ترى أيسير عكرمة من مهرة إلى حضرموت وكندة؟ ذلك أدنى إلى التصور، فحضرموت تجاور مهرة وتتاخمها، لكن المهاجر بن أبي أمية كان ينحدر من الشمال إلى اليمن؛ فلم يكن لعكرمة بد من أن يسرع ليلقاه بها. هذا إلى ثورة اليمن كان قد طال مداها واستفحل أمرها، فالإسراع بالقضاء عليها يهون القضاء على من بقي بكندة وحضرموت من المرتدين.
وقد تحدثنا فيما سلف عن ثورة الأسود العنسي في اليمن، وعن ادعائه النبوة وخروجه إلى صنعاء، وعن انتشار أمره كالحريق حتى بلغ مكة والطائف، ثم عن قتله غيلة في مؤامرة اشتركت فيها زوجه آزاد التي كانت قبله تحت شهر بن بازان ملك صنعاء، وقد جرت الروايات بأن قتل الأسود انتهى إلى المدينة يوم مات النبي، فأقام أبو بكر فيروز حاكما لليمن، لكن ذيوع النبأ بموت النبي بعد قليل أعاد الثورة فيها أشد مما كانت، وتضافرت عوامل كثيرة زادت هذه الثورة ضراما واستعارا.
أول هذه العوامل تفرق السلطة في هذه الأنحاء تفرقا أضعفها، فمذ مات بازان ووزعت السلطة في اليمن بين ابنه شهر بصنعاء، وجماعة من المسلمين بنجران وهمدان وغيرهما، فكان ذلك مما شجع العنسي على الانتقاض والثورة، وكان الأمر في شمال اليمن إلى مكة والطائف كأمر اليمن في تفرق السلطة، فكان لتهامة مما يحاذي البحر حاكم، وللداخل في مختلف القبائل حكام متفرقون، وكان طبيعيا بعد أن أخفقت ثورة الأسود أن يحاول كل واحد من هؤلاء الحكام العود إلى إمارته واسترداد السلطان فيها، وأن يقاتل في سبيل ذلك ما أطلق القتال، وكان طبيعيا كذلك ألا يهدأ أنصار الأسود العنسي وأن يعملوا جهدهم ليثيروا الأرض، لعل الأمر يعود إليهم كما كان للأسود، أما وقد مات النبي وانتشرت في بلاد العرب كلها فكرة الردة، وصح لكل قبيلة ولكل فخذ من قبيلة أن يطمع في استقلاله القديم، فقد بلغ الاضطراب غايته في اليمن وما حولها من البلاد التي كانت مسرحا لنشاط العنسي وأنصاره.
والذي حدث أن هؤلاء الأنصار لم تهدأ بموت العنسي ثائرتهم، بل جعل فرسانهم يجوبون البلاد فيما بين نجران وصنعاء، لا يأوون إلى أحد، ولا يأوي إليهم أحد، وكان عمرو بن معدي كرب البطل الشاعر صاحب الصمصامة ممن انتهزوا هذه الفرصة، فحاول اقتناص السلطان من طريق الثورة، كما حاول اقتناصه أيام العنسي بالانضمام إليه، وقام قيس بن عبد يغوث من ناحيته، وكان على رأس من ائتمروا بقتل العنسي، فطرد فيروز عن الملك وطرد معه داذويه، بذلك عم الاضطراب، وتعذر رد السكينة والأمن إلى هذه الأرجاء.
كيف السبيل إلى معالجة هذه الحال؟! إن أول ما يجب عمله تأمين الطريق بين المدينة واليمن، وقد قامت قبائل عك وبعض الأشعريين على هذا الطريق الذي بساحل البحر فقطعوه مستعينين بمن انضم إليهم من الأوزاع، وأقرب مدن المسلمين إلى هذا الطريق الطائف، لذلك كتب حاكمها الطاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر، وسار إليهم في جند قوي، واصطحب معه مسروقا الكلبي؛ فلما لقيهم أكثر القتل فيهم، حتى قيل: إن الطريق تعطل بجثثهم، وكتب أبو بكر إلى الطاهر قبل أن يأتيه هذا الفتح يشجعه ومن معه على القتال، ويأمرهم أن يقيموا بالأعلاب،
3
حتى يأمن طريق الأخابث، ومن يومئذ سميت جموع عك هذه جموع الأخابث، وظل هذا الطريق يسمى طريق الأخابث زمنا طويلا.
أما العامل الثاني الذي زاد الثورة في اليمن استعارا فالخلاف في الجنس، فقد أقام أبو بكر فيروز على صنعاء مقام شهر حين قتل ذو الخمار، وكان شركاء فيروز في المؤامرة بقتل الأسود داذويه الذي كان وزيرا معه لشهر، وجشنس صاحبهما، وقيس بن عبد يغوث قائد الجند، وكان فيروز وداذويه وجشنس من الفرس، وكان قيس عربيا من حمير اليمن ، لذلك نفس قيس على فيروز أن أسند أبو بكر إليه الأمر من دونه وعزم قتله ...
لكنه رأى حين أمعن النظر أن قتل فيروز قمين أن يجر إلى فتنة يقاومه فيها الأبناء جميعا، والأبناء هم طائفة الفرس التي استقرت باليمن منذ حكمها الأكاسرة، وقد كبرت هذه الطائفة وعلت مكانها أن كان الحكام منها، فإذا لم يستنفر قيس عرب اليمن جميعا للقضاء على الفرس جميعا كان حريا أن يصيبه ما أصاب الأسود من الإخفاق، وأن يفقد حياته كما فقد الأسود حياته.
لذلك كتب إلى ذي الكلاع الحميري وأضرابه من زعماء العرب باليمن يقول: «إن الأبناء نزاع في بلادكم، فضلاء فيكم، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن أقتل رءوسهم وأن أخرجهم من بلادنا فتبرءوا.» لكن ذا الكلاع وأصحابه لم يمالئوه ولم ينصروا الأبناء، بل اعتزلوا وأبلغوا قيسا يقولون: «لسنا من هذا في شيء، أنت صاحبهم وهم أصحابك.» ولعلهم كانوا يمالئون قيسا وينصرونه على الأبناء لولا أنهم رأوا أبا بكر والمسلمين يمالئون هؤلاء ويكلون الأمر إليهم، ورأوا الأبناء يحتفظون بإسلامهم وبالولاء لأبي بكر وسلطان المدينة، ما لهم إذن ولخلاف لا يدري أحد ما تكون نتائجه، وبخاصة بعد أن سرت الردة في اليمن فأصبحت معرضة لجيوش المسلمين، وبعد أن تجاوبت أرجاء شبه الجزيرة جميعا بنبأ هذه الجيوش ويسير النصر في ركابها!
Bilinmeyen sayfa