ولست في حاجة إلى القول بأن زيدا لم يثبت القرآن في مصحفه على تاريخ نزوله بعد أن رتبت الآيات في السور بأمر رسول الله، فوضع ما نزل منها بالمدينة في السور المكية، إنما تتبع زيد السور كما رتبها رسول الله، ثم نسخها في الورق أو في الأديم، فلما تم له نسخها كانت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند حفصة.
أية طريقة اتبع زيد في الجمع؟ تستطيع أن تقول في غير تردد إنه اتبع طريقة التحقيق العلمي المألوفة في عهدنا الحاضر، وقد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده من القرآن شيء مكتوب أن يجيء به إلى زيد، وإلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيد من الرقاع والعظام وجريد النخل ورقيق الحجارة وكل ما كتب أصحاب رسول الله القرآن عليه الشيء الكثير، عند ذلك جعل يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى إثباتها كما أوحيت إلى رسول الله، روي أن عمر بن الخطاب قرأ: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان»، برفع كلمة «الأنصار» ومن غير واو العطف بينها وبين «الذين»، فقال له زيد بن ثابت: «والذين اتبعوهم بإحسان»، واختلفا، فدعا عمر أبي بن كعب وسأله عن ذلك، فأقر قراءة زيد، وليزيل كل ريبة من نفس عمر قال: «والله، أقرأنيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنت تبيع الحنطة.» فادكر عمر وقال: نعم! وتابع أبيا وأقر قراءة زيد، وكذلك كان يصنع زيد كلما خالفه من الصحابة أحد، وكلما وجد في المكتوب في الرقاع والعظام وغيرها خلافا، يستشهد ويستقصي، ولا يمنعه من ذلك أنه يحفظ القرآن، وأنه حضر قراءة رسول الله إياه قبيل وفاته، وهذا الخلاف على حرف الواو في الآية السابقة يدلك على مبلغ هذه الدقة، ويشهد بأن زيدا لم يضن بمجهود في القيام بالعمل العظيم الذي عهد فيه أبو بكر إليه.
وقد كانت هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد بالله، فالقرآن كلام الله جل شأنه، فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيدا في حسن إسلامه وجميل صحبته لرسول الله أن يتنزه عنه، ولقد شهد المنصفون من المستشرقين جميعا بهذه الدقة ، حتى ليقول سير وليم ميور: «الأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.»
14
على أن زيدا لم يأخذ مع الدقة في جمع السور مرتبة الآيات بتنسيق السور في المصحف واحدة تلو الأخرى، وإنما كان التنسيق على النحو الذي نعرفه اليوم في عهد عثمان، وقد اختلف فيما كان منه في عهد النبي؛ قال بعضهم: إنه
صلى الله عليه وسلم
تركه لأمته، وقال بعض: بل ذكر الرسول نظام التتابع لبعض السور وترك بعضها، وقال غيرهم: بل ذكر نظامها جميعا، ذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: «قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ننتهي إليه، ولا نسأل عنه.» وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان عن توقيف من النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله، فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله
Bilinmeyen sayfa