إنما الناس صور الفكر، أو صور القلب، فدنيا كل إنسان في شيئين: ما ينزع إليه بفكره، وما يميل إليه بقلبه، والإنسان من كل إنسان أحد اثنين : من ترجى به المنفعة، ومن تكون فيه المحبة، والإنسانية من كل إنسان في منزلتين: أدنى الحب، وتلك منزلة الصداقة، وأعلى الصداقة، وهي منزلة الحب؛ فأما وراء ذلك فصحراء الإنسانية الكبرى المقفرة من قلب الشخص وفكره. ولولا الأديان لخربت الدنيا، فإن هذه الأديان قد عمرت هذه الصحراء بعنصرين جليلين أنبتا فيها القلب والفكر، وهما: خوف الله في خلقه، ومحبة الله فيهم؛ فحيث وجد هذا الخوف، وهذه المحبة وجدت الإنسانية، وعلى ذلك فالإنسانية العامة الحقيقية هي الإيمان، والإنسان العام الصحيح هو المؤمن، والسلام العام الكامل هو الله جل جلاله.
ولكن يا لشقاء الإنسان التعس! إن أعجب ما في الشر أن اختلاف الناس في فهم هذه الثلاثة هو أصل الشر!
وسألوا الطفلين أسئلة سياسية ... ما وطنهما؟ وما جنسهما؟ أي من أي شارع، ومن أي والد؟
ألا ضل ضلالكم أيها الناس! فلو أنهما يعرفان من أي شارع، ومن أي والد لما كان منهما ما ترون، على أن الطفلة لجلجت في بعض كلمات تشبه اضطراب قلبها، وكان الصواب كله ماثلا لعينيها مجتمعا في ذهنها، فالبيت، والشارع، والأب، والأم كل ذلك واضح في خيالها، ولكن الذي استبهم عليها هو تحديد نسبته إلى هذا الوجود الذي تراه كله بيوتا، وشوارع، ورجالا، ونساء، وإنما تحديد الشيء هو تعبير الطبيعة عنه، وإنما تعيين نسبته من غيره هو تعبير الشيء نفسه عن خصائصه؛ فإذا أنت عرفت نسبتك من سواك، وحصرت هذه النسبة في حدودها وأسوارها، فقد أمنت الخطأ في سعادة نفسك، وأصبحت بتلك المعرفة أسعد إنسان.
ولكن من لك بهذه المعرفة، وبهذا التحديد، وقلوب الناس كافة كأمواج البحر في البحر: تظهر كل واحدة قائمة بنفسها في رأي العين، وهي راجعة في جميعها إلى أصل واحد، هو هذا السيال المتحرك الذي يتضرب بعضه في بعض ليوجد الأمواج ويفنيها.
ما أراني أعرف بعد طول الفكر سببا للشقاء الإنساني، يجمع كل ضروبه إلا سببا واحدا؛ هو أننا معدون لكل الحالات المختلفة التي تطرأ على الحياة بقلب من نوع واحد، فإذا استطعنا أن نجعل ظواهرنا موضع الترتيب، فإن بواطننا أبدا موضع الاختلاط، والألم والنكد! •••
ولما رأيت حيرة الطفلين ضممتهما إلي، وألهيتهما عن كآبة القلب بسرور البطن، فدفنت كل آلامهما في بعض قطع من الحلواء؛ فطعما واستضحكا، وتطعما الحياة جديدة آمنة.
والطفل لا يعرف مستقبلا ولا ماضيا، وما هو إلا حاضره؛ فإن عييت بأمره فأوجده ما يلهو به، فهذه هي سعادة الطفولة، ولقد سرهما من الأديب السكير الذي كان إلى جانبي أضعاف ما سرهما من الحلواء، بل كان زيادة في حلاوتها؛ فحسباه يتعمد بسطهما، وإيناسهما بحركاته وبكلامه الذي يطن في السماوات الزجاجية؛ فكانا يضحكان منه، وكلما تكلم أو أشار أو تحرك أو أنكر عليهما، استخرج بذلك منهما مثل تغريد العصافير؛ فكانت كل الفائدة من سقوطه، وضياع عقله أنه أضحك طفلين!
وقدرت في نفسي أنهما من هذا الشارع الذي نحن فيه، أو من فصيلته في الطرق التي تخالطه أو تقاربه، وقلت إن أهلهما على أثرهما؛ فجعلت أستأني وأنتظر، وبينما نحن على ذلك، إذ ارتفع سواد مقبل كأنه روح ليلة مظلمة تغشى الطريق؛ فتبينت فإذا امرأة تهفو كذات الجناحين، وكأنها تنساق بقوة تحترق في داخلها، ثم أخذتنا عيناها فإذا هي أم الطفلين، تبدو من لهفتها، واستطارتها لولديها كأنما تحاول أن تخطفهما من بعيد بقوة قلبها، وما عرفت أنها هي إلا بأن روحها كانت منتشرة على وجهها، ملموسة في نظراتها إلى الصغيرين، لها هيئة هيئة أم
12
Bilinmeyen sayfa