هنالك تولى محمد الجواب عنهم فقال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك.» قال هذه العبارة والتأثر باد عليه، ثم أردف: «أوجدتم يا معشر الأنصار، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم!! ألا ترضون، يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم!! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.» ولقد بلغ من تأثر الأنصار بهذه العبارة التي صدرت من أعماق قلب النبي، فقالها وكله العطف والمحبة لأولئك الذين بايعوه ونصروه وأعزوه، أن بكوا وقالوا: «رضينا برسول الله قسما وحظا.»
ولم يكن فيء حنين وعطاء المؤلفة قلوبهم أول ما أثار المخاوف في نفوس الأنصار، بل ثارت مخاوفهم قبل ذلك وعلى أثر فتح مكة، حين رأوا النبي يقوم على الصفا ويدعو، وحين رأوه يحطم الأصنام ويتم في يوم واحد ما دعا إليه منذ عشرين سنة، فقد خيل إليهم أنه تارك المدينة فعائد إلى وطنه الأول، وقال بعضهم لبعض: «أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده لمقيم بها؟» فلما اتصل بمحمد نبأ مخافتهم قال: «معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم.»
طبيعي، وذلك كان شعور الأنصار، أن يسرعوا إلى التفكير في أمر مدينتهم أول ما عرفوا أن النبي مات، ترى أيظل أمر هذه المدينة وأمر العرب إلى المهاجرين الذين أقاموا ضعافا بمكة لا مأوى لهم ولا نصير حتى أعزتهم المدينة، أم يكون الأمر لأهل المدينة الذين قال فيهم الرسول إنه أتاهم مكذبا فصدقوه، ومخذولا فنصروه، وطريدا فآووه، وعائلا فآسوه؟ تحدث بعض الأنصار إلى بعض في هذا، وتداعوا إلى سقيفة بني ساعدة، وكان سعد بن عبادة مريضا في داره فأخرجوه إليهم ليكون صاحب الرأي فيهم، وأصغى سعد إلى حديثهم، ثم قال لابنه أو لبعض بني عمه: «إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه.» ثم جعل يتكلم فينقل الرجل إلى الحاضرين كلامه، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «يا معشر الأنصار، إن لكم لسابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن محمدا (عليه السلام) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل: وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدافعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، فلما أراد لكم ربكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داحرا، وحتى أثخن الله (عز وجل) لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين؛ فاستبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس.»
سمع الحاضرون مقالة سعد ثم أجابوه بأجمعهم: «وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر؛ فإنك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا.»
أفكان هذا الإجماع صريحا قويا صادرا عن عزيمة لا تهن ولا تكبو؟ لو أنه كان كذلك لأسرع القوم إلى بيعة سعد بن عبادة، ولدعوا الناس إلى متابعتهم على بيعته، لكن القوم ما لبثوا أن ترادوا الكلام بينهم قبل أن يقبل أحد على بيعة سعد: قال قائل منهم: «فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون، وصحابة رسول الله الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده؟» وأنصت الحاضرون إلى هذا القول، ورأوا فيه من الحق ما حسبه بعضهم لا يدفع، هنالك قالت طائفة منهم: «فإنا نقول إذن منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا.»
ولم يخف على ابن عبادة ما تنطوي عليه هذه المقالة من تردد يقعد بصاحبه دون غايته؛ لذلك قال حين سمعها: «هذا أول الوهن!» ولعله إنما رآها أول الوهن أن رأى الذين يقولونها من بني الأوس، فما كان بنو الخزرج ليقولوا مثلها وهو رئيسهم الذي يرشحونه لولاية الأمر من بعد الرسول، والأوس والخزرج كانوا دائما على خلاف بينهم، منذ نزل أجدادهم الأولون المدينة قادمين من اليمن حين هجرة الأزد إلى الشمال، فقد ألفى هؤلاء الأجداد اليهود بالمدينة فخضعوا لسلطانهم زمنا، ثم ثاروا بهم وأنزلوهم عن مكان السلطان منهم، ومن يومئذ نشبت بين القبيلتين خصومة طالما ردت السلطان لليهود، ورأى الفريقان ما يجره ذلك عليهم من ضعف، فهموا أن يولوا عليهم أحدهم عبد الله بن محمد من الخزرج، بعد أن أفنت وقعة بعاث الكثيرين منهم، وأعلت كلمة إسرائيل بينهم، وإنهم لكذلك إذ قدم منهم جماعة مكة حاجين، فتعرض لهم النبي يدعوهم إلى الله، وقال بعضهم لبعض: «والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.» ثم أجابوا دعوته، وأسلموا وقالوا له: «إنا تركنا قومنا - أي الأوس والخزرج - ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعك الله بهم، وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.» وعاد هؤلاء إلى المدينة، فأنبئوا قومهم بما رأوا، فكان ذلك مقدمة بيعة العقبة الكبرى، ومقدمة هجرة الرسول إلى المدينة، وبدء انتشار الإسلام فيها.
جمع الدين الجديد كلمة المؤمنين به، ثم زادهم التفافهم حول النبي إخاء ومودة بذلك ضعف سلطان اليهود ضعفا مهد لجلائهم من بعد عن المدينة وعن بلاد العرب جميعا، على أنه بقيت مع ذلك في نفوس الأوس والخزرج آثار من خصومتهم الأولى، كانت تبدو كلما حركها من اليهود أو المنافقين من ادعى الإسلام باطلا ليفرق بين أهله، وذلك ما يدعو إلى الظن بأن سعد بن عبادة لم يقل حين نظر إلى القوم في السقيفة يستمعون إلى من يقول: منا أمير ومن قريش أمير: «هذا أول الوهن» إلا لأن أصحاب هذه المقالة كانوا من بني الأوس.
بينما كان الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتداولون أمرهم بينهم يريدون أن ينفردوا بالسلطان على العرب، كان عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بين الجراح وطائفة من كبار المسلمين ومن سوادهم يتحدثون بالمسجد عن وفاة الرسول، وكان أبو بكر وعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبي يحيطون بجثمانه ويعدون العدة لتجهيزه ودفنه، وبدأ ابن الخطاب مذ أيقن بوفاة النبي يفكر فيما عسى أن يكون الأمر من بعده، ولم يدر بخلده أن الأنصار سبقوه إلى هذا التفكير، أو أنهم يريدون أن يستبدوا بالأمر دون الناس، فقال ابن سعد في الطبقات: «أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال: ابسط يدك فلأبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله. فقال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك فهة
1
قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين!» وإنهم لفي هذا الحديث إذ جاءهم نبأ الأنصار واجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، فأرسل عمر إلى أبي بكر في بيت عائشة أن اخرج إلينا، فأجاب أبو بكر الرسول: «إني مشتغل.» فرد عمر رسوله يقول لأبي بكر: «إنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره.»
Bilinmeyen sayfa