أعلن فاروق الحرب على إسرائيل دون أن يستشير الوزراء أو البرلمان، وكان هذا الإجراء وحده يكفي لخلعه أو محاكمته والحكم عليه بالإعدام، فقد زج بنا هذا الوغد في حرب ونحن على غير استعداد، وإنما كنا على غير استعداد لأنه هو؛ أي فاروق وطغمته، كانوا يتجرون بشراء الأسلحة الفاسدة ويفسقون، وكانوا مطمئنين إلى هذا السلوك لأنهم لم يجدوا الصحفيين أو الكتاب الذين يجرءون على أن يقولوا لهم: قفوا. بل أكثر من ذلك، فإن فاروق وجد كتابا وأدباء يمدحونه ويرفعونه إلى السماء.
هذه الرذيلة، رذيلة الصحفي أو الكاتب حين يخدع الجمهور ويكذب عليه ويضلله، هي أسوأ الرذائل الصحفية والأدبية؛ لأن الصحافة تغدو عندئذ وسيلة لنشر الأوهام والجهالات بدلا من نشر المعارف والأخبار.
وقد عادت الصحف المصرية - وأعني بعضها - إلى مثل هذه الأكاذيب في معركة القنال، حين شرعنا نضيق على الإنجليز المحتلين حتى نضطرهم إلى الجلاء عن بلادنا، ولم نكن في حاجة إلى أن نخترع الأكاذيب؛ فإن الشعب أبدى من الشجاعة ما يتجاوز الوصف، ولو أن الإنجليز كانوا يقتلون منا عشرة أو مئة إزاء جندي إنجليزي واحد نقتله نحن لكان لنا الفخر والمجد، ولأننا كنا عزلا أو نكاد نكون كذلك إزاء قوات قد أعدت ودربت لسفك الدم في كل مكان في هذه الدنيا التي كابدت وما تزال تكابد كوارث الإنسانية في الإمبراطورية البريطانية.
فقد نشرت صحيفة يومية كبرى في 21 من نوفمبر من 1951، أن الفدائيين المصريين قتلوا 82 بريطانيا، وكانت كاذبة مضللة لأن جميع من قتلناهم في معركة القنال في ثلاثة شهور لم يزد على 11 جنديا.
وكتبت هذه الصحيفة نفسها في اليوم التالي، أي 22 نوفمبر، تقول إن الفدائيين المصريين قد دربوا الأفاعي على الهجوم على الإنجليز؛ بل دربوا القطط.
وكان هذا قمة التهتك الذي تبلغه صحيفة في التضليل بالجمهور، وهو لا يقل عما سبق أن ذكرته الصحف بشأن الجمل الذي فر من مجزر مصر القديمة، ومازال يعدو حتى وصل قصر عابدين يستغيث بفاروق فأغاثه. وأنشأ أحد «الشعراء» من أعضاء مجمع اللغة العربية قصيدة يشيد فيها بعظمة فاروق، ويذكر هذا الحادث دليلا ناصعا على هذه العظمة.
أي تضليل أكبر من هذا للجمهور المصري مما كتبه هؤلاء الصحفيون والأدباء؟
وأعجب من هذا كله أنه في الوقت الذي كان بعض الصحف يشيد بما يقوم به الفدائيون المصريون من ألوان الشجاعة والتضحية في مكافحة الجنود الإنجليز في القنال، كان وزير الداخلية فؤاد سراج الدين يلقي القبض عليهم وينقلهم إلى القاهرة.
لقد كان التضليل عظيما، ودفعنا ثمنه بعد ذلك غاليا، بل غاليا جدا، في يوم 26 يناير من 1952 عندما حرقت مدينة القاهرة.
الفصل الثامن
Bilinmeyen sayfa