وكيف لهم أن يرتابوا وقد حلف أبو بكر ليقتلن في كل قبيلة من المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وهو لا محالة فاعل متى عاد أسامة وآن لجيش المسلمين أن يأخذ هؤلاء الآثمين بذنوبهم.
هرع المسلمون من كل قبيلة يؤدون الزكاة إلى خليفة رسول الله على أثر انتصاره بذي القصة، وكان أول الذين يؤدون الزكاة صفوان والزبرقان من رؤساء بني تميم، وعدي بن حاتم الطائي عن قومه من طيء، واستقبل الناس هؤلاء السفراء عن عشائرهم في بشر أي بشر، وكان الناس يقول بعضهم لبعض إذا طلع أحدهم: هذا نذير، فيقول أبو بكر: «بل هو بشير، وهو حام ليس بوان.» ويجيب الناس أبا بكر يقولون: «طالما بشرت بالخير!»
لم يكن أبو بكر غالبا إذ دعا هؤلاء حماة ومبشرين بالخير، فقد كان المسلمون بالمدينة وفيما جاورها في حاجة يومئذ إلى سند يشد أزرهم بعد الذي رأوا من خطر يوشك أن يهدد كيانهم، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لقد قمنا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا، وأن نغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردود علينا، وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.»
وإن الناس لفي طمأنينتهم بالمدينة إلى نصر الله أبا بكر، وقد جاء إليهم المسلمون من مختلف القبائل بالزكاة؛ إذ أقبل أسامة عائدا من أرض الروم غانما مظفرا يسوق أمامه غنائمه ويلحق به جيشه، ويستقبلهم أبو بكر وكبار الصحابة بالجرف، ويحف الناس بهم في أثر الصديق وأصحابه ينشدون من حولهم أغاني العزة والنصر، وذهب أسامة من فوره إلى المسجد، فركز اللواء الذي عقده له رسول الله، وصلى شكرا لله على ما نصره وأعز بجيش المسلمين كلمة الحق ودين الهدى.
ما هذا كله؟ أليست هي المعجزة أراد الله أن يتم بها لدينه! وهل تتضافر الأقدار بمحض المصادفة هذا التضافر الذي دوى في أنحاء شبه الجزيرة، فشد من عزائم المسلمين في كل قبيلة، ورفع من رءوسهم في وجه عدوهم فما يدري مرتد ما يقول لهم!!
ورأى أبو بكر في حصافته ودقة تقديره الأمور ألا يريح أعداءه وأن يضاعف ذلتهم، فقال لأسامة وجنده: استريحوا وأريحوا ظهوركم. ثم استخلف أسامة على المدينة، ونادى في رجاله الأولين بالخروج معه إلى ذي القصة، وناشده المسلمون قائلين: «ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك؛ فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلا، فإن أصيب أمرت آخر.» لكن أبا بكر كان إذا اعتزم أمرا لم يرجع عنه؛ لذلك قال لهم: «لا! والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.» وخرج ومن حوله الميمنة والميسرة والساقة، كما خرج من قبل، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق فيما وراء ذي القصة، هناك قاتل عبسا وبني ذبيان وبني بكر فغلبهم وأجلاهم عن مواقعهم، وكانت الأبرق في ملك بني ذبيان، فلما جلوا عنها أعلن أبو بكر أنها أصبحت في ملكه وملك أصحابه، وقال: «حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد وقد غنمناها الله.» وبقيت هذه الأماكن من بعد يحتلها المسلمون، فلم يرض أبو بكر أن يردها إلى بني ثعلبة حين جاءوا إليه بعد أن استقرت الأمور يريدون العود فيها إلى منازلهم.
تمت هزيمة الثائرين الذين أرادوا أن يمنعوا الزكاة، وتمت هذه المرة والمدينة في منعة أي منعة بجيش أسامة، وفي رخاء بما جاء به من الغنائم، وبما حمل إليها من زكاة المسلمين الذين آتوا الزكاة منذ انتصر خليفة رسول الله.
أفما آن لبني ذبيان وعبس وغطفان وبني بكر وغيرهم من القبائل القريبة من المدينة أن ترجع عن انتقاضها، وأن تذعن لأبي بكر وتعلن الإسلام لأمر الله ولخليفة رسول الله؟ لقد تحطمت الثورة التي قام بها العنسي في اليمن، ولقد انتصر المسلمون على تخوم الروم، ولقد بدا أبو بكر في ثوب من قوة الإيمان لا غالب له، وهذه القبائل كانت إلى أن اختار الله إليه رسوله مسلمة صادقة في دينها، فخير لها أن تعود إلى حظيرة الإسلام وأن تمد يدها إلى الصديق بالطاعة، وأن تكون معه على عدو الله وعدوه، ذلك ما يوجبه العقل وما يقضي به منطق الحوادث، فأولئك المسلمون من المهاجرين والأنصار هم الذين تغلبوا على أهل شبه الجزيرة جميعا بقوة إيمانهم؛ وهم اليوم في قوة لم تكن لهم أيام بدر والغزوات الأولى في عهد الرسول، فمكة معهم، والطائف معهم، وسلطانهم معترف به في مختلف البقاع، ثم إن من أهل هذه القبائل الثائرة بأبي بكر مسلمين إن استطاعت القبائل أن تفتن بعضهم فلا سلطان لها على الأعزة منهم، مخافة الثارات والفتن التي تنجم عن تعصب البطون والأفخاذ لذوي المكانة فيها، فأذعنت لحكم العقل وسمعت لحجة المنطق.
Bilinmeyen sayfa