أثارت الصعاب التي صادفت أبا بكر مخاوف المسلمين؛ ذلك لأن الوحدة العربية التي تمت في عهد الرسول لم تلبث أن اضطربت حين وفاته، بل لقد بدأت نذر هذا الاضطراب قبل أن يختار الله رسوله إليه، تنبأ مسيلمة بن حبيب باليمامة وبعث رسله إلى النبي بالمدينة يقولون له: إن مسيلمة نبي مثله، «وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون»، وتنبأ الأسود العنسي باليمن وادعى السحر، وجعل يدعو الناس إليه خفية، حتى إذا عظم أمره سار من الجنوب وطرد عمال محمد، وتقدم إلى نجران ونشر في ذلك الأصقاع سلطانه، وبعث محمد إلى أعماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه، هذا إلى أن العرب الذين آمنوا بالتوحيد ونبذوا عبادة الأوثان لم يدر بخاطر أحدهم أن تعقب وحدتهم الدينية وحدة سياسية؛ بل إن كثيرا منهم راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى، فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله، وأن أعلن أكثر القبائل عدم الإذعان لسلطان المدينة، وعدوا الزكاة إتاوة مفروضة فامتنعوا من أدائها.
استطارت هذه الثورة عقب وفاة الرسول في بلاد العرب جميعا بسرعة مروعة كما تستطير النار في الهشيم، وبلغت أنباؤها أهل المدينة ممن حول أبي بكر بعد أن بايعوه، فتولاهم الدهش واختلفوا ما يصنعون، وكان رأي قوم، بينهم عمر بن الخطاب، ألا يقاتلوا الذين منعوا الزكاة ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولعلهم أرادوا بذلك ألا يزيدوا عدد عدوهم فيتغلب عليهم، ولم يعدهم الله ما وعد رسوله من النصر، وليس ينزل الوحي على أحد منهم بعد أن اختار الله إليه خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن أبا بكر أصر على قتال من منعوا الزكاة كما أصر على قتال من ارتدوا، فكانت حروب الردة التي استطالت عاما وبعض عام.
ولم تكن حروب الردة غزوات اشتبك فيها بضع مئين من جيش الخليفة وبضع مئين من خصومه، بل كانت بعضها طاحنة اشترك فيها عشرات الألوف من كل جانب، وقتل فيها المئات بل الألوف من هؤلاء ومن أولئك، ثم كان لها في تاريخ الإسلام أثر حاسم، ولو أن أبا بكر نزل على رأي من لم يريدوا هذه الحروب لساد الاضطراب بلاد العرب، ولما قامت الإمبراطورية الإسلامية، ولو أن جيوش أبي بكر لم تنتصر في هذه الحروب لكانت العاقبة أدهى وأمر، ولتغير في الحالين مجرى التاريخ في العالم كله، لذلك لا يكون غاليا من يقول: إن أبا بكر، بموقفه من ردة العرب وبانتصاره فيها، قد وجه تاريخ العالم، وكان يد الله في بعث الحضارة الإنسانية خلقا جديدا.
فلولا انتصار أبي بكر في حروب الردة لما بدأ غزو العراق وغزو الشام، ولما سارت جيوش المسلمين مظفرة تفتح الإمبراطوريتين الرومية والفارسية لتقيم الإمبراطورية الإسلامية على أنقاضهما، ولتحل الحضارة الإسلامية محل حضارتهما، ولولا حروب الردة، واستشهاد من استشهد من الصحابة لإحراز النصر فيها، لخيف ألا يسارع عمر فيشير على أبي بكر بجمع القرآن، وهذا الجمع هو الذي أدى إلى توحيد القراءة بلغة مضر في عهد عثمان، فظل كتاب الله الكريم أساسا ثابتا لكلمة الحق، ودعامة متينة للحضارة الإسلامية، ولولا نصر الله المسلمين في حروب الردة لخيف ألا يقر أبو بكر نظام الحكم في المدينة ليقيمه عمر من بعده على أساس من الشورى، سداه العدل والرحمة، ولحمته البر والتقوى.
هذه أحداث جليلة تمت في فترة قصيرة لم تعد سبعة وعشرين شهرا، ولعل قصر هذه الفترة هو الذي دعا بعضهم أن يتخطاها إلى عهد عمر، ظنا منهم أن أشهرا معدودات لا تتسع لعظائم تغير وجه العالم، ولو أن هؤلاء ذكروا أن الثورات التي نقلت الإنسانية أطوارا تمت كلها في مثل هذه الفترة، وأن العالم جعل يمتثل مبادئ هذه الثورات بعد ذلك شيئا فشيئا ويفيد منها لرقي الإنسانية في توجهها إلى الكمال، لما سارعوا إلى الانتقال من عهد الثورة الروحية التي أعلنها رسول الله في العالم كله إلى الإمبراطورية المترامية الأطراف التي دانت لهذه الثورة، دون أن يقفوا مليا عند هذه الفترة التي يحاول العرب فيها أن يقوموا برد الفعل في وجه ما جاء محمد به، شأنهم في ذلك شأن الناس في كل زمان ومكان؛ إذ يحاربون المبادئ الجديدة يحاولون إطفاء نورها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
كيف استطاع أبو بكر أن يواجه الصعاب التي استفتحت عهده، وأن يثبت لها ويتغلب عليها، وأن يبدأ التمهيد للفتح وللإمبراطورية وهذه الصعاب قائمة؟ لقد كانت لصفاته الذاتية أثر كبير في ذلك لا ريب، لكن هذه الصفات وحدها ما كانت لتبلغ به ما بلغ لولا صحبته الرسول عشرين سنة كاملة؛ ولذا يجمع المؤرخون على أن عظمة الصديق في خلافته تتصل بعظمته في صحبة الرسول أوثق اتصال، فهو قد أشرب أثناء الصحبة روح الدين الذي جاء به محمد، وأدرك مقاصده وأغراضه كاملة إدراك إلهام لا يتطرق إليه الخطأ ولا الريب، ومما أشربه وأدركه بإلهامه أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده، هذه حقيقة روحية أدركها كثيرون من عصور شتى، لكنهم أدركوها بعقولهم، أما أبو بكر فأدركها بقلبه، ورآها بعينه ماثلة في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي عمله.
وهذا الإيمان الصادق بالحق هو الذي دفعه ليخالف أصحابه في أمر المرتدين، ويصر على قتالهم وإن خرج إليهم وحده، وما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف وحيدا يدعو إلى الله بمكة فيخالفه أهل مكة جميعا، ثم يغرونه بالمال والملك وعظمة الجاه، ثم يحاربونه يبتغون بذلك أن يصدوه عن الحق الذي يدعو إليه، فلا يفتر عن أن يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته!»
وما له لا يفعل وقد رأى النبي في أعقاب أحد، وبعد أن انتصرت قريش على جيوش المسلمين ممن شهدا أحدا، ويتعقب قريشا، وينزل حمراء الأسد ويقيم بها ثلاثة أيام، يوقد النار طول ليله، حتى تزعزعت همة قريش وانصرفت إلى مكة، وقد استرد المسلمون من مكانتهم ما زعزعته أحد!
Bilinmeyen sayfa