أخذ الفاتح بالتعلم شيئا فشيئا، وذاق طعم العلم، فوجد أن لذته فوق كل لذة، حتى وفوق لذة الجلوس على مقاعد الحكم والاستئثار بالسلطات التي طالما تاقت إليها نفسه وشغلت قلبه ولبه.
نشأ الأمير على هذه المبادئ النبيلة وأخذت مواهبه بالظهور، فتوسم فيه والده الجليل مخايل الذكاء وآثار النجابة وهو لم يتجاوز أربعة عشر ربيعا، وأراد أن يستخلفه في الملك وهو في قيد الحياة؛ لاعتقاده أن تخت السلطنة والآلة الحدباء التي تقل الأوائل على هام الأواخر سواء، وأن العظيم من تخلى عن وسائط عظمته وهو قابض عليها، لا من سعى للوصول إليها فأبدى بذلك شعورا دقيقا ونفسا وضيعة. واستلم الفاتح زمام السلطنة في ريعان الشباب ومقتبل العمر.
ولشد ما كان انفعال رجال السلطنة الذين اعتادوا في ماضي أيامهم العبث بالأمور، لما كانوا يجدونه من الإحسان إزاء سيئاتهم من والد الفاتح الشيخ الرءوف عندما رأوا عزم السلطان وحزمه؛ لأنهم كانوا يتوقعون الاستيلاء على الأعمال كلها بعد أن وضعت تحت يد صبي حديث السن قليل الاختبار كالسلطان محمد، ولما خاب فألهم وضاقت بهم السبل عمدوا إلى اتباع أساليب التملق تحت أستار الإخلاص، شأن المنافقين الذين يتربصون الفرص، وبالتالي حصلوا على غايتهم.
وذلك أن صاحب قرمان الذي اعتقد بانفتاح باب الأمل له من اعتزال السلطان مراد (والد الفاتح) وصباوة السلطان محمد، فبنى على ذلك علالي الآمال وقصورها، قام بحشد فئة صليبية كبيرة تحت قيادة جان هونياد من أبطال المجر، جمعت بين المجري والبولوني والجرماني والقرواتي والبوسني والأفلاقي والبغداني والصربي والألباني، بلغ مجموعها ثمانين ألف مقاتل.
وما عتم هذا الجيش الجرار أن زحف على البلاد العثمانية كأنه عصابة أشقياء بدون سابق إعلان أو إنذار، وأخذ يسوم الأهلين سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، حتى ملئت نواحي بلغاريا نواحا وهاج أهل العاصمة وماجوا، ووجد الوزراء في طيات ذلك فرصة لنيل مآربهم، فتشاوروا وأجمعوا أمرهم على استدعاء السلطان مراد بالنظر لاشتداد الأزمة وخشونة المركب، ورفعوا ذلك إلى السلطان محمد.
نظر السلطان محمد إلى هذا الأمر نظرة عاقل لبيب، وسبر غوره وأدرك سره، فلم يشأ الانقسام في الرأي رغم اعتقاده باعتماده على نفسه وعلى زغنوش باشا بأنه سيخرج من هذا المأزق الحرج ظافرا، ويتمكن من صون بيضة بلاده والذود عن حوضها.
قلنا إنه لم يرد الانقسام؛ لأنه كان بين عوامل جمة، أقلها قد يكون سببا مهما للفشل، فإقناع الشعب على كفاءته (هو نفسه) لحل هذه العقدة حلا مرضيا، ووجوده هو ووزرائه على طرفي نقيض، ومقاومته إرجاع أبيه إلى السلطنة، مع أنها كانت من عطائه، وبالتالي تحمل أعباء هذا الوقر الثقيل ضد الرأي العام؛ أمور تستوقف الفكر وتستدعي العناية، فوافق على قرار وزرائه ومشيريه مضطرا لا مختارا.
أما السلطان مراد فلما اطلع على هذا القرار عرف أن به دخيلة ورفضه رفضا باتا، بيد أن الحالة كانت تزداد خطورة والأمر يتضاعف تعقيدا، والسلطان محمد لا يرى في الرجوع عن عزمه صوابا لئلا يسخط الشعب ويتطير من رفض السلطان مراد، فألزم والده الرجوع بقياس مقسم هذا هو نصه: «إن كان هو ولي أمر هذه المملكة فليسرع لإنجادها وكبح جماح الأعداء عنها، وإن كنت أنا ولي أمرها فقد أوجب الله عليه طاعتي.»
وانتهت هذه الأزمة بانتصار وارنة العجيب، فقام الوزراء ينددون من جهة بصباوة السلطان وشدة مراسه، ويستفزون الجند في أماكن الصيد والقنص للمطالبة بالسلطان مراد حبا باستمالته وترغيبه إلى السلطنة، ويحرضون من جهة أخرى السلطان محمدا على مبادأة والده بهذا التكليف قائلين له: «إن رغبة والدكم عن السلطنة وزهده بها أمر تعتقدونه، فلو كلفتموه مرة للرجوع إليها لكنتم تقومون بواجب بر الوالدين وتحصلون على رضائه.»
وجد هذا التكليف مكانا خاليا من قلب الفاتح فتمكن، وعاد السلطان مراد إلى الاستواء على عرش السلطنة بعد أن اجتمع جم غفير وطلبوا إليه ذلك، فعاد السلطان محمد بصفقة المغبون إلى مقاطعة مغنيسيا إلى منصبه الأول، وفي صدره حزازات مما تلقاه من دروس الاختبار ومما لقيه زغنوش باشا في سبيله من الذل والازدراء.
Bilinmeyen sayfa