جاء فاتح من الشرق فاستولى على مدينة نبال في بلاد هيروس، وولى عليها حاكما واحدا، فرفع الحواجز القديمة بين الأحياء، وحث الناس على المخالطة والمشاركة والتعاون والتضامن: «كونوا إخوانا فتثرون وتسعدون.»
أطاع الناس حاكمهم الجديد، ولكنهم في اتحادهم كانوا كالماء والزيت لا كالخمر والماء؛ ذلك أن حب الذات وحب المال وحب الجاه - ناهيك بما تأصل فيهم من نفور بعضهم من بعض، وكره بعضهم لبعض، وتعصب بعضهم على بعض - قد حالت كلها دون تبادل الثقة وصفاء النية وحسن الظن، وبكلمة أخرى: قد كان الإدغام على دغل، فدب بين الناس روح التنابذ والتخاذل، ومشى الكبار على هام الصغار إلى أغراضهم الخاصة، بل ضجت حول العرش المكائد والأطماع، فرأى الفاتح صونا لنفسه ولعرشه أن يسود الشيوخ كما كانوا سائدين في الماضي، فقسم المدينة إلى أحياء، وسعى في إقامة التوازن بين أهاليها، فقوى الضعيف على القوي حينا، وحينا تملق للقوي دون الضعيف، وكان في أكثر الأحايين يغري بعضهم ببعض.
قال الفاتح للشيوخ المستقلين المقيدين بالعرش: «الطاعة منكم لي تضمن الطاعة منهم لكم.» فصاغوا لأنفسهم قيودا من ذهب، وللناس قيودا من حديد.
ظلت مدينة نبال في بلاد هيروس بضعة قرون على هذا الحال يستغل الشيوخ الشعب، ويستغل الفاتح الشيوخ، وكلهم وقد خيم عليهم الفقر والجهل والذل يقولون: «بقضاء وقدر.» وكلهم يسترحمون الله.
3
جاء الفاتح من الغرب فاستولى على مدينة نبال في هيروس، وكان قد أرسل إليها رواده السود، فعلموا أبناءها لغته، ثم جاءت بناته البيض يعلمنهم أساليبه في الحب والسلوك وزينة العيش.
وقد علم الفاتح من رواده وبناته أن شعب نبال قد نشأ على ثلاثة أصناف من الحب: حب الذات، وحب المال، وحب الجاه؛ فقال في نفسه: هو ذا شعب مثل شعبنا، ولا يفل الحديد إلا الحديد.
لذلك باشر حكمه باسم المال وبه، فبذل منه بلا حساب في مدينة نبال وبلاد هيروس، فجاءه الشيوخ طائعين شاكرين، وبيد كل واحد قيد ومفتاح: هو ذا مفتاح السيادة يا صاحب الدولة، وهو ذا قيدها: فرق تسد، وابذل تدم.
ولكن هذا الفاتح الجديد يحب المال - كما قلت - حب أبناء نبال له، فلم تمكنه شهوته هذه، ولا مكنته خزانته من البذل الدائم. ما العمل إذن؟ إن هناك قيدا غير ذاك الذي أشار به الشيوخ، فقد استعمل المفتاح؛ مفتاحهم، واستعاض عن القيد بأن أقام الحواجز القديمة بين الأحياء.
ثم جاء بجنوده البيض والسود والصفر يعزز حكمه، فنشأت النفرة في قلوب الناس، فقام من يحسنون منهم الكلام ينتقدون الفاتح ويطعنون عليه، وقام كذلك الشيوخ؛ لأنه بدل أن يسترضيهم بالمال في الأقل شرع يتجهمهم ويشتمهم ويهددهم بجنوده السود، فنهض في بعض الأحياء الناس عليه، واشتعلت في بلاد هيروس للمرة العاشرة أو العشرين نيران الثورة.
Bilinmeyen sayfa