13
وأحاط بها أخواته الأربع، صفر الوجوه، ساهمات الخدود، ذابلات الأعين! كأنما تدلين إلى الأرض من مشنقة! والبنت قطعة من أمها، ولكنها في الحزن على أبيها أو أخيها بعدة أمهات؛ فهل تراه لا يستوفي في بطن أمها إلا نصف حياتها كهيئتها في الدنيا ... ويبقى النصف الآخر في أخيها، فإن مرض خامرها نصف الداء، وإن مات وقع عليها نصف الموت، ولا يكون حزنها عليه إلا هدة في حياتها لا يمكن أن تبنى؟
أما أخو السجين فوقف ناحية عن النساء، وجعل يبكي، ويعصر عينيه؛ ولا أدري إن كانت الفطرة هي التي أبعدته عنهن حتى لا يشبههن بوجه من الشبه، ولو كان دقيقا كهذه الخيوط من الدمع؟ أم هو انتحى جانبا كيلا تتصل به عدوى الضعف، وليستطيع أن يبكي على أعين الرجال بكاء رجل في دمعه شيء من القوة؟ أم هو انتبذ مكانه ليتكلم مع آلامه؛ فإن الآلام تتكلم، ولكن بإحساسنا؟ وكان له من أوجاع قلبه حديث طويل.
وأما الولدان فربض أحدهما في الأرض، ووقف الآخر؛ لأنه أكبر منه قليلا، وكلاهما ضامر الوجه، متقبض، منكسر من هول ما يرى، وكانت عيونهما الحائرة تدل على أنهما بإزاء حالة غير مفهومة، فأبوهما حي لم يمت، وعيونهما مكتحلة بعينيه، وليس بينهما وبينه إلا ارتفاع شجرة ... فلم لا يصلان إليه، أو يصل إليهما؟ وعلام هذه المناحة ولا ميت؟ وفيم هذا الجمع ولا معركة؟
أخذا يدرسان الدنيا كلها في معضلتهما الأولى من حيث لا يفهمان شيئا، وبدأ العدل الإنساني الرحيم يخشن صدرهما ليعلما ذات يوم معنى الظلم الذي يكون مرة باعثا على العدل، ويكون مرة هو إياه!
ألا ويحك أيتها الإنسانية ظالمة أو مظلومة! إن أمامك من هذين الطفلين الموتورين آلتي تصوير قد نقلتا هذه الصورة، وستحفظانها إلى يوم ما!
صورة بشعة على تلوينها؛ إذ لا سواد فيها إلا من الخطوط، ولا بياض إلا من الدموع، ولا صفرة إلا من الوجوه، ولا حمرة إلا من لهب القلب، وسيمضي كل شيء لسبيله؛ فينسى ولا تنسى؛ لأنها مادة علمية مصورة، كرسم تعليمي في جغرافيا الجريمة!
هي اليوم صورة طفل فهي للحفظ، وغدا صورة شاب فهي للعلم، وبعد غد صورة رجل فهي ... للعمل. •••
وكان السجين كالميت: تراه تحت أعين أهله وهو في عالم آخر، وبين أيديهم وكأنه حسرة بعد أمل ضاع! وكان كلامهم سمع أذنيه،
14
Bilinmeyen sayfa