة عودتها - البحرية - إلى مصر مشددا على أقصى درجات الأمن المرافق لها؛ تخوفا من اختطافها وهي على تلك الحال من الإعياء والهذيان والمرض، حتى إذا ما تحرك ركبها ودعها الملك سيف متذكرا ما سبق أن أسدته تلك السيدة من بطولات أصبحت في عداد الخوارق، حفاظا عليه من كل كبوة وواقعة، مغامرة ومضحية بأبيها ومملكتها وكل طاقتها من أجله، زافرا وهو يودعها في أسى: حقا فمثلك نادر بين النساء يا شامة، تصحبك السلامة يا حبيبة القلب مدى الحياة.
وعاد متسائلا إلى جبهة قتاله الضاري على تخوم أسوار أصفهان: ترى متى نلتقي ثانية؟
وجدت أحداث مغايرة من جانب ابن ملك أصفهان - بهرام - بعدما تشدد الملك سيف في حصار بلاده، فأرسل إليه الأول طالبا الصلح والهدنة على ألا يعود عماله المعينون من قبله على أقاليم وكيانات بلاد الفرس إلى مهاجمة مصر مرة أخرى، ومهما تعددت الأسباب.
وطالت المراسلات والمفاوضات بين الملك سيف وابن الملك بهرام إلى أن تقبل الملك سيف شروط الهدنة، وعلى رأسها إطلاق سراح ابنه دمر الأسير.
حتى إذا ما تحقق اللقاء بينه وبين ابن ملك ملوك الفرس بهرام، أقسم له الأخير بشرفه ولحيته بعدم معرفته بمصير ابنه وما إذا كان مختطفا أو مقتولا، وأنه فعل المستحيل في هذا الصدد دون طائل.
ودخل الملك سيف بن ذي يزن، عاصمة بلاد الفرس - أصفهان - في ذلك الوقت، وكانت عروس مدن الشرق التي هبت عن بكرة أبيها لاستقباله، فقد سبقته شهرته التي عمت الآفاق.
وأقام بهرام حفلة كبيرة لتكريم بن ذو اليزن، قدم له فيها ابنته - مهردكار - وكانت بادرة الجمال متوقدة الذكاء، فلم يجد الملك سيف مهربا من تقبلها كزوجة وفقا للظروف والشروط التي كانت تملي الزواج السياسي، والذي كان من أهدافه، بناء جسور الثقة بين المتحاربين.
وجرت احتفالات الزواج، والملك سيف نهبا لخواطره وأحزانه حول مصير ابنه دمر، وتلك الأمراض التي حلت بزوجته ورفيقة صباه وجهاده «شامة» نتيجة أحزانها الجارفة، وما انتهى إليه أمرها.
أما زوجته الجديدة - مهردكار - ابنة بهرام، فقد حاولت جاهدة منذ انتقالها إلى قصر الملك سيف، التقرب منه وملاطفته لإخراجه من أحزانه وهواجسه، دون أن تحقق ظفرا يذكر برغم جمالها المتوقد الطاغي، وبرغم معرفتها الواسعة بتاريخ التباعنة، بل وبلغه العرب القدماء وأشعارهم ومآثرهم.
وكانت ثقافتها هذه نتيجة لدراستها - المنظمة - العليا للعربية وآدابها ولهجاتها، وخاصة اللغة السبئية، لغة حضرموت التي نشرها الملوك اليمنيون - المعروفون بالملوك السكاسك في الحبشة وغرب أفريقيا - وهي بذاتها اللغة أو اللهجة التي يمارسها نطقا وكتابة الملك سيف.
فكانت مهردكار تبعث إليه بين وقت وآخر ببضعة أبيات من أشعارها أو كتاباتها وخواطرها مدونة باللغة السبئية ومزينة بالرسوم والأشكال والزخارف الفارسية - المنتور - لعل الملك يلاحظ ما بها من تأجج إليه.
إلا أن أحزان الملك سيف التي أغرقته من كل جانب نتيجة لما حل بابنه دمر من حبيبة صباه المبكر شامة، وما انتهى إليه أمرها، من تدهور سريع لصحتها الجسدية والعقلية، أنسته كل شيء، خاصة ما وصل إلى سمعه عن آخر أخبارها وهي تتنقل ما بين مصر وبلادها - أفراح - المتاخمة لحدود الحبشة ... ثم بانياس، دون أن تغفل لحظة عن البحث عن ابنها المفقود - دمر - ومصيره ذاك المبهم الغامض:
أين ... ولدي ... أين؟
ولقد حاولت مهردكار بنفسها في أكثر من مساء مفاتحة الملك عن أحزانه تلك، في محاولة منها لاستشفاف مكنون أمره وأغواره الدفينة، وهل هذا الحزن الثقيل بسبب افتقاده لابنه، أم بسبب تدهور حالة زوجته - شامة - وما أصابها من خبل يصل إلى حد الجنون المطلق.
إلا أن الملك التبع سيف كان يرمقها عبر صمته العميق وجرحه البليغ، مكتفيا بالتحديق طويلا في عينيها الباهرتين المشعتين بذكاء الشباب ونزقه وتوقده، ودون الإفصاح عن جواب شاف لتساؤلاتها وهي أرفع نساء الفرس شأنا.
مما دفع بأبيها ذاته الذي أصبح فيما بعد - الكسرى بهرام - إلى استدعائها مساء للزيارة وفاتحها في الأمر: ألم يعرك بعلك، ثم التبع اهتماما يذكر، بعد يا مهردكار؟
أشار إليها والدها بهرام، فتقدمت جاثية عند مخدعه، ثم أطبق بيديه الاثنتين على عنقها صارخا: ما أنت سوى وصيفة.
ثم استطرد مهددا متوعدا: سألقي بهذا العنق الأرقط إلى النيران ... إلى النيران ... هل تسمعين؟!
الفصل الثلاثون
اغتيال الملك سيف بأحراش الدلتا
ما إن عادت الأميرة مهردكار، من تلك الزيارة العاصفة، التي قلبت كيانها كله رأسا على عقب؛ لقصر والدها الملك بهرام، حين استدعاها ذات مساء ليسألها عن أحوالها وما انتهت إليه أمورها بعد زواجها من الملك التبع سيف بن ذي يزن، حتى فوجئت مهردكار بعاصفة أشد تأججا داخل قصر زوجها الملك سيف. - الملك سيف قرر العودة إلى ديار مصر.
توقفت مهردكار وهي تصعد سلالم القصر - التاريخي - أو القلعة الرخامية التي اتخذها الملك سيف مقرا لحكمه، والتي فرشت بفاخر الطنافس الفارسية.
مضت متطلعة في رهبة لما يجري على طول ساحات القصر، الذي استحال إلى خلية نحل هائلة نتيجة لحركة الحراس وجند التبع والحجاب والوزراء والوصيفات، وهدير المركبات المحملة بنفيس الكنوز والعروش التي سباها الملك سيف.
وكان يقطع كل هذا صهيل قطعان الجياد ونداءات الناضورجية والبحارة على ظهر السفن والمراكب.
تطلعت ببصرها باتجاه شرفات جناحها الملاصق لجناح الملك، إلى أن طالعها وجهه المشع حضورا، وكان يمعن النظر في عينيها الذابلتين المنكسرتين بعد لقائها بأبيها بهرام وما جرى من حديث قاس.
وتمنت حين احتوتها غرفتها، وبعدما ألقت بنفسها دامعة العينين على مخدعها البديع المخملي القاني الاحمرار، لو أنها لم تذهب لملاقاة والدها - بهرام - الليلة ومدى المذلة التي عاملها بها. - ما أنت سوى وصيفة في ركب التبع.
ثم تهديده لها بالحرق.
استدارت مهردكار فجأة جالسة متطلعة وهي في منتصف فراشها، على صوت دخول الملك سيف استعدادا للرقاد، ثم بادرها قائلا وعلى ثغره ابتسامة عريضة: نرحل غدا يا مهردكار ... إلى ديار مصر.
احتضنته فرحة من كل قلبها. - أحقا ... مصر ... حلمي القديم.
أجلسته إلى جانبها وهي تلاطفه: هل سأمخر عباب النيل إلى جانبك يوما، يا مليكي الجميل؟
ولما كان الملك سيف لا يزال يعاني من أحزانه بسبب اختفاء ابنه وخبل زوجته شامة، فقد آثر الاستئذان من مهردكار عائدا من حيث أتى؛ بحجة استكمال مستلزمات الرحيل، وما يتطلبه من أعباء نقل المهام وتجهيز السفن والاجتماع بعماله المعينين من قبله، ثم مسار تلك الرحلة المضنية من إيران إلى ديار مصر العدية.
كان الملك سيف - ذاته - لا يزال يضرب أخماسا بأسداس حول مصير ابنه المفقود دمر على ذلك النحو الغامض الأليم. - فليته قتل وانتهى أمره مثل من قتلوا من أشجع الرجال والأشبال، من أولادي.
غمغم لنفسه من كوة قصره العليا مطلا على حركة الاستعداد الواسعة التي شملت منطقة أصفهان بأكملها تمهيدا للرحيل والعودة. - العودة، أين؟
وعرج بنفسه على ميناء بانياس بسوريا الشمالية بأكملها مفتشا مرة أخرى عن ولده دمر، وتحرى حقيقة ما حدث له، ومعرفة مصيره المؤلم هذا، خاصة بعد الذي أصاب أمه شامة وانهيارها على هذا النحو المفجع.
حتى إذا ما انتهت مسيرة البحث إلى حيث نقطة بدئها جاءته الإجابة من كل فم وصوب. - لا نعلم!
اتخذ الملك التبع طريقه إلى مصر عبر الساحل الفلسطيني، وكان كلما اقتربت أيام وساعات الوصول، غلبه أكثر التفكير في زوجته شامة. - كيف ستلتقي بمهردكار؟
تساءل: كيف؟
وحين أشرف ركب الملك سيف على مينا «فاروس» الذي أصبح الإسكندرية فيما بعد، طالعته المدينة بفناراتها وحصونها وأسوارها، عتيدة باهرة.
وجرت طقوس استقبالات الملك سيف وجنده العائد المظفر بالنصر، كما لم تجر لملك أو فاتح من قبل. - مرحبا بعودة ابن ذي يزن. - مرحبا بعودة أبو الأمصار.
ووصل انبهار مهردكار من حرارة استقبالات الملك سيف على طول ديار مصر ونيلها على الضفتين إلى حد لم يصدقه عقلها. - يا للروعة.
إلا أن رعبا خفيا كان يسري في بدنها وبخاصة ارتعاش ركبتيها، حتى لتكاد تسقط أرضا، لولا ذراع الملك سيف الحانية التي سارعت إليها تحفظ لها توازنها في مواجهة الجموع المحبة له، وهو العائد بأكاليل النصر؛ إذ كان يتحرك وسط الناس على هذا النحو الواضح من التواضع وطيبة الخلق والمعاشرة! - أبو الأمصار.
حتى إذا ما حان موعد لقاء الملك سيف بزوجته شامة هبت لاستقباله وهي مهيضة الجناح طريحة الفراش. - شامة حبي ... لم تعد هناك أحزان؛ سننعم بالسلم معا.
بادرته ملقية بخدها الأحمر على كف يده كمثل حمامة وديعة. - دمر ... ولدي ... أين؟
أطرق الملك سيف مجيبا: قطعت الشام بأسرها يا شامة بحثا عنه قبل وصولي إليك. - ماذا؟ - لا أحد يعلم.
امتقع وجه شامة، مبتلعة صمتها ذاته وتوارت بأفكارها بسرعة عن الملك العائد، نهبا لهواجسها.
وبعد برهة من الزمن قضتها شامة بصحبة الملك، تملصت رافضة مقابلة الزوجة الجديدة. - مهردكار! - ما أنا سوى مريضة ... تهذي يا سيف.
ثم قفلت شامة عائدة إلى بلادها - أفراح - واكتف بمراسلة الملك سيف عن بعد.
أما مهردكار فقد واصلت التقرب من الملك سيف، بعد أن خلا لها الجو «لتبيض وتفرخ وحدها»، وكان الملك يعمل جاهدا على تكريمها؛ فهي الآن وحيدة، وأكثر عزلة، وهو الذي أكبر فيها مدى ترحيبها بمصاحبته إلى أرض مصر، فقدمها على الجميع واصطحبها في حفلاته واستقبالاته، بل في زياراته لجبله المفضل الذي سمي باسمه - الجيوشي - فهو: أبو الجيوش.
وعانت مهردكار طويلا من إقدامها على مهمتها التي كان قد ألقاها على كاهلها والدها الملك بهرام. - إما أن تسمميه، وإما أن أجعلك أنت تتجرعين السم يا مهردكار أينما كنت، بعد ثمانية أشهر بتمامها منذ اليوم.
حتى إذا ما حل الأسبوع الأخير المحدد لمهمتها الدامية، وحاولت مهردكار تجرع سمومها، انفتح باب مخدعها على مصراعيه ودخل الملك سيف.
بادرته من فورها محتضنة: الليلة موعد مشوارنا البحري في ليل النيل الهادئ.
أشارت بذراعها كله إلى حيث يتلوى النهر العميق الأسرار تحت شرفاتها. - تأمل. - حقا يا مهردكار، هلمي بنا دون تفكير، هيا ... لنهرب معا ساعة من الزمن.
حتى إذا ما احتوتهما مقصورتهما داخل «ذهبية» الملك سيف، التي انزلقت على صفحة النيل الملساء وعبر أدغاله وزهوره البرية العطرة الحانية، أشارت مهردكار إلى دغل محدد قريب، وأومأ لها كبير ربابنة سفينة الملك إلى حيث المرسى المتفق عليه قائلا: يا للهدوء، العشاء جاهز.
وحين أبدى الملك عدم رغبته في تناول شيء من عشائه وهو يفيق من إغفاءة واهنة داعبت أجفانه. - ليس بي رغبة للطعام الليلة. - فقط تلك الكعكة التي تحبها، أعددتها لك بنفسي.
ضاحكته مقاربة وهي تفرد كفي يديها في براءة ملقية بشيء ثقيل في الماء من جانب السفينة لم يتبينه الملك سيف. - بكلتا يدي هاتين.
ابتسم الملك سيف في وهن وهي تقدم له طبق الحلوى «المسمومة» آكلا من يدها مستريحا كمن يقاوم نعاسا يسبقه خدر النوم. - استرح يا مليكي الجميل.
حتى إذا ما استسلم الملك سيف لخدر نعاسه بين يدي مهردكار، انسلت في نعومة طاغية هاربة عبر باب جانبي في غفلة عن البحارة الثلاثة، واختفت دون أثر في ظلام ذلك الدغل «الكمين»، إلى أن حاوطتها شلة من فرسانها الفرس التابعين لها، الذين كمنوا بانتظار تلك اللحظة التي اهتز لها العالمان. - مات الملك سيف بن ذي يزن، يا للخيانة! •••
روعت ديار مصر على خبر غدر «تلك الجارية الفارسية» بملكهم المحبوب سيف بن ذي يزن، وكثرت الأقاويل والآراء والشائعات التي سرت من فم إلى فم على طوال البلاد وعرضها. - تلك الفارسية القاتلة. - أيصل الغدر إلى هذا الحد، وبعد كل ما قدمه الملك سيف لتلك الحية الرقطاء؟
وذهب البعض إلى أن ما حدث للملك سيف الليلة أمر قديم التدبير، منذ قبول الفرس وعلى رأسهم والدها للهدنة الأخيرة.
كما ذهب البعض الآخر إلى أنها مجرد مكيدة نسائية، برغم هرب الفارسية القاتلة ووصولها إلى حراسها الكامنين بالأدغال القريبة لشط النيل، الذي شهد أبعاد وخبايا تلك المأساة التي قضى فيها أقرب أقربائه - أي النيل - سيف بن ذي يزن.
وهكذا روع الجميع في مصر والشام واليمن وبلاد الشرق وعبادة، لذلك المصير الفاجع الذي أنهى حياة ذلك الملك المناضل المحب للناس والأحياء، سيف اليزن، دون أن يتمكن أحد من الإيقاع بالقتلة. - «الخونة ... للعيش والملح.»
ولم يطل الأمر كثيرا بمصر والشام، حول معرفة حقيقة أبعاد ذلك المخطط، إلا عندما حملت الأخبار المتواترة عودة مهردكار وحراسها التي عمت بلاد أصفهان، ثم أخبار الاحتفالات التي عمت بلاد الفرس ابتهاجا بنجاح المهمة التي نفذتها تلك المرأة الأفعى، بينما فشلت في تحقيقها أعتى جيوشهم في ساحات القتال والمجابهة. - يا للغدر ... يا للدناءة.
بل إن المخطط الفارسي لم يطل مداه؛ إذ سرعان ما تكشف عن نواياه المبيتة، بعودة جحافل الفرس الغزاة إلى ربوع مصر وبلاد العرب.
حتى إذا ما انتهت مراسم دفن جثمان الملك سيف بمدفنه المقام بجبله الذي شهد تدريبات جيشه، والذي دعي باسمه «جبل الجيوشي» المتاخم للمقطم، تعاهد فرسانه وكبار قادته على العمل بوصيته في التصدي للفرس وأطماعهم مهما طال الأمد.
فما إن ضرب أربعة من ملوك الفرس وأمرائه المتحالفين حصارهم على ديار مصر حتى تصدى لهم أمير دمياط، والقائد الوحيد الذي كان مقربا من الملك سيف والمدعو «دمنهور الوحشي».
إلا أن سطوة الفرس، وعتادهم هذه المرة، بعد غياب الملك سيف حقق لهم الانتصار بدخول مصر وتخريب حصونها وتشتيت بقايا فلول جيش الملك سيف.
إلى أن هرع لنجدتهم «أسيوط ملك إيليا وفلسطين» فشدد من ساعد المقاومة الشعبية التي نمت ضد الفرس، خاصة عقب محاولة نهب مدفن ملكها الراحل سيف ذو اليزن بجبل الجيوشي.
هنا استشاطت مصر غضبا من مدى الحقد المبيت للملك التبع، حتى بعدما نفذوا فيه مكيدتهم الغادرة التي اضطلعت بها تلك الفارسية الشريرة: مهردكار.
إلى أن فجر ذلك الغضب الشعبي ثورته ضد أولئك الفرس، ناهشي جثث الموتى قبل الأحياء على طول مصر، التي أصبحت نهبا لمطامعهم، بينما كانت تعاني بلاد الشام وفلسطين بدورها أبعاد تلك الحرب الانتقامية القبائلية، التي عرفت بحرب البسوس التي قادها ذلك الشاعر المحارب الزير سالم والتي استمرت 41 عاما.
Bilinmeyen sayfa